رسالة إلى أمريكا : نحن لا نقبل الضغوط
فجأة، وبدون مقدمات، خرج وزير الخارجية الأمريكى الجنرال كولن باول ليعلن عن (مبادرة جديدة للتعاون بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط لتشجيع الحريات السياسية والاقتصادية، ونشر التعليم وتطويره فى المنطقة، وإيجاد مزيد من فرص العمل لأبنائها). وقال إن الرئيس بوش خصص 29 مليون دولار لتنفيذ المرحلة الأولى منها.
وإن كان التوقيت الذى أعلنت فيه أمريكا عن هذه النزعة الإنسانية تجاه دول المنطقة ومنها مصر يثير الريبة، لأن أمريكا تضغط فى الوقت نفسه على عنق شعبى فلسطين والعراق إلى حد الموت، بينما تعلن أنها تريد مساعدة الشعوب العربية لتحسين أوضاعها الاقتصادية، والثقافية.
وأمريكا تبدى تعاطفها مع الشعوب العربية التى تضم 260 مليونا لأن دخلها القومى أقل مما يحققه 40 مليونا فى أسبانيا، بدلا من أن تعترف بأنها هى مسئولة عن نزيف الثروة العربيـة، والضغوط الاقتصاديـة على الـدول العـربية ،وفـرض الحصــار الاقتصــادى والشروط المجحفة على تصدير المنتجات العربية والتضييق عليها فى استيراد التكنولوجيا لتطوير منتجاتها.
ولا يجهل أحد أن الهدف الحقيقى لهذه المبادرة هو تمرير المخطط الأمريكى للسيطرة على المنطقة عسكريا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا وضمان استمرار هذه السيادة دون منازع وإلى ما لا نهاية، وتحويل المنطقة إلى منطقة نفوذ خاضعة للاستعمار الجديد الذى يضرب الشعوب بالقبضة الحديدية المتسترة فى قفازات حريرية أحيانا! وربما يكون هدفها تعديل بعض مبادئ الشريعة الإسلامية!
وما زلت أظن أن الجنرال كولن باول يعرف جيدا أن العنف والإرهاب فى هذه المنطقة من العالم سببهما الضغوط العسكرية والسياسية الأمريكية والإسرائيلية وإحساس العرب بالظلم الواقع عليهم من القوة العظمى التى ترفض تحقيق العدل وتسكت على الظلم ولا تهتم بأرواح وحقوق العرب، ولعله يفهم أيضا أن تحسين صورة أمريكا أمام الرأى العام العربى لا يمكن أن تتحقق بالإعلام والدعايات السياسية، ولا بالوعود التى أصبحنا نعرف أنها لن تنفذ كما حدث للوعود، والتعهدات والاتفاقات السابقة، ولا بالمساعدات المالية الهزيلة التى تقدمها أمريكا وهى التى تعترف علنا بأن 80% من هذه المعونات يصل إلى الأمريكيين أنفسهم، ولكن تحسين الصورة أسهل مما يتصور إذا قامت أمريكا بتحسين السياسات والأفعال والمواقف تجاه العرب.. بوقف نزيف الدم العربى..برفع الحصار والقهر عن شعبين تحمّلا ما لا يتحمله بشر من طول الحصار وقذف الصواريخ وفرق الاغتيال.
الجنرال كولن باول يقول إن أمريكا سوف تعمل على تحقيق الديمقراطية فى المنطقة.. أى ديمقراطية؟ هل يريد منا أن نقلد ما يحدث فى أمريكا بإصدار قانون يسمح بالاعتقال دون تحديد مدة أو إعلان الأسباب أو السماح بمحام أو العرض على محكمة أو إخطار أهل المعتقل مثل القانون الأمريكى؟ أو يريد أن نجرى تحقيقا مع كل من يصل إلى مطاراتنا ونأخذ بصماته ونسجل تحركاته واتصالاته كما يفعلون؟
وأظن أن كولن باول يعلم أن مصر لا تنقصها حرية الصحافة، وحرية الرأى، وسيادة القانون، وسيادة القضاء، وفيها أحزاب، وجمعيات أهلية، وتشريعات تحترم مبادئ حقوق الإنسان، بما فى ذلك حقوق المتهمين والمعتقلين، ولدينا مجلس شعب منتخب تحت الإشراف الكامل للقضاة، ولدينا فساد لا يصل حجمه إلى ربع الفساد الذى أعلن عنه فى أمريكا ووصل إلى أسماء كبيرة وما خفى كان أعظم، ونحن لا نتستر على الفساد بافتعال معارك مسرحية للتغطية على الفضائح، ولكننا نعلنها، ونحيلها إلى القضاء والكلمة كلمته.
وإذا كانت أمريكا تريد أن تتدخل لإصلاح التعليم، فنحن منذ أكثر من 10 سنوات نجرى عملية مستمرة لتطوير التعليم، ولكننا نفعل ذلك بإرادتنا ووفق سياساتنا، لتكوين جيل جديد من المصريين عربا ومسلمين معتدلين وقادرين على التعامل مع العالم، ولذلك فنحن ندِّرس فى مدارسنا لتلاميذنا مفاهيم الديمقراطية، والوحدة الوطنية، وحقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة، والتسامح، والسلام، والعولمـة، وهذه المفاهيم دخلت مناهج التعليم منذ 7 سنوات فى جميع السنوات الدراسية.. والطلبة يدرسون التاريخ الحقيقى لمصر فى جميع المراحل دون إغفال الحقبة القبطية وإسهاماتها، ويتحدث كولن باول عن مبادرة أمريكا لإدخال الكمبيوتر فى المدارس، وهذا يحدث منذ سنوات وبالتدريج فى حدود الميزانيات دون انتظار رأى من أحد، ومادة الكمبيوتر مادة أساسية حتى فى التعليم الابتدائى، وأرجو أن يعود إلى ما قاله رئيس البنك الدولى فى واشنطن فى إبريل 2000 من أن مصر هى الرائدة فى المنطقة فى إدخال تكنولوجيا التعليم فى المدارس، وهى الرائدة فى تنفيذ مشروع الحكومة الإلكترونية والتوسع فى الاشتراك فى الإنترنت مجانا.
وإذا كانت أمريكا حريصة على إنصاف المرأة المصرية فأرجو أن يتابع الجنرال كولن باول التشريعات التى صدرت منذ سنوات لإنصاف المرأة فى العمل والحياة الزوجية، وأعتقد أن لديه الإحصائيات الدقيقة التى تشهد بأن عدد التلاميذ فى مصر الآن 15 مليونا و351 ألفا منهم 8 ملايين و46 ألفا من البنين و7 ملايين و305 آلاف من البنات، فأين هى التفرقة؟ وهل فرص الفتيات فى التعليم فى أمريكا أفضل من ذلك؟ ويعلم أيضاً أن الزيادة فى الاستيعاب فى المرحلة الابتدائية 14.22% للبنين، و19.40 للبنات، ألا يعنى ذلك أن فرص التعليم للبنات تزداد أكثر من البنين، فهل يريد أكثر من ذلك؟ والأرقام لديه تشير إلى أن الاهتمام الكبير أدى إلى انخفاض نسب التسرب من التعليم بين الفتيات، وأدت سياسة توفير فرص التعليم فى المناطق المحرومة إلى زيادة عدد المدارس فيها حتى وصلت إلى 201 مدرسة فى نجوع أسيوط وسوهاج وقنا بالصعيد، و43 مدرسة فى عشوائيات القاهرة وسوهاج والفيوم، 2649 مدرسة للفصل الواحد للفتيات فى المناطق النائية البعيدة عن العمران.
ويستطيع كولن باول أن يحصل على معلومات عن تاريخ هذه المنطقة ليعرف أن كل محاولة لفرض الهيمنة على شعوبها كانت تقابل دائما بالرفض والكراهية.
وليسمح لى وزير الخارجية الأمريكى أن أهمس فى أذنه: لا تظن أن هذا الشعب يمكن أن تنطلى عليه الحيل التى يظن أصحابها أنهم وحدهم الأذكياء، فالمبادرة الجديدة لن تجعل الشعب المصرى يتلهى عما يحدث لفلسطين والعراق وما تعلنه الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية من تهديدات للسعودية وسوريا وليبيا ولبنان، واليمن وسائر الدول العربية والإسلامية.
وأخيرا: إذا أرادت أمريكا المبادرة فلتكن فى حل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى ووقف التهديد بالحرب على الشعب العراقى، وإلغاء القيود على سفر العرب وإقامتهم فى أمريكا.. أما الإصلاح السياسى والاجتماعى وتطوير التعليم وتحسين أوضاع المرأة، وتطوير الممارسة الديمقراطية فهذه هى أهدافنا نحن أولا، ونعمل على تحقيقها فعلا وبإرادتنا ولمصلحتنا، وإذا أردتم تلخيص رسالة الشعب المصرى ردا على هذه المبادرة فى ثلاث كلمات فهى: نحن نرفض الوصاية.. وشكرا.