هل يستمع بوش إلى حكمة أبيه؟
يسود الضباب والتخبط بالمواقف الأمريكية، بعد تزايد سيطرة الصقور المحيطين بالرئيس جورج بوش الابن، وهؤلاء الصقور هم الذين تمكنوا من إحكام قبضتهم على مفاتيح السلطة ومراكز القرار الأمريكى فى البيت الأبيض منذ أحداث 11 سبتمبر حتى أصبح البعض يسمونه (انقلاب 11 سبتمبر)،والبعض الآخر يسمونه (الاستيلاء على السلطة يوم 11 سبتمبر).

ويقصد هؤلاء أن المؤسسات الديمقراطية الأمريكية التى كانت الحارس الحقيقى للديمقراطية الأمريكية والقيم الأمريكية تم تحييدها وإبعادها عن التأثير على القرار.

 وبعد أن كان الكونجرس هو الذى يحكم ويقود أمريكا ويحدد سياساتها، أصبح الكونجرس يتبع البيت الأبيض، حتى عندما حاول الكونجرس التدخل لتعديل الميزانية لم يستطع ومرت الميزانية كما وضعها البيت الأبيض، وعندما أراد الكونجرس التحقيق لكشف حقيقة أحداث 11 سبتمبر ومسئولية المخابرات استطاع الصقور الدخول بالتحقيق فى متاهات وغموض، ورفضت المخابرات المركزية لأول مرة تقديم المعلومات الكافية التى طلبها الكونجرس، وهذا ما حدث أيضاً عندما أراد عدد من كبار أعضاء الكونجرس فتح موضوع فضيحة شركة انرون ودور نائب الرئيس ديك تشينى فى هذه الفضحية ضاعت أصوات المطالبين بكشف الحقائق، كما ضاعت أصوات المطالبين بكشف فضائح الفساد فى عدد من أكبر الشركات الأمريكية وانهيارها وانهيار أسعار الأسهم فى البورصة، والتراجع الاقتصادى.. و.. و.. قضايا كثيرة استطاع فيها الذين أصبحوا مراكز قوى فى أمريكا أن يغطوا عليها بحجة أن أمريكا فى حالة حرب ، ولا صوت يعلو على صوت المعركة.

ليس الكونجرس فقط هو الذى يكاد أن يفقد سلطاته التى كانت أمريكا تزهو وتفاخر بها، ولكن الصحافة أيضاً لم تعد حرة كما كانت، وما جرى من فصل عدد من كبار الصحفيين لأنهم كتبوا ما يخالف الروايات الرسمية يكفى دليلا على ذلك، بل إن مراسل الإذاعة البريطانية فى واشنطن قال فى رسالته الصباحية يوم الأربعاء 14 نوفمبر العام الماضى بالحرف: (إن من يعش فى الولايات المتحدة الآن يعرف أن الصحافة والإعلام فى أمريكا يعكس آراء الحكومة، فإذا أرادت الحكومة شن حملة، أو إيقاف حملة، فإن ذلك يظهر على الفور فى أجهزة الإعلام).. ولم يكمل المراسل تحليله لأوضاع الصحافة والإعلام فى أمريكا بعد 11 سبتمبر لأن الإذاعة البريطانية قطعت المكالمة.

وهناك اتفاق بين المراقبين لأحوال الإدارة الأمريكية على أن تيار اليمين المتشدد ودعاة الحرب، والمستفيدين من الحرب، أو التهديد بالحرب وحشد القوات والرأى العام، هؤلاء لهم مصالح فى إشعال المواقف للتغطية على الفضائح الداخلية قبل أن ينكشف دورهم فيها ومسئوليتهم عنها، وأيضاً لتصعيد الأزمة العراقية إلى آخر مدى لشد الانتباه لقضية العراق بعيداً عما يجرى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة لإعطاء شارون الفرصة لإنهاء الصراع الفلسطينى الإسرائيلى بالقضاء على الشعب الفلسطينى وقياداته ومؤسساته بحيث لا يعلو صوت فى المنطقة على صوت إسرائيل.

وهناك أيضاً من يقول إن الحملة على الإسلام والمسلمين فى الولايات المتحدة، هى جزء من استراتيجية ممارسة الضغوط على دول الشرق الأوسط وعلى الدول الإسلامية عموماً لكى تسكت عن المجازر وجرائم الحرب التى ترتكب فى حق الشعب الفلسطينى، وتسير الحملة على الإسلام والمسلمين موازية للحملة التى تشنها المنظمات الصهيونية والأمريكية اليمينية على العرب والمسلمين لإرهابهم بتهمة (معاداة السامية) كلما وجهوا النقد لجرائم الحرب الإسرائيلية.

ويمتد الضباب حول المواقف الأمريكية تجاه العراق.. مرة يقول الرئيس الأمريكى إن أمريكا سوف تضرب العراق سواء قبلت فرق التفتيش على أسلحة الدمار الشامل أو لم تقبل، وسواء أزالت هذه الأسلحة أو أبقت عليها، ومرة يقول إن أمريكا سوف تضرب العراق لتغيير نظام الحكم وفرض الديمقراطية بالقوة العسكرية واحتلال وحكم العراق بجنرال أمريكى وبقاء القوات الأمريكية فى العراق لعدة سنوات، ومرة يقول الرئيس الأمريكى إن وقت المراوغات انتهى والآن وقت الحسم، ومرة يقول إنه سيضرب بقرار من مجلس الأمن، ومرة يقول إنه سيضرب سواء بقرار أو بدون قرار، ومرة يقول إن قرار الحرب جاهز، ومرة يقول إنه ليس على مكتبه أى قرار بالحرب، ومرة يعلن عن تحرك حاملات الطائرات ونقل القوات الرئيسية إلى دولة قطر لتكون القاعدة الرئيسية ومقر القيادة لضرب العراق، ومرة يقول إذا دمر العراق أسلحة الدمار الشامل فلن يكون هناك سبب للحرب ولا يشير إلى موضوع تغيير النظام..

وسط هذا الجو السياسى الغريب الذى يسود الإدارة الأمريكية جاء الصوت الوحيد العاقل تقريباً، وكان للغرابة هو صوت جورج بوش الأب الرئيس الأمريكى الأسبق، فقد وقف ليتحدث فى احتفال نظمه المركزى العربى الأمريكى الثقافى الاجتماعى فى مدينة هيوستن تكريما لرجل الأعمال اللبنانى نجاد فارس للدور الذى يلعبه فى بناء جسور للتفاهم بين العالم العربى والولايات المتحدة، وادان الأب جورج بوش بشدة الهجمات التحريضية التى شنها بعض الشخصيات الدينية المسيحية الأمريكية على العرب والمسلمين بعد هجمات 11 سبتمبر 2002 وأكد تقديره لمساهمة الجالية العربية الأمريكية فى المجتمع الأمريكى وتعاطفه معها.

أكثر من ذلك قال الرئيس الأسبق بوش ما يبدو تصحيحا لمواقف الرئيس الحالى بوش الابن، ومحاولة لإعادة المنطق والحكمة إلى السياسة الأمريكية، فقد انتقد محاولات بعض الأوساط السياسية والإعلامية لتصوير السعودية كعدو لأمريكا، وقال- كما ذكرت صحيفة الشرق الأوسط يوم الثلاثاء الماضى- إن السعوديين أصدقاء لنا منذ سنوات عديدة، وكذلك العديد من دول الخليج، ومصر، والأردن، وغيرها، وقال إنه يتفادى الحديث فى السياسة منذ انتخاب ابنه رئيساً للولايات المتحدة إلا فى حالات نادرة، وعندما يشعر بقوة أنه يجب أن يتكلم، ولذلك فهو يريد إدانة التعصب فى أمريكا ، ويريد إدانة الصورة النمطية الجاهزة التى أضرت بعائلات أمريكية كثيرة، وأنه يريد أن يعلن رفضه لنزعة إدانة العرب عموماً، أو إدانة دين بأكمله بسبب الآراء المتطرفة لبعض المتشددين الذين شوهوا الاسم الناصع للإسلام والعرب، وأشار بوش الأب إلى الهجمات التى شنها بعض رجال الدين المسيحى المتشددين فى أمريكا على الإسلام والمسلمين، ومن بينهم القس جيرى فالويل فقال إن هذه الهجمات المهينة سببت ألما عميقاً فى نفوس العرب والمسلمين فى العالم، وقال إنه يجب ألا يستغل أحد من الأمريكيين أحداث 11 سبتمبر لإدانة جميع المسلمين أو لتعميق الحقد على العرب.

وأخيراً أعلن بوش الأب رفضه لموقف بوش الابن وقال إن ابنه لا يريد الحرب ضد العراق وكل ما يريده هو أن يتخلى دكتاتور العراق عن أسلحة الدمار الشامل وأن ينفذ تعهداته للأمم المتحدة وأضاف أن ابنه يقدر قيمة حياة كل مواطن عراقى برىء، وهذا أيضاً ينطبق على الفلسطينيين وأنه يأمل أن تصبح للفلسطينيين دولة.

هل سيسمع بوش الابن صوت العقل الذى عبر عنه الأب.. بعد أن عجز الجميع عن معرفة أين ذهب صوت العقل والحكمة فى أمريكا؟‍‍!.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف