أفكار ومواقف للشيخ الشعراوى
كانت شخصية الشيخ متولى الشعراوى طاغية على الرغم من تواضعه الشديد، وكانت له «كاريزما» جعلت شعبيته تفوق شعبية كل الشخصيات المعاصرة له والسابقة عليه من رجال الدين والسياسة، كان نموذجا فريدا لا مثيل له لرجل الدين الذى يعيش وسط الناس أغنيائهم وفقرائهم وينفق ماله فى أعمال الخير بغير حساب وكل أقواله وأعماله تجسيد لمنهج الله الذى كان يدعو إليه، ولم يكن له نظير فى التعمق فى دراسة القرآن واكتشاف بعض أسراره، وقد أقبلت عليه الدنيا فكان لديه المال والأبناء وحب الناس ولكنه ظل على بساطته الريفية وقدرته على التواصل مع الشيوخ والشباب، ومع المثقفين ومحدودى الثقافة واحترامه لأبسط الناس. جمع الشيخ بين الدين والدنيا، وهذا هو الفهم الصحيح للإسلام، فأقام لنفسه ولأولاده بيتا كبيرا وسط حديقة واسعة، فيه عدة صالونات تسع عشرات الضيوف، وأيضاً فيه مسجد يسع العشرات، ومع ذلك كانت جلسته المفضلة على الأرض فى شرفة مغلقة بالزجاج يرى من ورائه مساحة واسعة من الخضرة والزهور والأشجار، وفى هذه الجلسة كان يستقبل زواره المقربين، ويقرأ ويتأمل وأحيانا ينزل ليمشى فى الحديقة أو يجلس على أرضها.
وحين قال البعض إن الشيخ الزاهد يعيش فى «قصر» ويركب سيارة «مرسيدس» فارهة، وله «قصر» آخر فى بلده «دقادوس»، قال: ولماذا أحرم نفسى من نعمة أنعم الله بها علىّ، وهو الذى قال:(ولا تنس نصيبك من الدنيا)، وعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فأنا أحب الطعام الجيد ولست أكولا، وأحب الملابس الجيدة، وما أنعم الله علىّ به من مال لم استمتع به وحدى ولكنى عملت بأمر الله وانفق مما جعلنى مستخلفا فيه، وعشت كما دعوت الناس للعيش بمنهج الله.
ومن القيم التى كان حريصا على تعميق إيمان الناس بها قيمة العمل، فكان يقول: ليس هناك عمل أشرف من عمل، وليس هناك عامل أشرف من عامل، فكل إنسان يعمل والمجتمع محتاج إلى عمله فهو يستحق احترام الناس ورضا الله، ولذلك قلت لو أن الوزراء جلسوا فى بيوتهم أسبوعا فلن يتغير شىء فى حياة الناس، أما لو أن الكناسين لم يقوموا بأعمالهم لمدة أسبوع لصارت الشوارع كلها زبالة وانتشرت الأمراض، وضاق الناس بما هم فيه.
حقيقة العلمانية
وحين سُئل عن «العلمانية» وهل تعنى الكفر؟ أجاب: مخطئ من يظن أن كلمة «العلمانية» أو أن «العلمانيين» ضد الدين، بل إن الدين علمانى لأنه يدعو إلى الحياة فى هذا العالم وفق قوانينه وعلى أساس العلم، ومن الخطأ أن يرى البعض تعارضا بين الدين والعلمانية، وحين سئل عن موقفه من الدعوة التى يرددها البعض إلى تحرير الفكر وسيادة العقل إلى جانب النقل، قال: إن هدف الإسلام هو تحرير العقل، والفكر من أعمال البشر الذين خلقهم الله وخلق لهم العقل ليفكروا ويتدبروا وأمرهم بأن يكتشفوا بالعقل إعجاز الله فى السموات والأرض وفى مخلوقاته وأول كلمة فى كتاب الله هى «اقرأ»، والرسول عليه الصلاة والسلام دعا المسلمين إلى طلب العلم، وحرر أسرى الحروب الذين نجحوا فى تعليم الأميين من المسلمين، وقال إن المسلم القوى خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف، والعلم قوة والجهل ضعف، وبالعلم ساد المسلمون وأقاموا دولتهم الزاهرة وعلموا أوروبا حين كانت تعيش فى عصور الجهل والظلام، وكان تأخر الغرب فى العصور السطى بسبب اضطهاد رجال الدين فى الكنيسة للعلم والعلماء، وسئل الشيخ: لماذا خلق الله الكسيح والأعمى وذا العاهة وغيرهم من مخلوقات مشوهة؟ فقال: إن الله خلق الإنسان فى أحسن تقويم، والشواذ قليلون، ولخلقهم حكمة، فحين يرى المبصر شخصاً أعمى يتعثر فى طريقه يلتفت إلى نعمة الله عليه بالبصر فيحمد الله، فهذا أعمى أعطى للمبصر بصيرة.
فى نوفمبر 1983 سافر الشيخ إلى الولايات المتحدة والتقى بالعديد من المسلمين وغير المسلمين فى نيويورك وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس ودعى لحضور صلاة الجمعة فى مبنى الأمم المتحدة فى نيويورك وإلقاء الخطبة، فوجه النقد إلى الأمم المتحدة قائلاً: أين هى القضايا والمشاكل التى وجدتم لها حلولا، أرونى حقا وقفتم بجانبه ليعود إلى أصحابه، نحن نريد ألا تكتفى الأمم المتحدة بتوجيه النداءات والإدانه والاستنكار، نريد أن تكون لها القدرة على أن تدفع الظلم وتنصر المظلومين، وأن تقف مع المظلوم حتى يأخذ حقه، وعندما تفعلون ذلك فسوف يقف كل ظالم عند حده، وتأخذ كل الدول حقوقها ويعيش العالم فى سلام حقيقى، ولكنكم لا تفعلون ذلك! ودوت كلمة الشيخ فى المسجد الملحق بمبنى الأمم المتحدة وقد ضاق بالجموع التى جاءت للقائه وازدحمت الممرات والقاعات المجاورة، وكان بين الحضور جميع رؤساء وأعضاء وفود الدول العربية والإسلامية لدى الأمم المتحدة، وأجرت القناة العامة الرئيسية فى التليفزيون الأمريكى حوارا معه استغرق وقتا طويلا رد فيه على الحملات التى يشنها أعداء الإسلام وقال للحاضرين: يجب أن يرى العالم من المسلمين تطبيقا لمبادئ الإسلام فى سلوكهم ليتعرفوا على الإسلام فى أشخاصهم، وتحدث فى لقاء للسيدات فى نيوجرسى، ولقاء آخر مع الرجال، كما تحدث فى المركز الإسلامى فى نيويورك وفى التجمعات الإسلامية فى الولايات التى زارها.. وقام أيضاً بجولة أخرى فى كندا وألقى فيها أحاديث فى المركز الإسلامى فى العاصمة «أوتاوا» تناول فيها بالتحليل والرد ما يثيره المستشرقون من افتراءات على الإسلام، وشرح موقف الإسلام من إلغاء الرق، وإنصاف المرأة والحكمة وراء تعدد الزوجات كاستثناء وليس كقاعدة.
كلمة الحق تبقى وتؤثر
وسئل الشيخ عن جدوى الجهود التى يبذلها الدعاة ولايزال الشر والطمع والكفر أقوى من الإيمان والخير والقناعة؟ ألا يعنى ذلك أن جهود الدعاة تذهب أدراج الرياح وينساها الناس بعد مرور الوقت، وكان الشيخ جالسا وأمامه كوب به ماء وعلبة دواء فيها أقراص فيتامين (C) الفوارة، فأخذ منها قرصا وضعه فى الماء وتابع حركة القرص وهو يستقر فى أعماق الكوب ثم يذوب تدريجيا وينتشر لونه البرتقالى ببطء فى الماء ثم يرتفع إلى السطح بعد فترة، وعلق الشيخ على ذلك قائلا: هكذا عطاء الداعية للإصلاح وصاحب الفكر، يبدأ من قاع مجتمعه، ثم يبدأ فى الصعود إلى أعلى وكلما أعطى لمجتمعه وأخلص فى دعوته يرفعه إلى أعلى، وينتشر فكره وبعد رحيله تبقى أفكاره، وافرض أن هذا الكوب وفيه (فيتامين سى) أخذناه وألقينا ما فيه فى إناء كبير ملىء بالماء ألا يظل فيه أيضاً هذا الفيتامين ولا يتبدد أبدا.. أراد الشيخ أن يقول إن الدعوة إلى الاصلاح لا تذهب هباء والمثال على ذلك أن الأفكار الاصلاحية للأفغانى ومحمد عبده وقاسم أمين والشيخ أبو زهرة والشيخ محمود شلتوت وأمثالهم لم تذهب هباء ومازالت حية ومؤثرة وأصبحت جزءا من الضمير والوعى المصرى والعربى والإسلامى.
أيامه فى السعودية
ويحدثنا الدكتور صابر عبد الدايم عن السنوات التى قضاها الشيخ فى السعودية واتسمت بالتفاعل الاجتماعى والحب للقادة السعوديين ونظم قصائد عديدة فى مدح الملك عبد العزيز والملك فهد منها قصيدة من 46 بيتا بعنوان (من كعبد العزيز راعى شعب) يقول فيها:
من كعبد العزيز راعى شعب قاده إلى العلا فطار وصعد
ونظم قصيدة أخرى عن الملك فهد قال فيها:
يا بن عبد العزيز فهد شكرا دمت للدين والعروبة ذخرا
أنا إن كنت هنا ضيف فهد فأنا ضيفه إذا جئت مصرا
أنت ظل لله فى الأرض تحيا بك البلاد أمنا ويسرا
وفى قصيدة أخرى يخاطب فيها أمراء السعودية يقول فيها:
فياخير أبناء لأمجد والد كنانته فيها لكل عُلا سهم
هو الله والسلطان فى الأرض ظله يضىء إليه الخلق إن نالهم جزم
وفى ديوان الشيخ الشعراوى الكثير من هذه القصائد وقد طبعته هيئة الكتاب مؤخرا.
الخير والشر فتنة
ومن آراء الشيخ أن الله يبتلى الإنسان بالخير والشر فتنة وامتحانا ينجح فيه من شكر على الخير ومن صبر على الشر، وكل مكروه يصيب الإنسان تسجل له فيه حسنة حتى الشوكة إذا أصابت إصبع إنسان تسجل له حسنة عن تحمله للألم، وكل ألم يصيب الإنسان دون إرادة منه ينال الجزاء عليه من الله فتكتب له حسنة أو يكفّر الله له عنه سيئة ارتكبها، وحين يدرك الإنسان ذلك ويتعامل مع حالات الحزن والفرح بتفويض أمره إلى الله تهون عليه مصائب الدنيا، أى أن فى ذلك خيرا للإنسان فى الآخرة وفى الدنيا.. وأكبر مصائب الدنيا عند الناس هى الموت، والذين يخشون الموت ليس فى قلوبهم إيمان حقيقى بأن الموت انتقال إلى حياة أخرى، فالإنسان يموت مرة قبل ولادته ويموت ثانية عند انتهاء أجله، ويحيا مرة عندما تدب فيه الروح وهو فى بطن أمه ويخرج إلى الحياة ومرة ثانية بعد الموت فإما نعيم أبداً وإما عذاب أبداً، فكيف يخشى الموت من عاش يعبد الله ويلتزم بأوامره ونواهيه وهو يعلم يقينا أنه سينال الثواب ويعيش إلى جوار الأنبياء والصالحين فى جنات النعيم حياة أبدية لا يذوق فيها الموت أبداً، إنما يخشى الموت من لديه شك فى البعث والحياة الآخرة أو من عمل السيئات ولم يلجأ إلى الله بالتوبة الصادقة ويعمل عملا صالحا.
وأبرز صفات الشيخ أنه كان مستعدا لمراجعة أفكاره وإعلان التراجع عنها عندما تتضح له حقائق كانت غائبة عنه، عارض زرع الأعضاء ونقل الدم ثم اكتشف أن فيهما حياة لمن يحتاج إليهما واحتاج هو إلى نقل الدم بعد إجراء الجراحة فى لندن، واعترض على قانون تخفيض سنوات الدراسة فى المرحلة الثانوية الأزهرية لتتساوى مع المدارس الحكومية، ثم ارسل بيانا إلى مجلس الشعب يعلن فيه موافقته بعد مناقشة مع شيخ الأزهر تبين فيها حكمة هذا التعديل، وتحمس لشركات توظيف الأموال فلما ظهر أنها أكلت أموال الناس تبرأ منها وقال إنه كان يرى فى هذه الشركات تطبيقا للاقتصاد الإسلامى ينفع الناس، هكذا كان نموذجا للعالم الذى لا يعرف الجمود والتعصب لرأيه.. وأنه مستعد لقبول الرأى الآخر إن كان هو الصواب.