الصحافة تخطىء كثيرًا
الصحفيون يريدون تغيير العالم، ولا يريدون أن يغيروا أنفسهم.
يريدون إصلاح العالم، ومحاربة الفساد، ومطاردة التربح، ومحاربة (التنبلة) و(البلطجة) و(الابتزاز) ولا يريدون إن يطاردوا هذه الآفات فى داخل البيت.
والصحفيون يعطون لأنفسهم الحق فى توجيه النقد بغير حدود لكل الناس.. الكبار والصغار.. ولا يقبلون توجيه النقد إليهم، وكأنهم من طينة غير طينة البشر.. أو كأنهم المعصومون من الخطأ.. وبعضهم يستخدم القلم كما يستخدم الإرهابى القنبلة أو قرن الغزال !
أقول ذلك ثقة فى رسالة الصحافة، وإيمانا بأن من يدعو إلى الفضيلة والنزاهة والجدية عليه أن يبدأ بنفسه ويقول للناس: (افعلوا مثلى)، وفوق ذلك فأنا- بعد هذا العمر- أجد بعض الصحفيين يكتبون ببساطة وباستهانة صدقا وكذبا، ولا يدركون أن كل ما يكتب، وكل ما يقال يؤثر تأثيرا عميقا ومباشرا فى الرأى العام، ويشكل اتجاهات وعقول الناس وأفكارهم ومشاعرهم.. فإما أن تكون الكلمة مساهمة فى تكوين رأى عام مستنير قائم على أخبار ومعلومات صادقة، وإما أن تكون مساهمة فى تكوين رأى عام مضلل، وهذا يسمونه الإعلام الحقيقى والإعلام المزيف.
فالصحافة التى تعمل على زيادة التوزيع بالإثارة ، وبالعبارات الساخنة المشحونة بالانفعالات والاتهامات هى الإعلام المزيف، والصحفى الذى لا يرعى الضمير، ولا يحرص على كل ما يمس الأمن القومى لبلاده، هو إعلامى مضلل، والمفروض أن من يمسك قلما لا يقل حرصا على أمن واستقرار البلد عن القيادة السياسية، ولا يقل عنها فى العمل على حماية الجبهة الداخلية وتماسكها خاصة فى أوقات الخطر وأوقات التوتر الخارجى والداخلى، فلا يستغل هذه الظروف ليصب الزيت على النار. وطبعا من حق كل واحد فى البلد، صحفيا كان أو غير صحفى، أن يعتنق ما يشاء من آراء، وأن يطرح ما يشاء من أفكار، وليس هناك ما يقيد حرية الرأى وحرية التفكير، وليس هناك من يحاسب على النوايا وما فى القلوب والضمائر إلا الله وحده، أما القانون فلا يحاسب إلا على الأفعال، والأقوال المتعمدة المقرونة بالقصد للإضرار بالمجتمع أو الإضرار بأحد من الناس.
القانون يحاسب- طبعا- على إساءة استعمال الحق. فإن كان لكل إنسان الحق فى أن يقول ما يشاء، فليس من حقه أن يوجه الشتائم، والإهانة، والاتهامات المرسلة، أو التشكيك فى وطنية أحد أو اتهامه بالخيانة بغير دليل قاطع على ذلك وإدانة من جهة قضائية، لأن هذه التهمة تعادل تهمة الكفر ليس من حق كل من هب ودب أن يرمى بها الآخرين بسهولة.
ولا بد من حين لآخر أن يذكر الصحفيون أنفسهم بأن الصحافة من أشرف المهن، رسالتها التوجيه، والإصلاح، وإلقاء الأضواء على الأخطاء والانحرافات الحقيقية الثابتة بالدليل، وليست تجارة، وليست وسيلة للابتزاز، أو لاستغلال النفوذ.
الحرية المطلقة للصحافة ليس معناها الحرية المطلقــة للصحفى ليفعل ويقــول ما يشاء دون حساب .. حرية الصحافة لخدمة المجتمع وليست لخدمة الصحفيين .. والانتهازية والابتزاز واستغلال النفــوذ قد يمكن التجاوز عنها فى أى مجــال إلا مجال الصحافة والدعوة الدينية والقضاء.. فهذه مواقع حساسة يجب أن تظل بعيدة عن الشبهات وعن القيل والقال.. واحترام حقوق الصحفيين وحريتهم وكرامتهم مطلب لا يمكن التفريط فيه ويقابله فى نفس الوقت وبنفس الدرجة واجب احترام الصحفيين لحقوق الآخرين، وكرامتهم، وشرفهم، وأعراضهم، وحريتهم.. لا يمكن أن تكون حرية الصحفى من أجل الاعتداء على حرية الناس، وتكون كرامته مصونة، وكرامة الآخرين مهدرة.. أو يكون شرفه مقدسا وشرف الآخرين مستباحا.. أو تكون حياته الخاصة فى حماية، وحياة الآخرين الخاصة وأعراضهم نهبا لكل من يريد أن ينهش الأعراض مستندا إلى مجرد اتهامات لم تثبت صحتها بعد .
كل حق يقابله واجب .. وحقوق الصحفيين كثيرة .. ولذلك فإن الوجه الآخر للعملة يحمل أيضا واجبات كثيرة ومسئوليات وطنية واجتماعية وأخلاقية ثقيلة.
وأول واجبات الصحفى أن يحدد لنفسه بوضوح الحدود بين المصلحة العامة، والمصلحة الخاصة، والحدود بين الخبر الصحيح المؤكد والخبر غير المؤكد والقائم على الشائعات، والحدود بين الرأى الموضوعى النزيه والرأى المدفوع بأغراض شخصية، واحترام الصحفى لنفسه ولمهنته ولوظيفته الاجتماعية السامية هو الذى يحدد مكانه فى المجتمع.. فى أعلى سلم الاحترام أو فى الدرك الأسفل.. الصحفى هو الذى يجعل لنفسه القيمة والمكانة، ولا يحصل عليهما بمنصب أو بلقب.
لذلك.. فمسئولية الصحفى نشر الحقائق وإعلان الرأى النزيه.. وليس من حقه التشهير بمن لم تثبت إدانته وعدم إطلاق السهام المسمومة باتهام وشتائم وإهانات ليس وراءها قصد شريف.
الصحفى ملزم قانونا، وأخلاقيا، بألا يشوش على أعمال التحقيقات التى تجريها النيابة، والمحاكمات التى تدور فى المحاكم.. ملزم بألا ينشر ما يمكن أن يؤثر على التحقيق.. أو يؤثر على القضاء.. أو يكون رأيا عاما مسبقا بالحكم على متهمين هم فى نظر القانون والأخلاق أبرياء إلى أن تثبت إدانتهم .. ليس من حق الصحفى أن يجعل من نفسه القاضى ويصدر الأحكام بالإدانة على المتهمين .. ويكفى أن يكون أمينا فى نقل ما يدور فى التحقيقات والمحاكمات بأمانة وحياد إلى أن يصدر الحكم بالإدانة أو البراءة.
حرية الفكر لابد أن تعتمد على الفكر النزيه.. المنطقى.. المتزن وليس على الهوى والمصلحة.. حرية الفكر يجب أن تكون لخدمة المجتمع وليست لخدمة الصحفى .. لصالح المجتمع وليست لمصلحة الصحفى .
والقلم سلاح .. وقوة .. القلم يمكن أن يكون منارة للهداية والإرشاد.. ويمكن أن يكون خنجرا يطعن فى الظلام.. القلم أداة توجيه، وإرشاد، وتنوير، وليس أداة تضليل، أو تحريض، أو إساءة.
مهمة الصحفى النقد الموضوعى بهدف الإصلاح، وليس من حقه ارتكاب جرائم القذف والسب والإهانة والتحريض بدعوى أنها ممارسة للنقد.
والصحفى كالوزير، والنائب عن الشعب فى البرلمان، والقاضى على المنصة العالية، له مكانته، ولكنه فى نفس الوقت- مثلهم- ليس فوق القانون.
والقانون الذى يخضع له الجميع دون استثناء هو الحارس والضمان لحقوق المواطنين، وحماية أعراضهم، وشرفهم، وكرامتهم.. وحماية المجتمع من دعوات الكراهية والفتن.. وليس مسموحا لأى أحد فى البلد أن يكون مركز قوة صحفيا كان أو غير صحفى.. والمواطنون أمام القانون سواء.
حرية الصحافة ليست فوضى الصحافة.. الحرية لها حدود.. وحدودها معروفة ومقررة فى الشريعة والأخلاق والقانون.. وهناك محظورات لا يجوز الاقتراب منها أو المساس بها.. وأولها الأمن القومى.. والمصالح العليا للبلاد.. والقيم الدينية والأخلاقية.. وفيما عدا ذلك فالحرية مكفولة لكل من يحترم نفسه.. ويحترم قلمه.. ويحترم الحرية, حريته وحرية الآخرين ويضع مصلحة الوطن فوق الجميع.
ويبدو أن الحديث ستكون له بقية