السادات . . الغائب الحاضر
فى احتفالات أكتوبر كان السادات هو الغائب الحاضر. وحرب أكتوبر ملحمة كبرى أظهر فيها كل فرد فى القوات المسلحة بطولة واستعدادا للتضحية بغير حدود .. وكان قادة الأسلحة على مستوى الحدث التاريخى الكبير .. وكل مواطن فى مصر والعالم العربى كان بالفعل بطلا من أبطالها وشارك فيها بنصيب .. والزعماء العرب كانوا أبطالا شاركوا فى المعركة كل بقدر ما يستطيع بإحساس تلقائى بأن هذه معركة العرب جميعا.. وبعض الزعماء العرب قدم الكثير دون إعلان.
أوائل يناير 1973 كان المشير أحمد إسماعيل قد وضع الهيكل الأساسى لخطة الهجوم وقام بشىء لم يحدث فى العسكرية من قبل، إذ طلب من كل ضابط على امتداد القناة أن يتسلق الساتر الترابى الذى أقامته القوات المسلحة ضمن الخطة الدفاعية وارتفاعه 20 مترا وينظر أمامه على امتداد 10 كيلو مترات داخل سيناء، وأن يحدد خطته التى يستطيع أن ينفذها بعد العبور، مما أعطى الضباط ثقة فى أنفسهم، وجعلهم يشاركون مشاركة فعلية ليس فقط فى التنفيذ، بل فى التخطيط أيضا، وعلى ذلك نستطيع القول بأن خطة حرب أكتوبر وضعتها القوات المسلحة بأكملها وساهمت فيها أفكار كبار وصغار القادة.
لم يكن الأمر سهلا.. بدأ السادات بخطوة بالغة الجرأة فى الصيف بقرار طرد الخبراء السوفييت الذى أحدث دويا عالميا ولم يدرك أحد ما وراءه .
وكان على السادات إعداد الدولة للحرب .. الإعداد السياسى والمعنوى.. وإعداد مصر كلها من الإسكندرية إلى أسوان لتكون جاهزة كأرض معركة.. وكل مصنع .. وكل محطة كهرباء وضعت لها خطة دفاع بحيث إذا ضرب جزء منها يعمل الجزء الباقى. وفى 30 سبتمبر اجتمع السادات مع مجلس الأمن القومى فقال وزير التموين إن التموين لا يكفى معركة طويلة. وأجابه السادات: إننى أعلم ما هو أكثر.. إن الاقتصاد فى مرحلة الصفر .. وعلينا التزامات إلى آخر السنة لن نستطيع الوفاء بها للبنوك .. وعندما تأتى السنة الجديدة بعد ثلاثة شهور لن يكون عندنا رغيف الخبز للمواطنين.. يقول السادات: ((هكذا أعلمت المسئولين بالموقف ثم أنهيت الاجتماع)) .. ولم يتردد-رغم هذه الحقائق المؤلمة-فى المضى فى تنفيذ خطته للحرب بل ازداد عزما وإصرارا على كسر حالة اللا سلم واللا حرب.. وهزيمة نظرية الأمن الإسرائيلية،.. كان يزور جميع وحدات القوات المسلحة ليشرح لهم الموقف السياسى ويقول لهم إن المعركة أصبحت قريبة.
فى نفس الوقت كان ينفذ خطة بارعة للخداع الاستراتيجى.. فى مايو 1973 أصدر أمرا بتحركات فى القوات على الجبهة فحشد الإسرائيليون جيوشهم بينما كان السادات نفسه فى استرخاء تام! وفى أغسطس من نفس السنة فعل نفس الشىء، وكان رد الفعل فى إسرائيل هو نفس ما صنعوه فى مايو، فأعلنوا التعبئة العامة، ولذلك عندما شاهدوا التحركات فى أكتوبر لم يعلنوا التعبئة، وقال موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى حين سئل عن السبب: لقد دفعنى السادات إلى هذا مرتين من قبل مما كلفنى فى كل مرة عشرة ملايين دولار دون جدوى، فلما جاءت المرة الثالثة ظننت أنه غير جاد مثلما حدث من قبل.
ومن ضمن الخداع الاستراتيجى أنه همس إلى وزير خارجية دولة أجنبية قابله فى سبتمبر 73 قائلا ((بلغ رئيس جمهوريتك أنى ذاهب إلى الأمم المتحدة فى أكتوبر ولا أريد الإعلام عن ذلك الآن وأرجو أن يكون ذلك سرا بيننا)) يقول السادات: كنت أعلم أن هذا الخبر بعد ثوان سوف يصل إلى إسرائيل!
وكانت خطة الخداع مليئة بالكثير من الحكايات والتفاصيل المثيرة..
وانهمك السادات فى إعداد المسرح العربى والدولى.. كان التنسيق مع الدول العربية جميعها ضروريا.. ولذلك قام بزيارات لكل القادة العرب وأرسل إليهم مبعوثين وتلقى منهم ما يفيد استعدادهم ليكونوا معنا.. وكان أولهم الملك فيصل والشيخ زايد.
وكلف السادات حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى بمقابلة وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر فى باريس، فكان ملخص ما قاله كيسنجر لحافظ إسماعيل إنهم للأسف لا يستطيعون مساعدتنا لأننا مهزومون وإسرائيل متفوقة.
وطلب السادات إثارة قضية الشرق الأوسط فى مجلس الأمن لحشد التأييد السياسى الدولى بقرار يؤكد الحق فى إزالة الاحتلال الإسرائيلى، ووافقت 14 دولة على القرار واستخدمت أمريكا الفيتو.
وذهب السادات إلى أديس أبابا فى مايو 1973 لحضور مؤتمر الوحدة الأفريقية وشرح الوضع للقادة الأفارقة، ولأول مرة اتخذ المؤتمر قرارا واضحا بإدانة إسرائيل، وقطعت 80% من الدول الأفريقية علاقاتها مع إسرائيل.. وفى سبتمبر 1973 عقد مؤتمر عدم الانحياز فى الجزائر، وكانت هذه فرصة للاتصال بزعماء العالم وإعدادهم لتلقى أنباء الحرب وتفهمهم لنفاد صبرنا على الصلف الإسرائيلى.
وبقى توجيه إشارة إلى السوفييت ، فكان رد فعلهم إرسال طائرات لترحيل عائلات الموظفين السوفييت الذين يعملون فى المصانع والقطاع المدنى، وكانت تلك إشارة إلى أنهم غير واثقين من قدرتنا على تحقيق النصر، وكانت سفينة سوفيتية فى طريقها إلى ميناء الإسكندرية تحمل بعض الإمدادات ، وكان مقررا أن تصل يوم 5 أكتوبر 1973 ، فصدرت إليها الأوامر السوفيتية بأن تتجول فى البحر الأبيض، وظلت بعيدة 6 أيام إلى أن تأكدوا من انتصارنا فوصلت إلى الإسكندرية وقالوا إنها تاهت فى البحر!
يوم 8 رمضان انتقل السادات إلى قصر الطاهرة بعد تجهيزه كمركز قيادة لإدارة الحرب ، ويوم الجمعة ذهب للصلاة فى زاوية صغيرة هى التى تعلم فيها الصلاة وهو صغير منذ خمسين عاما ، وفى المساء جلس فى الشرفة.. يقول : كان القمر مازال صغيرا. وطلعته جميلة، وكنت فى أقصى درجات السلام الروحى، فرغم اللحظة التى كنت مقبلا عليها كنت أرنو إلى الغد-موعد بدء المعركة-دون أدنى انفعال أو عصبية، وقد يعجب الناس إذا عرفوا أن ليلة المعركة كانت من أحسن الليالى التى نمت فيها فى حياتى، وفى الصباح نفذت برنامجى اليومى كالمعتاد.
وجاءت اللحظة .. الساعة 14.05 يوم السبت 6 أكتوبر 1973 .
يقول السادات : ونجحت ضربة الطيران نجاحا كاملا ومذهلا.. كان كل هذا النجاح مذهلا لنا فى المقام الأول،فقد كان تقدير الاتحاد السوفيتى الرسمى أن ضربة الطيران الأولى سوف تكلف سلاح الطيران المصرى على أحسن الفروض خسائر 40% من قوته.. ولن تحقق أكثر من 30% من أهدافها.. ولكن فى عشرين دقيقة فقط كانت طائراتنا قد ضربت مراكز القيادة، ومراكز إدارة الطيران، ومراكز إدارة الدفاع الجوى، وحين تحققت من هذه النتيجة وأنا فى غرفة العمليات هنأت قائد الطيران حسنى مبارك الذى خطط ونفذ هذه الضربة، وهنأت جميع القادة فى غرفة العمليات، إذ أن هذه الضربة حددت مصير المعركة بعد ذلك، فقد أفقدت إسرائيل توازنها لأكثر من أربعة أيام فقدت فيها السيطرة على قواتها فى سيناء وانقطع الاتصال بهذه القوات.
يقول السادات : لقد استعاد سلاح الطيران المصرى بهذه الضربة الأولى كل ما فقدناه فى حرب 1956 وهزيمة 1967 ومهد الطريق أمام قواتنا المسلحة بعد ذلك لتحقيق ذلك النصر، وانهى إلى الأبد خرافة الجيش الذى لا يهزم .
ويقول السادات: لقد كان قائد سلاح الطيران المصرى فى هذه المعركة الجنرال حسنى مبارك الذى طلبت منه بعد ذلك أن ينزع ملابسه العسكرية ليرتدى الملابس المدنية كنائب لرئيس الجمهورية.
وكلما جاء يوم 6 أكتوبر تتجدد ذكريات هذه الأيام بما فيها من بطولات
وتبقى ذكرى شهدائنا العطرة من أبناء القوات المسلحة الأبطال الذين سيبقون دائما فى القلب وهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم ربهم.
وتحية إلى أعز الرجال الذين نذروا حياتهم للدفاع عن الوطن *