إعادة ترتيب البيت الآن.. الآن
 فرضت علينا الظروف أن تعطى الأولوية للسياسة الخارجية، وتجمعت الضغوط من حولنا ولم تدع امامنا فرصة للاختيار.. فالعالم فى مرحلة تحول كبرى تتغير فيه موازين القوى.. وكل ما كان مستقرا ومتفقا عليه أصبح فجأة موضع مراجعة وتراجع.. هذا التحول الكبير، والتغير فى العلاقات الدولية هو فى حقيقته انقلاب مفروض علينا، وليس أمامنا إلا أن نكرس جهدنا للحفاظ على مصالحنا، وحماية أمننا القومى، والدفاع عن ثوابت سياساتنا.. ولابد أن نبقى فى أقصى حالات اليقظة والانتباه تحسبا لما يمكن أن يحدث مما لم يكن فى الحسبان.

   وفى السياسة الخارجية حققنا نجاحات كثيرة.. واستطعنا بالحكمة والبصيرة أن نظل واقفين على أقدامنا، رافعين رؤوسنا، وقادرين على الاحتفاظ بحريتنا واستقلال إرادتنا، ولم تستطع قوة أن تنتزع منا الدور التاريخى

كقـوة إقليميـة ذات تـأثير لا يمكن إنكــاره أو تجــاهلـه ..

وكانت رؤيتنا صحيحة فى أن السياسة الخارجية لها عائد ينعكس على التنمية ويدفع عملية البناء فى الداخل. واثبتت الأيام صواب هذه النظرية.. وحققت الجهود التى بذلت فى إقامة وتنمية علاقاتنا الخارجية فوائد اقتصادية وسياسية ملموسة.. وجاء الوقت الآن لننظر إلى الوجه الآخر من العملة.. ونتفرغ لعملية البناء الداخلى لأن قوة الدولة فى الداخل تنعكس على أوضاع الخارج، وتحدد مكانتها وقوة تأثيرها، وكل تقدم وإصلاح فى الداخل يحقق بالضرورة عائدا أكبر من الخارج.

واعتقد أن هذا هو الوقت الذى يجب أن نقف فيه وقفة مع أنفسنا ونصارح أنفسنا بعيدا عن نقيق ضفادع النفاق وصخب كذابى الزفة، ونفكر معا، ويشارك فى التفكير كل من لديه فكر، ونشمر سواعدنا لنعمل معا ولا نكتفى بالكلام، ويشارك فى العمل كل من يقدر عليه، ونحاسب أنفسنا ونحاسب بعضنا بعضا دون مجاملة أو مراعاة لأى اعتبار غير مصلحة الوطن.. ماذا أعطى كل منا وماذا أخذ، وهل عمل كل من تولى موقعا فى العمل العام بإخلاص و نزاهة؟.. وهل كان كما يجب أن يكون أول من يضحى وآخر من يستفيد أو على العكس من ذلك.. كان أول من أخذ لنفسه الغنائم وترك للآخرين شعارات النزاهة.

اعتقد أن هذا وقت إعادة النظر فى كل شئ.. وإعادة تقييم كل من تولى موقعا فى العمل العام.. أعتقد أن هذا هو الوقت لاعادة ترتيب شامل لكل أوضاعنا الداخلية..

وحسم القضايا المعلقة التى طال انتظار حسمها.. والرأى العام هذه الأيام يشعر بالراحة لأن عملية التطهير بدأت وكان يطالب بها بقوة.. والناس ترى بعيونها.. وتعرف كثيرا من الأسرار و أدق التفاصيل التى يظن البعض أنها خافية.. ويتناقلها الناس فى مجالسهم وتنتشر همسا وتصل إلى القرى والحوارى.. وكل من سقط مؤخرا فى يد العدالة كان موضع اتهام الرأى العام منذ سنوات ولم يقتنع الناس بما كان يقال دفاعا عنهم.. لأن الناس يعرفون الحقائق ويتابعون الأخبار من مصادرها الحقيقية.. والذين يدافعون عن المنحرفين لا تنطلى محاولاتهم ويضحك الناس عليهم فى سرهم!.

وهذا وقت دعوة القوى الوطنية لطرح ما لديها من أفكار.. وليشارك الجميع فى ذلك.. أغلبية وأقلية.. ولكن ذلك تنفيذا لدعوة الرئيس مبارك فى خطابه عند بدء فترة الرئاسة الحالية حين دعا كل القوى المصرية الديمقراطية إلى وفاق وطنى يضع مصالح الوطن العليا فوق خلافات الأشخاص و الأحزاب، وفوق اعتبارات اللعبة السياسية و إغراءات الكسب العاجل على حساب المصلحة الوطنية و أن يكون الهدف تحديد أولويات العمل الوطنى، بإدراك لمشاكل مصر وتحدياتها الراهنة، وفهم واع لظروفها الدولية والاقليمية، وحساب دقيق لمخاطر المجازفة على وطن لم يزل ينوء بالاعباء ويواجه أعتى التحديات. هذا ما قاله الرئيس ولم يفهمه البعض حتى الآن!

هذا وقت الحوار الذى يشارك فيه الجميع دون استثناء بإدراك لطبيعة الظروف الدقيقة التى تستلزم تجمع المخلصين وعدم تفرقهم.. تستلزم الاتفاق وليس الاختلاف.. تستلزم التضحية وليس التكالب على المغانم الشخصية.. وبإدراك أن المرحلة القادمة- حسب تعبير الرئيس مبارك- يمكن أن تكون فترة إثمار وحصاد جديدين إذا جندت كل القوى المصرية طاقاتها للعمل فى تجانس لخدمة المصلحة الوطنية بدلا من إهدار الطاقات فى معارك جانبية.

هذا وقت الوصول إلى اتفاق يحدد بوضوح وبالتفصيل موقفنا من القضايا المصيرية وأولها قضية الأمن القومى.. من هو الصديق ومن هو العدو فى هذه المرحلة التى تغيرت فيها التحالفات؟.. وما هى المخاطر التى يمكن أن تواجهنا؟.. وكيف يكون العمل إذا حدث ما لا نتوقع حدوثه؟.. وقضية الإصلاح السياسى.. كيف نتصور الهدف النهائى لها وما هى حدودها وأبعادها؟.. وما هو الهدف الذى يجب تحقيقه اليوم وغدا وبعد غد إلى أن نصل إلى الهدف النهائى.. وقضية الإصلاح الاقتصادى بعيدا عن العموميات.. ما هو مفهوم الاصلاح الاقتصادى.. وما هو دور وحدود ومستقبل كل من القطاع العام والقطاع الخاص والاستثمار الأجنبى.. ما هى المسموحات و المحظورات؟..

وعلى سبيل المثال فإن فتح مجال الاستيراد للقطاع الخاص بدون حدود أو رقابة تحت شعار حرية التجارة ظهرت معه قوة اقتصادية جديدة تحولت إلى قوة سياسية مؤثرة فى القرار والتشريع، هى قوة كبار المستوردين ووكلاء الشركات الأجنبية وأصحاب المشروعات، وتحت شعار تشجيع الاستثمار تمكن هؤلاء من احتكار تجارة وتصنيع سلع أساسية والسيطرة على قرارات إنتاج سلع مثيلة للمستورد محليا.. كيف نقف بحسم أولا لمنع الاحتكار وضمان المنافسة الحرة، وثانيا لحماية المستهلك من الاستغلال والغش..

هذه ليست قضية وزارة، ولكنها قضية بلد.. والأمثلة غير ذلك كثيرة.

أما قضية الإصلاح الاجتماعى والثقافى فإنها تحتاج إلى وقفة.. بعيدا عن النفاق والمنافقين الذين يحاولون تخدير الوعى بادعاء أن كل شئ وصل إلى حد الكمال.. ولا يصدقهم أحد.. هذا وقت تحديد تصورنا لما سيكون عليه المجتمع المصرى والعقل والفكر المصرى بعد عشر سنوات مثلا، وماذا فعلنا لتحقيق ذلك وما الذى أنجزناه لبناء الإنسان المصرى الذى نتحدث عنه كثيرا؟ وماذا نفعل بالتحديد فى كل سنة من هذه السنوات العشر.. ومن الذى نحاسبه فى كل سنة وأمام أى جهة يكون الحساب..؟ وترتبط بذلك قضية العدالة الاجتماعية..؟

ما هو مفهوم العدالة الاجتماعية الذى نتحدث عنه كثيرا؟.. وما هى الوسائل لتحقيق هذه العدالة؟.. ومن المسئول عن تحقيقها..؟

الفكرة أن هذه المرحلة تحتاج إلى وضوح.. وتحتاج إلى ثقة الناس فى طهارة كل من يتولى موقعا مهما يكن حجمه.. وتحتاج إلى حسم الجدل الذى طال فى موضوعات مؤثرة فى حياة الناس.. مثل الإصلاح التشريعى وإعادة بناء النظام القانونى بما يتفق مع التطورات العالمية والتطورات الداخلية.. ومثل إيجاد حلول غير تقليدية للمشاكل التقليدية وإثارة حماسة الناس الذين اختاروا موقف اللامبالاة والسلبية..

واعتقد أن هذا وقت إعادة تنظيم الدولة.. اعرف أن هناك من يرى أن هذه دعوة خيالية أو مجرد فكر نظرى غير قابل للتطبيق..  لكن نحن نرى الدول الكبرى تعيد تنظيم وبناء مؤسساتها.. وللناس شكوى من بطء القرار، وسوء الأداء فى بعض الخدمات، وغياب المحاسبة  والحزم، وضعف التنسيق والتكامل بين المؤسسات والهيئات والوزارات.. وللناس شكوى من كثرة الكلام وقلة الفعل.. كثر الحديث عن الدماء الجديدة التى تضخ فى عروق أجهزة الدولة، و إفساح الطريق أمام الشباب للمشاركة فى المسئولية.. وما يتحقق من ذلك قليل.. وكثر الكلام عن الأسلوب العلمى فى الإدارة وعن الإدارة الجماعية وعن القضاء على التعقيدات والمشاكل التى يعانى منها الناس فى تعاملاتهم اليومية مع أجهزة الدولة.. وما يتحقق أيضا قليل.

أعتقد أن هذا وقت نقلل فيه الحديث عما سوف نفعله ونتحدث أكثر عما فعلناه وانتهينا منه.

لذلك أرجو حين تقدم الحكومة كشف حساب أمام مؤتمر الحزب الوطنى ألا تتحدث كثيرا عما سوف تفعله، وتحدد بدقة وبوضوح ماذا فعلت و ما فعلته ليس قليلا.. ولكن شعور الرأى العام بما تحقق قليل، لأننا أغرقناه فى الأمانى فلم يعد يفرق بين ما تحقق وما هو غارق فى بحار الأمانى.

أريد أن أقول إن الإصلاح الشامل هذا وقته. والتغيير الذى تحدثنا عنه كثيرا جدا هذا وقته أيضا.. وإعادة ترتيب البيت هذا وقته.. ولم تعد أمامنا فرصة للتأجيل.. لأن الزمن لن ينتظرنا!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف