بعد انتهاء معاداة السامية بدأت معاداة الإسلام
انتهت فى الغرب موجة العداء للسامية، أو كادت تنتهى، وبدأت حملة العداء للإسلام والمسلمين أقوى وأشد تأثيرا، إلى الحد الذى يرى أنها الخلفية الحقيقية للحرب العسكرية الدائرة فى بعض البلاد الإسلامية والحروب الأخرى التى ستوجه إلى بلاد إسلامية أخرى، بالإضافة إلى أن الحصار الاقتصادى المفروض على بعض الدول الإسلامية ليس مفروضا على أية دولة غير إسلامية فى العالم.. وتظهر حملة العداء للإسلام فى المضايقات التى يواجهها المسلمون الذين يعيشون فى الغرب أو يذهبون للزيارة.. وتزداد فلتات اللسان من أمثال برلسكونى رئيس وزراء إيطاليا عن حضارة الإسلام الكريهة إلى الرئيس الأمريكى جورج بوش الذى أعلن (الحرب الصليبية)..
وفى بحث أجراه مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية عن الظروف التى يعيش فيها المسلمون فى أمريكا فى يوليو وأغسطس 2002 تبين أن 57% من المسلمين فى أمريكا تعرضوا للتمييز والاضطهاد بعد أحداث 11 سبتمبر، و48% تحولت حياتهم إلى الأسوأ، و67% قالوا إن التحيز ضد الإسلام زاد فى الصحافة والتليفزيون فى أمريكا. وهذا البحث شارك فيه المسلمون الذين يعيشون فى 40 ولاية من الولايات المتحدة.
وفى شهر أغسطس 2002 دارت معركة فى الولايات المتحدة لأن جامعة نورث كارولينا الأمريكية وافقت على تدريس كتاب عن الإسلام والقرآن من تأليف البروفيســور مايكــل سـيلس أســتاذ علم الأديــان المقـــارن بجامعة هارفارد وعنوان الكتاب (منهج القرآن: الوحى الأول)، واجتمعت لجنة فى برلمان ولاية نورث كارولينا وطالبت بوقف تمويل الجامعة بسبب تدريس هذا الكتاب. ورفعت إحدى الجمعيات المسيحية الأمريكية المحافظة دعوى ضد الجامعة على أساس أنها تروج لدين (الأعداء)، وتعرضت الجامعة لحملة من الانتقادات بسبب موافقتها على تدريس هذا الكتاب، ولم تتوقف الحملة حتى بعد أن تراجعت الجامعة، وقررت جعل دراسة هذا الكتاب اختيارية على أن يقوم الطالب الذى يرفض دراسته بكتابة مقال يوضح فيه أسباب الرفض. ولم يجد مستشار الجامعة البروفيسور جيمس موسير اقتناعا بما أعلنه من أن اختيار الدين الإسلامى لتدريسه جاء استجابة لتزايد الاهتمام بدراسة هذا الدين بعد هجمات 11 سبتمبر، وأصبح الدين الإسلامى هو الأكثر إثارة لاهتمام الأمريكيين، ولم يستمع أحد إلى إعلان بعض أساتذة الجامعة أن معارضة تدريس الإسلام يمثل اعتداء على الحرية الأكاديمية للجامعة. وأخيراً اعترف أستاذ الدراسات الدينية بجامعة نورث كارولينا البروفيسور كارل أرنست بأن هناك تيارا قويا متحيزا ضد الإسلام، وأن هذا الموقف جزء من تاريخ طويل من العداء للإسلام، ومن السهل اقتطاع أجزاء من أى كتاب مقدس للإساءة إليه وتشويه مقاصده.
وحاول البروفيسور مايكل سيلس أن يعوم ضد التيار فكتب مقالا فى صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية يوم 9 أغسطس 2002 ونشرته صحيفة هيرالد تريبيون فى نفس اليوم، بعنوان (الكتب المقدسة لا تؤخذ باستهتار)، أشار فيه إلى الدعوى المرفوعة أمام المحكمة ضد جامعة نورث كارولينا بسبب موافقتها على اختيار كتابه (منهج القرآن) ليكون ضمن كتب القراءة الصيفية لطلبة السنة الأولى، والتهمة الموجهة إلى الجامعة فى المحكمة أنها تلقن الطلبة معلومات وادعاءات خطأ حول طبيعة الإسلام السلمية، والجامعة بذلك تنتهك القانون والدستور الأمريكى بالفصل بين الدين والسياسة، وقال البروفيسور مايكل سيلس فى مقاله: إن كتابه هذا لا يتضمن أية ادعاءات أو دعايات عن الإسلام، وحاول الأستاذ أن يدافع عن نفسه قبل أن تلاحقه المنظمات المعادية للإسلام وتقضى على مستقبله الأكاديمى وربما تقضى عليه شخصيا، فقال فى مقاله: إن البعض يساوى بين فهم القرآن والتراخى فى محاربة الإرهاب الإسلامى، وقال- لكى ينفى عن نفسه تهمة التحيز للإسلام- إنه سبق أن ناشد الحكومة الأمريكية قبل 11 سبتمبر الإطاحة بنظام طالبان الإجرامى، وسبق أن حذر من الخطر الذى يشكله المذهب الإسلامى المتطرف.
وبعد ذلك قال البروفيسور مايكل سيلس فى مقاله إن وراء هذه القضية ادعاء تبشيريا قديما بأن الإسلام دين عنف بعكس المسيحية فهى دين السلام، ولذلك يختصم المتقاضون القرآن نيابة عن الكتاب المقدس، وهم يستشهدون أمام المحكمة بآيات من القرآن تدعو المسلمين إلى قتل الكفار، بينما يفسر معظم المسلمين هذه الآيات فى سياق الحرب بين محمد وأتباعه من جانب وأعدائهم من جانب آخر، ولا تنطبق هذه الدعوة الآن إلى القتل على أصدقائهم وجيرانهم من غير المسلمين، والمسيحيون واليهود يعتبرون أنفسهم مأمورين من الله فى الكتاب المقدس مثل يسوع بنبذ الملحدين. وكما أن بعض المسيحيين يعتبرون أنفسهم (يسوع الجديد) كذلك يتصور بعض المسلمين أنهم مثل هؤلاء الذين هاجموا محمدا وأتباعه ويدعون إلى الجهاد، وهؤلاء قلة تمكن معرفتهم، وتحديدهم، ومواجهتهم، على أن نتجنب افتراض أن كل المسلمين يفسرون القرآن بنفس الطريقة.
وقال البروفيسور مايكل سيلس أيضا فى مقاله إن بعض المسيحيين يتفاخرون بأن المسيح لم يأمر أتباعه أبدا بقتل الملحدين، ولكن أمر أن يتركوا الحساب والعقاب فى الآخرة، ولكن الكتب المقدسة تتصل بالعنف بطرق معقدة، ففى أيام محاكم التفتيش الكاثوليكية التى كانت تحكم بالإعدام على من تعتبرهم (هراطقة) وظلت تحاكم وتقتل خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وفى هذا الزمن كان قتل المتهم بالهرطقة يعتبر فى نظرهم أكثر رحمة من السماح له بالتأثير على الآخرين وقيادتهم إلى التهلكة، وكانت (الرحمة) هى الحجة التى استخدمت لتبرير اضطهاد اليهود. وكذلك الحال الآن، فإن طالبان قرأوا القرآن، وكذلك فإن المسلمين الذين اضطهدتهم طالبان وحكمت عليهم بالكفر (وهى التهمة المساوية للهرطقة فى المسيحية) قرأوا القرآن نفسه، والآيات التى ألهمت غاندى ثورته السلمية (وهو ليس مسلما) هى ذاتها الآيات التى يستشهد بها هؤلاء الذين ذبحوا المسلمين غير المسلحين فى الهند مؤخرا. وأيضا يردد المتحدثون فى (شبكة السياسة العائلية) كما يردد بات روبرتسون آيات من القرآن معزولة عن سياقها لإثبات وجهة نظرهم بأن القرآن يطالب المسلمين بقتل (الملحدين)، وبالنسبة لهم فإن (الإسلام هو العدو) بكل وضوح، وبعد ذلك يقولون: كيف لنا أن نثق فى جارنا وزميلنا المسلم إذا كنا نعرف أنه ربما يكون وراء ما يظهره- من صداقة- نية للقتل؟!
ويتساءل البروفيسور مايكل سيلس فى مقاله: هل نسمح بدخول المسلمين فى جهاز الشرطة أو فى الجيش؟ وإذا لم يكن ممكنا التعرف على المسلم باسمه أو بمظهره فهل نطلب منه وضع علامة تميزه حتى نتعرف عليه؟ وقد أدت مثل هذه الأفكار الطائشة ببعض المسيحيين فى البوسنة إلى مهاجمة جيرانهم المسلمين العزل، ومع ذلك فإن الكثير من هؤلاء المسلمين أنفسهم حملوا الشموع تضامنا مع المسيحيين بعد هجمات 11 سبتمبر على نيويورك وواشنطن.
وقال البروفيسور مايكل سيلس إن كتابه (منهج القرآن) يقدم السور والآيات التى يعتبرها المسلمون (المبادئ الأساسية للدين الإسلامى).
وفى نفس الوقت فإن الطلبة الذين يقرأون هذا الكتاب عن القرآن والإسلام يقرأون أجزاء من الكتاب المقدس تشمل روايـــات الـــذبـح البشعة فى Joshua فهل مثل هذه الاختيارات تقـــدم وجهة نظـر معتدلة عن الكتاب المقدس؟ ولذلك لا يجب اللجوء إلى تجزئة الكتب المقدسة وانتقاء آيات معينة وإخراجها من سياقها لإقامة وتعميم ادعاءات بشأن الدين والكتاب المقدس فى عمومه. وإذا كان جو جلوفر من شبكة السياسة العائلية التليفزيونية والإذاعية ينتقد محاولات تعريف الأمريكيين بجوهر الأفكار اللاهوتية فى القرآن، ويطالب بالتركيز على شىء واحد، هو (الإسلام والإرهاب) وهو الموضوع السائد فعلاً على أرفف المكتبات.
هذا ما قاله الأستاذ الأمريكى المتخصص فى علم الأديان المقارن وهو يواجه حملة من الانتقادات والتهديدات لمجرد أنه وضع كتابا ليس فيه دفاع عن الإسلام، وليس فيه دعوة إلى اعتناق الإسلام، وليس فيه سوى محاولة فهم (العقيدة) الإسلامية بعيدا عن حملات التشويه وبرامج الدعاية المنظمة لتشويه الإسلام فى الإعلام الأمريكى وفى المدارس والجامعات أيضا.
ومن الكتب المهمة التى صدرت فى فرنسا كتاب بعنوان (فرنسا والإسلام) لباحث معروف هو (جاك فريمو)، استعرض فيه تطور علاقة فرنسا بالإسلام والعالم الإسلامى منذ حملة نابليون على مصر التى كانت بداية عهد الاستعمار الأوربى للعالم العربى والإسلامى حتى العصر الحديث، كما استعرض الغزوات والحروب والصراعات التى شنها الغرب على الدول الإسلامية، وأوضح أن هذه الصراعات اختلطت فيها الروح المسيحية المستحكمة فى الغرب وعقله مع النزعات العنصرية الغربية وطموحات الهيمنة الامبراطورية. وقال إن غزو نابليون لمصر أظهر الفارق بين (التقدم) الأوربى و(التخلف) العربى والإسلامى، مما فتح شهية الدول الاستعمارية الأوربية لإقامة امبراطوريات فيما وراء البحار، وزيادة حدة المنافسة بين هذه الدول الاستعمارية على الممتلكات التى لم يكن أهلها قادرين على حمايتها بعد أن أصبحت الامبراطورية العثمانية (الرجل المريض) وظهرت المسألة الشرقية فى الفكر السياسى الغربى.
ويقول الكتاب إن احتلال فرنسا للجزائر فى عهد نابليون الثالث نقل المشروع الاستعمارى الغربى إلى مرحلة جديدة أكثر دموية وعنفا لامتلاك الأرض وإبادة السكان الأصليين، وواكب ذلك نزعة عنصرية كانت هى الغطاء الأيديولوجى لتبرير الأطماع الاستعمارية، واكتمل المشروع الاستعمارى الغربى مع الحرب العالمية الأولى والتواطؤ الفرنسى البريطانى فى اتفاقية (سايكس- بيكو) ثم (وعد بلفور) واقتسام العالم العربى بين الدول المنتصرة فى الحرب، واغتنام الدول الغربية الفرصة لإقامة دولة إسرائيل لتكون (اليد الطولى للغرب) لقمع المشروع العربى للوحدة والتحرر والتقدم.. ويقدم الكتاب تحليلا لعوامل الصراع بين الغرب الاستعمارى والعالم العربى الإسلامى على امتداد قرنين، منذ ولادة المشروع الاستعمارى الفرنسى على يد نابليون بونابرت حتى الوقت الراهن ويقول إن طموحات الدول الغربية الاستعمارية تجددت فى الوقت الحاضر، ويرى أن فرنسا ضمن هذه الدول فى حكم فرنسوا ميتران. ويقول إن الاستعمار الفرنسى بدأ عندما كانت البلاد العربية والإسلامية تبدو أمام الغرب مساحات شاسعة تعانى من الفراغ والتخلخل السكانى، وكانت فرنسا أكبر قوة سكانية فى أوربا، فيها 30 مليون نسمة فى مساحة لا تزيد على 500 ألف كيلومتر مربع، بينما كان المسلمون فى دول الشرق الأوسط لا يزيدون على 20 مليون نسمة مبعثرون فى مساحة تزيد على 5 أمثال مساحة فرنسا، وتحصدهم الأوبئة ونقص الرعاية الصحية، بينما تجد شعوب الغرب الحماية بالنظام الصحى السائد فيها، والدول الغربية دول صناعية متقدمة علميا وتكنولوجيا بينما الدول الإسلامية دول زراعية متخلفة، ولم تصل حركة الأفكار فى العالم الإسلامى الوصول إلى ما وصلت إليه فلسفة التنوير فى الغرب، وباختصار لم تكن الشروط اللازمة لنشأة اقتصاد رأسمالى ومجتمع صناعى متوافرة فى العالم الإسلامى، بينما كانت للدين مكانة مركزية ومرجعية للدولة، والقانون، والأسرة.. ولرجال الدين الكلمة العليا والأثر الأكبر فى حياة الناس ابتداء من طقوس الولادة والموت إلى سلوك الناس ومعاملاتهم فى الحياة اليومية، وأصبح للدولة دين.. وكانت فرنسا هى الابنة الكبرى للكنيسة، وملكها مسيحى متشدد يرى أن له رسالة وعليه واجب هو نشر المسيحية الكاثوليكية، وكان الملوك المسلمون أيضا هم المدافعين عن الدين، وهذا التماثل هو الذى كان يغذى التباعد، بل كان يغذى (العداء). ويقول المؤلف: نادرا ما كان يشعر المؤمنون هنا وهناك باحترام (الآخر).. بينما الإسلام فى نظر الكاثوليك ليس إلا (هرطقة) فى أحسن الأحوال..
ويضاف إلى كل ذلك- كما يقول جاك فريمو- كان الاختلاف فى كل شىء بين الغرب والمسلمين.. فى الغرب يتكلمون اللاتينية والأنجلوساكسونية، وفى العالم العربى والإسلامى يتكلمون العربية.. فى الغرب يحسبون الزمن بالتقويم الميلادى وفى العالم الإسلامى يحسبونه بالتقويم الهجرى.. واختلاف الملبس.. والممنوعات من الطعام.. واختلاف حول الاختلاط بين الرجال والنساء ومشاركة المرأة فى المجتمع.. ويقول إن كل ذلك جعل الأمر يبدو كأن الغرب المسيحى والشرق الإسلامى ينتمى كل منهما إلى كوكب مختلف عن الآخر.. وزاد التباعد الاختلافات فى القيم، والعادات، والسلالات، وتكوين العائلة والعلاقات بين أفرادها، والمفاهيم الاقتصادية والثقافية والحركات الفكرية والأزياء.. كل ذلك كان يجعل الفرنسيين أقرب إلى جيرانهم الأوربيين، وجعلهم يبتعدون عن الشعوب الإسلامية، وكانت أيديولوجيات الكفاح فى العالم الإسلامى ضد الاستعمار الغربى تقوى هذا الشعور بالتباعد.. كما كان الجهاد من جهة، والحروب الصليبية من جهة أخرى ضمن جذور (العداء) السائد فى الغرب تجاه الإسلام، حتى لو لم يكن ذلك ظاهرا كل الوقت لكنه كان يظهر من وقت لآخر.. وكان السباق من أجل السيطرة على البحر المتوسط يطيل أمد هذا الشعور بالعداء والبعد فى القرن الثامن عشر.. وهكذا نجد أن التعارض بين العالم المسيحى و(دار الإسلام) ليس ادعاء فارغا!
هذا ما يقوله الباحث الفرنسى ويضيف أن هذه الاعتبارات هى التى تمثل نقطة البدء للبحث وفهم العلاقة بين الغرب والإسلام.
وبعد استعراض طويل للتطور التاريخى لعلاقة فرنسا بالعالم الإسلامى، ومراحل الصدام مع الإسلام والمسلمين بعد احتلال فرنسا للجزائر، يشرح جاك فريمو نتائج المؤتمر القـــربانــى المسيحـــى الذى عقــد فى قرطاجة، وبعده صدر قرار الفاتيكان فى سنة 1922 بنقل مقر (مؤسسة نشر الأديان) من ليون بفرنسا إلى العاصمة الإيطالية روما وتوجيه البعثات التبشيرية إلى العمل على (توسيع مملكة المسيح)، وظلت النقطة الساخنة دائما هى مصر، فقد استمر فيها الاضطراب ومقاومة الاحتلال البريطانى، ثم ظهرت نقطة ساخنة ثانية فى فلسطين وأصبحت مسرحا لاضطرابات دامية، وفى نهاية 1931 عقد فى القدس المؤتمر العالمى للإسلام وكان موضوعه النضال ضد الاستعمار وحماية الأماكن الإسلامية المقدسة، وكان شكيب أرسلان قد أصدر مجلة (الأمة العربية) بالفرنسية فى جنيف فى نهاية سنة 1930، وجعل منها آلة حرب.. ثم ظهرت مؤلفات عبد الرحمن عزام (العرب شعب المستقبل) تبشر بالوحدة العربية، وكان عبد الرحمن عزام يحارب الإيطاليين فى ليبيا قبل أن يناضل ضد الاستعمار البريطانى فى مصر، وأصبح بعد ذلك أول أمين عام للجامعة العربية منذ إنشائها.. بعد ذلك انتشرت أفكار الإصلاح الإسلامى المستلهمة من الشيخ محمد عبده ثم رشيد رضا بعده، ووصلت أفكار الإصلاح الإسلامى إلى المغرب والجزائر على يد عبد الحميد باديس، وركز (الإصلاحيون) على مسألة (الهوية القومية) القائمة على الدين الإسلامى واللغة العربية.. وظهر فى المغرب علال الفاسى الذى بدأ العمل السياسى فى هذا الاتجاه.. وفى سنة 1930 وقعت الاضطرابات فى المغرب حين أصدرت سلطات الاحتلال الفرنسى قرارا بإنشاء محكمة تطبق القوانين الفرنسية فى المغرب، ونشط رجال الدين الكاثوليك فى مناطق البربر، وظهرت حالات اعتناق المسيحية، وظهرت معها الحساسية الدينية وظهرت جماعة (القوميون المغاربة) فى المغرب، وقبلها ظهرت جماعة (تونس الفتاة) فى تونس، وكلتاهما عملت بقوة على تعبئة الشعور القومى والدينى، وازداد تدفق الجماهير على المساجد فى الـمغرب وأصبح يتردد بصوت عال الصياح بدعاء (اللطف يا لطيف.. يا لطيف) ومرت سنوات الغليان الشعبى فى المغرب وتونس ضد الاستعمار الفرنسى، وازدادت مع ازدياد سياسة القمع وفرض الرقابة على رجال الدين الإسلامى.. وتوثقت العلاقة بين الدين الإسلامى ومقاومة الاستعمار فى البلاد الإسلامية.. ولم تفلح محاولات فرنسا لفرض الوصاية والسيطرة على شيوخ المسلمين عندما أنشأت فرنسا لجنة خاصة يرأسها موظف فرنسى يتبعه الشيوخ وعلمـــاء المسلمين (!) كما لم تفلح سياسة فرنسا فى فرض الرقابة على الصحف، والتضييق على المدارس الإسلامية.
يقول جاك فريمو: إن الحال ازداد سوءا بعد إنشاء إسرائيل وهزيمة الجيوش العربية وطرد 800 ألف فلسطينى، وتسبب كل ذلك فى صدمة نفسية دائمة للرأى العام العربى.. ثم توترت العلاقات بين مصر وفرنسا بسبب دعم عبد الناصر لثورة الجزائر وتنمية الشعور بالتضامن العربى، وزاد التوتر فى العلاقات بعد اشتراك فرنسا وبريطانيا مع إسرائيل فى العدوان على مصر بعد تأميم قناة السويس سنة 1956، وهكذا فشلت فرنسا فى جعل الجزائر فرنسية، واشتد النضال الجزائرى ضد الاستعمار الفرنسى وارتبط بالإسلام، وظهرت عمليات التفجير فى فرنسا التى تنفذها منظمة الجيش السرى، وأدى ذلك إلى وجود مناخ الحرب الأهلية فى فرنسا، واجتاحت باريس المظاهرات فى فبراير 1962.. وأدت كل هذه العوامل إلى اتفاقات ايفيان مع الحكومة الجزائرية المؤقتة ثم إعلان استقلال الجزائر..
وبعد انتهاء حرب استقلال الجزائر خفت حدة التوتر بين فرنسا والعالم العربى والإسلامى وأصبح التقارب ممكنا كما يقول جاك ريمو.
أما علاقات فرنسا بإسرائيل فى فترة حكم ديجول فكانت قوية، وظلت فرنسا هى المصدر الأكبر لتسليح إسرائيل بأحدث طائرات الميراج التى كانت سلاح إسرائيل فى حرب يونيو 67، وإن كانت فرنسا قد أدانت هذا العدوان وفرضت بسببه حظرا على تصدير الطائرات إلى إسرائيل وذهب ديجول إلى أبعد من ذلك فى مؤتمر صحفى عقده يوم 27 نوفمبر 67 وأعلن فيه شكوكه فى مشروعية إقامة دولة يهودية فى فلسطين، ولكنه فى نفس الوقت وصف اليهود بأنهم (شعب الصفوة).. شعب واثق من نفسه وميّال للهيمنة..وعندما قامت فرق الكوماندوز الإسرائيلية المحمولة بطائرات الهيلوكوبتر بغارة فى ديسمبر 68 على مطار بيروت ودمرت الطائرات المدنية اللبنانية وأعلنت إسرائيل أن هذه الغارة انتقام لمهاجمة الفدائيين الفلسطينيين إحدى طائرات شركة العال الإسرائيلية فى مطار أثينا.. وأعلن ديجول إدانته لهذا الهجوم الإسرائيلى على (بلد صديق) بأسلحة فرنسية!
الفكرة التى يستخلصها جاك فريمو هى أن فرنسا من خلال حرب الاستقلال فى الجزائر وظهور الدعوة للقومية اكتشفت أن الإسلام هو المحرك، وأول نداء أشعل ثورة الجزائر فى نوفمبر 1954 كان يدعو لمقاومة الاحتلال لإقامة دولة جزائرية مستقلة ديمقراطية فى إطار المبادئ الإسلامية، وكانت حركة (العلماء) من رجال الدين الإسلامى هى الدعم الأكبر لهذه الثورة ضد الاستعمار الفرنسى.
ويتساءل جاك فريمو: متى ظهر فى فرنسا الشعور (بالخطر الإسلامى)، ويجيب بأنه ظهر فى نهاية 1979 حين أصبحت الثورة الإيرانية راديكالية واحتجزت الرهائن داخل مبنى السفارة الأمريكية فى طهران فى نوفمبر 1979 وبعد حدوث التمرد فى الحرم فى مكة، وبعد أن اندلعت الحرب بين العراق وإيران فى سبتمبر 1980، ثم اغتيال السادات فى 1981.. كل ذلك أدى إلى انتشار مفاهيم وشعارات فى الغرب عن (التعصب الإسلامى) و(الجهاد)، وعانى الغرب من نقص البترول بسبب الحرب العراقية الإيرانية، وانتشار حوادث إرهابية فى فرنسا، ومحاولة أنيس نقاش اغتيال رئيس الوزراء الإيرانى السابق شهبور بختيار فى باريس فى يوليو 1980، وإلقاء قنبلة على الكنيس اليهودى فى أكتوبر 1980، واغتيال سفير فرنسا فى بيروت فى سبتمبر 1981، وتفجير قنبلة فى قطار باريس- تولوز فى مارس 1982، وتراشق بالرصاص فى شارع روزييه بباريس فى سبتمبر 1982 ثم أعلن رئيس الوزراء بيير موروا أن العمال فى شركة رينو للسيارات الذين قاموا باضطرابات كانت تحركهم جماعات دينية وكان يقصد جماعات إسلامية، وفى ربيع 1985 خطف العديد من الجنود الفرنسيين واحتجزوا كرهائن فى لبنان، وبين نهاية 1985 وخريف 1986 حدثت عدة تفجيرات بالقنابل فى الأماكن العامة وأثارت الذعر فى كل باريس.
ويصل جاك فريمو إلى أن نتيجة هذه الأحداث أن أصبح الفرنسيون يشعرون بأن المسلم يمكن أن يهدد أمنهم على أرضهم وفى عقر دارهم كما يقولون وليس كما كان عليه الحال حتى عام 1962 فى المناطق البعيدة فيما وراء البحار، أو فى الشرق المعقد كما كان يصفه ديجول. لذلك كانت حريصة على ألا تنتصر إيران على العراق حتى لا يكون ذلك انتصارا للإسلام الراديكالى.
تاريخ طويل من العلاقات المعقدة المليئة بالصراعات. وهى صراعات سياسية فى حقيقتها.. وهذا ما كان يجعل جلادستون الاستعمارى البريطانى زعيم الأحرار الذى توفى عام 1898 يدعو إلى إعلان وجوب إعدام القرآن وتطهير أوربا من المسلمين، وهذا أيضا ما دعا القائد البريطانى اللورد اللنبى عندما دخل القدس بعد انتصاره على العثمانيين فى الحرب العالمية الأولى إلى أن يصيح:(الآن انتهت الحرب الصليبية).
والموضوع أكـــبر من أن نحيط بكل أبعاده وكل أعماقه فى هذه العجالة.