أين حقوق الإنسان فى أمريكا؟
 تدعى الولايات المتحدة أنها حامى حمى حقوق الإنسان فى العالم.. وتضع تمثال الحرية عند مدخلها يستقبل كل من يدخل إليها بحرا أو جوا لتقول لـه: أنت فى بلد الحرية، وفى الكونجرس الأمريكى لجنة مختصة بدراسة أوضاع حقوق الإنسان فى العالم وتربط مساعدات وعلاقات أمريكا بكل دولة على أساس احترام حقوق الإنسان فيها.. وفى البيت الأبيض أيضا مكتب لحقوق الإنسان.. وفى واشنطن المقر الرئيسى لمنظمة حقوق الإنسان العالمية (هيومان رايت ووتش)..

ومع ذلك فالولايات المتحدة أكبر دولة لا تحترم حقوق الإنسان، وتمارس الانتهاكات لحقوق الإنسان فى الداخل والخارج علنا وبمنتهى الوضوح وبنوع من الصلف والتحدى للعالم كله ولا تخجل من اتهام الآخرين بما تفعله هى.. والعالم كله يعرف ذلك.. والصحافة الأمريكية تتحدث وتكشف الكثير.. وتقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية والأمريكية مليئة بالوقائع عن انتهاكات حقوق الإنسان فى بلد الدفاع عن حقوق الإنسان، وتسجل حالات عديدة من الاعتداء على الحريات فى بلد الحرية.

ومنذ فترة جرت انتخابات فى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتشكيل لجنة حقوق الإنسان فى المنظمة الدولية، وتقدمت الولايات المتحدة للترشيح فى عضوية هذه اللجنة، وكانت اللطمة الكبرى أن معظم دول العالم رفضت إعطاءها صوتها، وبذلك لم تعد الولايات المتحدة- بجلال قدرها- عضوا فى لجنة حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة، وقالت الدول التى رفضت تأييدها إن الولايات المتحدة لا تحترم حقوق الإنسان، وإنها تعتدى على حقوق الإنسان فى أماكن كثيرة فى العالم، وحتى فى داخل أمريكا أيضا.

والمضحك أن فى أمريكا جمعيات للدفاع عن حقوق الحيوان، ومنع الاعتداء عليه، أو تعذيبه، أو إهمال رعايته، أو إيذائه بأى صورة من صور الإيذاء، وفى زيارة إلى أمريكا شاهدت برامج فى التليفزيون استغرقت ساعات لمتابعة أخبار عدد من صغار البط وجد فى مكان مهجور بعد أن ماتت أمه، وتحركت الشرطة، وأجرت التحقيقات عن مصير البطة الأم واستمعت إلى شهادة أقرب جيرانه فى المنطقة .. ولو حظى شعب فلسطين بنصف هذا الاهتمام لانتهت مشكلته إلى الأبد.. والأمريكيون حريصون على تدليل الكلاب والقطط، والرئيس الأمريكى نفسه الحالى والسابق وكل رئيس أمريكى، حريصون على أن يظهروا وهم يحملون ويدللون كلابهم ويعبرون عن حبهم للكلاب بكل الطرق، وبذلك يضمن الرؤساء رضا الشعب الأمريكى عليهم، وفى نفس الوقت فإن الرئيس الأمريكى الحالى والسابق وكل رئيس أمريكى حريص على أن يظهر للشعب الأمريكى أنه يحتقر العرب والمسلمين، وإن كان فى بعض المناسبات يقول بضع كلمات لترضية العرب والمسلمين، ولكنه يقدم للشعب الأمريكى الأدلة العملية على استمرار الضربات الأمريكية الموجعة ضد العرب، وهو بذلك يتملق قادة إسرائيل واللوبى الصهيونى، واليمين المتشدد فى أمريكا، والصحف والأقلام وقنوات التليفزيون الخاضعة للنفوذ الصهيونى.

والمضحك أكثر أن أمريكا تحارب الدول التى فيها محاكم عسكرية بينما أصدرت قوانين يسمونها قوانين أشكروفت وزير العدل، وهى قوانين مشبوهة وسيئة السمعة جعلت الولايات المتحدة تحكم الآن فى ظل حالة الطوارئ، ومنها قانون يسمح بتشكيل محاكم عسكرية.. وبينما تضغط أمريكا على الدول التى تعتقل المواطنين وفيها الآن أكثر من خمسة آلاف معتقل لا أحد يعرف أسماءهم، ولا مكانهم، ولا أسباب اعتقالهم، وليس مسموحا لهم بالتظلم من هذا الاعتقال أو الاستعانة بمحام.. وفى جوانتانامو قاعدة عسكرية أمريكية فيها مئات المسلمين المتهمين بالانضمام إلى تنظيم القاعدة يعيشون فى ظروف أسوأ من الحيوانات.. والصحف الأمريكية تنشر الكثير عن سوء معاملتهم، ومعيشتهم كل واحد فى قفص من الأسلاك الحديدية مساحته متران فى متر و80 سنتيمترا، ومقيد من رجليه ويديه، ولا يخرج إلا مرة واحدة إلى دورة المياه، وتسلط عليهم بالليل الأضواء الكاشفة التى تسبب لهم الانهيار العصبى وتحرمهم من النوم وهم بالنهار فى العراء تحت أشعة الشمس والرطوبة الخانقة فى كوبا..

ولست أنا الذى أقول إن الولايات المتحدة تنتهك حقوق الإنسان، ولكن الأمريكيين هم الذين يقولون ذلك ونحن نعلم منهم.. وعلى سبيل المثال قالت صحيفة هيرالد تريبيون فى افتتاحيتها يوم 9 أغسطس الحالى نقلا عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تحت عنوان (سلطات غير محدودة): إن وزارة العدل الأمريكية أبلغت أحد القضاة الفيدراليين بعدم الاهتمام بالحقوق القانونية المدنية والحريات المدنية وحقوق الإنسان وإلقائها فى صندوق القمامة (!) وقالت الصحيفة يبدو أن إدارة بوش تعتقد أنها يمكنها بدون إجراءات قانونية شرعية أن تلقى المواطنين فى السجون دون إبداء الأسباب ودون إعطائهم الحق فى الاستعانة بالمحامين كما يقضى القانون، وذلك بمجرد الادعاء بأن هؤلاء المواطنين ضمن المطلوبين فى الحرب الأمريكية على الإرهاب، وقالت الصحيفة إن إدارة الرئيس بوش مارست ذلك التضليل بشكل يدعو للضحك، ورفضت بإصرار أن يكون للمحاكم الفيدرالية الحق فى مراجعة قرارات الاعتقال، وقالت الصحيفة أيضا إن هذا التحدى من الإدارة الأمريكية لسلطة القضاء والمحاكم يتنكر لكفاح قرنين من الزمان استقرت بعدهما القوانين الدستورية الأمريكية، وأن الإدارة الأمريكية بذلك تعتدى على الحريات التى يقول الرئيس جورج دبليو بوش إنه يدافع عنها وإنه يخوض الحرب ضد الإرهاب من أجل الدفاع عن القيم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وقالت الصحيفة أيضا إن المحاكم الأمريكية لابد أن ترفض وبحزم استحواز البيت الأبيض على سلطات مطلقة لا تتقيد بالقانون. وأكثر من ذلك قالت الصحيفة إن الاتجاه الأوتوقراطى من الإدارة الأمريكية واضح فى قضية ياسر عصام حمدى، المولود فى لويزيانا من أبوين سعوديين، وتم القبض عليه مع طالبان فى أفغانستان، وألقى به فى سجن فى نورفولك فى ولاية فرجينيا دون توجيه أية تهمة جنائية إليه، وتم حرمانه من مقابلة أى محام، وطلب القاضى روبرت دومار قاضى المحكمة العليا فى نورفولك من السلطات الأمريكية تقديم ما لديها من أدلة على أن عصام حمدى كان يقاتل فعلا فى صفوف العدو (طالبان) ولكن وزارة العدل رفضت تقديم أية وثائق أو تقارير أو أدلة، وقالت للمحكمة إن القضاء ليست له سلطة فى مثل هذه القرارات، وجسدت إدارة بوش النزاع على أنه نزاع حول الفصل بين السلطات وحق السلطة التنفيذية فى كل ما يتعلق بشئون الحرب.. وقالت الصحيفة إن المحاكم الأمريكية تعطى الإدارة الأمريكية سلطات واسعة فى كل ما يتعلق بالحرب، ولكن الأمر هذه المرة يتعلق بحق الإدارة الأمريكية فى اتهام المواطنين الأمريكيين بأنهم يقاتلون فى صفوف الأعداء، وبالتالى لا يستحقون الحماية الدستورية، وهذا أمر يتعلق بالحريات المدنية فى الداخل ولا يتعلق بالحرب فى الخارج.

وقالت الصحيفة الأمريكية إن الدليل الذى قدمه الادعاء فى قضية عصام حمدى كان ضعيفا، ولم تستند فيه الحكومة إلا على شهادة من مستشار بوزارة العدل من صفحتين عن أعمال عصام حمدى المزعومة وتقرر أنه مقاتل، ولم يقتنع القاضى روبرت دومار وطالب الادعاء بتقديم أدلة كافية حتى يمكن أن يطمئن إلى استناد حكمه على أسباب صحيحة ومقنعة. ولم يستطع القاضى أن يسمح لعصام حمدى بالتشاور مع محام لأن محكمة الاستئناف فى ريتشموند بفرجينيا قررت عدم السماح بلقاء محام إلا بعد السماح للحكومة بتقديم الأدلة الكافية، وهكذا انحازت محكمة الاستئناف أيضا إلى الحكومة كما تقول الصحيفة الأمريكية..! ومع ذلك فقد حذّر رئيس المحكمة القاضى هارفى ويلينكسون من أن غياب الإشراف القضائى على هذا النحو سيعرض أى مواطن أمريكى إلى إلقاء القبض عليه بدون توجيه اتهام وبدون وجود محام. ويبدو أن إدارة بوش تستخدم قضية عصام حمدى لإقرار مبدأ يعطيها الحق المطلق فى تحديد من هو المقاتل مع العدو دون أن تخضع فى ذلك لرقابة القضاء أو لمراجعة من أية جهة، وتقول الصحيفة: إذا ساد هذا المبدأ فعلينا أن نتوقع المزيد من هذه الاعتقالات وستصبح الحكومة مطلقة اليد فى إلقاء القبض على أى شخص وتكتفى ببساطة بكلمات سحرية هى (أن هذا الشخص مقاتل مع الأعداء) وبذلك تنعدم سلطة المحاكم ولا تستطيع الحكم بالإفراج عنهم إذا ثبت لها عدم صحة الاتهام أو عدم كفاية الأدلة، بل لن تستطيع المحاكم أن تقرر حق المتهم فى الدفاع عن طريق محام.. تقول الصحيفة فى ختام الافتتاحية: إن هذا كله لم يكن يدور فى عقول المؤسسين الذين أقاموا نظاما من الضوابط والتوازنات حتى لا يكون لأى فرع فى الحكومة سلطة مطلقة، ويبقى أمام المحاكم أن تدافع عن سلطتها فى الإشراف القضائى على أعمال السلطة التنفيذية.

كل هذا الكلام نقلا عن افتتاحية هيرالد تريبيون الأمريكية عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.. فماذا نقول؟

ماذا نقول والسجل الأسود لأمريكا فى انتهاكات حقوق الإنسان ملىء بآلاف الصفحات؟.. ماذا نقول عن حقوق الإنسان الفلسطينى والعراقى والأفغانى المهدرة؟!.. بل ماذا نقول عن حقوق الإنسان الأمريكى الضائعة؟.. والقضاء والصحافة فى أمريكا تقول أكثر مما نستطيع نحن أن نقول
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف