معــارك الشـــيخ الشعراوى (1)
معارك الشيخ الشعراوى فرضت عليه ولم يكن هو البادئ أو الساعى إليها. ومع أن شعبيته الطاغية لم تتحقق لأحد قبله، والإجماع على أنه «إمام الدعاة» و«شيخ المفسرين»، فإنه لم يسلم من النقد ومن الهجوم أحيانا، وهذه سنة الحياة.. لم يسلم الأنبياء والصالحون وأولياء الله منها.
كتب صحفى معروف يوماً: هل يدفع الشيخ الشعراوى الضرائب عن إيراداته الهائلة التى يحصل عليها، وتأثر الشيخ باتهامه بأنه يتهرب من الضرائب وهو الداعية الذى يطالب الناس بأداء حق الله، وحق الدولة، وحق الناس، وتطوَّع مسئول كبير فى وزارة المالية فأدلى بتصريح نشرته الصحف فى أبريل 1986 قال فيه إن الشيخ يقدم إقراره الضريبى فى موعده ويخضع للفحص ويبلغ مصلحة الضرائب بكافة إيراداته وهو أول من يسدد ما عليه.. ولقد تعرض الشيخ مبكرا لمكائد الخصوم ففى زيارة للقاهرة- وكان مقيما فى مكة- فتم القبض عليه واستمرت التحقيقات 40 يوما معه ومع عدد من زملائه المعارين معه فى السعودية وذلك بتهمة اشتراكهم فى قراءة الفاتحة فى الكعبة ضد الثورة وقادتها(!) ثم أفرج عنه أخيرا بعد أن قدم إلى النيابة الصحف التى نشرت صورته مع عبد الناصر عندما ذهب إلى السعودية لتقديم العزاء فى وفاة الملك عبد العزيز آل سعود عام 1953. وربما تكون هذه الواقعة من أسباب موقفه من الثورة ومن عبد الناصر وسببا لمعركة أخرى، عندما أعلن أنه عندما علم بالهزيمة سنة 67 سجد لله شكرا وبسبب هذا التصريح تعرض لهجوم من الصحافة والمثقفين والسياسيين واضطر إلى الإدلاء بتصريحات لتفسير أسباب السجود والشكر لله على الهزيمة. قال إنه اعتبر الهزيمة بداية يقظة لتصحيح الأخطاء بما أحدثته من زلزال هز الجميع، وأيقظ الوعى فى النفوس والعقول، وكشف الطغاة، وعرى أخطاءهم وخطاياهم، وقال أيضا إن صلاة الشكر عند الهزائم والمحن والكوارث هى من قبيل الامتثال والرضا بقضاء الله وقدره. وفى حديث آخر قال إنه كان يقصد أن حرب 67 لو انتهت بالنصر لكان ذلك سندا للشيوعيين انصار الاتحاد السوفيتى ليقولوا إن الشيوعيين ساعدونا على النصر وجاءت إرادة الله بالهزيمة لانصار الشيوعية (!).
وفرضت عليه معركة أخرى كانت إسرائيل هى التى أثارتها بعد توقيع معاهدة السلام احتجت اسرائيل على أحاديثه التى تذاع منها حلقتان أسبوعيا وتعاد كل منهما مرة ثانية يشرح فيها آيات القرآن التى تتحدث عن اليهود.. واحتجت اسرائيل وادعت أن كلام الشيخ معاداة للسامية وضد معاهدة السلام وبعد هذا الاحتجاج حاول البعض إقناع الشيخ بألا يتناول الآيات التى تتحدث عن مكائد يهود المدينة للرسول صلى الله عليه وسلم ونقضهم للعهود والتفافهم عليها. ورفض الشيخ واستمر فى شرح الآيات.. بعد ذلك أصبحت أحاديث الشيخ تذاع حلقة واحدة أسبوعيا ولا تعاد إذاعتها.
ضد الملك.. وبعيد عن الإخوان
لم يكن اعتقال الشيخ فى عهد الثورة المرة الوحيدة التى ذاق فيها عذاب السجون. فقد دخل السجون قبل ذلك فى عهد الملكية فى عام 1934 وكان طالبا فى معهد الزقازيق وكتب قصيدة فى الهجوم على الملك وطغيانه واعتدائه على الحريات، وتم اعتقاله وتقديمه للمحاكمة بتهمة «العيب فى الذات الملكية» وحكم عليه بالحبس لمدة شهر، وصدر قرار بفصله من معاهد الأزهر مع عدد من زملائه شاركوه فى إبداء آرائهم عن الملك وأعوانه. وعندما جاءت وزارة النحاس إلى الحكم قررت إعادة جميع الموظفين والطلبة المفصولين بقرارات الحكومة السابقة فعاد إلى الدراسة مع زملائه.
وعلاقة الشيخ بالإخوان كانت موضع تساؤل، فقد قال البعض إنه ينتمى إليهم، وأكد البعض أنه لا ينتمى إليهم وأنه متفرغ للدعوة وحريص على استقلاله وحريته فى التفكير ويرفض أن يلتزم أو يلزمه أحد أو جماعة بمواقف أو بآراء معينة، وحسم الشيخ الأمر فى حديث قال فيه إنه انضم إلى الإخوان فى بداية نشأتها وهو طالب فى الأزهر، وأنه التقى بمؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا وأنه هو الذى كتب أول منشور للإخوان بمبادئ الجماعة وبعد ذلك ترك الجماعة عام 1937 عندما اكتشف أن لها أهدافا غير معلنة، وكان انضمامه لها على أنها جماعة هدفها الوحيد نشر التربية الإسلامية بين الأجيال الجديدة وبناء مجتمع مسلم قائم على القيم والأخلاق والمبادئ التى وردت فى القرآن والسنة. لكنه وجد أنها تمارس السياسة ولا تختلف فى ذلك عن أى حزب من الأحزاب التى يرفضها وهو يرفض النفاق والانتهازية التى تجعلها تعلن شعارات وتخفى نواياها وسار فى طريقه للدعوة حريصا على استقلاله بعيدا عن الإخوان وعن الأحزاب وعن السياسة والسياسيين.
.. ومعركة مع فكر الإرهاب
وعندما ظهرت بوادر الفكر المتطرف وجماعات الإرهاب أعلن رأيه بوضوح برفض هذا الانحراف والجنوح فقال: إن الفكرة التى انتهيت إليها بعد تفكير طويل هى أن خصوم الإسلام عز عليهم أن يخترقوا الإسلام من باب الهجوم الصريح عليه فقط فدخلوا من باب ثان هو العمل على تفجير المجتمع الإسلامى وإفساد العقيدة الإسلامية وتشويه الدين الإسلامى من داخله بإثارة التعصب فى عقول ونفوس أصحاب العقول والنفوس الضعيفة من شباب المسلمين.. وخططوا للعمل على إيجاد طائفة تستغل انتشار المشاعر الدينية فى مصر وفى العالم الإسلامى بل وخارج العالم الإسلامى لتدس شعارات لا يرفضها جمهور المسلمين ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب وكلمة حق يراد بها باطل تنطوى على هدم الأساس الذى يقوم عليه الإسلام وهو «التسامح» وحرية العقيدة «ومن شاء فيلؤمن ومن شاء فليكفر».. و«لست عليهم بمسيطر».. ومما لا يصدقه عقل سليم أن نجد من يدعون الدعوة إلى الإسلام ويقولون إنهم يمثلون الإسلام يقتلون أول ما يقتلون عالما مشهودا له بالفضل والعلم وسلامة العقيدة هو الشيخ محمد حسين الذهبى؛ ويقتلون بعده أبرياء «ومن قتل نفسا بغير نفس أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا».
وكان رأى الشيخ أن هؤلاء الشباب يعيشون فى حالة «خواء دينى» وبدون «خميرة إيمانية» وكل من لديه علم وفهم للدين الإسلامى يحكم على أفكار هذه الجماعات بأنها أفكار غريبة ليست من الإسلام.. هى أفكار ضالة ومضللة، وأعمالهم تتناقض مع دعواهم بأنهم يعملون على حماية الدين وإقامة الشريعة، فليس فى الإسلام عصيان الأهل أو هجرهم، وليس فى الإسلام أن تتزوج الفتاة بدون ولىّ. وليس فى الإسلام أن يجتمع أزواج متعددون بزوجات متعددات فى مكان واحد.. وهؤلاء فعلوا ذلك وأكثر منه فضلا عن ترويع الآمنين.. ولكن برغم وضوح الضلال فى دعواتهم فإنهم وجدوا من يستمع لهم ويتبعهم. وهم يمارسون الإكراه على الناس لكى يتبعوا ضلالهم، ويبقى «الخواء الدينى» لدى الشباب هو المسئول عن كل ذلك. وعلى أية حال فإن الأيام سوف تفصح عن حقيقة العوامل النفسية والأسرية والاجتماعية التى أدت إلى وجود هذه الظاهرة.. وسوف نجد أن هؤلاء الشباب انضموا لهذه الجماعات وانساقوا وراء أمرائها لأنهم لم يجدوا القدوة رغم حاجتهم لها، ولم يجدوا من يهتم بهم ويرعاهم ويحتويهم ووجدوا ذلك فى هذه الجماعات وأمرائها.. وكانت نتيجة هذا الموقف أن حدث حريق فى الشقة التى كان يسكنها فى حى الحسين.. ورفض الشيخ أن يتهم أحدا وفضل قيد الحادثة ضد مجهول.
وآثار الشيخ بعض الكتاب والسياسيين عندما أعلن فى حديث للأهرام (5 يونيو 1982) أن الشورى ليست ملزمة للحاكم المسلم مادام قد جاء على أساس اختيار سليم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه ليتعرف على الآراء المختلفة لتكون معروضة جميعها أمامه، وله بعد ذلك أن يتوكل على الله ويختار ما يراه من هذه الآراء أو مما يراه هو، ولذلك قال له الله سبحانه وتعالى: وشاورهم فى الأمر، ولا تفهم هذه الآية إلا فى ضوء قوله تعالى «فإذا عزمت فتوكل على الله». وهذا يعنى أن الحاكم ليس ملزما بالأخذ بآراء من يستشيرهم. وامتلأت صفحات الجرائد بالمقالات التى تهاجم الشيخ وبالحديث عن الديمقراطية والديكتاتورية والنظم السياسية الحديثة.. وسلطة الأغلبية.. وخطورة انفراد الحاكم بالسلطة وتجاهله لرأى الأغلبية.. ودخل فى الساحة كتاب إسلاميون خالفوا الشيخ وقالوا إن الحكم فى الإسلام حكم ديمقراطى بدليل أن الإجماع أصل من أصول الفقه، والنظم السياسية تتطور كما تتطور النظم الاقتصادية والاجتماعية، وطبيعة المجتمعات فى العصور الأولى للإسلام كانت قائمة على النظم القبلية التى كانت سائدة وهى التى فرضت أن يكون «القرار» بيد «شيخ القبيلة ثم بيد «الملك» أو «الخليفة» أو «الحاكم» الفرد، ولكن مع نظم الحكم الحديثة القائمة على أحزاب وانتخابات وأخذ الأصوات والالتزام برأى الأغلبية فإن الأمر اختلف والتطور سنة الحياة.
وللشيخ معارك أخرى