هيكل.. وعبد الناصر فى أيامه الأخيرة
فى بداية سنة 1973 التقى الأستاذ محمد حسنين هيكل بالزعيم الصينى شواين لاى فى بكين، وفى أول اللقاء سأل شواين لاى:
هل يعقل أن يذهب جمال عبد الناصر من أيديكم وهو بعد دون الثانية والخمسين؟.. إنكم لم تحسنوا المحافظة عليه وتركتم الضغوط تعتصره!.
ثم قال:
لقد حزنت لأن بعض الذين عملوا معه لم يستطيعوا أن يتعلموا منه!
كيف كانت أيام عبد الناصر الأخيرة مع المرض والضغوط.. ومع الألم من الهزيمة؟
يقول الأستاذ هيكل: إن المرض واكب مراحل حياة عبد الناصر السياسية، فقد أصيب بالسكر مع أن هذا المرض ليس له أثر فى عائلته، والده لم يكن مريضاً بالسكر، ووالدته لم تكن مريضة بالسكر.. ولم يكن لهذا المرض أثر فى تاريخ عائلته، ولكن بعد انفصال سوريا بدأ عبد الناصر يشكو من متاعب السكر، وفى عام 1962 أصبح السكر يؤثر على صحته، ومرض السكر كما هو معروف ينشأ نتيجة القلق، والتوتر النفسى الشديد، وأزمة الانفصال كانت بالنسبة له محنة حقيقية، لأنه كان قوياً بالوحدة، وكانت لديه رابطة معنوية ومادية مع سوريا، وهذه الرابطة نشأت لما قدمه الشعب السورى عند إقامة الوحدة من عطاء عظيم جعل عبد الناصر يشعر أنه أمام مسئولية ضخمة تجاه هذا الشعب، وبالإضافة إلى ذلك كان عبد الناصر يؤمّل كثيراً فى الجبهة الشمالية، وكان يرى أن توافر جبهة شمالية قوية وجبهة جنوبية قوية هما الضمان من خطر إسرائيل، وأكثر ما أرهق عبد الناصر هو شعوره بأن الانفصال مفروض على الشعب السورى بالمؤامرات، ومن أقلية، وفى البداية قرر أن يتدخل لضرب حركة الانفصال، وأمر القوات البحرية بأن تكون جاهزة، واستعدت فرقة من القوات البحرية وأخذ أفرادها أماكنهم على السفن والمدمرات، وفى الوقت نفسه أعطى أوامر لرجال المظلات ليكونوا جاهزين للتوجه جواً كتأمين حماية للقوات البحرية، ولكن كان هنالك فى الوقت نفسه هاجس يقلقه ويمزق أعصابه، إنه لا يستطيع أن يتصور منظر أفراد من القوات البحرية أو مظليين مصريين يطلقون النار على سوريين.. ومنظر جنود سوريين يصدون بالنار رفاق السلاح المصريين، وكان قلقا على عبد الحكيم عامر الذى كان موجوداً فى سوريا، مع عشرات من الضباط والمسئولين المصريين وكانت الاتصالات قد قطعت بين القيادة فى دمشق والقيادة فى القاهرة.
وبعد الظهر كانت القوات قد وصلت إلى مشارف اللاذقية، بل إن بعضها نزل فعلا بالقرب من اللاذقية، ونتيجة للصراع الذى كان يعصف به فى ذلك الوقت أعطى أوامر لهذه القوات بأن تستسلم، وحتى إذا ووجهت بمقاومة من السوريين فإن الأوامر ألا تطلق النار على أى سورى.
وسط هذا الجو، فى الساعات الأولى لحركة الانفصال السورى بدأت طلائع مرض السكر.. ثم جاءت حملات الرجعيين فى الأيام التالية لتنشر المرض، ثم جاءت أزمة اليمن.. وما حدث فى اليمن جعل نسبة السكر تتزايد، وفوق ذلك ظهرت مضاعفات المرض فى التهاب شرايين عبد الناصر وتتسبب له فى آلام حادة فى رجليه.. وفى أواخر 1966.. كان يشكو كثيراً من الألم الناتج عن التهاب الشرايين، ثم حدثت هزيمة 5 يونيو، ومن قبلها هموم الانحرافات، ووصل إلى درجة أصبح معها الألم لا يطاق، ويوم 13 يوليو 1967 أجرى له الأطباء كشفا عاماً، وشعروا بالخطر، ولكنه لم يستجب لتنبيهاتهم، وبسبب عناده كان الألم يزداد، ولم يشأ أن يعالجه أطباء من الولايات المتحدة أو بريطانيا، ولم يشأ أن يعرف الأصدقاء السوفيت بمرضه، وفى يوليو 1968 كان عليه أن يقوم بزيارة إلى الاتحاد السوفيتى واقترح أطباؤه أن تكون الزيارة مناسبة ليشارك الأطباء السوفيت فى معالجة المضاعفات فى شريان القدم اليمنى..
يقول هيكل: فى الطائرة التى نقلته إلى موسكو كنت جالساً أمامه، وفوجئت بأنه لا يستطيع الجلوس فى مقعده من شدة الألم، وفرش له الأطباء سريراً فى الجزء المخصص له من مقدمة الطائرة، وفى مستشفى (بربيخة) أجرى له الأطباء السوفيت كشفا عاجلاً ووجدوا أن حالة تصلب شرايين الساق متقدمة، وأوضحوا له المسألة، واقترحوا أن يعود بعد أسبوعين لمعالجته بالمياه الطبيعية فى (تسخالطوبو)، وعاد إلى القاهرة ثم سافر بعد أيام إلى (تسخالطوبو)، حيث أمضى ثلاثة أسابيع، وعاد إلى مصر لقضاء أسبوعين من النقاهة فى الإسكندرية.. وحتى ذلك الوقت لم تكن الآلام زالت ، بل إن بعضها اشتد، وكان الأطباء السوفييت يتوقعون أن يزول الألم إذا عاد مرة أخرى فى صيف عام 1969 إلى (تسخالطوبو)،لكن تصاعد حرب الاستنزاف جعلته يؤجل الذهاب رغم أن الألم كان يستحكم إذا مشى أكثر من عشر دقائق، وإذا جلس ثابتاً أكثر من ساعة!.
واستمرت الحال على ما هى إلى أن أصيب بالأزمة القلبية الأولى يوم 11 سبتمبر 1969 ، قبلها بيوم وبينما كان يشهد تدريباً عملياً على طريق السويس، بلغه أن الإسرائيليين قاموا بعملية إنزال فى منطقة الزعفرانة فى خليج السويس، بدأت الأنباء الصادرة من تل أبيب وبعض العواصم تصور العملية على أنها محاولة لغزو مصر، حتى أن بعض وكالات الأنباء كانت تبعث برسائل صحفية تقول فيها إنها من مصر المحتلة، وعندما عرف عبد الناصر بالعملية الإسرائيلية شعر بالضيق البالغ خصوصا أنه لم يكن يعرف حجمها الحقيقى، فأمر كبار قادة الجيش الذين كانوا حولــه بإلغاء التدريب ورفع حالة الاستعداد فى القوات.. وكان نبأ العملية الإسرائيلية قد بلغه فى الساعة التاسعة صباحاً، وحوالى الساعة الحادية عشرة -أى بعد ساعتين-، عاد إلى القاهرة، واتصل تليفونياً بهيكل وطلب منه أن يقرأ كل ما تقولــه وكالات الأنباء عن العملية، ويقول هيكل إن عبد الناصر اهتم بما تقوله الوكالات، لأن المعلومات التى توافرت لدى المخابرات المصرية عن العملية لم تكن كافية، أو لم تكن مكتملة وواضحة بما فيه الكفاية.. ولم يكن لهذه العملية الإسرائيلية من هدف إلا الهدف النفسى.. وكانت عبارة عن إنزال بعض القوات لمساندة 16 دبابة برمائية، وتحركت الدبابات والقوات بضع ساعات فى المنطقة ثم انسحبت ومعها عدد من الأسرى المدنيين، ورغم أنها كانت عملية هشة واستعراضية بهدف إحداث تأثير نفسى، فإن عبد الناصر كان فى قمة الضيق، وفى اليوم التالى- 11 سبتمبر- شعر بإرهاق شديد مصحوبا بنوع من الدوار، ودعا طبيبه الخاص الدكتور الصاوى حبيب ليكشف عليه، فاكتشف أن عبد الناصر أصيب بجلطة فى القلب، ولكنه حاول إخفاء الحقيقة، وتظاهر بأنها حالة أنفلونزا، وطلب عقد كونسلتو أطباء، وأجرى رسم ثان للقلب أكد أنه حدث انسداد فى فرع الشريان الأمامى للقلب.
واستقر رأى الأطباء على أنه من الضرورى أن يعرف الرئيس أنه أصيب بأزمة قلبية، لأن ذلك سيجعله يتصرف بما يساعد على العلاج، وقيل ذلك بالتدريج، وتقبل الأمر بإرادة حديدية..
وانتهت المناقشة أيضاً إلى قرار لا يحتمل الأخذ والرد، هو أن عبد الناصر يحتاج إلى إجازة لمدة ستة أسابيع قابلة للتجديد، لا يعمل خلالها شيئاً..
يقول هيكل: فى ذلك اليوم اتصل بى أنور السادات نحو السابعة والنصف مساءً، وطلب أن ألاقيه للاجتماع فى منزل الرئيس عبد الناصر، وتوجهت على الفور، هناك وجدت السادات جالساً فى مكتب سامى شرف الذى يقع فى المبنى المقابل لمنزل الرئيس، وكان هناك أيضاً الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية آنذاك، وشعراوى جمعة وزير الداخلية آنذاك، وأمين هويدى الذى كان يشرف على المخابرات آنذاك، وقال لنا السادات إن الغرض من هذا الاجتماع هو إطلاعنا على أمر مهم أن الرئيس عبد الناصر مصاب بأنفلونزا ومن الضرورى أن يأخذ إجازة طويلة.
وقال هيكل للسادات: أنا مش فاهم حكاية الإجازة والأنفلونزا، ثم إن اجتماعنا علشان إيه؟..
وأوضح السادات أن الرئيس عبد الناصر قرر حيال اضطراره إلى الأخذ بفكرة الإجازة أن يؤلف هذه اللجنة من أنور السادات، وسامى شرف، وشعراوى جمعة، والفريق أول فوزى، وأمين هويدى، ومحمد حسنين هيكل، لكى تعقد اجتماعات وتبحث فى مسائل الدولة والقضايا التى تستجد، وأن يكون السادات صلة الوصل بينه وبين أعضاء اللجنة.
وقال هيكل للسادات: أنا مش فاهم.. هل تأذن لى أشوف الريس.. ثم أين هو؟ وما الذى أعمله أنا فى هذه اللجنة.. أنتم من الرسميين وأنا ليست لى صفة رسمية؟..
وقال له السادات: انتظر.
وغادر السادات الغرفة، ثم عاد وقال: تعال.. تعالوا كلكم لمشاهدة الرئيس.
وتوجهوا إلى الرئيس فوجدوه فى غرفة نومه جالسا على كنبة، وكان يأكل لبن زبادى.. وسأله هيكل: هل هنالك أمر ما؟.. فأجابه عبد الناصر: أبداً.. كل ما فى الأمر أن الأطباء نصحوا بأن أستريح شهراً فى السرير، ووجدت حيال ذلك أن تجتمعوا وتبحثوا المسائل المتعلقة بالدولة بدل أن أشغل نفسى بها إلى أن تنتهى فترة الإجازة وأصبح قادراً على مزاولة العمل كما كان من قبل.
وكرر هيكل أمام عبد الناصر اعتراضه على اشتراكه فى اللجنة لأنه ليست له صفة رسمية وقال: هل يمكن أن أعرف حكاية الأنفلونزا؟..
كان الآخرون قد خرجوا بعد أن سلّموا على الرئيس وبقى هيكل يلح على عبد الناصر لكى يوضح له حكاية الأنفلونزا، وهو يعرف أنه عنيد، وأحياناً كان عبد الناصر يتهم هيكل بأنه عنيد، وحيال هذا الإلحاح قال له عبد الناصر إنه سيوضح له المسألة، يقول هيكل: وصعقت وأنا أسمعه يقول: يظهر أنى أصبت بذبحة قلبية، لكن الأطباء يقولون إن المسألة بسيطة ويجب أن ألزم السرير وأرتاح، والمهم ألا يعرف أحد لكيلا تقلق البلد، ولكن قل لى كيف يمكن أن نغطى غيابى هذه المدة، وقال هيكل: قد نقول الأنفلونزا.. لا يهم ما نقوله.. المهم أن تستريح.
ويكمل هيكل الحكاية فيقول: المذهل أن رئيس وزراء الأردن بهجت التلهونى جاء ليلتها إلى القاهرة ومعه رسالة من الملك حسين إلى عبد الناصر، وقال إن الموقف خطير فى الأردن، وإن الأزمة مع المقاومة الفلسطينية تزداد تدهوراً، وطلب مقابلة عبد الناصر، ولما قيل له إن الرئيس تعرض لنوبة أنفلونزا وهو راقد فى الفراش، قال إنه إذا عاد من غير مقابلة عبد الناصر فسيقدم استقالة حكومته، وتم التوصل إلى حل وسطا اقترحه الرئيس عبد الناصر، يأتى التلهونى إليه فى غرفة نومه، يراه ولا يبحث معه شيئاً، بحيث يستطيع أن يقول للملك حسين إنه اجتمع به، ويبحث ما يريد مع السيد أنور السادات.
يقول هيكل: قبل أن أغادر غرفة الرئيس أثرت من جديد مسألة إشراكى فى اللجنة التى تألفت برئاسة أنور السادات فقال عبد الناصر: أنت تعرف الطريقة التى أفكر بها، أنت تحضر اجتماعات اللجنة، وهم يتناقشون، وأنت تبدى رأيك..
فقلت له: حاضر.. هل ده كويس؟، وأجابنى: أيوه كويس.. وغادرت غرفة الرئيس وانضممت إلى الآخرين فى غرفة الاستقبال، وكنا جميعاً الأشخاص الذين لديهم رقم تليفون الرئيس عبد الناصر مباشرة ويستطيعون التحدث تليفونيا معه فى أى وقت حتى إذا كان فى غرفة نومه.. واتفقنا على ألا يعرف أحد ما حدث للرئيس.. وعلى ألا تعرف عائلته أيضاً.. وإن كانت العائلة ساورتها الشكوك بعد أن بدأ العمال والمهندسون فى تركيب مصعد فى المنزل المؤلف من طابقين.. واتفقنا كذلك ألا نتحدث إلى الرئيس تليفونيا، وأن نتقابل من حين لآخر تبعاً للضرورة التى يراها السادات الذى اختاره عبد الناصر رئيساً لهذه اللجنة.. وبعد يومين فوجئت بالرئيس يطلبنى فقلت: الله.. مفروض يا افندم ما تتكلمش .. ورد عبد الناصر: المسألة مش خطيرة للدرجة دى.. وواصل الكلام.. يسأل عن بعض الأمور.. وبعد أن انتهت المكالمة اتصلت بالسيد أنور السادات طالباً عقد لقاء معه، وفى هذا اللقاء قلت له: إن الدولة عندما تعالج أحدا على نفقتها فإنها تستقدم إليه أكبر الأطباء وتوفده إلى الخارج لكى يعالجه أكبر الأطباء، ويجب إيجاد طريقة ما لاستقدام أحد كبار أطباء القلب، وليس بالضرورة استشارة الرئيس فى الأمر.
وفى الليلة نفسها استدعى أنور السادات السفير السوفيتى فى القاهرة، وكانت تلك هى المرة الأولى التى يعرف فيه السوفيت أن أزمة قلبية فاجأت الرئيس جمال عبد الناصر، وطلب السادات من ليونيد بريجنيف إيفاد أكبر أطباء القلب فى الاتحاد السوفيتى إلى القاهرة، وعلى وجه السرعة أوفد بريجنيف إلى القاهرة الدكتور شازوف أكبر أطباء القلب فى الاتحاد السوفيتى والذى يشغل فى نفس الوقت منصب وزير الصحة، وكشف الدكتور شازوف على عبد الناصر، وأقر تشخيص الأطباء المصريين، ووضع علاجاً فى منتهى القسوة: وكان العلاج كمرحلة أولى أن يتوقف عبد الناصر عن التدخين، وأن يأخذ إجازات منتظمة، وأن يوقف القلق، وأجابه عبد الناصر أنه يستطيع تنفيذ الشق الأول بالامتناع عن التدخين لأن الأمر بيده، أما مسألة إجازات منظمة فإن فى الأمر استحالة لأن معنى ذلك أن يوقف عمله، ومع ذلك فإنه سوف يسافر إلى تسخالطوبو لاستكمال العلاج لالتهاب الشرايين، ورد عليه شازوف بأن القلب لا يتحمل العلاج بالمياه المعدنية إلا بعد مرور خمس سنوات على الأقل.
وعرف عبد الناصر أن عليه أن يتحمل القلب وآلام التهاب الشرايين فى الوقت نفسه.
تم قال عبد الناصر للدكتور شازوف: أما حكاية القلق فإننى أود أن أوضح لك أن القلق ينام معى فى السرير كل ليلة.. بمجرد أن أضع رأسى على المخدة أبدأ التفكير فى المشاكل وفى الحاضر والمستقبل.
لكن عبد الناصر لم ينفذ تعليمات طبيب القلب السوفيتى، بدأ يستسهل الاتصالات التليفونية متصوراً أن العمل عن طريق التليفون ليس عملاً، وما دام فى سريره أو جالساً على الكنبة فى غرفة نومه والتليفون إلى جانبه فليس فى الأمر أى جهد إذا اتصل بمن يريد.. وأصبح يكثر من استعمال التليفون.. وعملياً شجع الآخرين من الذين يتصلون به عادة على الاتصال به، لعله بذلك كان يبدد وحشة قاتلة.
كانت تلك الفترة فترة الاستنزاف، وهو منذ الأشهر الأخيرة من 1967 ركز اهتماماته فى ثلاثة موضوعات، الأول إعداد القوات المسلحة للحرب، والثانى: العلاقات المصرية - السوفيتية، والثالث: العلاقات العربية.
يقول هيكل إن عبد الناصر اعتبر أن هذه الموضوعات من اختصاصه، وأن بقية الأمور تأتى فى المرتبة الثانية، وفى تلك الفترة لم يكن مهتما بأمر الجبهة الداخلية، ولم يكن مستعداً للاهتمام بأى موضوع فى الجبهة الداخلية أيا كانت أهميته، ومن هنا يمكن الافتراض بأن ما اصطلح على تسميته (مراكز القوى) وجدت فى انشغال عبد الناصر بالموضوعات الثلاثة فرصة للإقدام على أعمال لم يكن على علم بها، وعلى تجاوزات لا يريدها أن تحدث.
و كانت هناك مكالمة يومية يجريها عبد الناصر مع الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية قبل أن يطفئ نور غرفته لكى يخلد إلى النوم، ليسأله عن الوضع على الجبهة، وعدد الذين استشهدوا والذين جرحوا والخسائر فى المعدات.. وكانت هذه المكالمة مرهقة وصارت أكثر إرهاقاً بعد إصابته.. وكان عبد الناصر يتألم عندما يبلّغ بأن بعض الضباط استشهدوا خصوصاً أن اتصالاته المستمرة والاجتماعات المتواصلة التى كان يعقدها مع الضباط أوجدت نوعاً من الصداقة بينه وبين أكثر الذين يراهم ويجتمع بهم.. وكانت الاجتماعات تعقد يومياً تقريباً مع قيادات الجيش، وفى هذه الاجتماعات حدث نوع من الألفة بينه وبين الضباط..
يقول هيكل إننا تحدثنا فى الأمر مع الفريق أول محمد فوزى، وقال له السيد أنور السادات إن تليفون آخر الليل يجب أن يتوقف عند حد حرصا على حياة الرئيس، وأنا أيضاً تحدثت فى الأمر مع الفريق أول محمد فوزى، وأصبح لا يذكر الخسائر الحقيقية، لكن معاناة عبد الناصر، واهتمامه بالموضوعات الثلاثة كانت كافية لجعل إجازاته غير ذات فائدة، ورغم إصابته بالذبحة القلبية فإنه كان مشدوداً إلى تلك الموضوعات دائماً..
ويبدو أن القيادة السوفيتية بعد التقرير الذى رفعه إليه الدكتور شازوف عن الأزمة القلبية الأولى التى تعرض لها عبد الناصر كانت تتابع المسألة بكثير من الدقة، وذات يوم بعث الدكتور شازوف برسالة إلى عبد الناصر بعد أن لاحظ أنه لم يتقيد بالتعليمات التى يطالبه فيها بأن ينفذ مسألة الإجازة لأن ذلك ضرورى جداً، وذلك لأن شازوف كان يتابع يومياً نشاطات عبد الناصر ووجد أن الوضع سيكون خطيراً إذا لم يمتثل للتعليمات الطبية، لكن عبد الناصر استمر على ما كان عليه.. وذهل الدكتور شازوف وهو يتطلع فى الصور التى وزعت على العالم وتمثل الاستقبال الجماهيرى الحاشد الذى جرى لعبد الناصر فى بنى غازى يوم الأحد 28 ديسمبر 1969 ، وكان عبد الناصر فى زيارة لليبيا قام بها فى أعقاب انتهاء مؤتمر القمة العربى الخامس فى الرباط، واستمر عبد الناصر واقفا فى السيارة المكشوفة يرد تحية الجماهير الليبية نحو أربع ساعات.. واتصل الدكتور شازوف ببريجنيف يحذر، وفى اليوم نفسه بعث بريجنيف برسالة إلى عبد الناصر وهو ما يزال فى بنغازى يقول له فيها إن الدكتور شازوف اتصل به محذراً ومنبهاً، وطلب بريجنيف من عبد الناصر أن يأخذ فى الاعتبار دقة وضعه الصحى، وقال الزعيم السوفيتى فى رسالته إن شازوف أوضح له أنه لا يستطيع تحمل المسئولية لأن هذا النوع من الإجهاد الذى يبذله عبد الناصر من الصعب مواجهته..
ومر الأمر بسلام ، وعاد عبد الناصر إلى القاهرة يتحمل الألم ويرفض الراحة.
وفى الأسبوع الأول من يوليو 1970 توجه عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتى وأمضى أسبوعين فى مصح (بربيخة) وخضع لعلاج من الدكتور شازوف، وطلب منه شازوف أن يلتزم ببرنامج يعمل فيه خمس ساعات فى اليوم، وخمسة أيام فى الأسبوع، وثلاثة أسابيع فى الشهر، وأن يأخذ كل ثلاثة أشهر إجازة، وكان ذلك فى نظر الدكتور شازوف ضرورياً، وقال له عبد الناصر إن هذا البرنامج يبدو مستحيلا، نظراً إلى الظروف التى تمر بها والمعركة التى يجرى الإعداد لها، وطلب شازوف من عبد الناصر أن يبتعد عن القلق فقال له عبد الناصر إن ذلك هو المستحيل..
وكانت فترة العلاج فى (بربيخة ( مفيدة بعض الشىء وكانت ستفيد أكثر لو أن عبد الناصر وافق على البقاء شهراً كما اقترح شازوف، لكنه كان يتعجل فى العودة، ولجأ شازوف إلى بريجنيف لكى يلح على عبد الناصر لكى يبقى، لكن عبد الناصر قال إن عليه أن يكون فى مصر قبل يوم 20 يوليو 1970، وبعد أن عاد اقتنع بعض الشىء بأن عليه أن يأخذ إجازة قصيرة ما دامت الإجازات كما حددها الدكتور شازوف مستحيلة.
ولكن عبد الناصر بعد أيام قليلة من عودته أعلن فى المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى قبول مبادرة روجرز لأنه فى الحقيقة كان يريد استكمال بناء حائط الصواريخ، لكنه فسر قبولــه بأمور أخرى وارتضى الصراخ الذى اندلع من مواقع كثيرة..
والذى حزّ فى نفسه أن المقاومة الفلسطينية أثارت مشكلة، وما كادت هــذه المشكلـة تنتهى ويحدث نوع من التفاهم حتى بدأت المشاكل فى عمان بين المقاومة الفلسطينية والسلطة الأردنية، وكانت عملية بناء حائط الصواريخ أعظم معارك عبد الناصر فى تلك المرحلة على الرغم من ألمه الشديد للخسائر التى أحدثتها هذه العملية.
وسافر عبد الناصر إلى مرسى مطروح لكن القتال اندلع فى الأردن، وحرص الجميع على عدم إبلاغه بشىء عن هذا القتال، لكنه كان على عادته حريص على متابعة الإذاعات، وعرف ما يجرى،وبدأ يتصل بالقاهرة.. وقطع الإجازة وعاد متحملا آلامه، وبدأ الاتصالات لعقد قمة عربية تضع حدا للأحداث الدموية التى تفاقمت بين الجيش الأردنى والمقاومة، وكان التحضير لهذا المؤتمر عملية شاقة، فلكى ينعقد يجب إحضار ياسر عرفات وبقية قادة المقاومة من الأردن، ولكى ينجح المؤتمر فلابد من السيطرة على كل الانفعالات التى ستشهدها المناقشات.
يقول هيكل: إن الجهد الذى بذله عبد الناصر فى ذلك المؤتمر لم يبذله فى أى مؤتمر آخر حتى فى مؤتمر القمة فى الخرطوم فى أعقاب هزيمة 1967، وأذكر حالة انفعال غير مألوفة من عبد الناصر فى اليوم قبل الأخير من قمة القاهرة.. كان طوال أيام انعقاد المؤتمر ينام فى إحدى غرف فندق هيلتون حيث عقدت الاجتماعات، وفى ذلك اليوم توجه عبد الناصر إلى غرفته لينام وكان فى غاية الإرهاق، ولكن عرفات أبلغ الوفد المصرى أنه تسلم رسالة تفيد أن الملك حسين قبل أن يأتى إلى القاهرة أعطى أوامره بتصفية المقاومة، وطلب عرفات إبلاغ الرئيس عبد الناصر بالأمر على وجه السرعة، ودخل هيكل على عبد الناصر- بعد ربع ساعة من توجهه إلى غرفته- وأيقظه.. وأبلغه بما قاله عرفات.. فظهرت عليه حالة الانفعال غير المألوفة..
ونتيجة تراكم الإجهاد والانفعال والتوتر أصيب عبد الناصر بالأزمة القلبية الثانية وهو يودع أمير الكويت فى المطار يوم 28 سبتمبر 1970 بعد انتهاء المؤتمر.. وكانت الأزمة قوية لدرجة أنها كانت القاضية..
كان الأطباء قريبين من عبد الناصر عندما كان يودع أمير الكويت، لكن الذى حدث أنه عند سلم الطائرة شعر بالتعب، وبمجرد أن صعد أمير الكويت سلم الطائرة طلب عبد الناصر أن تأتى إليه السيارة لعدم قدرته على السير، وركب سيارته قبل أن تلحق به سيارة الأطباء إلى منـزله، وفى المنزل أجرى الأطباء تشخيصاً ، وتبين لهم أن الأزمة القلبية الثانية قوية جداً وقد تبعها انفجار فى الشريان.
لم تكن النهاية فى لحظة توديع أمير الكويت فى المطار بعد انتهاء المؤتمر، لكن بدايتها كانت فى الليلة السابقة 27 سبتمبر.. غادر عبد الناصر الفندق نحو العاشرة مساء،وكان قد بلغه أن العقيد القذافى توجه إلى المطار ليركب طائرته عائداً إلى ليبيا وقد تعمد ألا يعرف عبد الناصر بذلك لأنه لا يريد أن يحمله مشقة التوديع، وقد شعر القذافى والآخرون أن عبد الناصر بذل مجهوداً شاقاً فى المؤتمر، ولحق عبد الناصر بالقذافى فى المطار، لكن القذافى كان قد ركب طائرته وسافر، وعندها توجه عبد الناصر إلى منزله.
وقبل أن يغادر الفندق طلب من هيكل أن يبلغه بما تقرره لجنة متابعة تنفيذ الاتفــاق بين الأردن والمقاومة وكانت هذه اللجنة مؤلفة من محمد حسنين هيكل بصفتــه وزير الإعـلام المصرى، والفريق محمد أحمـد صادق بصفتـه رئيس الأركان والبــاهى الأدغــم، وعقــدت اللجنــة اجتماعاً فى غرفة الباهى الأدغم رئيس اللجنة، واتصل هيكل بعبد الناصر وأبلغــه بنتـائج الاجتماع، وفى هذا الوقت طلب السفير البريطانى السير ريتشارد بومونـت أن يقابل هيكل على وجه السرعة ليسلمه رسالة عاجلة من إدوارد هيث تتعلق بحـوادث خطـف الطائرات وكان هناك رعايا بريطانيون فى هذه الطائرات، وجاء السفير إلى هيكل فى منزله وسلمه الرسالة.. واتصل هيكل بمنزل الرئيس ليسأل إن كان لم ينم بعد فقيل له إنه لم ينم، وعندما كلمه شـعر هيكل من صوته بأنه مرهق جداً فقال له عن الرسالة فطلب منه عبد الناصر أن يقرأها له، وذكر له هيكل رده على الرسالة وسأله: هل كان ردى على الرسالة معقولاً؟.. فوافقه على ذلك،وسأل عبد الناصر هيكل عن ردود الفعل حول اتفاق القــاهرة فأجابــه بأنه لم تصدر ردود فعل بعد وقال له: هل إذا جاءت ردود فعل أتصــل بك؟.. فأجــاب: لا.. سأنام.. نتكلم فى الصباح.
يقول هيكل: صباح 28 سبتمبر توجهت إلى مكتبى، وكنت أمارس العمل كوزير للإعلام من مكتبى فى الأهرام، وأمر على الوزارة ساعة أو أكثر يوميا عند الظهر، فى التاسعة صباحاً اتصل بى الرئيس عبد الناصر فى مكتبى يسأل عن ردود الفعل حيال اتفاق القاهرة، وكان مهتماً جداً بمعرفة رد فعل إسرائيل، وأحطته علماً بردود الفعل، وتناقشنا حول: ما الذى يمكن أن تفعله إسرائيل حيال هذا الاتفاق؟.
وكان عبد الناصر قد اتصل قبل ذلك بالفريق صادق يسأل عن الموقف فى عمان وعما إذا كان القتال قد توقف بين المقاومة والجيش الأردنى.
بعد ذلك توجه إلى المطار ليودع الملك فيصل وبعض الملوك والرؤساء الذين شاركوا فى القمة، ونحو الثانية عشرة والنصف ظهراً اتصل بى ثانية - كما يقول هيكل- وقال إنه عائد من المطار فى غاية التعب، وقال عبارة تشاءمت منها وهى (فاضل الوداع الأخير.. مع أمير الكويت).. وقلت له: (مادمت متعباً إلى هذا الحد فلماذا لا يقوم أحد بالنيابة عنك بتوديع أمير الكويت؟.. فأجاب: صحيح أن ألم رجلى شديد لكننى سأضعها فى الماء والملح وهى وصفة قديمة.. وردا على تحفظ منى على هذه الوصفة قال إنه يعرف أنى (بتاع تكنولوجيا) وأنه متأكد من أن الوصفات البلدية تفيد.. وقال إنه سيتوجه إلى المطار ليودع أمير الكويت، وعندما سيعود فلن يتصل بى لأنه يريد أن ينام طويلاً، وأنه طلب من طبيبه الدكتور أحمد ثروت أن يستعد لإعطائه حبة تمكنه من النوم طويلاً.. وقلت له: إذا عندما تستقيظ من النوم أرجو أن تتصل بى لأننى لا أريد أن أقطع عليك نومك )!..
كان عبد الناصر قد طلب من زوجته وأولاده انتظاره لتناول الغداء معهم بعد عودته من توديع أمير الكويت.. ولم يكن قد رآهم طوال فترة انعقاد المؤتمـر لأنـه كان مقيماً فى فندق هيلتـون.. وبعــد أن عــاد إلى منزله بعد توديع أمير الكويت توجه على الفور إلى غرفة نومه، وكشف عليه طبيبه الذى كان قد لحق به، وشعر الطبيب أنه فى حاجة إلى أطباء آخرين، فتم اتصال سريع بالأطباء، فى هذا الوقت طلب من زوجته كوبا من عصير البرتقال.. تناول نصف الكوب. وكان الأطباء قد وصلوا.. وفتح الراديو بجانب سريره.. سمع دقات الساعة الخامسة ثم موجز نشرة الأخبار، وبصوت خافت قال: مفيش حاجة!..
وقال له طبيبه الدكتور منصور فايز.. سيادة الرئيس .. مفيش داعى للمجهود وأجابه عبد الناصر: لا ، أنا كويس.. الحمد لله..
وألقى رأسه على المخدة، وخلال ثوان أرخى يده.
كانت الساعة الخامسة والربع تماما، وحاول الأطباء الذين كانوا حوله إسعافه لكنه كان قد فارق الحياة.