أسرار وحكايات هيكل وعبد الناصر
 بعد 50 عاماً على قيام الثورة لا تزال جوانب كثيرة من علاقة الاستاذ محمد حسنين هيكل بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر غامضة ولا تزال علامات الاستفهام حولها كثيرة. وهذه العلاقة كانت قد سببت مشاكل لكل منهما.. بعض المقربين من عبد الناصر كانوا يشعرون بأن هيكل خطر عليهم، لأن الرئيس يثق به وهم طبعاً حريصون على أن يكونوا هم وحدهم موضع ثقة الرئيس، وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا يرون أن هيكل أقرب منهم إلى الرئيس، وأنه يبدو فى حجم أكبر من حجم أى واحد فيهم وهم الذين قاموا بالثورة..

أما زملاء هيكل من أبناء جيله من الصحفيين فكانوا يتميزون غيظاً، وفاض بهم الكيل حقدا عليه، لأنه كان معهم ثم قفز فجأة فأصبح فى مكانة لا يحلم بها أى صحفى فى العالم، ولم يصل إليها أى صحفى فى التاريخ، وفى فترة من الفترات كنت أسأل كل من أقابله من كبار الصحفيين الذين عاصروا هيكل فى بداياته؟.. فلا أسمع منهم إلا عبارات تدل على أن مشاعر الغيظ والحقد تكاد تقتلهم، ولم أسمع من واحد منهم كلمة طيبة إلا الأستاذ أحمد بهاء الدين.. ولكن ذلك حديث آخر، أما الأسئلة التى ترتبــط بذكرى مرور نصف قرن على الثورة فهى: كيف بدأت علاقة هيكل بعبد الناصر، وكيف تطورت؟، وما هى طبيعة هذه العلاقة؟، وما تأثيرها على سير الأحداث؟، وإلى أى حد يعتبر الأستاذ هيكل مسئولاً عن الإنجازات والأخطــاء؟..

وهيكل فى ذاته شخصية مثيرة.. فهو ليس مجرد صحفـى، ولكنه مفكر، وصاحب رؤية استراتيجية وسياسية، قد تتفق أو تختــلف معه ولكنك لا تملك إلا أن تتوقف لتفكر فيما يقول .. وقد اقترب من عبد الناصر حتى أصبحت العلاقة بينهما أكبر من عـلاقــة صحفى بقمة السلطة، وتتجاوز علاقـــة الصــداقة الشخصيـة واتفاق (الكيمياء) بينهما كما يقول البعــض، والأهم من ذلك أن هيكل بما لديه من ثقافة وقدرة على التحليل السيــاســى والتفكير المنطقى قام لعبد الناصر بدور لم يكن أحد غـــيره يستطيع القيام به.. ولا تكتمل دراسة الثورة وعبد النـاصر إلا ويكون هيكل ودوره أحد عناصر هذه الدراسة.

ولحسن الحظ لدينا بعض ما يفيد فى فهم دور هيكل فى الثورة وإلى جانب قائدها.. وأهم ما لدينا حوارات اجراها هيكل مع فؤاد مطر، وهو كاتب عربى قريب الصلة بكــــل ما كان يجرى فى مصر منذ 1962 وكان مهتما بكل حــدث إيجابــى أو سلبى شهده عصر جمال عبد الناصر، وبعد رحيل عبـــد النــاصر جلس مع هيكل 20 ساعة وسجل معه إجاباته عـن كل الأسئلــة عـن عبد الناصر والثورة وأحداثها، ورأى فؤاد مطر أن محمــد حســـنين هيكل (صحفى العصر) وأنه أحد أبرز الظواهر فى التجربة الناصرية،  وفى رأيه أيضاً  أن ثورة 23 يوليو هى الثورة الأولــى فى التاريخ التى اتخذت من صحيفة نوعا من البديل للحزب نتيجة ارتبـــاط مــن نوع  استثنائى بين شخص قائد الثورة جمال عبد الناصر، وشخص محمــد  حسنين هيكل، وقد تحولت (الأهرام) منذ تولاها هيكل إلى مــا يشبـه الحزب لعبد الناصر، بفضل العلاقة ذات الطبيعة الخاصة بينه وبيـــن عبد الناصر.

وفى رأى فؤاد مطر أن هيكل هو الشاهد الوحيد القوى الذاكرة للتجربة الناصرية، وهناك شهود آخرون كثيرون، إلا أن الامتياز لهيكل أن اقترابه المستمر من عبد الناصر وقراراته واختياراته وتكتيكاته جعل منه شاهداً تاريخياً على أهم تجربة شهدها العالم العربى والعالم الثالث.

فى رأى فؤاد مطر أيضاً أن محمد حسنين هيكل كان كبير الطهاة فى مطبخ السياسة المصرية فى عصر عبد الناصر، وكان هو الذى يعد المسرح السياسى لجمال عبد الناصر البطل التراجيدى للظاهرة الناصرية، ولذلك سجل حواراته مع هيكل فى جلسات فى سبتمبر و أكتوبر 1974 بعضها فى شرفة منزل هيكل المطل على النيل، وبعضها الآخر تحت شجرة مانجو فى عزبة هيكل فى برقاش على بعد نصف ساعة من القاهرة.. وكانت المناقشات عفوية ولم يستعن هيكل بأوراق وتواريخ..

ولأن هيكل فى رأى فؤاد مطر (هو الشاهد التاريخى على التجربة الناصرية) فقد بدأ بسؤاله: كيف تعرفت إلى جمال عبد الناصر؟

يقول هيكل إنه رأى جمال عبد الناصر للمرة الأولى فى صيف 1948 خلال حرب فلسطين، ويومها لم يكن هناك صحفيون مع الجيش المصرى الذى ذهب إلى فلسطين لأن وزير الحربية فى ذلك الوقت الفريق محمد حيدر باشا قرر ألا يرافق الصحفيون القوات المصرية الذاهبة إلى الحرب، ويكتفوا بالحصول وهم فى القاهرة على البيانات التى تصدرها القيادة من إدارة الشئون المعنوية فى الجيش.. لكن هيكل انتقل إلى عمان الطائرة وركب سيارة من عمان إلى القدس، ومن القدس إلى بيت لحم ومنها إلى  الخليل مع القوات التى كان يقودها البطل أحمد عبدالعزيز وكانت قوات شبه نظامية، كان قائد المدفعية فى هذه القوات هو كمال الدين حسين، وذات يوم من يونية 1948 كان هيكل متوجها من القدس إلى المجدل بسيارة جيب تابعة لقوات أحمد عبد العزيز توقفت السيارة قرب (عراق سويدان) بسبب معركة كانت دائرة، فنزل من السيارة وسار مشياً نحو (عراق المنشية) وعرف أن الكتيبة السادسة التابعة للقوات المصرية انتصرت بفضل قائدها الذى تمكن من صد هجوم يهودى مباشر كان يستهدف السيطرة على (عراق المنشية)  و(عراق سويدان) وقال له الضباط والجنود الذين كانوا فى غاية السعادة إن الذى قاد العملية هو الصاغ جمـــال عبــــد النــاصـــر أركــان حرب الكتيبة السادسة..

وذهب هيكل ليرى هذا القائد، فوجد أمامه شاباً طويل القامة، افترش بطانية، وآثار التعب بادية على وجهه، وكان يستعد للنوم.. واستمرت جلستهما ثلث ساعة ولم يخرج هيكل بنتيجة تفيده كصحفى، لأن (الصاغ) رفض أن يتحدث، ليس لأنه كان مرهقاً ولم ينم منذ خمسة أيام، ولكن لأنه كان غاضباً مما تنشره الصحافة المصرية وطريقة معالجتها لحرب فلسطين..

وشاءت المصادفة أن يلتقى هيكل بالصاغ جمال عبد الناصر عند عودته إلى المنطقة مرة ثانية، ثم اجتمع معه بعد الهدنة الأولى ، وفى هذا اللقاء لاحظ أن عبد الناصر كان مهتماً بالتحقيقات التى نشرها هيكل عن الدورة الخاصة التى عقدها مجلس الأمن لمناقشة القضية الفلسطينية ووقف اطلاق النار.. وانتهت اللقاءات التى فرضتها ظروف الحرب..

وفى أواخر عام 1949 جاء عبد الناصر إلى هيكل فى مكتبه فى (أخبار اليوم) كان هيكل قد كتب سلسلة تحقيقات من دمشق عن الانقلابات التى شهدتها سوريا من انقلاب حسنى الزعيم إلى انقلاب أديب الشيشكلى مرورا بانقلاب سامى الحناوى، وفوجئ بعد أيام بصلاح سالم يزوره، ومعه جمال عبد الناصر، وكان هيكل قد اجتمع مرتين من قبل بصلاح سالم، وكان الغرض من الزيارة هو التحدث فى مسألة خاصة بسلاح الحدود، ثم بدأ جمال عبد الناصر يسأل عما جرى فى سوريا، وكان يركز على شكل الذين قاموا بالانقلابات، وأهدافهم، وكيف يتصرفون، وكيف استقبلت الجماهير السورية هذه الانقلابات، وهل حدثت اضطرابات.. وما حجمها؟..

وفى عام 1951 زار عبد الناصر هيكل فى مكتبه يوماً بشكل مفاجئ، وكان ذلك بعد عودة هيكل من تغطية أزمة إيران التى بدأت عام 1951 بقتل رئيس الوزراء (على رزم ارا) وانتهت بظهور الدكتور محمد مصدق ثم سقوطه، وقال عبد الناصر لهيكل: إنه جاء ليحصل على نسخة من كتابه (إيران فوق بركان) لأنه لم يعثر عليها ليشتريها، واستغرقت الزيارة نصف ساعة ودار فيها الحديث حول إيران.

وفى يوم 18 يوليو 1952 التقى هيكل بعبد الناصر فى منزل اللواء محمد نجيب، ويومها كانت أزمة بسبب القرار الذى أصدره الملك بحل مجلس إدارة نادى الضباط بعد أن فازت المجموعة التى رشحها الضباط الأحرار فى الانتخابات وكان محمد نجيب هو كبير هذه المجموعة، وكان الضباط الأحرار قد فضلوا البقاء بعيدين عن الانتخابات، واكتفوا بهذه المجموعة التى صدروها، وكانت الانتخابات عملية اختبار للقوى داخل الجيش، وعندما وصل هيكل إلى منزل محمد نجيب وجد معه يوسف صديق، وسأل هيكل: ما الذى ستفعلونه؟، فأجابه محمد نجيب: سنرفع دعوى أمام مجلس الدولة.

فى هذا الوقت دخل جمال عبد الناصر ومعه شاب يرتدى قميصاً أبيض وبنطلونا رماديا عرف أنه عبد الحكيم عامر ولم يكن هيكل قد تعرف عليه، وترددعبد الناصر فى الدخول، وأشار إلى نجيب فغادرا المكان معا يرافقهما عبد الحكيم عامر، وبعد نحو ربع الساعة عادوا..

ودارت مناقشة بين هيكل وجمال عبد الناصر، قال هيكل مستفزا: إذا كان الجيش لم يتمكن من الدفاع بالقدر الكافى عن البلد، فعليه على الأقل أن يدافع عن نفسه وعن كرامته.. ورد عبد الناصر: ما الذى يمكن أن يفعله الجيش؟.. فأجابه هيكل: لا أدرى.. إنما المهم بعد الذى فعله الملك أن يدافع الضباط عن أنفسهم وعن كرامتهم.. وقال عبد الناصر : هل يعنى أن يقوم الضباط بانقلابات كتلك التى حدثت فى سوريا؟.. فقال هيكل.. أنا لست مع فكرة القيام بانقلاب .. فرد عبد الناصر: ما الذى نفعله إذن؟..

يقول هيكل إنه عرض فكرة ساذجة فقال لعبد الناصر: ما الذى يمنع من أن يتوجه ألف ضابط إلى السرايا، ويكتبوا فى سجل الزيارات أن الموقف تردى وإنه لابد من معالجة هذا الموقف، ورد عليه عبد الناصر: هذا سيعتبر عصياناً.. فقال هيكل: ولكن لابد من حدوث شىء.. فسأله عبد الناصر: أنت تكتب فى السياسة، هل لك أن تحدد ما الذى يمكن أن يفعله الجيش؟.. وكان عبد الحكيم عامر يتابع المناقشة دون أن يشترك فيها، أما محمد نجيب فقال إنه سيعد مذكرة تمهيداً لرفع دعوى أمام مجلس الدولة، وسيتكلف رفع الدعوى ثمانية جنيهات، ومد عبد الناصر يده فى جيبه فوجد فيه ستة جنيهات فأعطاها لمحمد نجيب، واستمر الحديث عشر دقائق، وغادر هيكل بعدها منزل نجيب ليركب سيارته، وعلى زاوية الشارع لمح جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر واقفين كما لو أنهما فى انتظار أحد، وفى انتظار سيارة تاكسى، فقال لهما: هل أوصلكما؟.. فسأله عبد الناصر : إلى أين أنت ذاهب؟.. قال هيكل: إلى وسط البلد.. وركب الاثنان سيارة هيكل.. عبد الناصر إلى جانبه، وعبد الحكيم عامر فى المقعد الخلفى.. من الزيتون حيث منزل محمد نجيب إلى وسط البلد..

فى الطريق قال عبد الناصر لهيكل:إنكم تتكلمون.. إنما لم يقدم أحدكم حلا، إن الانقلاب غير ممكن.. من الذى سيقوم بالانقلاب؟.. وبعد نصف ساعة من الكلام قال عبد الحكيم عامر لجمال عبد الناصر: سننزل هنا فى محطة باب الحديد..

يقول هيكل : لم أكن أعرف أن هذا الشاب يقود حركة داخل الجيش، ولم يدر فى خلدى، أن هذا الشاب الطويل القامة ذا الشاربين الرفيعين الذى يرتدى قميصاً أبيض وبنطلونا رماديا يتحرك بصمت، لكننى كنت ألاحظ وهو يتحدث أن عينيه تلمعان، وأنه يريد أن يسمع أكثر مما يتكلم، وحين انتقل إلى الحديث عن الانقلاب قال إن الانقلاب سيؤدى بالبلد إلى كارثة.. وفجأة سأل: هل تظن أن الإنجليز سيتدخلون لو حدث انقلاب فى مصر؟.. ولاحظ هيكل أن عبد الناصر كان يصغى إلى الجواب باهتمام.. وقال هيكل: إن الإنجليز لن يتدخلوا وعندما سمع عبد الناصر هذا السؤال المقتضب سأل عن التفاصيل، وقال هيكل إن الإنجليز ليست لديهم قوات كافية للسيطرة على كل المدن المصرية، والسفير البريطانى فى ذلك الوقت فى إجازة ولدى معلومات أن قائد القوات البريطانية فى الإسماعيلية موجود خارج مصر فى إجازة، وهذا موسم الإجازات والتدخل يحتاج إلى وقت.

قبل أن ينزل عبد الناصر من السيارة قال لهيكل: من الضرورى أن نكمل الحديث، فقال هيكل: ما رأيك أن نكمله فى مكتبى؟.. فسأله عبد الناصر: هل عندك تليفون فى منزلك؟.. وأعطاه هيكل رقم التليفون، وفى اليوم التالى اتصل عبد الناصر بهيكل فى التليفون وسأله: أنا الذى قابلتك أمس.. هل تذكر؟.. وتقابلا يوم 19 يوليو.. جاء عبد الناصر إلى هيكل فى مكتبه وبدأ الحديث فى قضايا عادية جداً، عن الصحافة وعن المجلة التى كانوا يصدرونها فى الفالوجا، وعن فلسطين وما جرى فى الفالوجا، وبعد نصف ساعة تقريباً وجه سؤالاً شعر هيكل أنه الغرض الأساسى من الزيارة، قال: كنا نتحدث أمس عن الإنجليز وإمكان تدخلهم، فهل يمكن أن تحدد بطريقة مرتبة الأسباب التى قلتها أمس وانتهيت منها إلى أن الإنجليز لا يمكن أن يتدخلوا لو حدث انقلاب أو شىء من هذا القبيل؟، وعرض هيكل فكرته.

وكان هيكل فى ذلك الوقت معجباً بنجيب الهلالى الذى كان آخر رئيس وزراء قبل الثورة، وفى رأى هيكل أنه كان (عليه القيمة) وكان هيكل يتردد عليه مع زوج ابنته الدكتور محمود محفوظ (وزير الصحة الأسبق) ونجيب الهلالى هو الذى علم هيكل تدخين السيجار.. وكان نجيب الهلالى قد جاء فى ظروف دقيقة بعد حريق القاهرة وإقالة الملك لمصطفى النحاس وتكليف على ماهر بتأليف الحكومة، وبقى على ماهر شهراً ثم كلف الملك نجيب الهلالى، وبدأ نجيب الهلالى يطالب عبود باشا بالضرائب المستحقة عليه وذلك ضمن خطة نجيب الهلالى للتطهير، لكن عبود باشا انتصر بعد صفقة مع إلياس اندراوس كانت حصة الملك منها مليون جنيه (!) .. ونتيجة لذلك أقال الملك حكومة نجيب الهلالى وكلف حسين سرى بتأليف حكومة لم تتمكن من البقاء فأعاد الملك تكليف الهلالى..

وسافر هيكل إلى الإسكندرية بعد مقابلته مع جمال عبد الناصر يوم 19 يولية 1952، والتقى بالهلالى الذى أخبره بأن الملك كلفه بتشكيل الحكومة  وقبل شروطه بعدم تدخل غير المسئولين فى السياسة (وكان الشماشرجية وخدم القصر والموظفون والحاشية يتدخلون فى السياسة) ووافق الملك على شرط  نجيب الهلالى بالقيام بحملة تطهير، وكذلك بأبعاد بعض أفراد الحاشية..

وفى الليل عاد هيكل إلى القاهرة، وبعد قليل من وصوله اتصل به ضابط كان يعمل وقتها فى المخابرات وهو سعد توفيق، كان قد تعرف عليه وهو يتابع حرب فلسطين، وقال له سعد توفيق إنه يريد أن يمر عليه بعد قليل، وعندما جاء قال له: الشخص الذى قابلته أمس مرتين يسأل أين ستكون غداً ؟سأل عنك ولم يجدك.. فقال هيكل: أمضيت يوماً فى الإسكندرية وعدت منذ قليل.. فسأله سعد توفيق: هل يعنى أنك لن تغادر القاهرة خلال الأيام الثلاثة المقبلة؟..

فقال هيكل: أنا باق فى القاهرة، وتركه سعد توفيق الذى كان يتكلم بطريقة مشدودة وبغمغمة بعد أن أعطاه أرقام تليفوناته، ثم جاءه يوم 21 يوليو وتحدث عن الأوضاع العامة.. ويوم 22 يولية جاء سعد توفيق للمرة الثالثة، وبعد حديث فى العموميات قال: أين ستكون لأن صديقك قد يحتاج إليك، ويحتمل أن يتصل بك تليفونياً؟.. قال هيكل: سأكون فى أخبار اليوم حتى التاسعة والنصف وبعد ذلك سأتناول العشاء فى بيت ماهر دوس، وبعد أن وصل هيكل إلى بيت ماهر دوس اتصل به سعد توفيق وقال له: هل يمكن أن تذهب إلى بيتك؟..

يقول هيكل: وتوجهت إلى بيتى، وحتى ذلك الوقت لم يكن قد خطر على بالى أن ثورة سيقوم بها البكباشى الذى أصبح صديقى.. ويقول: كنت أشعر أن أمرا سيحدث، ولكنى لم أتصور أن هذا الأمر هو الذى حدث بعد ذلك.

ويكمل هيكل: فى العاشرة والنصف ليلاً كنت فى منزلى عندما اتصل بى فريد زعلوك من الإسكندرية وهو وزير دولة وصديق لهيكل ومقرب من نجيب الهلالى وفوجئ به يقول: يبدو أن هناك أمراً ما داخل الجيش، ولقد بلغت نجيب الهلالى عن طريق السرايا أخبار عن أمر ما داخل الجيش وهو يسأل عما إذا كان لديك معلومات عن ذلك؟.. وكان إسماعيل شيرين صهر الملك هو وزير الحربية، وقال هيكل: ليست لدى معلومات، ما هى بالضبط المعلومات المتوافرة لدى الهلالى؟.. فأجاب فريد زعلوك: يبدو أن بعض الضباط تركوا الثكنات.

كان نجيب الهلالى يعرف أن هيكل له صلة ببعض الضباط ومنهم محمد نجيب الذى كان هيكل قد رشحه ليكون وزيرا للحربية فى حكومة الهلالى الأولى، لأن نجيب الهلالى كان يبحث عن ضابط محبوب فى الجيش ليشركه فى الحكومة وزيراً للحربية، وعندما عرض الهلالى اسم محمد نجيب سأله الملك، ما إذا كان يعرفه، فقال الهلالى إنه لا يعرفه فأجاب الملك :كيف تضمنه وأنت لا تعرفه؟..

ورن جرس التليفون وكان المتحدث سعد توفيق وسأله هيكل: ما هى الأخبار؟.. فأجابه سعد توفيق: يظهر فيه (هيصة) هناك أمور كثيرة.. وإذا كنت تريد كتابة شىء عما يحدث فهذه حكاية كبيرة جداً.. واتفق معه هيكل على أن يقابله فى العباسية، ثم ذهب إلى منزل محمد نجيب فوجده سهران ويرتدى قميصاً وبنطلونا وينتعل الشبشب.. واتصل أحدهم بمحمد نجيب فهم هيكل أنه مرتضى المراغى وزير الداخلية، واتصل المراغى مرة أخرى وقال لمحمد نجيب ما معناه أن بعض الضباط تركوا الثكنات، وأن ذلك سيحدث فوضى فى البلد، وتبعاً لذلك سيتدخل الإنجليز، ولذلك فإن الملك يفوض محمد نجيب الاتصال بهؤلاء (العيال المجانين) وينهى المسألة بالتى هى أحسن، ورد عليه محمد نجيب بما معناه أنه ليس لديه معلومات عن هذا الأمر.

يقول هيكل: أعتقد أن محمد نجيب لم تكن لديه بالفعل معلومات، وأن كل ما عرفه من جمال عبد الناصر هو أن هناك حركة داخل الجيش، وكان عبد الناصر عندما تحدث معه عن هذه الحركة بشكل مقتضب سأله إذا كان يريد الانضمام إليها، وأبدى نجيب حماسه، وانتهت الاتصالات بين عبد الناصر ومحمد نجيب عند هذا الحد يوم 18 يولية 1952.

وكرر محمد نجيب لمرتضى المراغى أنه لا يعرف شيئاً عن مسألة ترك الضباط للثكنات، وفوجئ به يقول أيضاً: حتى أنا عندى الأستاذ هيكل بتاع أخبار اليوم.

وخرج هيكل من بيت محمد نجيب للقاء سعد توفيق، فأخذه سعد توفيق إلى القيادة، كانت الساعة نحو ساعة الثالثة فجر 23 يولية 1952، الشخص الأول الذى شاهده هيكل كان عبد الحكيم عامر.. وعندما رآه قال له: خلاص.. القاهرة كلها.. وسأله هيكل: يعنى إيه؟.. قال عبد الحكيم عامر: أخذناها.. القوات مسيطرة على كل القاهرة، قال هيكل: هل هذا انقلاب؟.. ورأى هيكل فى حوش القيادة بعض الضابط والجنود يفترشون الأرض ويأكلون، وهؤلاء كانوا أفراد الكتيبة 13 التى قبضت خطأ على جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ثم تعرف عليهما يوسف صديق وأفرج عنهما..

يقول هيكل إن سعد توفيق اختفى، وعبد الحكيم عامر اختفى، وخلال ثوان من الحيرة عاد عبد الحكيم عامر ليقول له: إيه رأيك.. هل يتدخل الإنجليز؟، وأشار إليه قائلاً: صاحبك ينتظرك فوق، وصعد هيكل ليجد جمال عبد الناصر ومعه كمال الدين حسين، وسأل هيكل: ما الذى حصل؟.. أجاب عبد الناصر: خلاص..

قال هيكل.. خلاص إيه؟...وأجاب عبد الناصر.. كنت تقول إن الجيش عجز عن رد شرف البلد سنة 1948 هل الذى فعله الجيش الآن كويس؟.. وسأل هيكل: ما الذى حدث؟.. أجاب عبد الناصر: يعنى لسه مش فاهم.. وكانت برقيات التأييد بدأت تصل من المناطق .. وقال عبد الناصر: لا يهم ما الذى سيحدث.. المهم أننا صممنا ونفذنا وأكدنا أن فى مصر شبانا رفضوا المهانة وتحركوا..

يقول هيكل: فى هذه اللحظة ظهرت بعض صفات عبد الناصر القيادية، ويقول: فى هذه اللحظة شعرت أنه رقم واحد فى الحركة، وأن كل الذين حوله يلجأون إليه فى أى قرار، ولم أكن حتى تلك اللحظة أعرف أنه قائد الثورة، لكننى كنت أشعر أنه القائد بالفعل، كل واحد كان يهمس فى أذنه أو يأخذه على جنب ليحدثه فى أمر ما.. كان محور كل الاتصالات.. وبعد قليل أرسل وراء محمد نجيب.. وجاء محمد نجيب مستغربا..

وفكر هيكل أن يتصل بجريدة الأخبار ليعرف الجو داخل الدار والمعلومات التى وصلتها، ورد عليه سكرتير التحرير حسين فريد وأجابه: يظهر أن فيه (دوشة) وسأله هيكل: ما الذى ستكتبه؟، فأجاب : لا أعرف.

أتصل بى مصطفى بيه (يقصد مصطفى أمين) وقال إنه يبحث عنك وسأل سكرتير التحرير هيكل ما الذى حدث بالضبط؟.. فأجابه هيكل: الجيش ترك الثكنات وقام بحركة وأثناء الحديث دخل عامل التليفون فى أخبار اليوم فى الخط وقال لهيكل.. مصطفى بيه يسأل عنك وهو فى إسكندرية هل أوصلك به، فأجابه: أيوه، وسأله مصطفى أمين عما حدث، وسأله: أين أنت الآن، وقال: يبدو أن فى الجيش حركة عصيان.. هل عندك معلومات؟، قال هيكل: لا .. ليس عندى معلومات، وسأل مصطفى أمين: إزاى.. إنت فين دى الوقت؟.. وأجاب هيكل: أنا فى رحاب العصيان، قال مصطفى أمين : الخط وحش، ممكن تعطينى نمرة  التليفون وأنا أطلبك، فرد هيكل: لا .. لا أستطيع أن أعطيك رقم التليفون حيث أنا الآن، وأصر مصطفى أمين علىأن يعطيه هيكل رقم تليفون القيادة فطلب منه أن ينتظر قليلاً، وكان فى الغرفة سعد توفيق وعبد الحكيم عامر، وكان جمال عبد الناصر فى الخارج، وقال هيكل لسعد توفيق إن مصطفى أمين يتحدث من الإسكندرية ويريد أن أعطيه رقم التليفون، وسمع عبد الحكيم عامر فقال مستهجناً : إيه؟.. وكان عبد الناصر فى طريقه إليهم وسمع عبد الحكيم عامر.. وضحك عبد الناصر وقال لهيكل أعطه الرقم، وقال لسعد توفيق: شوف النمرة كام، وأعطى سعد توفيق الرقم لهيكل فأعطاه لمصطفى أمين.. بينما كان عبد الحكيم عامر يقول لعبد الناصر: إزاى ده يحصل. السرايا حتعرف، ورد عبد الناصر مش مهم يا حكيم.. يجب أن نعرف كيف يفكرون.. المهم أن يتصل وهيكل يعرف منه.. مش هو يعرف من هيكل..

يقول هيكل: هذه الحادثة كشفت لى عن ظاهرة مهمة بالنسبة إلى جمال عبد الناصر وهى سرعته فى اتخاذ القرار.

يقول هيكل: منذ اليوم الأول وجدت نفسى وسط القيادة، أشرح كيف أن الإنجليز لن يتدخلوا ، وأعطى رقم تليفون القيادة لمصطفى أمين، وأسمع كل الأحاديث من كل المشاركين فى الثورة..

وبعد قليل من اعطائى رقم التليفون لمصطفى أمين اتصل بى فريد زعلوك وزير الدولة، ثم اتصل بى مصطفى أمين يسأل عن التفاصيل وعن مكان وجودى، وقال له هيكل، حتى الآن ليس هناك تفاصيل ، وأنا موجود فىمبنى من مبانى (الهيصة) اللى احنا فيها.

وقال هيكل لمصطفى أمين : حتكتب حاجة؟..

وأجاب مصطفى أمين: لا .. لا .. مش مسألة كتابة.. استنى لما نشوف حيصل إيه.. إيه اللى حصل؟..

وأجاب هكيل: أرى دبابات كثيرة تخرج وعربات عسكرية تدخل.

وسأل مصطفى أمين: هل اللواء محمد نجيب عندكم؟، هل هو مشترك فى الحركة؟..

وأجاب هيكل: رأيته منذ قليل ولا أعرف أين ذهب.

وقال مصطفى أمين : هل يمكن أن تستقصى لنا الأمر وتلم بالصورة كاملة وتخبرنا؟..

يقول هيكل: كانوا يريدون أن يعرفوا الموقف منى، وسألوا عن محمد نجيب لأنه كان مكلفاً من الملك بأن يتصل بقيادة الحركة ويهدئ الوضع..

بعد ذلك اتصل فريد زعلوك ثانية، وكان قد حصل على رقم التليفون من مصطفى أمين وقال لهيكل: إن الهلالى باشا عاوز يكلمك، وسأله نجيب الهلالى عن الحالة والأخبار وما إذا كان يعرف أحداً من أركان الحركة؟ فقال هيكل: إنه يعرف بعضهم، وسأل الهلالى باشا عن محمد نجيب وطلب أن يتحدث إليه، وبعد ذلك طلب من هيكل أن يتصل بالذين يعرفهم من أركان الحركة ويسألهم ماذا يريدون؟.. لأن المسألة فى منتهى الخطورة والإنجليز سيتدخلون، وكرر الهلالى الطلب وقال: أنت يا محمد لازم تكون على معرفة بالناس دول.. أنا عاوز تقول لهم هم عاوزين إيه؟..

فى هذه اللحظة دخل أنور السادات، فكلفه عبد الناصر بالتوجه إلى محطة الإذاعة لقراءة البيان الأول للثورة، وقال عبد الناصر لهيكل، قل لهم يسمعون بياناً من الإذاعة الساعة السابعة صباحاً.

وكان الوقت عندئذ نحو السادسة إلا الربع، وعاد هيكل إلى سماعة التليفون وكان الهلالى باشا ينتظر فقال له: سيذيعون بياناً فى الساعة السابعة دون أن يذكــر اســم عبد الناصر، وقال الهلالى: لا يا محمد.. مفيش داعى للفرقعة، هل عرضت الفكرة التى قلتها لك على أحد من الأركان فيهم؟.. قال هيكل: أظن أن الذى تحدثت إليه من المسئولين فى الحركة، قال الهلالى: اذهب وقل لهم لا داعى للتسبب فى حدوث فرقعة، وأن الملك مستعد لإجراء أى تعديلات يريدونها، إذا كانوا يريدون تعديلات داخل الجيش.. هل هم يريدون تعديلات فى الجيش؟.. وأين هو محمد نجيب؟.. قال هيكل: موجود معهم.. أظن أنه منضم إليهم، قال الهلالى: هل اتصل نجيب بأحد فيهم؟.. أين هو..؟.. أريد أن أتحدث إليه.. قال هيكل: اتصل مرة ثانية.

يقول هيكل: بدأت أفكر بماذا أرد عليه.. إنه يسأل عن محمد نجيب.. وأنا قلت له إن محمد نجيب مع الحركة لأنى كنت أطلعت على البيان وهو بتوقيع محمد نجيب، واتصل الهلالى مرة ثانية وكنت محرجا بالفعل، سأل أيضاً عن محمد نجيب ، وقال: هل يمكن أن تبلغ جماعة الحركة أن الحكومة مستعدة لاستصدار مرسوم من الملك بتعيين محمد نجيب قائداً عاماً للقوات المسلحة، على أن يجرى هو التعديلات التى يريدونها داخل الجيش، لا نريد فرقعة!..

ومرة أخرى قال هيكل للهلالى باشا أن ينتظر، وذهب ليتحدث مع جمال عبد الناصر فى هذا العرض، وكان إلى جانبه محمد نجيب وزكريا محيى الدين، ولمجرد أن سمع محمد نجيب العرض رحب به وقال لعبد الناصر: إيه رأيك يا جمال بيه؟.. فكرة معقولة نوافق عليها وبلاش فرقعة، أما جمال عبد الناصر فقال: لا .. ثم نظر إلى محمد نجيب  وقال يخاطب هيكل: لا .. الفرقعة مطلوبة فى حد ذاتها لإعلان التغيير، وإشعار الناس بما حدث.

يقول هيكل وكرر محمد نجيب ترحيبه بالعرض المقدم من الهلالى، فكرر عبد الناصر تمسكه بضرورة أن تحدث فرقعة، وعاد هيكل إلى سماعة التليفون ليروى للهلالى باشا ما حدث، وقال له الهلالى: إننى لا أستطيع تحمل الموقف ما دام ليس عندى حل، وأنا على أى حال سأتحدث مع الملك فى الأمر، وأغلق الهلالى سماعة التليفون، وذهب هيكل إلى جمال عبد الناصر يقول له: إن الهلالى رجل نظيف وإنه فى موقف لا يحسد عليه، فرد عليه عبد الناصر: لا يهمنى أنه نظيف، الذى يهمنى أن تستقيل الحكومة، لأنه عندما تستقيل الحكومة منذ اليوم الأول للثورة يكون ذلك إثباتاً عملياً بأننا مسيطرون على الموقف وأن هناك قوة جديدة فى البلد.

يقول هيكل تعليقاً على كل ذلك إنه يشدد على حادثتين : موافقة عبد الناصر على إعطاء رقم التليفون لمصطفى أمين، وضرورة استقالة الحكومة، ويرى أنهما أكدتا سرعة عبد الناصر فى اتخاذ القرار دون أن يكون هناك أى تردد، وكل ذلك قبل إذاعة البيان الاول..

وهكذا بدأت قصة هيكل وعبد الناصر .. كان اللقاء الأول على أرض فلسطين، وامتد بصورة غير منتظمة، إلى ليلة 23 يوليو 1952.

والمهم أن نلاحظ أن عبد الناصر هو الذى اختار هيكل منذ البداية وراهن عليه، إلى حد أن جعله المدنى الوحيد الذى كان حاضراً فى القيادة فى أحرج الأوقات لحظة تقرير مصير الثورة، ونلاحظ أيضاً أن عبد الناصر بدأ فى تكليف هيكل بمهام لخدمة الثورة فى هذه الليلة الطويلة التى كانت لحظة فاصلة فى التاريخ، وأيضاً لحظة فاصلة فى حياة ومستقبل مصر والثورة وعبد الناصر وهيكل..

وهيكل لديه حكايات كثيرة عن عبد الناصر .. وكل يوم يظهر أن خزائن أسراره أكبر مما يتصور الجميع.. ولكى نعرف عبد الناصر الإنسان لن نجد سوى هيكل الذى لازمه 18 عاماً دون انقطاع، وكان يرافقه فى كل رحلة وفى كل اجتماع وفى الأوقات الصعبة..

يقول هيكل: ذات يوم تلقى جمال عبد الناصر من أحد الحكام العرب حقيبة كبيرة ملأى بالمجوهرات، وبدون ضجة ودون أن يشعر أحد بذلك أعاد الحقيبة إلى الحاكم العربى،  وكانت الهدايا التى يتقبلها هى أربطة العنق، ويقول هيكل إنه وغيره كانوا يأخذون من هذه الأربطة، وكذلك كان يتقبل صناديق السيجار التى يرسلها إليه كاسترو وكانت من نصيب هيكل كذلك كان يتقبل الهدايا من التفاح والبشملة التى تأتيه من لبنان، وهذا كل شىء!.

هل كان يصوم ويصلى؟..

يقول هيكل أن عبد الناصر بقدر ما كان مؤمناً كان متفتحاً، فلم يكن متزمتاً فى مسائل الدين،ولا متاجراً بها، وكان مسجد الإمام الحسين والجامع الأزهر من المساجد المحببة إلى قلبه.

وما نوع الكتب التى كان يقرؤها؟.

يقول هيكل إن عبد الناصر أنشأ فى الرئاسة مكتبة كبيرة تضم مئات الكتب، وكان هناك جهاز خاص يشرف عليه أستاذ من الجامعة مهمته تلخيص الكتب، وأحياناً  كان يفضل قراءة بعض الكتب كاملة بعد أن يطلع على الملخص الذى أعدوه له، وفى فترة الصباح كان يقرأ الصحف المصرية قبل أو بعد الاطلاع على أوراق الدولة وإعطاء التعليمات، وبعد الظهر تكون قد وصلت الصحف اللبنانية والأجنبية فيقرأها بعناية، ومن حين لآخر كان يعقد جلسات يحضرها البعض، وكان يسميها (جلسة الفلسفات)، ولا أعتقد أنه كان يتناول العقاقير والحبوب المنومة والمهدئة قبل 1967، ولم يكن فى حاجة إلى حبة مهدئة قبل أن يلقى خطابا أو يتخذ قراراً تاريخياً.. وباستمرار كان يتوجه لإلقاء الخطاب وهو متحفز، أما مسألة الأكل عنده فكان دائماً يفضل الجبنة المصرية البيضاء والخيار والجرجير والطماطم، وعندما يبالغ فى الأكل فإنه يأكل الأرز والخضر، وكنا نضيق بذلك عندما نرافقه فى الرحلات والزيارات الرسمية، وفى إحدى الزيارات إلى الاتحاد السوفيتى كانت على مائدة العشاء الذى أقامته القيادة السوفيتية أنواع من الأطعمة الفاخرة والكافيار، ولاحظت أن عبد الناصر كان يأكل بشكل رمزى، وبعد أن عدنا إلى بيت الضيافة دخل عليه أحد المرافقين وبيده صينية وضعت عليها أطباق الجبنة والخيار والطماطم التى كان يصحبها فى الطائرة معه من القاهرة، وتعشى عبد الناصر فى غرفته ونام.

لكنه لم يكن ينفذ تعليمات أطبائه لأكثر من يومين، كان طبيبه الخاص الدكتور منصور فايز يتعمد أحياناً تخويفه بتضخيم دقة الوضع الصحى على الأقل حتى يخضع للتعليمات ، لكنه بعد أن يسمع طبيبه كان يحدق فيه لبعض الوقت كما لو أنه يريد أن يقول له إن كشف المناورة!، وعندما توقف عن التدخين أعتبر أنه حرم من (الشقاوة) والمتعة الوحيدة.. لأنه كان قبل ذلك يدخن أربعين سيجارة يومياً.. ولم يدخن غير السجاير..

وكان عبد الناصر يشاهد أحياناً ثلاثة أفلام سينمائية فى الليلة الواحدة، واهتم فترة بالأفلام الأمريكية، ثم استهوته الأفلام الإيطالية والأفلام الهندية.

و(الشلة) كانت من بعض رفاقه أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأحاديث (الشلة) لم تكن سياسية، كانوا يتحدثون فى الذكريات والآمال.. وكان هيكل يحرص على التحدث معه فى الشعر والأدب والتاريخ والموسيقى.. أشياء لا علاقة لها بأعمال الدولة لكى يفتح أمامه أبوابا لا تضعها الظروف أمامه.

وفى يوم قالت له ابنته هدى إنها تريد مكاشفته فى أمر مهم حدد لها موعدا، وفى مكتبه استجمعت شجاعتها وقالت إنها تشعر أن زميلها فى الجامعة حاتم صادق قريب منها، وإنها تريد أن تعرف إذا كان يمانع فى أن يتقدم لخطبتها، بعد ذلك اتصل بهيكل، وشعر هيكل أنه مفاجأ وحائر، وقد يكون ذلك لأنه يواجه هذا الأمر لأول مرة، وأن هناك من سيتزوج ابنته هدى التى تعنى الكثير بالنسبة إليه.. فجأة اختلطت مشاعر الأب بمشاعر الصعيدى ولم يتأقلم مع الفكرة إلا بعد بضعة أيام..وكان سعيداً عندما أصبحت له حفيدة.. وعندما كثر الأحفاد ازدادت سعادته..

وكثيرون لا يعرفون عدد الأصدقاء القدامى الذين كانوا يأتون إليه باستمرار ويحل مشاكلهم.. وحدث مرة وهو فى المنيا أن لمح أحدهم يلوح بيديه، وتذكر أنه الشاويش الذى كان معه فى فلسطين، وتوقف موكب عبد الناصر وأرسل وراء الشاويش ليتحدث معه.

وكان جمال عبد الناصر ضعيفاً جداً أمام الضباط الأحرار، وأمام الذين أبلوا فى حرب السويس عام 1956.

وكان يتقبل مشاكل الضباط الأحرار ووجهات نظرهم، ولو أن أحداً غيرهم عرض هذه المشاكل ووجهات النظر لما كان يقبلها..

كان عبد الناصر يرفض التملك.. ويرفض مظاهر الترف.. وغير قابل للفساد الشخصى..

كل ممتلكاته كانت عبارة عن أشياء شخصية.. ثلاث أو أربع كاميرات تصوير جاءته هدية.. وثلاث أو أربع آلات عرض سينمائية جاءته أيضاً هدايا.. ونحو عشر بدلات.. وسبعة أو ثمانية أزواج أحذية وكان يحرص على استعمال اثنين منها لأنهما يريحان قدميه.. ونحو مائتى ربطة عنق معظها هدايا من الزعماء اللبنانيين.. وسيارة واحدة (اوستن) فكّر مرة فى أن يبيعها ولكن هيكل نصحه بالاحتفاظ بها.. وغير ذلك لم يكن عبد الناصر يملك بيتاً.. ولا سيارات.. ولا  عقارات.. ولم يترك أموالاً أو أطياناً..

وعبد الناصر لم يورث أحداً من أولاده شيئاً.. أما ما تملكه أولاده بعد موته فلم يكن مصدره أموال أبيهم ولا موقعه، وكان مقتنعاً بأن التملك بالنسبة للمسئول يؤثر فى رؤيته الاجتماعية، ولذلك حرص على أن يكون أعضاء التنظيم الطليعى من غير المالكين حتى لا تصطدم مصالحهم مع هدف التنظيم وهو تذويب الفوارق بين الطبقات..

يقول هيكل: إن عبد الناصر حين كان يخرج وسط الجماهير كان يعود وبدلته مقطعة.. أى مواطن كان يجد فرصة لرؤيته من قريب يندفع نحو ه فى حالة هيسترية ولا يهمه ما الذى يجرى.. يقبّله.. ويتعلق به.. ويشده من وسطه إلى درجة أن عبد الناصر يشعر أن وسطه انكسر... وكثيراً جداً ما شاهدته فى حالة صعبة بعد لقاء جماهيرى حاشد..

ويقول هيكل: إن عبد الناصر لم يشعر بأية لذة فى حياته.. لم يشعر بلذة النوم، أو بلذة الأكل، أو بلذة السفر.. ولا حتى بلذة مشاهدة أولاده.. لأنه كان يعمل طول الوقت.. ومتعته الوحيدة أن يشاهد فى منزله ثلاثة أفلام سينمائية.. هو كان يعتبر ذلك متعة وأنا كنت أعتبر هذا عذاباً حقيقياً..  وعندما كان يطلب منى مشاركته فى مشاهدة الأفلام كنت أصاب بصداع بعد الفيلم الأول ولكنى كنت أجلس إلى جانبه ونشاهد الأفلام الثلاثة فى سهرة واحدة!.

وكان عبد الناصر يعتقد أنه ملاحق فى كل مكان، وأن حياته محصورة فى ثلاثة أماكن: إما مكتبه فى منزله يعمل، وإما فى سجن القلعة إذا حدث أمر ما، وإما فى القبر، وكان يقول أحياناً: هم التلاتة مفيش غيرهم.. يالبيت. يا القلعة.. يا التربة!..

وزار عبد الناصر أمريكا فكان كل ما رآه فى أمريكا الطريق بين مقر إقامته ومقر الأمم المتحدة.. كان تصوره عندما زار أمريكا أنه سيتفرج عليها لكنه لم يشاهد إلا الطريق الذى كان يسير عليه تحت حراسة مشددة لأن الإسرائيليين كانوا قد أطلقوا تهديدات وقاموا بمظاهرات، وعاد من أمريكا ولم يتفرج إلا على مطار نيويورك والبيت الذى نزل فيه فى (لونج أيلاند) ومقر الأمم المتحدة فى نيويورك، والطريق.. وباستثناء الاتحاد السوفيتى ويوجوسلافيا والهند لم ير عبد الناصر من العالم الخارجى شيئاً!..

ويقول هيكل: أحيانا عندما نأتى على ذكر لندن أو باريس أو روما فى جلسة كان عبد الناصر يقول: إنه لم يشاهد أياً من هذه المدن، وكنت عندما أعود من زيارة فرنسا أو بريطانيا مثلاً وأحكى له عنهما يقول: إنه لن يراهما أبدا، وكان زهدا فى ذلك ويقول: إنه يشاهد هذه الدول فى الأفلام التى يتسلى بعرضها وهو فى البيت.

ويوم نصحوه بممارسة الرياضة وجاءوا له بلعبة (البولينج) وضعت فى منزله كان سعيدا بأنه اكتشف شيئا جديدا.. تصور.. اكتشف لعبة (البولينج)!

ولو أن جمال عبد الناصر فكّر بالثروة لما عمل بالطريقة التى عمل بها، وبعد انتصاره فى معركة السويس 1956 أصبح له مجد لا يطاولـه مجد، وكان فى استطاعته أن يخلد إلى الترف والحياة السعيدة، لكنه دخل فى معارك التصنيع، وبناء السد العالى، وبناء الجيش، ودخل فى مواجهات مع الدول الكبرى مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا وحتى مع الاتحاد السوفيتى، ولو كان يبحث عن الترف وملذات الحياة لما كان اختار كل هذه المتاعب، ولكان قد جلس يتمتع بالحياة متربعا على أمجاده.. ولو كانت الثروة من أهدافه لما كان تجرأ (بالعين المليانة) على التصدى للأغنياء، ولما كان اختار الاشتراكية ويوزع ثروات الأغنياء على الفقراء..

ثم إن عبد الناصر كان يدرك أنه ملاحق طول عمره، ولم يفكر أبدا بأن يكون ذات يوم لاجئا سياسيا. يقول هيكل: إن عبد الناصر فى ذروة العدوان الثلاثى وعمليات إنزال الجنود الفرنسيين فى بورسعيد قال له: سننزل تحت الأرض ونؤلف مقاومة سرية إذا اقتضى الأمر.. هل أنت مستعد للمشاركة فى هذه المقاومة والنزول معنا؟ ماذا يعنى ذلك؟ يعنى أن عبد الناصر ليس من النوع الذى يمكن أن يهرب إلى الخارج.. كانت قناعته أنه ليس له سوى مصر يعيش ويموت فيها.

وبعد رحيل عبد الناصر ظلت أسرته لفترة تعيش على المرتب الذى كان الرئيس السادات قد طالب به مجلس الأمة وهو 500 جنيه مضافا إليه 250 بدل تمثيل..

يقول هيكل: إن غرفة نوم عبد الناصر أقل بكثير من غرفة نوم أى منا، وعندما بطنوا له سريره بالجلد اعتبر أن ذلك نوع من الترف، لأن غرفة نومه لم يكن فيها غير سرير وكنبتين وأوراق.. وكانت ملأى بالأوراق والدوسيهات.. وكان سعيدا بأن عنده عشرين زجاجة كولونيا جاءته كهدايا..

ما هى بالضبط طبيعة العلاقة بين هيكل وعبد الناصر؟

يقول هيكل: كنت قريبا من عبد الناصر.. وكانت بيننا صداقة وثقة.. وكانت العلاقة من نوع متميز بين شخص يقود وشخص إلى جانبه يتكلم أو يفكر، وقد حرصت أن أبتعد عن المناصب والأوضاع الرسمية، وكنت دائما متمسكا بالصحافة والكتابة وأفضلها عن أى منصب رسمى، وقد ذكرت ذلك لعبد الناصر مرات عدة.. قلت له أفضّل الاحتفاظ بصفة الصديق الذى يتحدث إليك باستمرار بدون وساوس أو إحراج.. وكانت العلاقة بيننا قبل الثورة وحتى 28 سبتمبر 1970 علاقة حوار مستمر، وأعتقد أن ثقته الكاملة بى هى التى شجعت على ذلك، وأحيانا كان يضيق بهذا الجدل لكنه كان يسمع ويناقش باستمرار، وعندما كان يشعر بالضيق أحيانا فلأن كلامى كان فى اعتقاده نوعا من الإحراج لأطراف أخرى، وعلى سبيل المثال كان يشعر بهذا الضيق وأنا أكتب عن البيروقراطية المصرية أو أناقش فيها، لأن كلامى فيه إحراج لوزراء يعملون معه، وعندما كنت أنتقد الاتحاد الاشتراكى لم يكن يتضايق إلا أنه كان يشعر بأن بعض معاونيه يمكن أن يضيقوا بهذا النقد، وكان يأخذ فى الاعتبار مشاعر الذين يعملون معه. وقد كتبت الكثير حول قضايا لولا الثقة التى بيننا لكان الأمر يختلف.. كتبت مثلا عن ضرورة اندماج المثقفين فى الثورة وفى النظام لينتهى دور (أهل الثقة) وطالبت بأن يكون (أهل الخبرة9) هم أهل الثقة. وكتبت أنه لابد أن يقوم أهل الثقة وأهل الخبرة بتوسيع دائرة معارف عبد الناصر، وناديت بالمجتمع المفتوح.. وبالديمقراطية.. وكتبت ضد تجاوزات بعض أجهزة السلطة وفى مقدمتها المخابرات.. وكتبت فى موضوع الحراسات وضرورة أن يظل الهدف هو تصفية امتيازات الطبقة وليس تصفية أفراد الطبقة.. كتبت عن عدوان البيروقراطية فى الجهاز الحكومى والبيروقراطية الجديدة فى القطاع العام.. وكتبت عن ضرورة أن يلعب التكنوقراط دورهم فى التطوير.. وكنت قلقا وأنا أكتب عن خشيتى من أن يطوى أهل البيروقراطية القديمة أهل البيروقراطية الجديدة بدلاً من أن يطوى الجدد القدامى، وهذا ما حدث فعلا حيث ابتلع القدامى الجدد.. ومثل هذه الكتابات كانت تسبب لى بعض المشاكل لكن جمال عبد الناصر لم يضق بها.

هل كان هيكل يكتب مقالاته بعد أن يتشاور مع عبد الناصر ليمهد له جو إعلان خطوات معينة أو كان يكتب وحده دون تفاهم مسبق؟

يقول هيكل: لم أكن أفصل.. بمعنى أننى كنت أكتب ما أتكلم حوله مع عبد الناصر وحدث أن تناقشنا ساعات فى قضايا وآراء كان بيننا فيها اتفاق على ألا أتناولها فى مقالاتى أبدا، ومع ذلك هناك كثيرون كانوا يفترضون أننى أذهب إلى عبد الناصر يوم الخميس لآخذ منه أفكار مقالاتى يوم الجمعة، وهذا التصور سبّب لى إحراجات كثيرة.. لكننى أجزم بأن الاتفاق الذى بيننا أن يكون نقاشنا وتبادل الآراء بيننا بمعزل عن المقالات.. وكان هذا الاتفاق ينفذ بدقة.. والمرات التى تحدثنا فيها عن مقالاتى كانت قليلة جدا.. وفى العادة لا يجرى اتصال بيننا يوم الجمعة.. وأقضى هذا اليوم فى برقاش مع عائلتى.. ولكنه عندما يتصل بى يوم الجمعة يكون معنى ذلك أن هناك أزمة ما.. مثلا فوجئت مرة فى السابعة مساء يوم جمعة بالرئيس عبد الناصر يتصل بى، وفى ذلك الوقت كانت مقالاتى فى (الأهرام) حول التغيير، وفيها كتبت بشىء من الدقة ما معناه إذا لم يستطع النظام أن يغير فلابد أن يتغير، ومن نبرة صوته شعرت أنه يريد أن يقول لى أمرا ما، ثم قال: هل تريد رأيى فى مقالتك حول التغيير؟ أجبته: بالطبع، قال: المقالة مكتوبة بأسلوب غسان توينى فى مواجهة شارل حلو.. لكننى لست شارل حلو وآمل ألا تكون أنت غسان توينى. وانتهت المكالمة عند هذا الحد. وفى غير ذلك لم أشعر أن عبد الناصر يضيق بما نكتب فى الأهرام، لأننا نكتب من موقع الحرص على الثورة، ولم أكن وحدى الذى يكتب.. فقد كتب توفيق الحكيم (بنك القلق) وسلمها لى وقال لى: هذه ليست للنشر، فقلت له: إذا كنت لن تنشرها فلماذا كتبتها؟ فقال: إذن أجّل نشرها، قلت: إن دور المخابرات وأساليبها مشكلة حقيقية، وما دمت أنت وجدت فى نفسك الشجاعة لتكتب فأنا عندى الشجاعة لأنشر. ونشرنا الحلقة الأولى من القصة فقامت الدنيا، ولم يكن عبد الناصر قد قرأها، لكنه سمع بالضجة التى أثارتها، فاتصل بى مستوضحا فقلت له إنهم يحاولون منعنا من نشر الحلقة الثانية.. وقرأ عبد الناصر الحلقتين الأولى والثانية بعد أن حملتها إليه، فقال لى: انشروا. وقال: إن توفيق الحكيم كتب أيام العهد الملكى (يوميات نائب فى الأرياف) ، وإذا كان فى العهد الملكى يستطيع أن ينقد اجتماعيا من حقه أن يكتب أى نقد للتجربة.. ونشرنا بقية الحلقات.. ورويت لتوفيق الحكيم ما دار مع عبد الناصر..

وبعد ذلك انتقدنا فى (الأهرام) مرارا تجاوزات المخابرات، وأثرنا قضايا أساسية فى المجتمع المصرى. وعلى سبيل المثال أثار لويس عوض فى سلسلة مقالات قضية الثقافة والتعليم بين الكم والكيف، وأثار جمال العطيفى مرات عدة قضية القانون، وكتب حسين فوزى وعائشة عبد الرحمن ولطفى الخولى آراء تعرضت أنا بسببها للكثير من المشاكل فى الصميم.

من هذه المشاكل حادث إطلاق رصاصتين على هيكـل وهـــو نـــازل مـــن مبنى (الأهرام) القديم فى شارع مظلوم، ورفض هيكل إبلاغ النيابة أو تقديم بلاغ، وبعد أن علم عبد الناصر سأله إن كان يتهم أحدا، وما حدث لهيكل ولغيره فى الأهرام كان ناتجا عن اصطدامهم مرات عدة ببعض الأجهزة.. لطفى الخولى اعتقل، وجمال العطيفى، وأحمد نافع، ويوسف صباغ، وحمدى فؤاد ونوال المحلاوى سكرتيرة هيكل.. لكن عبد الناصر كان يأخذ فى الاعتبار الخط الذى يسير عليه الأهرام.. يقول هيكل: كنت أعتبر أن الأهرام يجب أن يكون له دور طليعى.. كنا ملتزمين بالميثاق دون أن نفقد الحرية فى الكتابة عن تطبيق الميثاق، وأعتقد أننا نجحنا فى أن نجعل من الأهرام طرفا أساسيا فى الحوار رغم أن ذلك سبب لنا مشاكل.. ولم نمارس هذا الدور بحماية من عبد الناصر ولكن اعتقادا منا بأن عبد الناصر يثق فى الأهرام ويثق أننا نعمل من داخل التجربة وننتقد من واقع الالتزام.

هل معنى ذلك أنه كانت تحدث أحيانا توترات بين عبد الناصر وهيكل؟

يقول هيكل: من الطبيعى أن تحدث توترات ما دام الحوار بين طرف مسئوليته شاملة وطرف لا يملك إلا الفكر والكتابة.. وأهم حالة توتر بيننا حدثت يوم أصدر عبد الناصر قرارا بتعيينى وزيرا، وفى يوم صدور القرار كنت فى برقاش، وأصدر الرئيس عبد الناصر القرار دون أن يفاتحنى بالأمر، وعدت إلى الأهرام بمجرد علمى بصدور القرار فوجدت حالة توتر، وبعثت إليه برسالة اعتذار. وهذه الرسالة هى الورقة الوحيدة المكتوبة التى رفعتها إليه، وعدا ذلك لم أرفع إليه أوراقا لأنى كنت أفضل التعامل معه كصديق.. وكنت فى حالة صعبة من الضيق.. وفى اليوم التالى جاءنى أنور السادات فى برقاش وكان يوم شم النسيم فى سنة 1970 فى محاولة لإقناعى بقبول المنصب  الوزارى وبقى معى من التاسعة صباحا حتى الساعة الواحدة ظهرا، وكانت لفتة كريمة منه خصوصا أنه كان مرتبطا مع ضيوف سيتناولون معه الغداء فى بيته، وأبلغنى السادات أن عبد الناصر قال له: لا مجال بقبول الاعتذار، وأن المسألة ليست مسألة مفاتحة وإنما هى قرار صدر وانتهى الأمر.. ونتيجة لحديثى مع السادات ومع آخرين زارونى قبلت وعدت إلى القاهرة، ثم حدث أن قبضوا على لطفى الخولى ونوال المحلاوى، ووجدت أن الموقف يتأزم، وأننى فى محنة حقيقية فى بداية عملى فى الوزارة، وكنت بالفعل ممزقا بين قبولى المنصب الوزارى اضطرارا ومحنة أصابت بعض زملائى فى الأهرام وجمال عبد الناصر وأنا حريص على مشاعره.

وقبل هذه المحنة حدثت حالة توتر بيننا بسبب اعتقال جمال العطيفى، وأمضينا نحو أسبوع فى شبه قطيعة، هو لم يتصل وأنا لم أتصل، وفى هذه المرة أيضا كان السادات هو الذى تدخل، فقد كان مع عبد الناصر فى استراحة القناطر ومن هناك اتصل بى وقال: لماذا لا تطلب الرئيس وتصفى الموضوع معه لأنه متضايق، وبعد ذلك اجتمعت مع عبد الناصر وصفينا موضوع جمال العطيفى وتم الإفراج عنه.

يقول هيكل: طبعا كان هناك كثيرون يتضايقون من هذه الثقة التى وضعها عبد الناصر فى شخصى.

وكان السادات يقول لهيكل: لولا سلك التليفون لكانوا أتعبوك كثيرا، وكان السادات يقصد بذلك التليفون الذى فى مكتب هيكل والمتصل بغرفة نوم عبد الناصر . ويقول هيكل: عبر هذا التليفون جرت مناقشات واستفسارات كثيرة، وكان هذا التليفون معيارا لحالات التوتر بيننا، أحيانا لا يرن فيكون معنى ذلك أن عبد الناصر متضايق منى، وأحيانا لا أتصل به بسبب حالات من الضيق كانت تنشأ نتيجة حوادث معينة حصلت، وأشهد أن عبد الناصر كان نموذجا للرقة فى معالجته لحالات التوتر التى تحدث، وباستمرار لم يكن يخرج ضيقه عن حدود معينة، وأتذكر مرة أنه كان متضايقا جدا من أمور كتبتها، وخلال مناقشة بالتليفون سألته إذا كان يريد أن أحضر إليه فأجابنى: لا أريـــد أن أراك وأنــــا (متنرفز) نلتقى بعد أن تهدأ الأمور ونتفاهم.. وحدثت بيننا أيضا مناقشات مكتومة.. فقد ناقشته باستماتة فى بعض القضايا وكنت فى مناقشتى أميناً جداً لأن إعجابى به إعجاب المفتح العينين وليس إعجاب الأعمى، ومن أمثلة هذه القضايا مناقشات مكتومة دارت معه حول قرار إغلاق خليج العقبة سنة 1967، وكان رأيى أن هذا القرار سيقود إلى حرب.

لماذا حظى هيكل بهذا الوضع الاستثنائى مع  الزعيم وهو وضع لم يحدث من قبل لأى صحفى فى العالم؟

يقول هيكل: بعد أن قامت الثورة كان عبد الناصر على علاقة بعدد كبير من الصحفيين، وفى النهاية وبالاختيار الحر وعن طريق الممارسة ازددت قربا منه، وهذا أمر أعتز به، وهو بهذا لم يخصنى بوضع استثنائى ولكنه ألقى على مسئولية استثنائية، وفعل ذلك إحساسا منه بأنى أؤدى دورا فى نظامه، وأنا تبعا لذلك لم أحصل على امتيازات مادية، وكنت مقيدا أيام عبد الناصر وحتى وقت أن تركت الأهرام بالحد الأدنى للمرتبات فى مصر وهو خمسة آلاف جنيه سنويا دون أى زيادة، وعندما بنينا الأهرام لم نلجأ إلى الدولة لكى نعامل معاملة خاصة أو نطلب استثناء من قانون البناء، وبنينا الأهرام فى ظل قانون الشركات المساهمة، وكان رأيى أننا بذلك نقدم نموذجا جديدا فى إدارة المال العام، والأهرام لم يكن ملكى لكنى كنت أنظر إليه على أنه مسئوليتى وأعطيه كل جهدى، وكان قصدى من ذلك معالجة الخلل الناشئ فى مفهوم الملكية الاجتماعية. كنت أعتبر أن الأهرام يجب أن يكون نموذجا فى كل شىء بما فى ذلك الإدارة العلمية، وقد أعجب عبد الناصر بذلك متمنيا لو كانت مؤسسات الدولة كلها تدار بالطريقة التى يدار بها الأهرام، وبعد أن زار عبد الناصر المبنى كان يتحدث فى كل مكان عن الأهرام، ويقول: إنه سعيد جدا لأن مشروعا نجح فى مصر ويتمنى أن تنجح كل المؤسسات كما نجح الأهرام.

يقول هيكل: إن كثيرين كانوا يتصورون أن أفكار مقالاتى أحصل عليها من عبد الناصر، وأن التقارير التى تصل إلىّ من عبد الناصر أنتقىمنها الأفكار والمعلومات لأضمنها مقالاتى، وأنا فعلا اطلعت على مئات التقارير التى كانت تصل إلى عبد الناصر، ومنها تقارير سفرائنا فى الخارج ولم أجد فيها سوى الأداء البيروقراطى.. وكنت أرى عبد الناصر وأتناقش معه باستمرار، وكنت أعيش فى وسط الأحداث، ولا أنتظر من يعطينى خبرا أو معلومة، كنت طرفا فى الحوار الدائر فى الأحداث، ولم أكن أمد يدى إلى جيب عبد الناصر لآخذ منه الأخبار، أو أنتظر أن يتصل بى تليفونيا ليخص الأخبار بخبر كبير.. فقد كنت دائما إلى جانبه، ونتعامل دون وساوس، ولا أنتظر خبرا يتصل بقضية ما لأنى كنت طرفا فى هذه القضية، وإذا كان قد حدث أن طرح عبد الناصر فكرة ضمنتها فى مقال أو شعار أطلقته فيها فهذا معناه أن عبد الناصر اقتنع بضرورة طرح الفكرة أو إطلاق الشعار.. وكان كثيرون يتضايقون، وكان بعضهم يقول: لماذا لم يعطنا عبد الناصر الفكرة الفلانية وخص بها هيكل؟.

أما لماذا قرر عبد الناصر تعيين هيكل وزيرا دون مفاتحته فيقول هيكل: إن عبد الناصر فاتحنى فى أمر تعيينى وزيرا أربع مرات، وفى كل مرة كنت أعتذر، المرة الأولى سنة 1956 فى أول حكومة تألفت برئاسته، والثانية بعد الوحدة سنة 1958، والثالثة بعد الانفصال، والمرة الأخيرة بعد النكسة، وتفهم رغبتى فى أن أستمر فى عملى الصحفى، ولكن عندما صدر القرار سنة 1970 فقد أوضح لى بعدها أننا كنا فى حرب استنزاف، وكانت حركته دقيقة جدا، قتال فى الجبهة.. وغارات فى العمق.. ووجود سوفيتى فى مصر.. وتحرك سياسى.. ودلائل على قبول مبادرة روجرز.. ودلائل أخرى على إعلان وقف النار ترافقها دلائل على استعداد الجيش للعبور بعد انتهاء مهلة وقف النار التى حددت بثلاثة أشهر. وشعر عبد الناصر بأن تلك المرحلة التى تتسم بمزج العمل السياسى بالعمل العسكرى تحتاج إلى إعلام دقيق ومركز يتولاه شخص محيط بالموقف الرسمى وبأسلوب تحركه ويستطيع أن يعبر عنه دون العودة إليه.

وأخيرا يقول هيكل عندما طلب منى الرئيس السادات بعد توليه الحكم أن أستمر فى منصب الوزير أورد الحجة نفسها التى أوردها عبد الناصر لأن الرئيس السادات كان على علم بها، وحاولت أن أؤدى دورى إلى جوار الرئيس السادات فى حرب أكتوبر وبعدها بقدر ما استطعت.. وكانت تلك فترة رائعة فى تاريخ مصر أسعدنى أنى تمكنت من الحياة وسطها.

 هذا هو عبد الناصر كما تحدث عنه أقرب من كانوا حوله.

وهكذا كانت العلاقة بين المفكر والزعيم.

وربما تكون هناك فرصة لاكتشاف جوانب أخرى فى هذه العلاقــة الفريدة التى لم ولن تتكرر.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف