كيف يفكر مبارك الآن
كانت عبارة أحمد الجار الله صادقة إلى أبعد حد، ومعبرة عن شخصية الرئيس مبارك بدقة، حين قال إن حسنى مبارك لا يتواصل مع الشعارات، بل مع النتائج والإنجازات، وإنه فى معركة حضارية لصياغة شخصية عربية قادرة على الإبحار إلى المستقبل.. وإن حسنى مبارك قيادة متحركة، وصاحبة مشروع، ولديها رسالة. وأحمد الجار الله كاتب عربى كبير، ولـه مواقـف قوميـة وآراء لا تعرف المجاملة، وقد عبر عن الحقيقة الاستراتيجية التى عميت عيون البعض عن رؤيتها، وعجزت عقولهم عن إدراكها وهى أن أمن مصر من أمن العرب، وأن مصير العالم العربى وقضاياه من مصير مصر ومرتبط بقيادتها. ويرتبط بأمن مصر الوضع الفلسطينى الراهن. لم أجد أدق من كلمات أحمد الجار الله فى مقدمة حديثه مع الرئيس مبارك فى صحيفة السياسة الكويتية. فى هذا الحديث كشف الرئيس مبارك سرا يفيدنا أن نستخلص دلالته، عندما كان نيتانياهو رئيسا لوزراء إسرائيل، اتصل مسئول عربى بالرئيس مبارك وقــال لــه: احــذر مــما يجــرى عــلى حــدودك؟ وســارع الرئيس بطلب التحقق من وجود حشود على الحدود مع إسرائيل، وتلقى تقارير بعدم وجود أى شىء غير عادى، فاتصل الرئيس يومها بنيتانياهو نفسه وسأله صراحة: هل تحشدون قوات على الحدود؟، فقال له: إن هذا غير وارد ويمكن أن ترسل من تشاء بطائرة ليتأكد بنفسه.. ولو أن الرئيس مبارك كان من نوعية القادة الذين يفاخرون بالعنترية وسرعة الانفعال لكان قد اندفع وحرك قوات وانفجر الموقف فى المنطقة.. ويبدو أن هذا كان هدف من دس هذه المعلومة الخطيرة الكاذبة.. كما أن هذا لا يزال هدف البعض.. أن يفجروا الموقف.. ويدفعوا المنطقة إلى مغامرات غير محسوبة.. لولا أن مبارك لا يتعامل مع القضايا الساخنة بالانفعال والتسرع، ولكنه قادر على ضبط النفس فى الأوقات الصعبة والتعامل مع القضايا الملتهبة بالحكمة والتروى وتجنب الإثارة. وبصراحته المعهودة قال الرئيس مبارك: إن هناك قلة محدودة تسعى إلى شحن الجبهة الداخلية المصرية وترفع من درجة سخونتها، بينما الانفعال فى هذه اللحظات يتعارض مع المصلحة الوطنية والقومية، وهو يدرك تماما أنه لو اتخذ قرارا خاطئا تحت ضغط العواطف أو المزايدات فسوف تكون النتائج وخيمة.. وكل قرار عنده لابد أن يخضع لحسابات دقيقة.. ومع أن الرئيس هو صاحب القرار فى النهاية إلا أنه لا ينفرد بالقرار أبدا.. وكل قرار عنده يمر بسلسلة من المشاورات والدراسات عن الظروف المناسبة لاتخاذه والنتائج التى تترتب عليه.. ونحمد الله أن الرئيس مبارك لا يستجيب لأصحاب الصوت العالى، والقلة التى تملأ الأجواء بنداءات غير مسئولة لإثارة الشباب.. ويناقش كل ما يقال بالعقل وليس بالانفعال.. الذين ينادون بالحرب هل يعرفون معنى الحرب ونتائجها على الشعوب؟، وهل يطلقون نداءاتهم وهم على وعى بالظروف الدولية والإقليمية وبمصالح الشعوب؟، وهل هم أنفسهم مستعدون لتقديم أرواحهم فى هذه الحرب أو سيلتمسون لأنفسهم الأعذار للهروب عندما تقع الواقعة؟.. من الذى نعتمد عليه؟، ومن الذى لن نأخذ منه غير الكلام الكبير، ولن يساهم إلا بمدافع الشعارات..؟ ويقولون: المقاطعة.. مقاطعة من؟ ومقاطعة ماذا؟ المقاطعة كل لا يتجزأ.. إما أن نتعامل وإما أن نقاطع.. فهل نقاطع من نحتاج إلى استيراد التكنولوجيا منه؟ وكيف تحقق هدفك فى تحديث البلاد وتطوير المعامل والمصانع إذا قاطعت الذين يملكون الأدوات التى تساعدنا على ذلك؟ ويقولون: استخدموا سلاح البترول.. وعقولهم قاصرة عن إدراك أن الخاسر الأكبر سيكون الدول المنتجة للبترول.. سوف تعانى من الحرمان من المصدر الرئيسى للدخل.. ما هو البديل لتمويل مشروعاتها؟.. وهل توقف عملية التنمية وتفرض على شعوبها الحرمان بينما الدول المستوردة للبترول لديها بدائل ولن تخسر كثيرا..؟.. من الذى سيخسر أكثر؟ لنا أن نطمئن على مستقبل بلدنا لأن قائدنا هو الذى يقول ويكرر: عندما تأخذ قرارا فى هذا الزمن فعليك أن تفكر جيدا أين مصلحة شعبك. ولـه أن يطمئن إلى أن شعبنا لا يتأثر بالضوضاء وحملات الإثارة من بعض الإذاعات والفضائيات.. شعبنا يدرك أن هناك قوى لا تريد لمصر خيرا، ولا يسعدها أن يستعيد الاقتصاد المصرى قوته. ويقول أصحاب الآراء غير المسئولة : إن على الدولة أن تنسحب وتقتصر على مهمة توفير الأمن وتسيير الخدمات الضرورية.. ولكن مبارك بحسه الوطنى.. مبارك الذى لم ينفصل، ولن ينفصل أبدا عن شعبه، يتحدث عن البعد الاجتماعى.. ويؤكد لأصحاب المصالح والراغبين فى سرقة أموال الشعب أن الدولة سيظل لها دور.. والدور الأساسى هو حماية مصالح الطبقات محدودة الدخل.. وستبقى الدولة مالكة للبنوك الرئيسية لأنه لا يمكن ترك مدخرات الشعب بأكملها فى أيد أجنبية.. ولماذا تكون فى فرنسا وألمانيا وبريطانيا بنوك حكومية ولا يريدون أن يكون لمصر أيضا مثل هذه البنوك؟ وفى نفس الوقت المساحة واسعة أمام القطاع الخاص وله النصيب الأكبر فى مشروعات التنمية، ودور الدولة يشمل مساندة القطاع الخاص الجاد، والطريق أمامه مفتوح. وحين يأتى الحديث إلى الفساد يكرر مبارك موقفه المبدئى الذى لا يحيد عنه.. التستر على الفساد مرفوض.. وكل من يتستر على الفساد فسوف يخضع للمحاكمة مع مرتكبى جرائم الفساد.. والدليل موجود.. وزراء ومحافظون ورؤساء مصالح وهيئات وشركات كبرى وشخصيات كانت تحيط بها الأضواء قدموا إلى القضاء.. وأمام القضاء ليس للرئيس إلا أن يقول عبارته الشهيرة: القضاء هو الذى يقول الكلمة الأولى والأخيرة.. وليس هناك من يستطيع أن يتدخل فى عمله.. واستقلال القضاء من أسس شرعية النظام.. وإذن فليس لأحد أن يسبق القضاء بالإدانة أو البراءة.. وليس لأحد أن يعقب على حكم القضاء. وكشف الرئيس أخيرا ما جرى فى واشنطن فى زيارته الأخيرة عندما حاول بعض أعضاء الكونجرس إغراءه بالذهاب إلى القدس مقابل حصوله على جائزة نوبل للسلام، ولكنه رفض.. رفض الذهاب إلى القدس فى زيارة لن تؤدى إلى الحل أو حفظ الحق الفلسطينى.. رفض زيارة القدس فى ظل احتلال الأراضى الفلسطينية واستمرار القتل والتدمير والحصار.. هكذا يفكر مبارك.. شاغله التنمية.. نصيحته للعرب أن يسرعوا فى التنمية والتحديث.. نصيحته للجميع ألا يهتزوا بالأزمات وأن يتصرفوا بالحكمة.. نصيحته أن تتحقق القوة للعرب.. القوة العربية هى التى تغير الموازين.. والقوة العربية لن تتحقق لكل دولة على حدة.. ليس هناك دولة عربية تملك كل مقومات القوة، ولكن بالتكامل تتحقق القوة للجميع، المستقبل العربى فى أيدينا وبقدر الجدية فى تحقيق التكامل سوف يكون المستقبل أفضل والعكس صحيح. وأخيرا صوت الحكمة على لسان مبارك يقول للدول الكبرى: إن أحداث 11 سبتمبر تفرض التعامل بحكمة.. والتعامل بعنف سيولد العنف المضاد.. وهذه رسالة لها معناها فى هذا الوقت بالذات.. وعسى أن تصل.. وأن يتفهم الجميع ما وراءها ويدركوا أن مصالحهم مرتبطة بالتعامل بحكمة لأن التعامل بالعنف سيولد العنف المضاد. وليتهم يفهمون! وليت المزايدين يدركون أن تشنجاتهم لم تعد تنطلى على أحد. لأن الشعوب وصلت إلى درجة من الوعى تجعل من الصعب أن تقع فى مصيدة الخداع والانفعال كما وقعت من قبل.. ليت المزايدين يفهمون أنهم انكشفوا.. وانكشفت أساليبهم، وأهدافهم، ومن يحركهم، ولمصلحة من يتحركون.. ليتهم يفهمون !.