ثورة عبد الناصر.. ثورة شعب
هل كانت ثورة 23 يوليو من صنع عبد الناصر ومجموعة الضباط الأحرار؟.. وهل كانت هذه المجموعة الصغيرة هى وحدها التى حركت المجتمع المصرى من الإسكندرية إلى أسوان، وخلقت الظروف التى جعلت بريطانيا العظمى عاجزة عن التدخل رغم وجود 70 ألف بريطانى على أرض مصر؟، وهل عبد الناصر ومجموعته الصغيرة هم الذين جعلوا الملك فاروق- وهو ملك البلاد وبيده كل مقاليد السلطة- يستسلم فى لحظة ويحمل عصاه ويرحل دون أدنى مقاومة؟. إن الذين يهاجمون ثورة 23 يوليو على أنها ثورة عبد الناصر، ويحولون أحقادهم على عبد الناصر على الثورة وكل أعمالها.. الحقيقة أنهم يظلمون أنفسهم أولاً.. لأنهم يقدمون الدليل على الجهل بحقائق التاريخ.. وفقدان الحس بالموضوعية لأن هذه الثورة لم تكن ثورة عبد الناصر، ولكنها كانت ثورة الشعب المصرى، والذين يختزلون الثورة فى شخص عبد الناصر يسيئون إلى الشعب المصرى ويسلبونه حقه التاريخى، ويسيئون إلى أنفسهم ويضعون أنفسهم فى خانة أعداء الشعب وأعداء التطور الهائل الذى حدث فى مصر بفضل ثورة الشعب. ولكى نعرف من صاحب ثورة 23 يوليو نستعيد بعض الحقائق والوقائع التى لا سبيل إلى إنكارها، والمثبتة بالوثائق وبالأرقام.. ما معنى أن يوجه 17 من الباشوات والبكوات من قيادات الأحزاب السياسية فى مصر رسالة إلى الملك فاروق يقولون فيها صراحة: إن البلاد تجتاز مرحلة قد تكون من أدق مراحل تاريخها، وإن الاعتقاد ساد بين الناس بأن الحكم لم يعد للدستور، وأن النظام النيابى أصبح حبراً على ورق، وترددت على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء المساوئ التى لا تتفق مع كرامة البلاد حتى أصبحت سمعة الحكم المصرى مضغة فى الأفواه، وأضحت صحافة العالم تصورنا فى صورة شعب مهين يسيم الضيم فيسكت عنه، ويساق كما تساق الأنعام، والله يعلم أن الصدور منطوية على غضب تغلى مراجله، وأن احتمال الشعب مهما يطل فهو لابد منته إلى حد، وأننا نخشى أن تتعرض البلاد إلى إفلاس مالى، وسياسى، وخلقى.. من ينكر أن هذه الرسالة فى ذاتها كانت إنذارا للملك بأن القيادات السياسية التى لها ثقل واحترام تعلن أنها بريئة منه ومن نظام حكمه، وتوجه إليه تحذيرا بأن هناك ثورة قادمة.. قالوها بصراحة.. «إن احتمال الشعب مهما يطل فهو لابد منته إلى حد». فهل فهم الملك فاروق أن العوامل حوله تنذر بثورة؟.. طبعاً لم يفهم.. أعماه المنافقون السياسيون وفريق الخدم والحاشية.. وما معنى أن يقف د. محمد حسين هيكل باشا ليخطب فى ذكرى يوم الجهاد الوطنى (13 نوفمبر 1950) فيقول: إن البلاد تجتاز أوقات عصيبة، وعلى كل مصرى أن يؤدى واجبه لإنقاذ مصر . لم يفهم الملك الإشارات التى كانت تحمل تحذيراً وإنذاراً له بأن عمره الافتراضى كملك للبلاد قد انتهى.. كان قد وصل إلى درجة من العمى.. وكان سكران بأبهة الملك.. وكان يظن أن المصريين كما قال جده توفيق عبيد احساناتنا(!).. ومع فضائحه ومباذله فى أوربا وصل به الأمر إلى حد استصدار فتوى شرعية بأنه من نسل الرسول (ص) ، وأقام احتفالاً تسلم فيه وثيقة شرعية بذلك وكانت بداية تفكيره فى أن يكون وريثاً للخلافة الإسلامية(!).. وظن أن دعاء أئمة المساجد له تعبير عما فى قلوبهم وكان فى الحقيقة يتم تحت ضغط الوزارة والبوليس السياسى. ولم يفهم المعنى من دلالة مظاهرات الطلبة ضده وضد أمه التى وصل بها الأمر إلى حد أن خطفت زوج ابنتها وتزوجته، وكتبت وصية بأن تدفن فى مدافن الأقباط ونفذت وصيتها، وباختصار كان رأس البلاد هو رأس الفساد.. فهل كان يمكن أن يستمر هذا الحال ويعيش شعب مصر منكس الرأس؟.. وتكشفت للرأى العام فضائح الكبار.. تقرر تخصيص سجن للصحفيين والسياسيين.. كان بنك مصر هو الذى يتولى توزيع الدقيق فتم إعطاء العملية لتاجر أحذية.. تحدثت الصحف عن فضائح البورصة وتورط بعض الوزراء فيها.. تدخل أحد الوزراء لإتمام صفقة شراء مبيدات لمكافحة دودة القطن بينما كانت مخازن وزارة الزراعة مليئة بأربعة آلاف طن .. ففجرت فضائح الإسراف وتبديد أموال الدولة.. وانتشار الرشوة فى كل أجهزة الدولة وعلى جميع المستويات.. كما انتشرت ظاهرة سرقة أملاك الدولة بمساعدة كبار رجال الدولة. أحد الوزراء كلف خبير مفرقعات بنسف مشروع للرى وقام بإنشاء المشروع فى مكان آخر لا يبعد كثيراً لمجرد أن المشروع الجديد يوفر لأسرته كميات أكثر من مياه الرى.. لذلك كان طبيعياً أن يقول البيان الأول للثورة: (اجتازت مصر فترة عصيبة فى تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمغمضون فى هزيمتنا فى حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل، وإما فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا فى داخل الجيش رجال نثق فى قدراتهم، وفى خلقهم ووطنيتهم، ولأبد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب).. وكل كلمة فى هذا البيان كانت صادقة فى التعبير عن مشاعر كل مصرى.. كان البرلمان معطلاً .. حل بعد أن حل الملك مجلس النواب ولم يحدد موعداً للانتخابات ولا يستطيع مجلس الشيوخ أن يجتمع فى غياب مجلس النواب. وفى محاولة لتأجيل الانفجار الشعبى أعلن النحاس باشا فى مجلس النواب يوم 8 أكتوبر 1951 إلغاء معاهدة سنة 1936 بين مصر وبريطانيا. وقدم تشريعات لتعديل الدستور بجعل لقب الملك (ملك مصر والسودان) بدلاً من ملك مصر فقط، وأعلنت بريطانيا تمسكها بمعاهدة 1936 لأن إلغاء المعاهدات لا يجوز دولياً أن يكون من جانب واحد، فى نفس الوقت قدمت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وتركيا مذكرة إلى الحكومة المصرية بإنشاء (قيادة الشرق الأوسط) ورفضت الحكومة هذه المذكرة. وبعد أسابيع عين الملك حافظ عفيفى باشا رئيساً للديوان الملكى، وكان حافظ عفيفى قد أعلن فى حديث صحفى إلى (الأهرام) أنه لا يوافق على إلغاء معاهدة 1936، وقد ظهر التناقض بين القصر والحكومة وانحياز القصر لاستمرار الاحتلال والتبعية.. وامتنع التجار عن إمداد قوات الاحتلال بالمواد التموينية.. كما امتنع العمال المصريون عن العمل فى معسكرات قوات الاحتلال.. واستعانت القوات البريطانية بعمال من قبرص ومالطا وغيرهما، واستوردت مواد التموين من الخارج وهددت بقطع البنزين والكيروسين عن بلاد القطر كلها.. وتكونت فرق الفدائيين من الشباب المصرى لمقاومة الاحتلال البريطانى مقاومة مسلحة، وكان هناك شباب من داخل القوات المسلحة يشاركون فى المقاومة بأنفسهم أو بإمداد الفدائيين بالسلاح، وكانت القوات البريطانية تواجه هذه الأعمال بعنف شديد.. وفى يوم قررت تدمير قرية (كفر عبده) بالسويس بحجة أن (الإرهابيين) يحتمون فيها، ونفذت القوات البريطانية تهديدها وهدمت كفر عبده بعد مقاومة باسلة من أبنائها استشهد فيها كثيرون. بعد ذلك طلبت قوات الاحتلال من قوة البوليس المصرى الموجودة فى مبنى محافظة الإسماعيلية الانسحاب منها بحجة أن وجودهم يهدد القوات البريطانية، وكان فؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية فى ذلك الوقت، وأصدر أمره إلى القوة بأن تقاوم إلى النهاية وألا تستسلم لطلب الإنجليز، وكان ذلك يوم 25 يناير 1952، ونفذت القوة الأمر ورفضت التسليم، فأطلق الإنجليز عليها مدافعهم، وقتلوا أكثر من 80 ضابطا وجنديا من البوليس المصرى وهم يقاومون قوات الاحتلال بما لديهم من أسلحة محدودة.. وفى اليوم التالى تحركت مظاهرات الغضب على الاحتلال، وعلى الملك، وعلى النظام كله، وكان هذا هو حريق القاهرة الشهير، يوم 26 يناير، وفى نفس الليلة أعلنت الأحكام العرفية، وأقال الملك وزارة الوفد يوم 27 يناير وكلف على ماهر بتشكيل الوزارة، وفى 30 يناير 1952 تقدم السفير البريطانى بخطاب إلى رئيس الوزراء يتضمن بعض المطالب ومنها محاكمة وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، وجمع الأسلحة من أنحاء البلاد، وإعطاء تسهيلات لرعايا الإنجليز الذين يرغبون فى مغادرة مصر، وطالب السفير البريطانى الحكومة باتخاذ إجراءات ضد الصحف التى تهاجم الاحتلال البريطانى، وطلب أيضاً عدم إصدار قوانين المقاطعة لقوات الاحتلال التى كانت حكومة الوفد تدرس إعدادها، وقال السفير البريطانى لرئيس وزراء مصر: (عليكم إخماد الإرهاب فى منطقة القنال، وأن تتعاون السلطات المحلية المصرية فى مدن القنال مع السلطات العسكرية البريطانية فى ذلك».. وقال السفير فى خطابه لرئيس وزراء مصر: لقد طلبت منكم ذلك وقد وافقت أنت عليها(!).. ومهما قيل عن الذين حركوا حريق القاهرة يبقى السؤال: هل كان يمكن أن يحدث إذا لم تكن نفوس الناس معبأة ومهيأة للاشتراك فيه؟.. أليست أحداث 25 و 26 يناير 1952 هى قمة التعبير عن العجز الكامل للنظام الحاكم فى مصر فى ذلك الوقت؟.. كان النظام السياسى كله قد تفكك وكانت الأحوال تشير إلى انتظار قوى سياسية جديدة. فى نفس الوقت كانت الأحزاب السياسية جميعها قد انتهت من الناحية الواقعية ويصل إلى هذه النتيجة المؤرخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق، ويقول إن الأحزاب فقدت الشعبية، وشعبية الوفد نفسه كانت تتآكل يوما بعد يوم خلال تلك الحقبة، وكانت الأحزاب تضع نفسها فى مركب واحد هو (القصر) وقد أحرقت بنفسها هذا المركب أيضاً.. والخلاصة أن مصر مع بداية عام 1952 كانت قد وصلت إلى طريق مسدود.. لم تشهد مصر استقرار الحياة النيابية.. وعانت مصر من عدم استقرار السلطة التنفيذية- وكما يقول أستاذ التاريخ الدكتور رءوف عباس- كانت الديمقراطية الليبرالية التى عرفتها مصر قبل ثورة 23 يوليو ديمقراطية وهمية، وكان الحكم فى حقيقة الأمر بيد القصر تمارسه نخبة محدودة من الشرائح العليا ربطتها بالقصر المصالح المشتركة، وذلك هو ما يفسر السهولة التى استطاعت بها ثورة يوليو التخلص من هذه الأحزاب بقرار الحل الذى صدر فى يناير 1953 فلم تتحرك الجماهير للدفاع عن تلك الأحزاب وهذا يعنى أن الأحزاب لم تكن لها قواعد شعبية ولم تكن لها كوادر، كما لم تكن لها برامج حقيقية تعالج مشاكل المجتمع غير الشعارات حول الاستقلال والحرية، ولم تفكر الأحزاب فى توفير الرعاية والإنصاف للطبقات المحرومة ولم يكن لهذه الأحزاب فى الحقيقة غير هدف واحد هو الوصول إلى السلطة، ولم يكن لديها ما تنشره فىصحفها غير المهاترات.. كان الاقتصاد المصرى تابعا لاقتصاد دولة الاحتلال .. وكان الإقطاع قد وصل إلى درجة لم تحتمل، كان أحد الأمراء يملك 27 ألف فدان، وكان الملك ذاته يملك عشرات الآلاف من الأفدنة، وكانت هناك عائلات تملك عدة قرى بأكملها، ومعنى ذلك أن الفلاحين الأجراء كانوا يعيشون فى ظل نظام اقرب إلى نظام العبودية.. وعمال التراحيل سلعة بأرخص الأسعار لا يجدون قوت يومهم إلا بمشقة.. وأخذت أعداد الفلاحين المعدمين تتزايد حتى اصبحت نسبة المعدمين من سكان الريف 80% من جملة السكان فىعام 1952 مما يعكس بشاعة مشكلة الفقر فى الريف المصرى، كان ملاك الأراضى الكبار والصغار 20% فقط من سكان الريف عام 1952 وكبار الملاك نصف فى المائة أو أقل قليلا يملكون 35% من الأراضى الزراعية فى مصر.. وكان ملايين الفلاحين مصابين بأمراض مزمنة أبسطها البلهارسيا والانكلستوما.. وكان الأجانب يسيطرون على الاقتصاد المصرى ويملكون جميع البنوك فيما عدا بنك مصر فقط ويملكون غالبية شركات التأمين والشركات التجارية والبورصة وشركات التعدين والزراعة.. وجهاز الحكم فى مصر كان قد أصبح جهاز تسلط واستبداد وليس جهاز خدمات وحماية لمصالح المواطنين. والذين يتبادلون الحكم كانوا جميعا من كبار الملاك وهم مجموعة عائلات لم يكن لديها الوعى الاجتماعى وكانت هذه الطبقة تزداد أنانية حتى تركت الحبل على الغارب للتناقضات الاجتماعية لتعصف بالاستقرار الاجتماعى وتهدد النظام الذى استفادت تلك الطبقة المتسلطة منه، ولم تكن فى مصر عموما سياسة اجتماعية وكانت ظاهرة سوء توزيع الثروة بمثابة قنبلة موقوتة لم يلتفت إليها الحكام المشغولون بتكديس الثروة لأنفسهم. وكل من طالب بإصلاح أحوال الفقراء كان يواجه بالرفض والاستنكار. وعلى سبيل المثال طالب حامد جودة بك فى مجلس النواب كبار الملاك بتحسين أحوال عمال الزراعة بإقامة مساكن صحية لهم مثل التى يقيمونها لمواشيهم (!) وأن يهتموا بعلاج الفلاح المريض كما يهتمون بعلاج مواشيهم إذا إصابها المرض، فلم يلق حديثه آذاناً صاغية، بل كان عرضة للنقد واتهم بالترويج لمبادئ هدامة(!). وعندما طرح قانون التعليم الأولى على البرلمان اعتبر بعض النواب أن تعليم أولاد الفقراء خطر اجتماعى هائل لا يمكن تصور عواقبه، وطالبوا بأن يقتصر التعليم على أبناء القادرين من أهل الريف، وعبّر النواب عن خشيتهم من أن يفسد التعليم أبناء الفلاحين، ويجعلهم يعتادون حياة المدينة، ويخرجون إلى الحقول بالبلاطى والأحذية ويركبون الدراجات، ويطالبون بركوب السيارات للذهاب إلى الحقول (!). كذلك عندما طرح قانون التعليم الإلزامى فى البرلمان أبدى بعض النواب خشيتهم من عدم جدوى تعليم أبناء الفلاحين الجغرافيا والتاريخ والأجدى أن يتعلموا شيئاً عن الزراعة، ومقاومة دودة القطن، وأبدوا مخاوفهم من أن يرتدى الفلاحون بعد ذلك «جلاليب مكوية وطواقى بالأجور.. وأحذية».. وبذلك يتحول أصحاب الجلاليب الزرقاء إلى أصحاب جلاليب مكوية (!).. يذكر الدكتور رءوف عباس أمثلة كثيرة للدلالة على غياب العدالة الاجتماعية، وغياب الوعى الاجتماعى عند كبار الملاك مما جعلهم يرون بقاء الطبقات الفقيرة تعيش فى فقر وجهل ومرض أضمن لمصالحها، وهكذا وقفت هذه الطبقة ضد كل علاج يطرح لحل بعض جوانب المسألة الاجتماعية بوضع مسكنات لها، فضلا عن التفكير فى الحلول الجذرية.. لذلك شهدت الحقبة بين ثورتى 1919 و 1952 مظاهر الرفض الاجتماعى من جانب الطبقات المسحوقة، وإذا كان الفلاحون يتميزون بالصبر إلا أن ضغوط الحياة كانت تدفعهم إلى التمرد على واقعهم الاجتماعى السيىء فى صورة هبِّات غير منظمة سرعان ما يتم القضاء عليها وإنزال العقوبات الشديدة بالمشاركين فيها دون اهتمام بحل المشكلات التى أدت إلى تلك الحوادث.. لذلك لم يكن غريبا أن يحدث الانهيار تدريجاً فى النظام السياسى إلى أن وصل فى عام 1952 إلى الدرجة التى اصبح الأنهيار سريعاً وقوياً ومتجهاً إلى النهاية. والدليل على ذلك تعدد الوزارات وسقوطها بسرعة تدل على أى النظام يهتز والبلاد على وشك الانفجار.. وزارة على ماهر تسلمت الحكم يوم 27 يناير وخرجت فى أول مارس 1952 أى أنها استمرت فى الحكم 33 يوماً فقط لا غير .. وحتى خلال هذه الفترة حدث تعديل وزارى يوم 7 فبراير 1952 بإدخال وزراء جدد وإنشاء وزارات جديدة. وجاءت وزارة أحمد نجيب الهلالى باشا يوم أول مارس 1952 وخرجت يوم 28 يونية 1952 أى أنها استمرت أقل من أربعة أشهر، وكان نجيب الهلالى باشا يعتبر (بطل تطهير البلاد من الفساد والفاسدين) ويقول طارق البشرى فى كتابه عن الحركة السياسة فى مصر أن قيام الهلالى باشا بدور بطل التطهير قد تم بناء على (إيحاء أمريكى) عن طريق أحد كبار المسئولين الأمريكيين جاء مبعوثا من دين اتشيسون وزير الخارجية.. فى 24 مارس 1952 أصدر الملك مرسوما بحل مجلس النواب على أن تجرى الانتخابات لمجلس جديد فى 18 مايو ثم أعلن عن تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى.. وتعطلت الحياة النيابية فى البلاد فى الفترة التى يقول المنافقون إنها كانت قمة الديمقراطية(!).. ثم جاءت وزارة حسين سرى باشا يوم 2 يوليو 1952 وخرجت يوم 22 يوليو أى أنها استمرت 20 يوماً فقط لا غير.. وكان وزراء حسين سرى هذه المرة من رجال لم يشتغل معظمهم بالسياسة وأثار المشاعر تعيين كريم ثابت وزيراً فى هذه الوزارة وهو من حاشية الملك الذين تحيط بهم الشبهات والاتهامات ويحمل لهم الناس الكراهية.. وزارة حسين سرى باشا خلال العشرين يوما التى عاشتها هى التى واجهت تصاعد الأحداث.. وتفجر المواقف.. وظهور بوادر الثورة.. بدأت بمشكلة انتخاب مجلس إدارة نادى الضباط برئاسة محمد نجيب ضد إرادة الملك.. وكان ذلك تحدياً سافراً للملك وحاشيته الفاسدة.. حاول حسين سرى تهدئة القائد العام للجيش حيدر باشا، وتهدئة القصر ومجموعة الحاشية التى أصبحت لها كلمة فى إدارة شئون البلاد ودفعها إلى الهاوية.. وتلقى رئيس الوزراء فور تعيينه مذكرة من الملك تتضمن إنذارا للقائد العام محمد حيدر باشا بأن يعتبر مفصولاً إذا لم يعمل خلال خمسة أيام على حل مجلس إدارة نادى الضباط ونقل أعضائه، وسارع حيدر باشا لتنفيذ الأمر الملكى بحل المجلس، وأثار ذلك الضباط، وقدم اللواء محمد نجيب استقالته، وحاول رئيس الوزراء إنقاذ الموقف فطالب من الملك تعيين اللواء محمد نجيب وزيراً للحربية ورفض الملك هذا الاقتراح فقدم حسين سرى باشا استقالته يوم 20 يولية 1952 وقال الملك فى خطاب قبول الاستقالة (إنكم آثرتم أن تتخلوا عن المهمة فى الظروف الدقيقة التى تواجهها البلاد، والتى أخذ يتزايد فيها الشعور بثقل التبعات).. ومعنى هذه الكلمات أن الملك كان قد أدرك أخيراً.. ومتأخراً جداً أن البلاد تمر بظروف دقيقة وهذا هو التعبير الملكىعن حقيقة أن النظام كان يهتز.. وأن العرش كان يهتز وأن الزلزال قادم لا محالة.. وجاءت وزارة نجيب الهلالى الثانية يوم 22 يولية 1952 وخرجت يوم 24 يولية 1952 وكان عمرها 48ساعة فقط لا غير.. وكان نجيب الهلالى قد اشترط إبعاد كريم ثابت والعناصر الفاسدة من رجال الحاشية المحيطة بالملك وكان هذا المطلب فى ذاته من أسباب قيام الثورة.. وجاء إدراك ضرورة التطهير متأخرا جداً وبعد أن كان قطار الثورة قد تحرك.. صراعات داخل القصر.. وصراعات بين الأحزاب وصراعات اجتماعية بين الظالمين والمظلومين وصراعات بين القوى الوطنية والاستعمار والتبعية.. بعد 18 ساعة من تشكيل وزارة الهلالى كانت الثورة قد قامت وأذاعت بيانها الأول.. وخرجت جماهير الشعب المصرى تهتف بحياة الثورة والثوار. كانت الجماهير معبأة.. والنفوس فاض بها الكيل.. وأحوال البلاد وصلت إلى نقطة الانفجار.. ولو كانت الثورة من صنع عبد الناصر ومجموعته لكان أسهل شىء على الملك أن يسحقها.. وكان من الممكن أن تتحرك قوات الاحتلال البريطانى لقمع الثورة وحماية الملك.. وكان من الممكن أن يطلب الملك مساعدات خارجية لقمع هذه (الحركة) أو (الانقلاب) أو (التمرد). ولكن ذلك لم يكن ممكنا.. لأنها لم تكن حركة.. ولم تكن انقلاباً .. ولم تكن تمرداً. كانت ثورة.. ولم تكن ثورة فرد مهما تكن عبقريته.. ولا ثورة مجموعة مهما تكن قوتها.. ولكنها كانت ثورة شعب. وهذه هى الحقيقة.. ولو كره الكارهون.. (!).. ?