كيف أصبحت أمريكا إمبراطورية استعمارية؟
البروفيسور بيتر كروج Peter Krogh أستاذ السياسة فى جامعة جورج تاون بواشنطن واحد من أهم المفكرين فى السياسة الاستراتيجية، كتب دراسة فى مجلة (فورن افيرز) بعنوان (طموح أمريكا الامبريالى) يحلل فيها كيف أصبحت أمريكا قوة استعمارية، ووصلت إلى درجة غزو بلاد خارجية، واحتلالها عسكريا، وفرض الحكم العسكرى الأمريكى على الشعوب، والتقدم إلى الأمم المتحدة بطلب لاعتبارها سلطة احتلال فى هذه البلاد.
هذا الانقلاب الكبير فى الاستراتيجية الأمريكية كيــف حـدث؟ ولماذا؟ وإلى متى؟
يقول بيتر كروج إن الأفكار الاستراتيجية الجديدة بدأت تسود فى أمريكا منذ أعلن الرئيس بوش الحرب التى أطلق عليها (حرب ضد الإرهاب)، وهذه الاستراتيجية الجديدة تهدف إلى تغيير العالم، وإعادة تركيب العلاقات الدولية على أساس عالم القطب الواحد، أما الوسيلة لتحقيق ذلك فتتلخص فى أن تعمل أمريكا منفردة سواء فى استخدام أمريكا للقوة، أو أخذ زمام المبادرة، أو اتخاذ القرارات، دون أن تتقيد بأحكام القانون الدولى، أو بالمجتمع الدولى، وهذه الرؤية تشكل امبريالية جديدة، تعطى فيها أمريكا لنفسها الحق فى القيام بالدور العالمى فى وضع القواعد الدولية التى تراها محققة لمصالحها، وتحدد أنواع التهديد التى يمكن أن تمارسه للضغط على الدول، وتكون هى التى تحدد معايير العدالة، ومتى وأين تستخدم القوة.. وهى باختصار رؤية تتلخص فى السيادة المطلقة لأمريكا دون شروط، بينما تضع أمريكا الشروط للدول الأخرى. وتستند هذه الرؤية إلى القول بأن التهديدات الإرهابية تفرض وجودها، كما تستند إلى شعور بأن أمريكا قد وصلت إلى درجة من القوة والقدرة على الهيمنة غير مسبوقة فى التاريخ.. وهذه الرؤية الاستراتيجية الراديكالية قادرة على تغيير النظام العالمى تغييرا شاملا، وإنهاء القواعد الدولية التى ظلت قائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطلع القرن الحادى والعشرين.
وفى ضوء هذه الاستراتيجية الإمبريالية الجديدة يمكن فهم الحرب الأمريكية فى أفغانستان والعراق، وملاحظة أن أمريكا لم تلجأ إلى الشرعية الدولية، ولم تعقد القمم مع الحلفاء والأصدقاء ولم تهتم بتكوين تحالف حقيقى، ولكنها ذهبت إلى الحرب مع أتباع وليس مع حلفاء.. وهذه القوة الأحادية الأمريكية فرضت على الدول جدول أعمال أمريكيا عن الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل.
ويقول بيتر كروج: إن هذه الاستراتيجية الإمبريالية الجديدة لأمريكا تهدد بتمزيق المجتمع الدولى، وإهدار مبدأ المشاركة السياسية الدولية فى وقت كان ينبغى على أمريكا أن تعمل على زيادة المشاركة السياسية الدولية، وتقوية تماسك المجتمع الدولى، ولذلك فإن هذا الاتجاه محفوف بالمخاطر، وسوف ينتهى بالفشل، ولن يستمر طويلا، وفى نفس الوقت فإنه يلحق الضرر دبلوماسيا بأمريكا. ومن دروس التاريخ، فإن هذا الاتجاه سوف يثير المقاومة والعداء، وستجد أمريكا نفسها فى عالم من الأعداء، وستجد العالم أكثر انقساما.
***
والسياسة الخارجية الأمريكية منذ الأربعينات كانت قائمة على نظريتين فى الاستراتيجية، وهاتان النظريتان قام عليهما النظام الحديث، النظرية الأولى نظرية واقعية، قائمة على الاحتواء، والردع، والحفاظ على توازن القوة فى العالم، ولذلك ملأت أمريكا الفراغ الذى نتج عن انهيار الإمبراطورية البريطانية، وانهيار النظام الأوربى، وظهور خطر الاتحاد السوفيتى وسياسته نحو التوسع. وكان أساس النظرية الاستراتيجية الأمريكية هو (الاحتواء) ومنع الاتحاد السوفيتى من توسيع نطاق نفوذه، وتحقق الحفاظ على النظام العالمى بتحقيق التوازن بين القطبين: بين المعسكر الأمريكى، والمعسكر السوفيتى، وكان الردع النووى هو الضمان للاستقرار فى العالم، ولأول مرة أصبحت الأسلحة النووية العامل المؤثر فى ضمان الاستقرار، بعد أن أصبحت نظرية الدمار المتبادل قوة جعلت الحرب بيت القوتين مستحيلة، ولكن لم يعد الاحتواء وتوازن القوة العالمى يحكمان السياسة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، ولم يعد للردع النووى القوة والأهمية، وإن كان لهما تأثير فى استقرار العلاقات بين أمريكا والصين وروسيا والعرب! وأثمرت هذه الاستراتيجية قيام حلف الأطلنطى، والتحالف الأمريكى اليابانى، وقيادة أمريكا لعدد من الدول فى عمليات حفظ السلام والأمن، واحتفاظ الولايات المتحدة بوجود عسكرى فى أوربا، وشرق آسيا، وفرض حماية أمريكا لحلفائها، وتحديد قواعد العلاقة بين أمريكا وحلفائها وأصدقائها باعتبارها القوة العسكرية التى لها القيادة. ومع هذه الاستراتيجية العسكرية والأمنية بقيادة أمريكا ظهر نظام سياسى عالمى جديد بزعامة أمريكا أيضا. والمفروض وفقا لهذه الاستراتيجية أن تعمل أمريكا مع حلفائها وأصدقائها على أساس الاتفاقات والتشاور لحل الخلافات التى تنشأ، وكان المفروض أيضاً أن تقوم علاقات أمريكا على أساس الاحترام، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، والسماح بوجود التنافس دون تفكير فى حل الخلافات أو إنهاء المنافسة بالحرب.
ومن هنا ظهر الاختلاف بين استراتيجية أمريكا فى عهد بوش الابن، وعهد كلينتون السابق، بوش يصف الاستراتيجية الجديدة بأنها الاستراتيجية الواقعية الجديدة، كلينتون كان يركز على بناء الدولة من الداخل، والعمل الدولى الجماعى، واستخدام القوة بتردد، والاهتمام بتعزيز العلاقات مع الدول الأخرى، وإعادة بناء القوة العسكرية الأمريكية، وكان من أهم ملامح استراتيجية كلينتون الجهود التى بذلها لضم روسيا إلى نظام الأمن الغربى، والاعتدال فى لغة التعامل مع الصين، وإعطاء دور للدول الأوربية الكبرى والدول الاسيوية للإبقاء على استقرار العالم.
***
اما الاستراتيجية الأمريكية الثانية التى ظهرت أثناء الحرب العالمية الثانية فهى استراتيجية امبريالية، حيث كانت الولايات المتحدة تخطط لإعادة بناء الاقتصاد العالمى، على أساس الليبرالية واقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادى، ولم يكن ذلك من صنع رجال الأعمال وخبراء الاقتصاد الأمريكيين وحدهم، ولكنه كان من صنع السياسيين والاستراتيجيين أيضا، وهكذا كان الحال.. الاستراتيجية الواقعية هدفها مقاومة القوة السوفيتية، والاستراتيجية الليبرالية هدفها منع قيام تكتلات إقليمية، وفتح الأسواق للصراع على التجارة، والمنافسة الاستراتيجية، والدعوة إلى حرية التجارة العالمية، ونشر الديمقراطية، ووراء هذه الاستراتيجية فكرة ملخصها أن الولايات المتحدة قادرة على استخدام قوتها لوضع قواعد جديدة فى العلاقات الدولية تلائمها وتحقق مصالحها ويساعد على زيادة قوتها ونفوذها.. وفعلا تم تنفيذ هذه الاستراتيجية.. وظهرت مؤسسات مالية واقتصادية وتجارية أمريكية تؤثر فى الاقتصاد العالمى وتتحكم فى الأسواق، وظهرت منظمة التجارة العالمية، ومنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية وغيرها وغيرها.. وكلها تربط العالم الصناعى الديمقراطى معا. وفى التسعينات استمرت الولايات المتحدة فى تنفيذ هذه الاستراتيجية الليبرالية، وحاولت إدارة بوش الأب وإدارة كلينتون صياغة رؤية للنظام العالمى لا تعتمد على التهديد، فتحدث بوش الأكبر عن أهمية المجتمع الممتد عبر الأطلنطى تعبيرا عن احترام أمريكا لأوربا، كما تحدث عن توحد منطقة اسيا، وبهذه الاستراتيجية قامت التحالفات والشراكة المبنية على القيم، والتقاليد، والمصالح المتبادلة، والحرص على الحفاظ على الاستقرار العالمى، وكذلك عملت إدارة كلينتون على نشر الديمقراطية فى العالم وفتح الأسواق، وبذلك قدمت هذه الاستراتيجية الأمريكية أساسا للمجتمع العالمى والإقليمى، وكانت حركة التجارة والرأسمالية من أهم أسلحة الولايات المتحدة للإصلاح السياسى فى الدول وإدماجها فى هذا النظام العالمى الاقتصادى والسياسى والاستراتيجى.
إدارة بوش الثانى مختلفة.. فهى ترى أن الأسواق الحرة واندماج الدول فى نظام الاقتصاد الغربى خطوة للضغط على الدول من أجل الإصلاح السياسى.. ولذلك أيضا ساند بوش بقوة جولة المفاوضات لمنظمة التجارة العالمية فى الدوحة بقطر عام 2002 لأنه رأى أنها ستحقق لأمريكا منافع اقتصادية وسياسية، وبعد 11 سبتمبر وصل الاهتمام بفتح الأسواق للتجارة الحرة إلى حد أن ممثل التجارة الأمريكى روبرت زوليك ربط التوسع التجارى بالقتال ضد الإرهاب، وأعلن أن موقف أمريكا قائم على الربط بين التجارة، والتنمية، والاندماج فى النظام الاقتصادى العالمى، والاستقرار السياسى، على أنها منظومة واحدة لا تنفصل، كما أكد مدير التخطيط السياسى بوزارة الخارجية ريتشارد هاس إلى الهدف الأساسى للسياسة الخارجية الأمريكية هو ربط الدول والمنظمات الدولية معا بترتيبات تدعم مسايرة العالم للقيم والمصالح الأمريكية.. وهذا المفهوم يعكس الاستراتيجية الليبرالية، وفى نفس الوقت اتخذت الإدارة الأمريكية إجراءات للحماية تتعارض مع استراتيجيتها عن حرية التجارة وحظر فرض القيود أو الحماية.. فرضت إجراءات حماية على الصلب. والمنتجات الزراعية، مما أثار القلق حول العالم من نوايا أمريكا.
***
عندما كانت أمريكا تعمل بالاستراتيجية الواقعية كانت ملتزمة بالتزامات أمنية كبيرة حول العالم، وعندما بدأت فى العمل بالاستراتيجية الليبرالية عملت أمريكا على الانفراد بالقيادة لتحقيق مصالحها وتوسيع نطاق نفوذها، ولكنها قامت بذلك بطريقة لا تهدم المجتمع الدولى، ولم تصل ممارسات القوة الأمريكية إلى حد زعزعة الاستقرار العالمى، وأفادت الاتفاقيات والمشاركات كلا من أمريكا ودولا كثيرة أخرى، ومع نهاية التسعينات أثمرت هذه الاستراتيجية نظاما سياسيا دوليا غير مسبوق، وتكوّن ائتلاف عالمى من الدول الديمقراطية المرتبطة معا من خلال الأسواق، والمؤسسات، والمشاركات الأمنية.
وكانت أمريكا فى هذا النظام الدولى تقدم لشركائها الأوربيين والاسيويين الحماية والأمن، وتفتح أمامهم الطريق للوصول إلى الأسواق الأمريكية، والحصول على التكنولوجيا، وتدفقات استثمارية فى نظام اقتصاد عالمى مفتوح، وفى المقابل كانت هذه الدول شركاء لأمريكا يمكن لها الاعتماد عليهم، يقدمون لها المساندة السياسية، والاقتصادية، ويفتحون أسواقهم لها، وفى نفس الوقت كانت دول أوربا وآسيا الشرقية تتقبل عن رضا قيادة أمريكا والانضواء تحت قيادتها فى نظام سياسى واقتصادى مقبول من الجميع، وأيضا فتحت أمريكا أبوابها لشركائها وألزمت نفسها بالعمل معهم، وبذلك أقامت الولايات المتحدة نظاما قائما على مؤسسات، وشركاء، واستقرار العلاقات وفقا للقواعد، وبمشاركة أوربا وآسيا الشرقية فى المشاورات باستمرار وفى اتخاذ القرارات.. وبذلك أصبحت قوة الولايات المتحدة مستقرة، وآمنة، وعاش العالم داخل النظام الأمريكى عن رضا وقبول، وكان هذا النظام هو أكثر النظم الدولية استقرارا وازدهارا فى التاريخ العالمى، إلى أن جاءت إدارة بوش الابن بأفكار جديدة، تبلورت بأحداث 11 سبتمبر، وكشفت الهيمنة الأمريكية عن وجهها وأدى ذلك إلى زعزعة النظام الدولى، والاتفاقات والصفقات السياسية القائمة على أساسه.
***
استراتيجية إدارة بوش قائمة على رؤية مختلفة هى أن تستخدم الولايات المتحدة نفوذها، وقوتها، لإعادة تشكيل العالم وفقا لنموذج جديد، دون أن تتقيد بحلفائها وشركائها، ولا بالقوانين والاتفاقات، ولا بالمؤسسات الدولية، وتعمل وحدها وفقا لرؤيتها للتهديدات الإرهابية والدول الشريرة التى تسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل، على أن تستخدم أمريكا قوتها العسكرية التى لا مثيل لها لفرض إرادتها وإدارة النظام العالمى.
ولهذه الاستراتيجية الجديدة سبعة عناصر، تبدأ بالتزام أساسى بالإبقاء على العالم كما هو الآن أحادى القطب وعدم السماح بظهور منافس للولايات المتحدة، وكذلك عدم السماح لأى تحالف أو ائتلاف دولى بتحقيق السيطرة بدون الولايات المتحدة. وقد عبّر الرئيس بوش الثانى عن هذا الجانب من الاستراتيجية الجديدة وجعلها نقطة الارتكاز فى الأمن القومى الأمريكى، وذلك فى خطابه فى يونيو 2002 حين قال: (إن أمريكا تمتلك الآن، وسوف تحتفظ دائما، بقوات عسكرية لا يمكن الوقوف أمامها بالتحدى). وبذلك أصبحت الولايات المتحدة تتبنى نظرية للأمن القومى لا تعتمد على الاستراتيجية الواقعية التى كانت أمريكا فيها أكثر تواضعا، وتعمل داخل نظام عالمى متوازن القوى، ولم تعد أمريكا تعمل من خلال المؤسسات والديمقراطية والأسواق الحرة المفتوحة، لأن تلك المحاور تقلل من أهمية سياسة القوة، وأمريكا الآن ترى أنها ستكون أكثر نفوذا من الدول الكبرى الأخرى، بحيث تختفى المنافسة بينها وبين هذه الدول، وهذه النظرية ظهرت بصورة مشوشة فى نهاية عهد بوش الأول عندما تقدم مساعد وزير الدفاع فى ذلك الوقت- بول وولفويتز Poul Wolfowitz بمذكرة إلى البنتاجون تلخص هذه النظرية كما يلى: إن الولايات المتحدة- بعد انهيار الاتحاد السوفيتى- يجب أن تعمل على منع ظهور منافسين فى أوربا وآسيا، ولكن لم يكن لهذا الهدف الاستراتيجى أهمية عملية فى التسعينات، لأن نمو الولايات المتحدة كان أسرع من كل الدول الكبرى، ونجحت أمريكا فى خفض الإنفاق العسكرى، وركزت على الاستثمار فى تقدم قوتها التكنولوجية، أما الآن- باستراتيجية إدارة بوش الثانى فإن أمريكا أصبح لها هدف جديد هو منع أية دولة فى العالم من محاولة اللحاق بها، وذلك بإنجازاتها الهائلة فى التكنولوجيا الفائقة مثل الروبوت، والليزر، والأقمار الصناعية، والصناعات الدقيقة وغيرها، بحيث لا تستطيع أية دولة، أو مجموعة دول مجاراتها أو المنافسة معها.
***
الفكرة التى تسيطر على الإدارة الأمريكية الحالية أنها تواجه تهديدات من نوع جديد، وعليها أن تبادر بمهاجمتها بضربات وقائية، تتمثل فى جماعات صغيرة من الإرهابيين قد تحصل على أسلحة نووية وكيمائية وبيولوجية شديدة التدمير ويمكنها بذلك أن تسبب كوارث فاجعة، وتعتقد الإدارة الأمريكية أن هذه الجماعات الإرهابية لا يمكن استمالتها كما لا يمكن ردعها، وليس هناك سوى إقصائها، وكان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع قد صاغ هذه الرؤية المخيفة بطريقة جذابة عندما قال: إن هناك أشياء نعلمها، وهناك أشياء مجهولة بالنسبة لنا، ونحن نعلم أننا لا نعلمها، وكل عام نكتشف القليل من هذه الأمور المجهولة التى لا نعلمها، وبمعنى آخر، من الممكن أن تكون هناك جماعات من الإرهابيين لا يعلم أحد عنها شيئا، وربما تكون لدى هذه الجماعات أسلحة نووية وكيمائية وبيولوجية لا تعلم الولايات المتحدة أنهم تمكنوا من الحصول عليها، وربما تكون هذه الجماعات عازمة وقادرة على المهاجمة دون إنذار، وفى وجود الإرهاب ليست لدينا فرصة للخطأ، لأن خلايا صغيرة مكونة من أشخاص غاضبين تستطيع أن تلحق الضرر بالعالم وقد يكون هذا الضرر مما لا يمكن تخيله، فهذه الخلايا ليست مجموعة دول، وهى لا تعمل وفقا لقواعد اللعبة المقبولة.
هذا هو العنصر الثانى فى الاستراتيجية الأمريكية، أما العنصر الثالث فيتلخص فى عدم صلاحية المفاهيم التى كانت سائدة فى مرحلة الحرب الباردة، لأنها أغفلت أمرًا مهما هو أن الردع والسيادة وتوازن القوة منظومة واحدة، وعندما يصبح الردع غير فعّال تبدأ المنظومة كلها فى الانهيار، والتهديد اليوم ليس من قوى عظمى، ولكنه من شبكات ومنظمات وخلايا إرهابية تتخطى الحدود بين الدول وليس لها عنوان، ولا يمكن ردعها لأن أعضاءها راغبون فى الموت من أجل قضيتهم، أو قادرون على الهرب من الانتقام، وعلى ذلك فإن استراتيجية الدفاع القديمة القائمة على الصواريخ المتطورة، والأسلحة الأخرى القادرة على التصدى للضربة الأولى وجاهزة للرد بضربة انتقامية، هذه الاستراتيجية لم تعد صالحة لضمان الأمن بعد الآن، إذن فلم يعد سوى خيار وحيد، هو الهجوم، وبناء على ذلك فإن استخدام القوة لابد أن يكون إجراء وقائيا، بالقضاء على التهديدات المحتملة قبل وقوعها، وقبل أن تتسبب فى وقوع كارثة، ولكن هذه النظرية قد تؤدى إلى فوضى فى القوانين الدولية الخاصة بالدفاع، وقد تؤدى إلى انقلاب فى معايير الأمم المتحدة الخاصة بالاستخدام المشروع للقوة، ولذلك صاغ دونالد رامسفيلد المبرر لهذا العمل الوقائى هكذا: (إن غياب الدليل ليس دليلا على عدم وجود أسلحة الدمار الشامل)، وبذلك المبرر لن يكون هناك معنى للمعايير الدولية للدفاع عن النفس وفقا للمادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، ويجب أن نتذكر أن الطائرات الإسرائيلية عندما قامت بتدمير المفاعل النووى العراقى عام 1981 وصفت إسرائيل هذا العمل بأنه دفاع عن النفس وأدانه العالم باعتباره عملا عدوانيا، وحتى رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، ومندوبة أمريكا فى الأمم المتحدة جين كيركباتريك وجها انتقادا شديدا لهذا العمل، وشاركت الولايات المتحدة فى إصدار قرار مجلس الأمن بإدانة هذا الهجوم.
ولكن نظرية الأمن كما تبلورت فى إدارة بوش الابن تقضى بأن تنحدر أمريكا إلى هذا الموقف الذى أدانته عام 1981، وهذه المرة تبادر بالردع العسكرى دون وجود تهديد واضح، وتدّعى الولايات المتحدة الآن أن لها الحق فى استخدام القوة العسكرية الوقائية، وفى خطابه الذى ألقاه فى وست بوينت أوضح بوش هذه النظرية عندما قال: (من الضرورى أن تكون القوات المسلحة الأمريكية مستعدة للضرب فى أية لحظة، وفى أى ركن مظلم من العالم، بحيث تدفع الثمن كل الدول التى تقرر العدوان واستخدام الإرهاب).
والإدارة الأمريكية تدافع عن هذه النظرية الجديدة باعتبارها تعديلا ضروريا لبيئة دولية يتزايد فيها الغموض، وتتغير التهديدات، وهذه السياسة يمكن أن تصبح بسهولة نظرية للأمن القومى، تعتمد على التخمين بوجود تهديد، ضاربة عرض الحائط بالمعايير الدولية التى تطالب بوجود أدلة قاطعة على وجود عدوان أو تهديد لكى تبرر استخدام القوة للردع.
ويأتى العنصر الرابع فى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة كنتيجة لهذا الفكر الذى أعاد صياغة مفهوم السيادة، والفكر الجديد يبدأ بأن هذه الجماعات الإرهابية لا يمكن ردعها إلا بأن تكون الولايات المتحدة مستعدة للتدخل فى أى مكان وفى أى وقت للمبادرة بتدمير مصادر الخطر المحتمل، وما دام الإرهابيون لا يحترمون الحدود، فإن على الولايات المتحدة ألا تحترم الحدود، وعلاوة على ذلك فإن الدول التى تؤوى الإرهابيين برضاها أو لعدم قدرتها على فرض القوانين فى أراضيها، فإنها بذلك تفقد الحق فى السيادة، وقد أشار ادوارد هاس إلى هذه الفكرة وقال: (إن السيادة للدول تستلزم قيامها بالتزامات معينة أولها. هو ألا تقوم الدولة بالعدوان على شعبها، وثانيها: عدم مساندة الدولة للإرهاب بأية طريقة، وعندما تفشل دولة فى القيام بهذه الالتزامات فإنها تفقد بذلك بعض المزايا الطبيعية للسيادة بما فيها الحق فى أن تعيش داخل حدودها دون تدخل خارجى، ويكون للدول الأخرى وأولها الولايات المتحدة الحق فى التدخل، وفى حالة الإرهاب يكون للولايات المتحدة الحق فى القيام بعمل وقائى للدفاع عن نفسها، ولها الحق أن تقوم بذلك على أساس التوقع عندما تتوافر لديها أسباب لوجود احتمال بالهجوم عليها، دون انتظار لوقوع الهجوم فعلا.. وهنا تتشابك مشكلة الإرهاب مع مشكلة انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومن حق الولايات المتحدة أن تشعر بالقلق لوجود عدد محدود من الدول الاستبدادية لديها قدرات لتطوير أسلحة الدمار الشامل، وخاصة العراق وإيران وكوريا الشمالية، ويمكن أن تصل هذه الأسلحة إلى أيدى الإرهابيين، وهذا يجعل المبادرة إلى ردع نظم الحكم فى هذه الدول أمرا ضروريا لإزالة خطورة هذه الإمكانات، وهذا لا يمنع من إمكان وصول أسلحة الدمار الشامل إلى الشبكات الإرهابية وعلى ذلك وضعت إدارة بوش مبدأ آخر ملخصه: أن امتلاك حكومات غير مسئولة أو ليست صديقة لأمريكا لهذه الأسلحة هو فى ذاته خطر يجب القضاء عليه، فى الاستراتيجية القديمة كانت أمريكا تكتفى بالضغط على نظم الحكم الاستبدادية وتتسامح معها فى النهاية، وبعد ظهور الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل لم تعد هذه التهديدات مقبولة، وعلى ذلك فإن الدول التى يحتمل أن تكون خطرا على أمريكا يمكن أن تكون هدفا للقوة الأمريكية دون أن تكون هذه الدول قد قامت بخرق أو انتهاك القوانين الدولية القائمة، فالمعيار ليس القانون ولكن واشنطن هى المعيار، وهى التى تحدد إن كانت لدى هذه الدولة أو تلك قدرة محتملة على الإضرار بأمريكا.
***
وقد يكون إعادة صياغة مفهوم السيادة قائما على مفارقة، فمن ناحية تؤكد الاستراتيجية الجديدة مرة أخرى على أهمية الدولة إذا كانت كل الحكومات مسئولة، وقادرة على فرض القانون داخل حدودها، وفى هذه الحالة تكون لهذه الدول السيادة على أراضيها، حيث يجد الإرهابيون صعوبة شديدة فى القيام بعملياتهم، ووفقا لنظرية بوش الجديدة بناء على ذلك فإن الحكومات مسئولة عن كل ما يحدث داخل حدودها، ومن ناحية أخرى فإن السيادة مشروطة بشروط. فإذا فشلت حكومة فى تنفيذ هذه الشروط والعمل كدولة مسئولة وملتزمة بالقانون فإنها تفقد الحق فى السيادة.. وفى الحقيقة ليس فى هذا المبدأ جديد.. فلقد انتهكت القوى العظمى دائما، وعن عمد، سيادة الدول منذ ظهور مبدأ السيادة ذاته، وفعلت ذلك الولايات المتحدة فى العالم الغربى منذ القرن التاسع عشر، والجديد فى هذه الفكرة اليوم هو نزعة الإدارة الأمريكية إلى تطبيقها على أساس عالمى، وأنها تعطى لنفسها سلطة تحديد متى تفقد هذه الدولة أو تلك الحق فى السيادة، والاعتماد فى ذلك على التوقع، وهذا ما جعل هذا المبدأ استفزازا للدول الأخرى.
***
والعنصر الخامس فى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة هو التقليل من أهمية الالتزام بالقوانين والمعاهدات الدولية، والمبرر لذلك فى نظر الإدارة الأمريكية أنه ما دامت التهديدات تتزايد، ونسبة الخطأ فى الحرب على الإرهاب قليلة، فإن المعايير والاتفاقات التى تضع القيود على استخدام القوة تمثل عوائق مزعجة لأمريكا أمام سعيها للقضاء على مصادر التهديد، وبالتالى فإن استراتيجية أمريكا الأحادية الجانب لا ترى قيمة كبرى للاتفاقات والتعهدات الدولية، وعلى أمريكا ألا تقبل بأن تورط نفسها فى عالم القوانين والمؤسسات الفاسد الذى يمثل قيودا على حريتها فى العمل منفردة، وبالنسبة لبعض الأمريكيين، فإن الاعتقاد بأن السيادة الأمريكية مقدسة فإنهم يفضلون الانعزال، ولكن بعد 11 سبتمبر أصبح الرأى الأكثر تأثيرا هو أن تعمل أمريكا على الأخذ بزمام المبادرة وتعمل فى العالم وفقا لشروطها، ولا تقبل مبدأ الانسحاب من العالم بعد اليوم، ومن هذا المنطلق رفض الرئيس بوش تنفيذ المعاهدات التى وقعتها أمريكا، ورفض الالتزام بالمؤسسات، وبدأ برفض معاهدة كيوتو الخاصة بالحفاظ على البيئة فى العالم، كما رفض خضوع أمريكا للقانون الجنائى الدولى والمحكمة الجنائية الدولية وانتزع الموافقة على استثناء الأمريكيين من المحاكمة على جرائم الحرب، ورفض أيضا الالتزام بمعاهدة حظر الأسلحة البيولوجية، وظل بوش يرفض التوقيع على معاهدة مع روسيا لمنع انتشار الصواريخ النووية، على أساس أن أمريكا كبيرة وقوية بما يكفى لتكون كلمتها أقوى من المعاهدات المكتوبة.
***
والمبدأ السادس فى الاستراتيجية الجديدة قائم على أن الولايات المتحدة تحتاج إلى القيام بدور مباشر وغير محدود للرد على التهديدات، وليس هناك دولة أخرى، أو مجموعة دول، حتى دول الاتحاد الأوربى، تمتلك القدرة والقوة للرد على الدول الإرهابية الشريرة فى العالم، بعد أن أصبح تفوق أمريكا العسكرى سابقًا لحلفائها بمراحل، وأصبح الحلفاء خلفها بمسافة واسعة، وهذا يجعل شركاءها فى أى تحالف غير قادرين على العمل بمستوى القوات الأمريكية، مما يجعل العمليات العسكرية المشتركة، والحرب بقوات تحالف من الأمور التى تمثل عقبة أو عائقا أمام القوات الأمريكية للقيام بعمليات فعّالة، وهذا الدرس أصبح واضحا منذ الحملة الأمريكية التى قامت فيها بقصف على كوسوفو مع قوات التحالف، وتكررت المشكلة خلال الأعمال العسكرية التى قامت بها أمريكا فى أفغانستان مع قوات التحالف. وكان تفسير رامسفيلد لذلك أن المهمة هى التى يجب أن تحدد الائتلاف، وليس الائتلاف هو الذى يحدد المهمة، لأنه إذا حدث ذلك فسوف تهبط المهمة إلى أدنى مستوى ونحن لا نستطيع تحمل ذلك، وهذا ما يفسر الإجماع داخل الإدارة الأمريكية على ضرورة تفكيك حلف الأطلنطى والتحالف الأمريكى اليابانى، وترى الإدارة الحالية أن هذه التحالفات قليلة الفائدة بالنسبة للولايات المتحدة، والولايات المتحدة هى التى تقرر متى وكيف يتم خفض مشاركتها فى التحالفات عموما، وإن تزايد كفاءة القوة العسكرية الأمريكية وتزايد حجمها بالنسبة لقوات دول العالم يجعل الولايات المتحدة فى مكانة عسكرية متفردة، ولا يدانيها أحد. وفى هذه الحالة تزداد صعوبة الاحتفاظ بوهم مشاركة الحلفاء، ويكون حلفاء أمريكا مجرد دعم استراتيجى مفيد بحسب الظروف، وما زالت الولايات المتحدة ترى أهمية تواجدها العسكرى فى مناطق عديدة فى العالم وهذا التواجد يمليه عليها التزامها العالمى, ولكن المعاهدات والتحالفات مع دول آسيا وأوربا يجب أن تظل مشروطة بشروط أمريكية، وليست بشروط أو رؤية المجتمع الدولى للأمن المشترك.
كذلك لا تعطى الاستراتيجية الجديدة أهمية كبيرة لفكرة الاستقرار الدولى، ففى المعسكر الأحادى الجانب تسود الدعوة إلى إسقاط تقاليد وأفكار الماضى، وعلى سبيل المثال فقد كان البعض يتوقع تزايد سباق التسلح بين أمريكا وروسيا بعد انسحاب أمريكا من معاهدة الحد من الصواريخ البالستية، ولكن حدث العكس، فقد أدى هذا الانسحاب إلى اتفاقية مهمة بين روسيا وأمريكا لخفض الأسلحة، مما يعنى أن هدم النموذج القديم للعلاقات بين القوى العظمى لن يؤدى إلى خطر على الاستقرار العالمى، وأن العالم سوف يتقبل الاتجاهات الراديكالية الأمريكية الخاصة بالأمن، وسوف يتجه العالم إلى التكيف مع القيادة الأحادية الأمريكية، والاستقرار ليس غاية فى ذاته والدليل على ذلك أن سياسة الإدارة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية قد تؤدى إلى زعزعة الاستقرار فى المنطقة، ولكن ذلك ربما يكون الثمن اللازم لتغيير نظام حكم خطير وشرير.
***
وفى هذا العالم الجديد الشجاع- كما يصفه جون ايكنبرى- فإن مفكرى الإمبريالية الجديدة يرون أن الاستراتيجية القديمة القائمة على الليبرالية والواقعية لن تكون مفيدة، ولن تحقق ضمانات الأمن الأمريكى، وفى عالم التهديدات فإن توازن القوى لن يؤثر فى الحرب أو السلام، والاستراتيجيات الليبرالية القائمة على نظام التجارة الحرة والمؤسسات الديمقراطية قد يكون لها تأثير على الإرهاب- على المدى الطويل، ولكنها لن تقضى على التهديدات فورا بينما العنف والتهديد واقف على عتبة باب أمريكا، وفى هذه الحالة فلن تكون للمؤسسات والقوانين الدولية والمجتمع الدولى قيمة عملية كبيرة، وإذا قبلنا أسوأ الأحوال بأن نتصور أننا لا نعلم ما نعلمه فسوف تكون الأهمية ثانوية لأى شىء آخر، مثل القوانين الدولية، وأهمية المشاركة، ومعايير الشرعية.. إنها حرب.. وكما قال مؤسس علم الاستراتيجية كلاوزوتيز فإن الحرب عمل خطير بحيث تكون الأخطاء الناتجة عن النوايا الطيبة هى أسوأ الأخطاء.
***
ومع ذلك فإن المخاطر تصاحب هذه الاستراتيجية للإمبريالية الأمريكية الجديدة، فالقوة الأمريكية التى لا تجد من يكبح جماحها، والتى لا تلتزم بالشرعية، ولا تلتزم بالقوانين والمؤسسات الدولية ستؤدى إلى نظام دولى أكثر عداء، يجعل من الصعب تحقيق المصالح الأمريكية، بينما كان السر فى نجاح أمريكا لسنوات طويلة جدا، وقيادتها للعالم، يكمن فى حرصها على استعمال القوة فى إطار تحالف مع الأصدقاء، وداخل هياكل متعددة القوميات، وهذا ما جعل قوتها وجدول أعمالها موضع قبول من معظم الحلفاء والدول الأخرى الأساسية فى العالم، وهذا الإنجاز معرض الآن للخطر نتيجة تفكير الإدارة الجديدة.
والمشكلة الأهم أن اتجاه الإمبريالية الجديدة لا يحظى بتأييد دولى، والعمل الأحادى الجانب ربما ينجح فى حالة مثل حالة إزالة صدام حسين من الحكم، ولكن من المشكوك فيه أن تنجح هذه الاستراتيجية دائما وعلى المدى الطويل فى القضاء على النظم الدكتاتورية فى العالم، وقد وضعت الإدارة الأمريكية مسألة خطر أسلحة الدمار الشامل على رأس جدول أعمالها لتحقيق الأمن، دون أن تستثمر قوة أمريكا ومركزها فى فرض معاهدات منع انتشار هذه الأسلحة، وقد وجدت الإدارة الأمريكية من أحداث 11 سبتمبر نقطة انطلاق لضرب العراق، ولكن ذلك لن يصلح عندما تظهر حالات أخرى أكثر تعقيدا، عندما لا يكون استخدام القوة هو المطلوب، بل يكون المطلوب هو عمليات أخرى متعددة مثل العقوبات والتفتيش، وليس هناك ما يؤكد أن التدخل العسكرى الوقائى سوف يسير دائما بصورة جيدة ويحقق نجاحا، وربما تحدث حركة مضادة للتدخل العسكرى من قوى سياسية محلية، وبالإضافة إلى ذلك ستؤدى استراتيجية الإمبريالية الأمريكية الجديدة إلى إضعاف الاتفاقات الدولية، والمؤسسات الدولية، وروح التعاون الدولى اللازمة للنجاح على المدى الطويل لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب.
***
نظرية العمل العسكرى الوقائى هذه ستؤدى إلى مشكلة تصعب مواجهتها، وهى الدول الأخرى سوف تعطى لنفسها الحق فى العمل وفقا لهذا المبدأ الأمريكى، وترى أن من حقها أن تقوم بالعمل العسكرى الوقائى الذى تراه ضروريا دون أن تلتزم بالقوانين أو الشرعية أو المؤسسات الدولية.. وما العمل إذا قامت بذلك دول مثل باكستان، أو الصين، أو روسيا، ما دام المبدأ الذى بدأت أمريكا بإرسائه هو الحق فى التدخل العسكرى دون اعتبار لمبدأ السيادة ودون وجود دليل على وجود تهديد حقيقى؟! ويكفى أن يكون هذا التهديد محتملا فى نظر الدولة المحاربة، وستقول دول أخرى غدا ما تقوله أمريكا اليوم بأن انتظار العثور على أدلة وإثبات الخطر، وانتظار تأييد الهيئات الدولية أو المجتمع الدولى، سيجعل الانتظار طويلا، وفى النهاية هل تستطيع أمريكا منع الدول الأخرى من العمل وفقا للمبدأ الذى قررته هى؟.
علاوة على ذلك فإن القوة العسكرية الأمريكية الغالبة، وسياسة الضربة الوقائية، قد تؤديان إلى دفع بعض الدول إلى الإسراع بتطوير برامج للحصول على وسائل لردع الولايات المتحدة، وستكون هذه بداية للسباق على امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وهذا هو الجانب الأخطر فى المأزق الذى يمكن أن تقع فيه أمريكا، وهو مأزق يهدد الأمن، ويزداد سوءا باستراتيجية الإمبريالية الجديدة.
***
مشكلة أخرى سوف تظهر نتيجة لهذه الاستراتيجية الإمبريالية، لأن استخدام القوة لن يكون دائما سهلا للقضاء على إمكانات أسلحة الدمار الشامل والإطاحة بنظم الحكم الخطيرة، لن يكون ذلك سهلا دائماً سواء بقوة أمريكا وحدها أو بتحالف مع دول كبرى، لأن مرحلة ما بعد التدخل العسكرى تقتضى إعادة بناء الدولة التى دمرتها الحرب، وحفظ الأمن والسلام فيها، وهذه المرحلة لا تستطيع أمريكا القيام بها وحدها، وستجد نفسها محتاجة إلى المساعدة من الأمم المتحدة، والبنك الدولى، والقوى الكبرى لتقديم معونات والمساهمة فى إعادة التعمير، وليس هذا عملا بطوليا من أمريكا ولكنه عمل ضرورى، وربما تحتاج أمريكا إلى قوات دولية لحفظ السلام لسنوات طويلة حتى بعد بناء الدولة وإقامة نظام حكم جديد فيها، وسوف تحتاج أيضا إلى تهدئة الصراعات الإقليمية التى تشتعل بالتدخل العسكرى الخارجى، وهذه هى الذيول الناتجة عن التدخل العسكرى الأحادى.. وهى التزامات لا مفر منها، ناتجة عن أى عمل عسكرى كبير.
وعندما تضاف هذه الأعباء والتكاليف والالتزامات إلى دور أمريكا العسكرى الإمبريالى يزداد الشك فى أن استراتيجية الإمبريالية الجديدة يمكن أن تحظى بالتأييد داخل أمريكا ذاتها، وهذه هى المشكلة الكلاسيكية للتوسع الإمبريالى المفرط، وتستطيع الولايات المتحدة الإبقاء على هيمنتها العسكرية لعقود طويلة إذا ساندها اقتصاد قوى ونسبة نمو عالية، ولكن الأعباء غير المباشرة اللازمة للقضاء على الفوضى السياسية فى الدول الفاشلة التى تتبنى الإرهاب تفرض ثمنا آخر، ولو أن التدخل العسكرى تم بناء على تشاور أمريكا مع الدول الكبرى كما كان الحال عندما كانت تنفذ الاستراتيجية الواقعية والاستراتيجية الليبرالية، لكان من السهل الحصول على مساعدات من الدول والمنظمات الدولية تخفف الأعباء عن أمريكا.
وهناك مشكلة ثالثة ناتجة عن هذه الاستراتيجية الامبريالية هى أنها لا تستطيع أن تحقق التعاون المطلوب لحل مشاكل عملية تواجه السياسة الأمريكية، ففى الحرب على الإرهاب تحتاج الولايات المتحدة إلى تعاون دول أوربا وآسيا للحصول على معلومات الاستخبارات، كما تحتاج إليها لنقل الجنود، وفرض القانون، وفرض الأمن يحتاج إلى تعاون وعلاقات ودية مع الدول الكبيرة، فأمريكا محتاجة إلى شركاء فى التجارة الحرة، وفى تحقيق الاستقرار المالى العالمى، وحماية البيئة، وردع الجريمة المنظمة التى تتخطى الحدود، ومواجهة صعود الصين، وغير ذلك.. وأمام أمريكا مجموعة من التحديات الأخرى ذات الطبيعة الشائكة، ومن المستحيل أن تتوقع إذعان الشركات لها. وعلى أمريكا أن تتوقع أن تكون الأداة السياسية الأساسية للدول أمام أمريكا الأحادية القطب، هى الامتناع عن التعاون معها، وخاصة فى سياسة التجارة، وكمثال على ذلك رد الفعل الأوربى على القرار الأمريكى بفرض تعريفة جمركية على وارداتها من الصلب، وهذا يعنى وجود صراع فى قضايا تجارية معينة، وهو صراع على كيفية ممارسة أمريكا للنفوذ، وربما تكون الولايات المتحدة قوة عسكرية أحادية القطب، ولكن القوة الاقتصادية والسياسية فإنها موزعة فى العالم، وليس لدى الدول الكبيرة النفوذ الكافى لكبح جماح السياسة العسكرية الأمريكية، ولكنها قادرة على أن تجعل أمريكا تدفع الثمن فى مجالات أخرى.
***
أخيرا، تمثل استراتيجية الإمبريالية الجديدة مشكلة أكبر بالنسبة لاحتفاظ أمريكا بهذه القوة الأحادية الجانب، وهذا يعنى أنها تتقدم بنفسها إلى الفخ القديم الذى وقعت فيه الدول الإمبريالية المتسلطة، ويتمثل فى الانطواء على الذات والانغلاق، وعندما تلقى أقوى دولة فى العالم بكل ثقلها على الدول الأخرى، ولا تتقيد بقواعد الشرعية، فإنها تغامر بحدوث حركة مضادة تعود فيها إلى الوراء، لأن دولا أخرى سوف تفعل مثلها، وتستهين بالنظام الدولى، وما دامت أمريكا تعمل وفقا لقواعد تضعها هى لنفسها، فلماذا لا يفعل الآخرون ذلك؟ ولا ينكر أصحاب الاستراتيجية الجديدة أنها ستؤدى إلى صعوبات فى علاقات أمريكا مع أصدقائها وحلفائها، ولكنهم يرون أن ذلك أمرًا لازمًا وهو الثمن الذى يجب أن تتحمله أمريكا مقابل الانفراد بقيادة العالم.. والتاريخ يؤكد أن الدول القوية تتجه إلى الانغلاق والانطواء على الذات عندما تصل إلى المبالغة والإفراط فى القوة، وهذا ما حدث مع تشارلز الخامس، ولويس الرابع عشر، ونابليون، وقادة ألمانيا بعد بسمارك، عندما عملوا على توسيع المجال الإمبريالى، وفرضوا نظاما بالقوة على الآخرين، ثم انهارت كل هذه النظم الامبريالية عندما قررت الدول الأخرى أنها ليست مستعدة للعيش فى عالم تهيمن عليه بالقوة دولة واحدة متعجرفة، ولو أن أمريكا الإمبريالية أقل غطرسة من هذه الإمبراطوريات القديمة، إلا أن الاستراتيجية الإمبريالية المتشددة فيها مخاطرة بأن يعيد التاريخ نفسه.
***
والحرب دائما تغير السياسات فى العالم، وهذا ما سيحدث نتيجة حرب أمريكا، فسوف تؤثر فى أساليب القتال للدول الكبرى، وكيفية تحديد التهديدات والأخطار، وكيفية صنع السلام بعد الحرب، وكل ذلك سيعطى للنظام الدولى الشكل الجديد الذى سيظهر بعد أن تصمت المدافع، وفى مرحلة حشد المجتمع للحرب يعتبر القادة أن الصراع العسكرى ليس مجرد هزيمة العدو، فقد أرسل الرئيس ويلسون القوات الأمريكية لأوربا ليس لوقف زحف جيش قيصر، ولكن لتدمير السيطرة العسكرية، وفتح الطريق لثورة ديمقراطية على مستوى العالم، وهكذا رأى الرئيس فرانكلين روزفلت الحرب مع ألمانيا واليابان على أنها صراع لتأمين الحريات الكبرى الأربع، وكان ميثاق حلف الأطلنطى تصريحا بأهداف الحرب، ودعوة إلى هزيمة الفاشية، وتوجيه الاهتمام إلى الرعاية الاجتماعية، وحقوق الإنسان، وإقامة نظام دولى مستقر ومنفتح، ولتحقيق هذه الرؤية اقترح الرئيسان ويلسون وروزفلت قواعد وآليات جديدة للتعاون الدولى، وكانت رسالتهما للدول واضحة: إذا تحملتم أعباء الحرب، فإننا- نحن الذين نتولى قيادتكم- سوف نستخدم هذا الصراع لإقامة نظام أكثر سلاما، وأكثر احتراما بين الدول، وهكذا كانت الحرب مؤدية لإقامة العلاقات الدولية على أسس جديدة بمثل ما عملت على القضاء على العدو..
هذا ما حدث ويحدث دائما فى الحروب وبعدها، ولكن الإدارة الجديدة للرئيس بوش الابن لم تضع رؤية كاملة للنظام الدولى بعد الحرب، وبعيدا عن القول بأن هذا الصراع هو صراع بين الخير والشر، فقد رأى العالم أن أمريكا تريد الحرب، ولم يجد جدول أعمال إيجابيًا لدى أمريكا لإقامة نظام دولى قوى وأكثر احتراما. وهذا الفشل يفسر كيف تبدد سريعا ذلك التعاطف الدولى مع الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر، وبعد أن كان يقال فى العالم: نحن كلنا أمريكيون أصبحت دول العالم تعبر عن عدم ثقتها فى أمريكا، وأصبح الاعتقاد السائد عالميا أن الولايات المتحدة لا تستخدم قوتها العسكرية لصالح العالم ولإقامة نظام دولى يحقق الأمن والاستقرار، والولايات المتحدة تظهر كل يوم أنها تقلل من قيمة القواعد والمؤسسات الدولية، وتستهين بالمجتمع الدولى بدلاً من أن تعمل على مساعدة هذه المؤسسات والمساهمة فى تقوية المجتمع الدولى، وباختصار فإن السياسة الإمبريالية الجديدة متهمة بممارسة النفوذ وليس بممارسة القيادة. على عكس استراتيجيات أمريكا قبل ذلك التى كانت قائمة على توازن القوة، والتعددية، والليبرالية، وتعمل أمريكا من خلال ذلك كقوة ناضجة يهمها استقرار العالم، وتحقيق مصالحها بوسائل لا تهدد مصالح ومراكز الدول الأخرى. الاستراتيجية الإمبريالية الجديدة تقدم الولايات المتحدة للعالم بصورة مختلفة، بصورة دولة تتحدى الآخرين، وتراهن بنفوذها على إدارة نظام عالمى تتولى قيادته وتحركه وحدها، بعكس الاستراتيجيات السابقة التى كانت أمريكا لا تفرض الهيمنة على أوربا وآسيا بمثل هذه الفجاجة، وبوش الابن نفسه هو الذى قال إن أمريكا ليس لديها إمبراطورية أو يوتوبيا تسعى إلى إيجادها.
والنجاح الجوهرى الذى نجحت فيه استراتيجية الإمبريالية الجديدة هو إثارة قلق الحكومات والناس العاديين فى العالم، وسيكون لذلك ثمن غالٍ، لأن أمريكا لا تريد طبعا أن يكون محور تفكير الحكومات والسياسيين فى العالم البحث عن كيفية إضعاف واحتواء نفوذ أمريكا، والانتقام منها!
وينتهى بيتر كروج من دراسته إلى أن أمريكا عليها أن تراجع نفسها، وتعود إلى تراثها وتقاليدها، وتتخلى عن هذه الاستراتيجية الجديدة الخطرة على العالم. وعلى أمريكا ذاتها، وتعود إلى الاستراتيجيات التقليدية القائمة على مشاركة أمريكا لدول العالم فى شئون الأمن وإقامة نظام دولى تقوده أمريكا بالتراضى وليس بالغطرسة، وهذه القيادة- وليست الهيمنة- هى التى تجعل النفوذ الأمريكى مقبولا، ومؤثرا، وأكثر شرعية، ولابد أن يتخلص أصحاب الاستراتيجية الامبريالية من الهاجس المسيطر عليهم من شبح الإرهاب والذى يجعلهم يقعون فى إغراء الاستعلاء والسيطرة والانفراد بالقرار.. ولأن استمرار الاستراتيجية الجديدة سيجعل أمريكا أقل أمنًا، وكراهية العالم لها أكثر قوة.
***
وقد يكون مفيدا أن نعرف بيتر. ف. كروج وهو أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جورج تاون بواشنطن، وشغل منصب عميد كلية الدراسات الدولية فى جامعة جورج تاون فى الفترة بين عامى 1970 و 1995 - وسبق أن عمل فى البيت الأبيض مساعدا للوزير دين راسك من عام 1967 حتى 1968، وهو مشهور بأحاديثه فى التليفزيون، وبدراساته فى جامعة جورج تاون وجمعية السياسة الخارجية، وعمل فى مجالس إدارات مؤسسات وجمعيات سياسية، وحصل على ميداليات ونياشين فى العلوم السياسية من استراليا وألمانيا، وحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة جورج تاون. وهو حاصل قبل ذلك على الدكتوراه فى القانون الدولى والعلوم السياسية. *