الصحفى النبيل
 غاب عنا حسنى جندى فجأة، وكان بالنسبة لكل من يقتربون منه شعاع ضوء، ونسمة لطيفة تخفف عنهم شدة الحياة.. كان يحب كل الناس.. كل الناس يحبونه.. وكان يمد يده بالمساعدة لكل إنسان يطلب منه المساعدة دون أن ينتظر كلمة شكر.. وكان يبتسم وهو يعانى من الإرهاق والمرض لكيلا يفرض على الآخرين شيئا من مشاعر الألم التى يتحملها وحده.. ولم تفارقه الابتسامة حتى آخر لحظة.

حسنى جندى بالذات له مكانة خاصة جدا، لأنه إنسان نادر جدا، أخلاقه، وسلوكه، وفكره، وأسلوبه فى العمل وفى قيادة من يعملون معه، وصدقه مع نفسه ومع الآخرين، كل ذلك كان شيئا نادرا لم أصادف مثله فى حياتى كلها.. وعلاقتى به كانت أيضا علاقة من نوع نادر.. علاقة ارتبطت فيها الروح بالروح.. بحيث يفهم أحدنا الآخر دون كلمة واحدة.. لم أقل له يوما إنى أحبه، ولم يقل لى مثل هذه الكلمة، ولكن لقاءنا، مهما طال الغياب والبعد، كان يعكس هذا المعنى بدون حاجة إلى تعبير.. أغيب عنه شهرا، أو سنة، ثم ألقاه فأجد الحوار بيننا يتصل كأنه لم ينقطع لحظة.. وأحيانا يكون الحوار بيننا صامتا.. والصديق الحقيقى ليس الصديق الذى تتحدث معه كثيرا، ولكنه الصديق الذى تستطيع أن تتبادل معه الصمت وتشعر أن الصمت أبلغ من الكلام فى التعبير عما بينكما.. ولم يكن حسنى جندى كثير الكلام، ولكنه كان يحمل بين جنبيه قلبا مليئا بالمشاعر الدافئة والصافية لزملائه وأصدقائه ومعارفه.

وحسنى جندى صحفى نادر.. وإنسان نادر.. وأستاذ نادر.. هو صحفى كبير بكل المقاييس ومع ذلك لم يكلّ يوما، وربما لم يشعر يوما بحجمه الحقيقى فى الصحافة المصرية، ولو قال له ذلك أحد فسوف يستنكر على الفور ويقول: أنا مجرد صحفى أحاول أن أؤدى واجبى.. وهو إنسان نادر لأن لديه قدرة هائلة على الحب، والتسامح، والتعاون، ونسيان الإساءة فى ثانية واحدة.. وهو أستاذ نادر لأنه يعلم كل من يقترب منه دون أن يشعره بأنه يعلمه.. وأحيانا يشعره بأنه هو الذى يتعلم منه.. لا يعرف الخيلاء أو الزهو.. ولا يتحدث عن نفسه وأمجاده وإنجازاته لا كثيرا ولا قليلا.. ولا يتحدث إلى من هم أصغر منه على أنه ملك متوج كما يفعل غيره ممن هم أقل منه كفاءة وموهبة ومكانة.

سألت صديقى سمير صبحى: بماذا تسمى حسنى جندى؟ فقال: الصحفى النبيل فى زمن أصبح النبل فى أخلاق الرجال نادرا.. وقال عنه تلاميذه فى الأهرام (ويكلى) إنه كان نعم الأب، والأخ، والأستاذ، وقال عنه على غنيم إنه علم من أعلام الصحافة، وقال عنه سامى متولى: إنه صديق عمره المحترم.. وقال عنه إبراهيم حجازى: إنه رمز للأخلاق والإنسانية، وقال عنه محررو الأهرام الرياضى إنه الصديق الغالى، وهؤلاء هم الكبار فى الأهرام الذين كانوا زملاء رحلة حسنى جندى فى الأهرام منذ بدايتها.

أما أنا فقد رأيته يوم دخلت الأهرام فى بداية عام 1970.. رأيته شابا رقيقا، هادئا، نحيفا، لا يتكلم إلا همسا، ويعمل فى صمت ودأب كأنه يصلى فى معبد.. وكان فى ذلك الوقت محررا فى القسم الخارجى، وكانت رئيسة القسم الخارجى جاكلين خورى هى الأخرى إنسانة نادرة.. كانت أستاذة بحق، وتعمل كأنها صحفية مبتدئة بمنتهى الدقة والتفانى.. وكنت أشعر أنها أم.. تمارس الأمومة على الجميع.. وكان مألوفا أن نراها فى الرابعة بعد الظهر تجمع محررى القسم - ومن تلقاه فى طريقها أيضا من محررى الأهرام - وتدعوهم إلى الغداء فى كافتيريا الأهرام بالدور العاشر، ولذلك كنا نطلق عليها: (البطة وأولادها).. لأنها فعلا كانت كذلك.. وكان يلفت نظرى حسنى جندى وهو كالنحلة ينتقل بنفسه من مكتبه إلى آلات التيكرز ويقرأ كل الأخبار بمنتهى الدقة، ويضع خطوطا تحت السطور المهمة، ويقدمها إلى جاكلين خورى، وينتظر تعليماتها.. كنت مندهشا من قدرته الهائلة على الانضباط.. لم يحاول يوما أن يتجاوز رئيسة القسم.. ولم يدع يوما أنه الأكثر كفاءة أو أنه يتحمل العبء وحده..

بعد ذلك رأيته نائبا لرئيس القسم الخارجى.. ثم رأيته رئيسا للقسم الخارجى.. فلم يتغير فيه شىء.. نفس البساطة.. والهدوء.. والتفانى فى العمل.. والأدب الشديد فى التعامل مع الصغير والكبير.. والدقة الشديدة فى اختيار الكلمة والحرف.. والتواضع الذى لا تراه كثيرا فى الصحافة، ولا يتردد فى أن يسأل من هم أحدث منه عن معلومة أو تاريخ أو صحة اسم، أو يعرض عليه ما كتب ويستمع إلى رأيه باهتمام ولا يتردد فى الاستجابة وتعديل ما كتبه إذا رأى أن الرأى الآخر أفضل.. لا يعرف المراوغة.. ولا يعرف التساهل فى العمل.. ولا يعرف كيد الزملاء.. ولا تشعر أن بينه وبين أى إنسان فى الدنيا ضغينة أو حقدا أو حتى خلافا.. بل لا يدخل فى منافسة مع أحد رغم أن الجميع يتنافسون بأساليب مختلفة.. وخلال أكثر من ثلاثين عاما لم أسمع منه كلمة سوء عن إنسان آخر.. ولا كلمة شكوى.. لم يطلب لنفسه شيئا أبدا.. لم يحدث أن طلب لنفسه علاوة، أو مكافأة، أو ترقية، كما يفعل غيره، ولم يسع إلى منصب. وكل المناصب التى تقلدها كانت تكليفا ومفروضة عليه وفى كل مرة كان يعتذر ويقول إنه فى مكانه هذا راض ولا يريد المزيد..

فى عينيه صفاء يدل على أنه ليس من طينة البشر.. فهو أقرب إلى الملاك.. وكنت فى البداية أقول له: لا أصدق أنك هكذا.. لابد أنك أعظم ممثل.. وسنكتشف الحقيقة يوما.. وبعد سنوات وسنوات وصلت إلى يقين أنه فعلا هكذا.. ملاك هبط إلى الأرض.. لا ترى فى الدنيا أمثاله إلا نادرا بين حين وحين.. وهؤلاء يرسلهم الله ليكونوا تجسيدا للقيم النبيلة، ليراها الناس أمامهم لحما ودما، ويدركوا أن المثالية يمكن أن تسير على قدمين.. وهؤلاء يؤثرون فيمن حولهم بالعدوى، وهذا ما حدث فعلا، فكل من عمل معه اكتسب بعض صفاته وأخلاقه وسلوكه وطريقة تعامله مع الحياة، ومع الناس، ومع العمل..
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف