د. فتحى نجيب: رجل عظيم أدى واجبه.. ورحل
كانت لحظة مهيبة، وجنازة الرجل العظيم تسير فى مشهد عظيم ويتقدمها الرئيس حسنى مبارك، ويمنح اسمه وشاح النيل، ويكون ذلك قمة التكريم من الوطن لهذا القاضى الجليل الذى لم يكن له غاية فى الدنيا إلا أن يؤدى واجبه، وينفع بلده، وينفع الناس، وقد فعل ذلك وأكثر، ومضى راضيا مرضيا.. مرتاح الضمير، قانعا بما أعطى وما أخذ، وقد أعطى الكثير.
الدكتور فتحى نجيب من أئمة الفقه القانونى والتشريع فى مصر الحديثة، وهو قاض بالمعنى الدقيق.. فيه كل صفات القاضى النزيه العادل.. جلس على منصة القضاء عشرات السنين فلم يهتز ميزان العدل فى يده لحظة واحدة، ولم تمنعه صفاته الشخصية من أن يفرّق بين دوره كشخصية عامة ومفكر له مكانته بين أهل الرأى، ودوره كإنسان رقيق يحب الناس وله أصدقاء ومريدون، ودوره كقاض حين يجلس على المنصة العالية يصبح مجرد ضمير وممثلا للعدل والقانون.
عرفت والده محمد نجيب حين كان مديرا لتحرير صحيفة المساء وكان قد تجاوز السبعين، ويعمل أكثر من عشر ساعات متصلة، كنت أذهب لزيارة أصدقاء فى جريدة المساء ويلفت نظرى الأستاذ نجيب وهو يعمل ويتحرك بحيوية الشباب، وكان الأصدقاء يجيبون عن أسئلتى أنه هكذا، حياته العمل، ولا يترك صغيرة ولا كبيرة، وعندما قابلت الدكتور فتحى نجيب بعد ذلك فى ندوات ، ولقاءات وحوارات جمعتنا حول قضايا عديدة، واقتربت منه، وجدته صورة لوالده، حياته هى العمل، يعطيه كل وقته وكل فكره، وفيه صفات الباحث العالم، لا يقول كلمة إلا وهو يقصد معناها بالضبط، ولا يعلن رأيا إلا ويتبعه بالأسباب والمراجع التى استند إليها، ولا يلتقى بإنسان إلا بعد أن يتأكد من نزاهته وطهارة يده، ولا يكتب بحثا أو حكما إلا بعد أن يطيل التفكير والتأمل ويطمئن إلى سلامة الرأى الذى وصل إليه، ولديه قدرة هائلة على الاستماع إلى أن ينتهى المتحدث من حديثه مهما طال، دون أن تظهر عليه علامات الملل أو الضيق، أو يسارع بالمقاطعة، استعداده للاستماع أكبر من رغبته فى الكلام.. وحرصه على تفهم ما يقوله الآخر يفوق الاحتمال .
كان آخر اتصال لى معه منذ فترة، وكان الحديث عن أحكام المحكمة الدستورية والصحافة، وكان يقول لى إن الصحافة تهتم فقط بالأحكام التى تصدرها المحكمة بعدم دستورية بعض نصوص القوانين ولا تهتم بنشر الأحكام التى تقرر دستورية نصوص أخرى، ولا تلتفت الصحافة إلى أهمية الحكم بأن ما يقرره قانون ما متفق مع الدستور مع أن الأسباب التى تضعها المحكمة لذلك يجب أن تعمم ويعرفها الجميع وفى ذلك نشر للثقافة القانونية، وإيضاح للمبررات التى استندت إليها المحكمة فى حكمها بدستورية النص. ولأن مهمة المحكمة ليس إلغاء النصوص فقط ولكن الحكم على النصوص واتفاقها مع الدستور بنصوصه وروحه، وهذه الأحكام تدخل تاريخ القضاء والفقه مثل أحكام عدم الدستورية. وكان يعتب على الصحافة لأنها تتناول قضايا منظورة أمام القضاء بصورة فيها شبهة التأثير على المحكمة، وعلى الرأى العام وإن كان ذلك بدون قصد إلا أنه يجب أن يكون ضمن مسئولية المسئولين عن النشر..
أما دوره التشريعى حين كان مساعدا لوزير العدل ورئيسا لقسم التشريع فله فيه سجل كبير، أذكر أنه صاحب الجهد الأكبر فى وضع قانون الخُلع، وتعديل قانون المرافعات، وقانون التجارة، وقانون التأجير التمويلى، وقانون التحكيم، وقانون البيئة، وقانون الطفل وعشرات القوانين الأخرى وكلها قوانين أساسية واستغرقت منه وقتا وطاقة تفوق طاقة البشر لكى تصدر هذه القوانين متفقة مع أحدث النظريات والتشريعات العالمية الحديثة..
ودوره كمفكر ومصلح اجتماعى لا يقل عن دوره كقاض ومشرّع، فقد اشترك فى مئات الندوات واللقاءات وحلقات البحث واللجان، وكان يمثل شعاع الضوء فى هذه التجمعات بفكره المستنير، ورفضه للجمود، والتعصب، ويدعو إلى تغيير المجتمع المصرى ليصبح على المستوى العالمى ويواكب العصر.. كان يرفض الظلم الواقع على المرأة المصرية وشارك مشاركة كبيرة جدا فى تحريرها من كثير من قيود الماضى، وكان يؤمن بإنسانية المرأة، وحقها فى أن تمارس دورها كإنسان جنبا إلى جنب مع الرجل، ولأنه كان متبحرا فى دراسة الفقه الإسلامى، والظروف التاريخية لكل مذهب، وكل إمام من الأئمة، وكل تيار من تيارات الفكر فى التفسير والفقه والحديث، لم يستطع أن يجاريه أحد من المتخصصين فى هذه الفروع، وكان قادرا على أن ينتصر لمواقفه وآرائه بالاستناد إلى النص والمنطق والتاريخ..
ولم تكن اهتماماته مقصورة على القانون وحده، ولكنه كان بنفس الدرجة أديبا بليغا يكتب العبارة المحكمة المؤدية للمعنى بدقة ليس فيها كلمة زائدة أو كلمة ناقصة، وكان مفكرا مبدعا، له نظراته ونظرياته، وله مؤلفاته العديدة التى صارت مراجع لا يستغنى عنها أى مشتغل بالقانون والقضايا الاجتماعية، وكان شديد الاحترام للصحافة، وحريتها وكرامة الصحفيين، وعندما تولى رئاسة المحكمة الدستورية أصدر مجلة للمحكمة لأول مرة فى تاريخها تمثل إضافة حقيقية للفكر القانونى العربى.
وعندما كنت أشاركه بعض اللقاءات والندوات كنت أعجب بطريقته فى تناول الموضوع بتسلسل، وهدوء، وبمنطق يخاطب العقل ببساطة ووضوح.. وكان يذكرنى بعبارة للفيلسوف الفرنسى الشهير ديكارت الذى كان يقول: (إن الفكرة الصحيحة هى الفكرة الواضحة المتميزة).. الواضحة بحيث لا تحتاج إلى شرح أو إضافة ويفهمها كل من يسمعها أو يقرؤها.. ومتميزة بمعنى أنها لا تختلط بفكرة أخرى أو تتداخل معها. وكان هو يملك هذا الوضوح والتميز.. وفى نفس الوقت يملك قدرا من السماحة وسعة الصدر يثير الدهشة، بحيث يستمع بهدوء واهتمام إلى الرأى الذى يختلف معه، ويناقشه بموضوعية ودون أدنى انفعال..
ولكنه كان مرهقاً دائماً.. يعمل كثيرا.. ويفكر كثيرا.. أكثر مما يجب.. وبما يزيد على طاقة الإنسان.. ولأنه لم يكن يعرف التأجيل أو التسويف أو الاعتذار عن المشاركة فى اجتماع أو لجنة أو عمل عام، بالإضافة إلى عمله القضائى ومسئولياته الإدارية، فقد تحمل دون أن يشكو إلى أن أعلن قلبه العصيان ووقع شهيد الواجب.. فعلا ذهب الدكتور فتحى نجيب شهيدا للواجب.. ولكنه ترك وراءه ذكرى عطرة، وتاريخا مشرفا، وإنجازا يخلد اسمه، وأصدقاء وتلاميذ يذكرونه ولا يمكن أن ينسوا فضله.. وإن كان ذلك يطرح موضوع استهلاك الكفاءات.. فنحن نلقى الحمل ثقيلا على أصحاب الكفاءة المخلصين الذين لم يعتادوا الشكوى أو الحديث عن أنفسهم.. ونضغط عليهم حتى نفقدهم وهم ثروة يجب الحفاظ عليها.
فتحى نجيب رائد من رواد حركة الإصلاح الاجتماعى والقانونى.. عمل بإخلاص.. وتفانى فى خدمة بلده.. وعاش ومات مستريح الضمير لأنه أعطى الكثير، ولم يبخل على بلده حتى بصحته وحياته.
تحية لروحه الطاهرة وهو فى رحاب الله حيث يوفيه ربه الجزاء على ما قدم من صالح الأعمال.
وحقا إنه بتكريم الرئيس مبارك له بوشاح النيل أصبح اسمه مقرونا بلقب صاحب المقام الرفيع.. وهو فعلا كذلك.