صلاح هلال .. صانع النجوم
رحل صلاح هلال.. هذا الإنسان النادر الذى لم أصادف فى حياتى مثله فى الصحافة المصرية.
عندما دخلت الأهرام أول مرة كان مزدحما بشخصيات كبيرة. لها أسماء مدوية.. وتحيط بها هالة من التقدير تعطيهم هيبة بين الناس وبين أبناء المهنة.. كان فى الأهرام- طبعا- الأستاذ هيكل، وهو أستاذ الصحافة الحديثة بلا منازع.. وشخصيته ومنهجه فى التفكير المنظم، ودقته فى العمل، وقدرته الفائقة على تنظيم الوقت وتوظيف كل إنسان فى المكان المناسب له بالضبط.. كل ذلك كان يضفى على الأهرام أيامها مهابة تجعلك تشعر وأنت تدخل الأهرام كأنك داخل إلى معبد، عليك أن تتطهر قبل أن تدخله، وعليك أن تعطيه كل قلبك وطاقتك.. وعموما الحديث عن الأستاذ هيكل يطول وأظن أننى حتى الآن لا أستطيع أن أعبر عن كل ما يستحقه.. يكفى أنه علم تلاميذه كيف يكون الصحفى محترما، وكيف يترفع عن الصغائر..!
وكان فى الأهرام ممدوح طه، وهو أستاذ الخبر الصحفى، فيه الأبوة والأستاذية، ويجمع بين الرحمة والحزم، ويحاسب المحرر كل صباح على ما قدمه بالأمس ويحدد له خطة عمله اليومى، وله شبكة علاقات هائلة بكل المسئولين فى الدولة تجعله يحصل على الأخبار من كل المصادر بسهولة، وأذكر أنه كان يجلس فى مكتبه ساعة كل يوم جمعة ويخرج ومعه عشرات الأخبار المهمة يملأ بها الصفحة الأولى وينفرد بها الأهرام، وكان ممدوح طه مدرسة، وله تلاميذ كثيرون، علمهم كيف يحصلون على الخبر، وكيف يكتبون الخبر، وكيف يضعون العنوان الذى يلفت نظر القارئ ويعبر عن مضمونه بدقة دون مبالغة أو تهويل.. ولا أنسى اللمعة التى كانت فى عينيه كلما دخل عليه محرر بخبر مهم.. وما زلت أرى ممدوح طه فى الصفحات الإخبارية فى الأهرام إلى اليوم، وأعتقد أن مدرسته سوف تستمر لأن تلاميذه أصبحوا أساتذة، ويكررون مع تلاميذهم ما كان يفعله ممدوح طه.
وكان فى الأهرام أساتذة كثيرون يصعب حصرهم.. الأستاذ كمال نجيب أمد الله فى عمره.. رجل تجاوز السبعين ومع ذلك فإنه يظل فى مكتبه حتى الصباح يتابع كل كلمة فى الأهرام، ويصحح كل خطأ، ويقدم النصيحة للمسئولين عن الطبعات.. عاشق للأهرام وللصحافة يبذل جهدا يعادل جهد عشرات المحررين دون أن يكون مكلفا بذلك.. قدرة على العطاء مذهلة.. وصبر على تعليم المبتدئين تفوق صبر أيوب.
وأحمد نافع.. وعبد الحميد سرايا. ويوسف صباغ.. ومحمود عبد العزيز.. وغيرهم.. وغيرهم.. جيل من الكبار عاشوا حياتهم عاشقين للمهنة، وأعطوها أكثر مما أخذوا منها..
أما صلاح هلال فهو أسطورة..
كان رئيس قسم التحقيقات.. هو الذى جعل الصفحة الثالثة فى الأهرام تصل إلى مستوى غير مسبوق.. إذا كتب فعباراته رشيقة وسهلة.. وإذا وضع عنوانا فهو يجذبك وتعجب كيف صاغ الكلمات كأنه جواهرجى يمسك قطع الماس قطعة قطعة ليصوغ منها تحفة.. وإذا كتب مقدمة لتحقيق أمسك القارئ برباط رقيق يجعله غير قادر على ترك السطور إلى أن تنتهى.. وأذكر أنه كان عائدا فى إجازة من عمله فى دولة الإمارات، وكنت وقتها مسئولا عن قسم التحقيقات، وسألته إن كان ممكنا أن يكتب لنا تحقيقا عن المصريين فى الإمارات، فنظر إلىّ لحظة ثم أمسك الورق والقلم، وفى أقل من ربع ساعة أعطانى أجمل تحقيق فى سلسلة كنا ننشرها عن المصريين فى الدول العربية.. وطلب ألا أنشر اسمه.
صلاح هلال أستاذى.. وأستاذ عدد كبير من نجوم الأهرام الآن.. محمد زايد.. عبد الوهاب مطاوع.. عزت السعدنى.. بهيرة مختار.. وغيرهم.. وغيرهم..
كان يصل إلى الأهرام الساعة السابعة صباحا، يجلس فى الكافتيريا وحده يتناول القهوة، ثم يقوم إلى صالة التحرير الخالية وقد اكتملت فى ذهنه صورة الصفحة الثالثة.. ما هو الموضوع.. وما هى العناوين المناسبة.. والمقدمة الجذابة.. ثم يقوم بنفسه برسم الماكيت بكل التفاصيل، ويرسله إلى المطبعة..
بهدوء يجلس فى الصالة، يحدثك همسا وفى كلمات قليلة، تذهب إليه لتعرض عليه فكرة تحقيق فيسمعك ويهز رأسه موافقا ويقول لك فى كلمات قليلة المحور الذى يدور حوله التحقيق والمصادر التى يجب أخذ رأيها فيه ثم يتركك ويمشى.. إذا سألته يجيبك باختصار ودقة.. وتعطيه التحقيق فلا يقرؤه أمامك.. ولا يقول لك كلمة إعجاب إذا أعجبه، ولكنك تشعر بالتقدير من طريقة نشر التحقيق..
والغريب أن صلاح هلال كان مدير تحرير آخر ساعة حين كان الأستاذ هيكل رئيس التحرير، وكان يكتب مقالا أسبوعيًا فيه أفكار لامعة، وذكاء، وليس فيه كلمة واحدة زائدة.. ولكنه عندما عمل فى الأهرام توقف عن الكتابة وتحول إلى راهب.. يرعى الآخرين.. وينمى البراعم الصغيرة.. ويعطى لهم من فكره ووقته.. ويسعد كلما رأى تلميذا من تلاميذه يكبر.. ويتعامل مع الآخرين بمنتهى الهدوء.. ومنتهى الرقة.. وبمنتهى الحسم أيضا.. ولذلك كنا نشعر دائما أننا أمام أستاذ.. ولم يفارقنى هذا الشعور أبدا حتى آخر لحظة.. وما زال هذا الشعور فى قلبى رغم أن الأيام فرقت بيننا، ولكنى كلما قابلته كنت أشعر كأنى كنت معه بالأمس..
وأذكر أنى سألته مرة فى الفترة الأخيرة: هناك من يرى أن الصحافة لم يعد فيها أساتذة يعطون لتلاميذهم وينمون قدراتهم ويعلمونهم.. وهناك من يرى أن المشكلة أنه لم يعد هناك تلاميذ يريدون أن يتعلموا.. ومن يدخل الصحافة يعتبر نفسه أستاذا.. ومن سنة أولى صحافة يتصور أنه هيكل، أو مصطفى أمين، أو أنيس منصور، فما رأيك؟ فقال لى: الرأيان صح.. ولكن الأهم أن الصحافة مهنة أساسها موهبة.. إما أن تكون موهوبا أولا. فإذا كنت موهوبا فسوف تشعر باحتياجك إلى تنمية موهبتك وتبحث عن أستاذ، وإذا لم تكن موهوبا فأنت تدارى الخيبة بالادعاء وليس بالعمل.. الموهوب يجد نفسه فى العمل.. وغير الموهوب يؤكد ذاته بالتمرد والصياح وادعاء أنه مضطهد.. المشكلة أن الصحفيين الموهوبين فى الصحافة المصرية الآن أصبحوا قلة.. ولكنهم موجودون على أى حال.. والأساتذة أصبحوا قلة أيضا ولكنهم أيضا موجودون.. وما يحدث فى الصحافة يحدث فى غيرها.. كان عندنا عبد الوهاب وكانت له مدرسة وتلاميذ.. هل سيكون شعبان عبد الرحيم مدرسة وهل سيكون له تلاميذ..؟
أما صلاح هلال فهو بحق أستاذ وصاحب مدرسة صحفية، وله تلاميذ.. وهو موهوب حقيقة.. بل هو ساحر الكلمات.. وقدرته على العطاء بغير حدود.. وإنكاره لذاته شىء لا يمكن أن يتكرر.
أذكر أننى قرأت فى الخمسينات مقالا للدكتور محمد مندور قال فيه إن الكاتب عليه أن يضحى كما تفعل المحاربات من نساء الأمازون.. ولم أفهم ما يقصده.. وأتيح لى أن أقابله فسألته- وكنت تلميذا وكان أستاذا كبيرا- عن نساء الأمازون فقال لى: إن المرأة فى الأمازون مقاتل شرس وشديد المراس.. وهى لكى تحسن أداء واجبها، تقطع ثدييها، لكى تتمكن من الإمساك بالقوس والسهم بإحكام ولا تخطىء الهدف.. فالواجب عندها أهم من جسمها وأنوثتها وأمومتها.. والمقصود أن الكاتب الحقيقى يضحى ولا يبحث عن المغانم.. ويعطى فكره وروحه ووقته دون أن يسأل عن المقابل.. وفى هذه الحالة يستحق أن يقال إنه صاحب رسالة.. أما من يتخذ الكتابة وسيلة للارتزاق أو للثراء أو للسلطة.. فهذا انتهازى ولا يمكن أن يكون صاحب رسالة.
وأعتقد أن هذا هو ما ينطبق بالضبط على صلاح هلال.. أعطى.. وضحى.. ولم يأخذ.. ولم يطلب.. ولم يمد يده.. لذلك عاش ومات ورأسه مرفوعة إلى السماء.