مشروع بوش لإعادة تنظيم العالم!
من أراد أن يعرف الكثير عن شخصية الرئيس الأمريكى جورج بوش ، وعقلية معاونيه والمحيطين به والمشاركين فى صناعة قراراته، ويفهم حقيقة يقين بوش بأنه مبعوث من الرب برسالة لنشر الخير والديمقراطية وحقوق الإنسان فى ربوع العالم.. من أراد أن يعرف الكثير عن الشخصيات التى تعمل معه وتقول بلسانها غير ما فى نواياها وأفعالها.. فإن كتاب (صنع فى تكساس) فيه الكثير من الحقائق التى تلقى الضوء على الجوانب الغامضة فى المشروع الإمبراطورى الأمريكى الذى بدأه الرئيس بوش.
وهذا الكتاب الذى ألفه مايكل ليند صدرت منه أكثر من طبعة، ومع ذلك فلن تجده فى أى مكتبة فى الولايات المتحدة، كما قال لى صديق مقيم هناك بحث عنه فى كل مكان ولم يعثر على نسخة منه.. ولا أحد يعرف أين ذهبت نسخ الكتاب؟.
يقول مايكل ليند: إن إدارة بوش قبل أحداث 11 سبتمبر كانت مشغولة بإلغاء المعاهدات، والانسحاب من الاتفاقات الدولية، والتخطيط لغزو العراق، والتعامل مع حكومة الليكود فى إسرائيل على أساس أنها أقرب حلفائها. وبعد 11 سبتمبر لم تتغير سياسة هذه الإدارة كثيرا، واستمرت فى تنفيذ السياسات ذاتها، سواء بالمضى وحدها وبإصرار لغزو العراق واحتلاله، أو بالتأييد المطلق لشارون، ودون أن تهتم بحشد ائتلاف عالمى طويل المدى للقضاء على بقايا شبكة القاعدة، كما سبق أن أعلنت، وفى خطاب الرئيس بوش فى الأمم المتحدة فى 12 سبتمبر 2002 وضح أن هدفه الأساسى هو الإطاحة بصدام حسين، وليس القضاء على شبكة القاعدة التى يقول: إن خطرها مازال قائما.. وبعد هجوم 11 سبتمبر بعام واحد أصبحت الولايات المتحدة معزولة دوليا تقريبا، ومنقسمة داخليا حول السياسة الخارجية، ولم يحدث مثل هذا الانقسام سوى أيام حرب فيتنام.
وكان لدى مستشارى بوش، وربما كان لدى بوش نفسه أيضا، خطة أو تصور لإعادة تشكيل العالم فى القرن الحادى والعشرين، على أساس أن الولايات المتحدة عليها تعزيز وضعها الجديد بعد أن أصبحت القوة العظمى الوحيدة، ولتحقيق ذلك عليها زيادة الإنفاق على ترسانتها العسكرية بما يفوق انفاق الدول الكبرى مجتمعة، وعليها أن تتعامل بلا مبالاة تجاه القانون الدولى والدبلوماسية، وتقوم بشن حروب وقائية ضد نظم الحكم التى يحتمل أن تشكل تهديدا لها بشكل ما، حتى ولو لم يكن هذا التهديد قائما أو على وشك الوقوع، وفى هذه الحروب يمكن لأمريكا أن تتحرر من الارتباط بمواقف حلفائها الأوروبيين المتمردين، وترسل القنابل والعدالة إلى كل مكان، وبالنسبة للشرق الأوسط فسوف تشارك الولايات المتحدة وإسرائيل فى الهيمنة عليه.
هذه الاستراتيجية تختلف عن السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية، ولكنها تحظى بمساندة جماعتين لهما تأثير قديم فى الانتخابات: المحافظون الجدد، وهم غالبا من اليهود واليساريين السابقين، والمتشددين البروتستانت البيض من الجنوب، والمحافظون الجنوبيون، وهؤلاء يجمعهم تحالف مصالح وقد أصبحت لهم السيطرة على الجناح اليمينى للحزب الجمهورى، وعلى السياسة الخارجية .
ويمكن اكتشاف المصدر المباشر للسياسة الخارجية للرئيس بوش الابن فى إدارة والده الرئيس بوش، فقد كان صناع السياسة فى إدارة بوش الأب من المحافظين أمثال جيمس بيكر، الذى كان وزيرا للخارجية، وخليفة لورانس إيجلسبرجر، ومثل كولن باول الذى كان رئيسا للأركان، وكانوا مثل الرئيس بوش الأب نفسه، حريصين على الحفاظ على نظام التحالف وتوسيع دائرة الحلفاء، واستخدام نفوذ الولايات المتحدة بعد أن أصبحت القوة العظمى الوحيدة لقيادة العالم من خلال المؤسسات الدولية، ودون تفكير فى الهيمنة على العالم بالقوة الوحشية، ولذلك عمل الرئيس بوش الأب على شن حرب تحرير الكويت باسم القانون الدولى، وبموافقة صريحة من مجلس الأمن، وبائتلاف عسكرى واسع جدا بقيادة أمريكا، ومن أجل تجنب حدوث صدع فى التحالف تراجع بوش الأب عن احتلال العراق، وترك صدام حسين يحكم جزءا من العراق بقيود اقتصادية شديدة وحظر الطيران، وبقيام مفتشى الأمم المتحدة بالتفتيش فى أنحاء العراق عن الأسلحة. ولكن فى إدارة بوش الأب كانت هناك مجموعة قليلة من المشاركين فى صنع السياسات لهم آراء مختلفة، وكان الذى يقود هذه المجموعة هو بول ولفوتيز نائب وزير الدفاع، وكان من بينهم ديك تشينى الذى كان وزير الدفاع فى إدارة بوش الأب.. هذه المجموعة الممثلة للمحافظين الجدد لم تكن تخفى غضبها من قرار بوش الأب بعدم احتلال العراق، وفى ربيع 1992 نشر ديك تشينى وثيقة تخطيطية بعنوان (التخطيط الدفاعى). وفى هذه الوثيقة يتحدث ديك تشينى عن دور أمريكا فى العالم، ويحدد خطوط الاستراتيجية التى تؤكد التفوق العسكرى الأمريكى بالإنفاق الهائل والمستمر على الدفاع، واستخدام القوة العسكرية فى حروب وقائية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والتقليل من شأن التحالف، والمنظمات الدولية، والإصرار على العمل العسكرى الأمريكى الأحادى الجانب. هذا المخطط وضعه تشينى وولفوتيز، وهو المخطط الذى ينفذه الرئيس بوش الابن، ووفقا لهذا المخطط فإن على أمريكا أن تضع آليات لردع المنافسين المحتملين، ووقف تطلعات أى قوة فى العالم نحو القيام بدور إقليمى أو دور عالمى، ومن بين هؤلاء المنافسين المحتملين الصين وروسيا، وأيضا ألمانيا واليابان، وفى استراتيجية ديك تشينى وولفوتيز أنه لابد من منع هذه الدول من خلال القوة العسكرية الأمريكية من السعى للقيام بأى دور عسكرى أكبر فى أوربا أو آسيا، وتظل الولايات المتحدة فى العمل على إبقاء القوى الأخرى ضعيفة ومنزوعة السلاح، وتابعة للولايات المتحدة.
***
كان هذا التقرير الاستراتيجى الذى أعده ديك تشينى وولفوتيز قبل أن يذكر بوش الابن شيئا عن العراق وكوريا ومحور الشر بعشر سنوات، لأنه لم يأت ذكر العراق وكوريا ومحور الشر إلا على لسان الرئيس بوش الابن فى 27 يناير 2002 بينما كان هذا التقرير فى عام 1992، وكان فى هذا التقرير ذكر للعراق وكوريا وضرورة ردعهما بالقوة العسكرية لمنعهما من الحصول على أسلحة دمار شامل.. فليس غريبا إذن أن نرى ازدراء بوش الابن لحلفاء أمريكا، ونراه يعمل وفق ما قاله ولفوتيز فى عهد بوش الأب حين وضع تصورا جديدا لتحالف أمريكا مع الدول الأخرى على أن تكون تحالفات مؤقتة لغرض معين وتنتهى بتحقيق هذا الغرض، وبذلك يجب ألا تكون لأمريكا تحالفات دائمة تستمر بعد انتهاء الأزمة التى اقتضت وجود هذا التحالف..!
لم تكن هذه الوثيقة معدة للنشر، ولكنها كانت وثيقة سرية من وثائق الدولة، ولكنها تسربت إلى الصحافة، وتسبب ذلك فى تفجر خلاف فى الولايات المتحدة، وفى العالم، ولكن الرئيس بوش الأب عمل بسرعة على إبعاد نفسه وإدارته عن هذه الاستراتيجية الراديكالية، وقام نائب وزير الخارجية لورانس إيجلبرجر وكبار الدبلوماسيين فى الخارجية الأمريكية بتقديم ايضاحات للدبلوماسيين الأجانب فى واشنطن بأن هذه الآراء لا تمثل آراء الإدارة الأمريكية، ولكنها مجرد اجتهادات شخصية من ديك تشينى وبول وولفوتيز لا تعكس السياسة الأمريكية.
***
وفى سنوات رئاسة بيل كلينتون لم يكن للمحافظين الجدد مكان فى البيت الأبيض أو فى غيره من مواقع صنع القرار، فذهب ديك تشينى ليعمل رئيسا لشركة هاليبورتون وهى شركة بترول عملاقة لها صلات غير معلنة مع عراق صدام حسين، وعاد بول وولفوتيز إلى العمل الأكاديمى وشغل منصب عميد كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، وقضى هو وزملاؤه من المحافظين الجدد سنوات التسعينات فى كتابة المقالات وظلوا يلحون على القول بأن القرار الأمريكى بعدم غزو العراق بعد هزيمة الجيش العراقى فى الكويت عام 1990 كان قرارا خاطئا.. إلى أن جاء الرئيس جورج دبليو بوش إلى البيت الأبيض عام 2000 فوجدها المحافظون الجدد فرصة لتنفيذ خططهم الطموحة لإعادة تنظيم العالم، والتف المحافظون الجدد حول الرئيس بوش الابن، وأصبح لهم نفوذ يفوق بكثير ما كان لهم فى حكم أبيه، وسريعا ما نجحوا فى تهميش المحافظين من أمثال كولن باول وزير الخارجية، بينما أصبح وولفوتيز هو اللاعب الرئيسى الذى يهيمن على إدارة الرئيس بوش، من موقعه كنائب لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذى يؤيد مشروعه، وبمساعدة مجموعته القديمة وعلى رأسها ديك تشينى نائب الرئيس، وجون بولتون نائب وزير الخارجية وهو أيضا محافظ متشدد مهمته مراقبة وعرقلة وزير الخارجية المعتدل كولن باول.
وهكذا أصبح مشروع وولفوتيز هو مشروع بوش، ووقع عليه الرئيس الأمريكى فى أول يونيو 2002 وبذلك أصبح استراتيجية للولايات المتحدة، وعندما ألقى بوش خطابا فى وست بونيت ردد كل الأفكار التى كانت فى كتابات وولفوتيز ومجموعته على مدى عشر سنوات مثل نظرية الحروب الوقائية، واختيار العراق بالذات لتطبيق هذه النظرية عليها وعن ذلك قال بوش: (إذا انتظرنا إلى أن تظهر التهديدات بالكامل، سنكون قد انتظرنا طويلا جدا بأكثر مما يجب). ومثل نظرية احتكار الولايات المتحدة للقوة العسكرية فى العالم، وفى ذلك قال الرئيس بوش : (أمريكا لديها قوات عسكرية لا يمكن لأحد الوقوف أمامها، وسوف تظل محتفظة بهذا التفوق العسكرى إلى أن يصبح سباق التسلح لا فائدة منه للآخرين، ولا تكون أمامهم سوى المنافسات فى التجارة ومساعى السلام الأخرى).. وفى 20 سبتمبر أصدر البيت الأبيض وثيقة من 33 صفحة تعلن أن الولايات المتحدة ستكون على درجة من القوة تكفى لإقناع الخصوم الحاليين والمحتملين بالعدول عن السعى إلى بناء قوة عسكرية تفوق أو تساوى القوة الأمريكية. وبذلك أصبح مذهب (وولفوتيز- بوش) هو السياسة الأمريكية الرسمية. ومع بداية عام 2002 كان ديك تشينى وولفوتيز يضعان السياسة الأمريكية إلى أن أحكما السيطرة على البنتاجون، وأحكم البنتاجون السيطرة على إدارة بوش، وكان جيمس بيكر ولورانس إيجلبرجر من الدائرة الحاكمة فى ولاية الرئيس بوش الأب مع ديك تشينى وولفوتيز، ولكن كانت لهما آراء مختلفة حول الدور الأمريكى فى العالم، وحول الانفراد بالقوة العسكرية الجبارة، وحول الحروب الوقائية، وحول المشروع الإمبراطورى الأمريكى.. ولكن آراءهما لم يكن يستمع إليها أحد فى مواقع القرار، ولم يجدا مجالا للتعبير عن آرائهما غير كتابة المقالات والحديث فى التليفزيون، ولفت انتباه بوش الابن إلى ضرورة مراعاة حلفاء أمريكا واحترام المنظمات الدولية، ولكن المحافظين الجدد كانوا قد أحكموا السيطرة على المكتب البيضاوى ولم يسمحوا للرأى الآخر بالنفاذ إليه.
***
والمشروع الإمبراطورى (ولفوتيز- بوش) يقوم على ثلاثة محاور: الأحادية الأمريكية.. الحرب الوقائية.. انحياز السياسة الخارجية الأمريكية لشارون.. وكانت هذه العناصر الاستراتيجية خروجا مثيرا- بل انقلابا- على السياسة الأمريكية. ولم تكن فكرة أحادية القوة تعنى فقط أن تكون أمريكا هى الأقوى عسكريا ويكون تفوقها فى هذا المجال ساحقا وبلا منافس، ولكنها كانت تعنى أن القوة الأمريكية لابد أن تظهر عمليا.. أن تكون قوة عدوانية.. أن تحقق انتصارات مذهلة تقضى على آمال الآخرين فى الدخول فى سباق أو منافسة معها.. وهذه الاستراتيجية تمثل انقلابا على النظام العالمى الذى شيدته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، ولو كانت أمريكا فى ذلك الوقت تريد إقامة نظام عالمى أحادى لكانت قادرة على إنشاء إمبراطورية تماثل الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية سابقا، لكن أمريكا منذ البداية اختارت بناء نظام عالمى قائم على المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، وحلف الناتو، وظلت أمريكا تقود بالتراضى وبالإجماع دون أن تلجأ إلى فرض إرادتها بالقوة.. وفى أثناء الحرب الباردة حاول الاتحاد السوفيتى السابق إعاقة مجلس الأمن عن العمل كمنظمة لها قوة تأثير كبيرة فى توجيه السياسات العالمية، والولايات المتحدة هى التى وقفت لإحباط هذه المحاولة السوفيتية لتهميش المنظمة الدولية.. وبعد انتهاء الحرب الباردة بدأت الأمم المتحدة تعمل كما كان يهدف المخططون لإقامتها، فلم تبدأ الولايات المتحدة حرب الخليج 1990 فى عهد بوش الأب إلا بقرار من مجلس الأمن.. ولم يتدخل حلف الناتو فى البلقان فى عهد كلينتون إلا بقرار مجلس الأمن.. برغم الاختلافات التكتيكية بين توجهات بوش الأب وكلينتون.. كان النظام العالمى الجديد الذى تحدث عنه بوش الأب امتدادا لنظام الأمم المتحدة وحلف الناتو مع إدخال أعضاء جدد، وتعديل فيما يتفق مع التطورات والاحتياجات العالمية الجديدة..
لكن بوش الابن خرج على استراتيجية أبيه وعلى استراتيجية كلينتون أيضا، بل خرج على كل الاستراتيجيات التى وضعها رؤساء أمريكا منذ إنشاء الدولة الفيدرالية.. ففى العام الأول لولايته ألغى عددا من المعاهدات الدولية بجرأة كما لم يحدث من أ ى رئيس آخر فى تاريخ أمريكا.. قرر إلغاء بروتوكول كيوتو على نحو مفاجئ .. وألغى معاهدة حظر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية.. وألغى معاهدة الأسلحة الصغيرة.. وألغى تصديق أمريكا على المحكمة الجنائية الدولية.. وألغى معاهدات أخرى.. وكان رد الفعل الطبيعى لدى شركاء أمريكا هو: الصدمة والشعور بالإساءة.. وكان فى إمكان بوش أن يطلب إجراء مفاوضات لتعديل ما يريد تعديله من هذه المعاهدات ليبدى بعض الاحترام للمعاهدات ولحلفائه ولكنه لم يهتم بذلك.. وكان ذلك هو التطبيق العملى لاستراتيجية انفراد أمريكا بالعمل دون مشاورات مع أحد.. ودون اعتبار لأحد.. العمل بشكل أحادى كما قال وولفوتيز.
***
وولفوتيز هو صاحب النظرية التى تقول: إن الولايات المتحدة وصلت إلى درجة من القوة غير مسبوقة وليس لها مثيل.. ولذلك تستطيع صنع سياسة جديدة قائمة على الهيمنة على العالم، وستكون هذه الهيمنة بسياسة أحادية تنفرد فيها أمريكا بالقرار وبالعمل، ولن يستطيع أحد معاداتها، كما لن تلقى هذه السياسة الرضا من الآخرين، لكن ذلك لا يهم.. مع أن الولايات المتحدة لا يزيد الناتج المحلى الإجمالى لها على 20% من الناتج العالمى.. وتمتلك قوة أقل نسبيا مما كان لديها عام 1945 عندما كانت هى التى تنتج كل الإنتاج الصناعى فى العالم بعد أن دمرته الحرب وخرجت هى وحدها سليمة.. ومع أن قوة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 كانت أكبر من الآن نسبيا فإن ذلك لم يمنعها من تشكيل نظام من المؤسسات الدولية، والعمل من خلال تحالفات..
***
وعن تبرير استراتيجية (وولفوتيز- بوش) عن أحادية العمل الأمريكى يقول المحافظون الجدد: إن الولايات المتحدة تواجه الآن تهديدات غير مسبوقة من أسلحة الدمار الشامل ومن الإرهاب. والإرهاب الذى كان الاتحاد السوفيتى يرعاه فى فترة الحرب الباردة كان يحصل على هذه الأسلحة من الترسانة السوفيتية النووية، والبيولوجية، والكيميائية، وكان ذلك يمثل تهديدا للولايات المتحدة وحلفائها أكبر بكثير مما يمثله تهديد العراق، وكوريا الشمالية، ونظم الحكم الشبيهة الضعيفة، المفلسة.. وفى فترة الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة تدافع عن نفسها ضد الإرهاب وضد أسلحة الدمار الشامل معتمدة على المنظمات الدولية، وعلى التحالفات، بينما ينظر المحافظون الجدد إلى المنظمات الدولية وإلى الحلفاء بازدراء.
كذلك كان تبنى بوش لمبدأ الحرب الوقائية كوسيلة تاكتيكية، انشقاقا آخر عن التقاليد الأمريكية والدولية.. ففى أثناء أزمة الصواريخ فى كوبا حاول كبار مستشارى الرئيس كيندى إقناعه بالقيام بهجوم وقائى على كوبا لتدمير الصواريخ السوفيتية فيها، رفض كيندى فكرة الحرب الوقائية، واختار فرض الحصار الاقتصادى على كوبا بدلا من الحرب.. وفى 7 يونيو 1981 دمرت الطائرات الإسرائيلية (إف- 16 الأمريكية الصنع) المفاعل النووى العراقى، كان رد فعل المجتمع الدولى الغاضب سريعا، ورغم أن استراتيجية الولايات المتحدة حماية إسرائيل من الإدانة الدولية، فإنها انضمت إلى دول العالم- وكان ذلك فى حكم ريجان- وصدر قرار جماعى من مجلس الأمن بشجب هذه الغارة الإسرائيلية، ولم تستخدم أمريكا الفيتو كما تفعل عادة فى كل قرار يدين إسرائيل، وفى كلمة المندوب الأمريكى فى مجلس الأمن السفيرة جين كيركباتريك قارنت هذه الغارة الإسرائيلية بالغزو السوفيتى لأفغانستان، وأعلنت رئيسة الوزراء البريطانية فى ذلك الوقت مارجريت تاتشر أن الهجوم المسلح فى مثل هذه الظروف لا يمكن تبريره، ويمثل خرقا خطيرا للقانون الدولى.. وانضمت الولايات المتحدة إلى حلفائها الكبار فى التأكيد على أن الحرب التى تقوم لمجرد الشك فى قيام دولة معادية بتطوير أسلحة الدمار الشامل هى حرب غير أخلاقية، وغير شرعية.. لكن المحافظين الجدد يعتبرون هذا الموقف الأمريكى كان مجرد مناورة أو حيلة سياسية لتمرير الهجوم.. ويرون أن الضربة الوقائية حق لمن يقدر عليها!
***
إن خروج بوش على تقاليد السياسة الخارجية الأمريكية مثير للدهشة، وبنفس الدرجة تثير الدهشة سياسته تجاه إسرائيل.. والمعروف منذ إنشاء إسرائيل عام 1948 أن كل الرؤساء الأمريكيين، وفيهم من كانوا من أشد المتحمسين والأصدقاء لإسرائيل- كانوا يدركون أن هناك درجة من اختلاف المصالح بين أمريكا وإسرائيل.. فى عام 1957 عارض الرئيس دوايت إيزنهاور إسرائيل عندما شاركت مع بريطانيا وفرنسا فى العدوان على مصر، وخلال حرب 1967 كان الرئيس الأمريكى هو ليندون جونسون أكبر أنصار إسرائيل، ومع ذلك رفض طلب إسرائيل بالتدخل المباشر فى الحرب نيابة عن إسرائيل، مراعيا فى ذلك المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط، وفى أثناء حرب 1973 ساعد الرئيس نيكسون إسرائيل ولكنه ظل محتفظا بمظهر الصديق للعرب لأنه كان سياسيا محترفا وواقعيا، أما جيمى كارتر فقد بدأ تقليدا جديدا بأن يصبح رؤساء أمريكا وسطاء بين إسرائيل والعرب، وذلك بالرغم من النفوذ الإسرائيلى القوى فى أمريكا، والتعاطف الأمريكى مع إسرائيل باعتبارها المجتمع الغربى الوحيد فى العالم العربى، لذلك كانت المحاولات الأمريكية للوساطة متحيزة إلى حد ما لإسرائيل، وفى عام 1981 رتب رونالد ريجان اتفاقية لوقف إطلاق النار بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقام ريجان بمنع شارون من احتلال بيروت خلال غزو إسرائيل للبنان.. وبعد حرب الخليج 1990 نفذ الرئيس بوش الأب وعده لحلفاء أمريكا من العرب وضغط على رئيس وزراء إسرائيل إسحاق شامير لحضور مؤتمر مدريد.. كذلك قام بيل كلينتون بمساندة مفاوضات أوسلو للسلام، واستضاف باراك وعرفات فى كامب ديفيد، وكان العرض الذى قدمه باراك وكلينتون لعرفات هو إقامة دولة فلسطينية لا تزيد على مجموعة من الأحياء يسكنها الفلسطينيون، وهى أحياء متفرقة، وليست أرضا واحدة، وكان هذا العرض غير مقبول.. ولكن فى طابا فى ديسمبر 2000 كانت إسرائيل والفلسطينيون على وشك الاتفاق على خطة مختلفة مقبولة من المعتدلين على الجانبين من حيث خطوطها العريضة، ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود باراك خسر الانتخابات وحل محله شارون، وهو من أشد دعاة الحرب الإسرائيلية شراسة فى حزب الليكود اليمينى المتطرف، وقبل انتخابه بدأ استفزاز الفلسطينيين بزيارته للمسجد الأقصى، مما شجع اليهود المتعصبين دينيا فى إسرائيل والولايات المتحدة على تجديد الدعوة إلى هدم المسجد الأقصى، وإقامة هيكل معبد يهودى مكانه، وكان ذلك سببا كافيا لقيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية فى أول عام لشارون فى الوزارة، أما الرئيس بوش الابن فكان قد خفض درجة الاهتمام الأمريكى بأزمة الشرق الأوسط، وتركت أمريكا شارون حرا يمارس الضغط على الفلسطينيين باستخدام أقصى العنف العسكرى، وانتهز شارون أحداث الانتفاضة لينفذ مشروع الليكود القديم بإعلان انتهاء عملية سلام أوسلو، وإعادة احتلال الضفة، وكان فى داخل الإدارة الأمريكية جناحان: جناح الصقور فى وزارة الدفاع بقيادة رامسفيلد يؤيده ديك تشينى نائب الرئيس وكوندليزارايس مستشارة الأمن القومى وهذا الجناح يؤيد إسرائيل على طول الخط، وجناح معتدل فى وزارة الخارجية بقيادة كولن باول، وقد انتصر جناح الصقور، وانهزم كولن باول، وأصبحت سياسة إدارة بوش تردد ما يطالب به الجناح اليمينى المتطرف فى السياسة الإسرائيلية على مدى عقد من الزمان: رفض التفاوض مع الفلسطينيين وقائدهم المنتخب ياسر عرفات.. والإصرار على إقامة ديمقراطية كاملة فى فلسطين من نوع غير موجود فى أى مكان آخر فى المنطقة كشرط مسبق لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى الوحشى على مدى 35 عاما للأراضى التى يعيش عليها ثلاثة ملايين ونصف المليون فلسطينى.. وعندما تزايد العنف من الجانب الفلسطينى، تحركت الإدارة الأمريكية لوقف العمليات (الانتحارية) الفلسطينية، وقدمت خريطة الطريق لإقامة دولة فلسطينية خلال ثلاث سنوات، ولكنها فى الواقع كانت مجرد تصديق من الحكومة الأمريكية على تاكتيكات إسرائيل التى تسعى إلى كسب الوقت لإعادة احتلال الضفة وتوسيع المستوطنات، والمناورات لمدة عشر أو عشرين سنة أخرى.
إن خطة بوش-وولفوتيز للسياسة الخارجية الأمريكية عارضتها أغلبية الشعب الأمريكى كما عارضتها وزارة الخارجية الأمريكية فى حدود قدرتها على المعارضة، ولكن أغلبية الشعب الأمريكى لم تؤثر فى قرار الإدارة الأمريكية، تماما كما لم تؤثر أغلبية الشعب الأمريكى فى قرار الإدارة الأمريكية بغزو العراق بدون مساندة الحلفاء وموافقة الأمم المتحدة، ولم تؤيد هذه السياسة الخارجية لليمين الراديكالى الحاكم فى واشنطن سوى جماعتين فقط فى الولايات المتحدة: الجماعة الأولى هى النخبة من صناع السياسة والمفكرين من تيار المحافظين الجدد، والجماعة الثانية هى البروتستانت الجنوبيون. ولم يكن المحافظون الجدد محافظين تقليديين فى الحزب الجمهورى، ولكن معظمهم كانوا فى الأصل ليبراليين أو يساريين ديمقراطيين، وبعضهم كان ماركسيا من قبل، ولكن معظمهم يهود، انشقوا عن اليسار الديمقراطى بسبب كراهية اليساريين لاحتلال إسرائيل للأراضى العربية بعد 1967 ، وكراهية كثير من المناضلين فى جماعة القوة السوداء Black Power لليهود الأمريكيين ولإسرائيل. وكان ريجان أول رئيس جمهورى ينتخبه المحافظون الجدد، وتقليديا ظلت السياسة الخارجية لحكم الجمهوريين تعكس مخاوف الصفوة السياسية من حدوث اضطرابات دولية، أما استراتيجية المحافظين الجدد فكانت شديدة الحماس لأيديولوجية التدخل العسكرى، مع التزام عرقى وعاطفى بتوفير الرفاهية لإسرائيل.
***
وما فى كتاب (صنع فى تكساس) من أسرار وحكايات وتحليلات كثير .. ويقال دائما إن العرب لا يقرأون.. وإذا قرأوا لا يفهمون.. وإذا فهموا لا يعملون.. وأعتقد أن ذلك كان ينطبق على زمن مضى .. والآن : العرب يقرأون.. ويفهمون.. وربما يعملون إن لم يكن اليوم فغدا.
ولذلك فلابد أن نستمر فى قراءة هذا الكتاب المثير، لأن فيه الكثير مما يجب أن نعرفه.*