وزراء يعطلون العدالة!
لماذا يصل الحق إلى صاحبه متأخرا جدا، أحيانا بعد عشرات السنين، وأحيانا بعد أن يفارق الحياة، وأحيانا يترك صاحب الحق حقه يأسا.. لماذا يحدث ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا بحديثه الشريف: لعن الله قوما ضاع الحق بينهم؟.
هناك أكثر من سبب.. كثرة القضايا.. كثرة الإجراءات فى التقاضى.. لعبة الخبراء.. ولعبة الطب الشرعى.. ولعبة الشهود.. والمستندات المزورة والطعن بالتزوير.. وليس من العدل أن نطلب من القاضى أن يحكم بالعدل فى مائة قضية فى اليوم الواحد..
وهناك سبب آخر.. ضمائر الناس.. لو كانت الضمائر حية لسلم الظالم الحق للمظلوم دون حاجة إلى قضايا ومحامين وجلسات وشهود ومرافعات ومذكرات وتأجيلات بعد تأجيلات.. وحقيقة: إذا الإيمان ضاع فلا أمان. والدستور يلزم الدولة بأن تكفل تقريب جهات القضاء للمتقاضين، وسرعة الفصل فى القضايا، وفى الدستور نص أهم وأخطر بأن الامتناع عن تنفيذ الأحكام أو تعطيلها جريمة يعاقب عليها القانون.. وأخيراً فإن الدستور ينص على أن الوزير هو الرئيس الإدارى فى وزارته وعليه أن يعمل على تنفيذ سياسة الحكومة، وأن يعمل على خدمة الشعب ورعاية مصالحه، لكن ما يحدث أحيانا يثير العجب.. وزراء يرفضون تنفيذ أحكام قضائية نهائية واجبة التنفيذ.. ووزراء يعملون على تعطيل الفصل فى القضايا.. ووزراء يبالغون فى استخدام الوسائل القضائية الملتوية للالتفاف على الأحكام، وهذا ما يسميه الدكتور فتحى سرور (الحيل القانونية)، ومنها تكرار الاستشكالات بدون سبب جدى سوى الرغبة فى عدم التنفيذ.. ومنها رفع دعاوى فرعية من القضايا الأصلية بحيث يضيع أصل الموضوع فى زحام القضايا والملفات والتفريعات.. وبعض الوزراء اخترع حيلة لا تليق برجل دولة، وهى أن ينفذ الحكم ثم يصدر قرارا جديدا بذات المضمون الذى سبق الحكم بإلغائه، وما دام هذا قرارا جديدا فإن الطعن عليه يستلزم الدوران فى دوامة قضية جديدة.. وهكذا إلى أن يموت صاحب الحق كمدا.. وبعض الوزراء يتمسكون بحرفية النص بأن الحكم ينفذ لصاحبه فقط ولا ينفذ على الحالات المماثلة.. وهذا ما فعلته وزيرة التأمينات السابقة حين رفضت تنفيذ الحكم الخاص بضم المدد السابقة أو الأجر المتغير إلا لمن يصدر له حكم.. فاضطر مئات الآلاف إلى رفع قضايا.. وهم من كبار السن.. فمات أكثرهم أثناء سير الدعوى ولم يحصل على حقه.. ولعنة الله على الظالمين!
ومن الحيل القانونية أن تصدر أحكام من مجلس الدولة، وقانون مجلس الدولة ينص على وجوب تنفيذ أحكامه فورا، كما ينص على أن يكون طلب وقف تنفيذ الحكم من اختصاص دائرة فحص الطعون فى مجلس الدولة، أى أن القضاء العادى ليس له اختصاص فى القضايا التى يختص بها مجلس الدولة.. ولكن الوزراء اخترعوا حيلة تقديم إشكالات أمام المحاكم العادية وهم يعلمون أن هذا الإجراء حتى ولو كان إجراء قانونيا فإنه إجراء فيه تحايل ظاهر والتفاف على قانون مجلس الدولة.. ولكن الدكتور فتحى سرور الفقيه القانونى الكبير أباح ذلك وقال إنه ممكن ويدخل فى باب الحيل القانونية.. وما أكثر أعضاء مجلس الشعب السابقين والحاليين الذين دخلوا مجلس الشعب واكتسبوا العضوية والحصانة رغم أنف الأحكام القضائية التى صدرت بحرمانهم من ذلك وكانت الأحكام قبل اكتساب العضوية.. واستمرت الحيل القانونية أمام المحاكم إلى أن حلف هؤلاء الأعضاء اليمين وأصبحت لهم حصانة قضائية.. ونزل على القضاء وأحكامه سيف مجلس الشعب الحصين باعتباره سيد قراره.. وله بذلك أن يقرر تنفيذ أحكام القضاء أو لا ينفذها.. ومن صدرت لصالحه أحكام وقرر المجلس عدم تنفيذها ليس أمامه إلا أن يموت كمدا ويشكو إلى الله.. أو أن يستسلم لقوة الحصانة ويحصل على التعويض.. ويفوض أمره إلى الله.. وينتظر حكم السماء ولو بعد حين!
ولكيلا أتعرض لقضايا ما زالت معروضة على القضاء وفيها أخذ ورد، أضرب مثالا قديما، ولكنه نموذج لما يحدث حتى الآن.. منذ سنوات أصدر وزير الاقتصاد قرارا بالاعتراض على تعيين أعضاء مجلس إدارة أحد البنوك، فلجأ بعضهم إلى القضاء، فنظرت القضية فى الشق المستعجل منها ولم يقدم الوزير الأسباب التى جعلته يصدر هذا القرار لترى المحكمة إن كانت أسبابا جدية أو لا.. وقررت المحكمة التأجيل شهرين لتقديم المستندات.. بعد شهرين نظرت الدعوى ولم يقدم الوزير الأسباب وطلب محامى الحكومة التأجيل لتقديم الرد فتأجلت القضية شهرين آخرين.. ونظرت الدعوى ولم يقدم الوزير الأسباب فتأجلت شهرين مرة ثالثة.. وهكذا
هيئة قضايا الحكومة تشكو هى الأخرى، لأنها تطلب من الوزارات تقديم المستندات والأسباب.. فلا ترد عليها الوزارات.. ويجد محامى الحكومة نفسه فى موقف حرج لأنه يبدو أمام المحكمة وكأنه يماطل ويتعمد تعطيل العدالة، بينما الذى يعطلها هو الوزير.. وبقية العاملين فى الوزارة مجرد موظفين ليس لهم سلطة التصرف.. فهم ينفذون تعليمات الوزير بعرقلة سير الدعوى.. ثم يدعى الوزير أنه لا يعلم وأن المسألة إهمال موظفين ويلصق التهمة بهؤلاء الأبرياء.
الغريب أن القانون يقضى بحبس وعزل الموظف العام الذى يمتنع عن تنفيذ أحكام القضاء.. ونحن بارعون فى صياغة النصوص والقوانين.. وأكثر براعة فى التحايل لعدم تنفيذها.. لذلك لم يحدث أبدا أن تم عزل وسجن أحد فى الحكومة رغم أن هناك عشرات الآلاف من الأحكام لم تنفذها.. لأن الوزير هو الرئيس الإدارى الأعلى للوزارة وهو الذى يجب أن يصدر عليه حكم العزل والحبس.. والوزير- فى تفسير آخر- سياسى وبالتالى ليس مسئولا.. فهو مسئول وغير مسئول.. وهذه هى عبقرية فقهاء القانون المصرى.. وبالتالى هناك نص لا نجد من نطبقه عليه.. وهناك خطأ ولا نعرف من المتسبب فيه.. وهناك ضياع للحقوق ولا نعرف من المسئول عن ذلك.. فضاع الحق بينهم!
لم يخطر ببالى أن أكتب شكوى فى وزير معين.. أو أن أتحدث عن قضية معينة.. ولكن أردت أن أعرض مشكلة عامة تمس العدالة، والحقوق، وسيادة القانون، ومصداقية الحكومة بسلطتها وقوتها فى مواجهة المواطن الأعزل.. لأسأل لماذا يضطر المواطن للجوء إلى القضاء فى مسألة الحق فيها واضح ولا يحتاج إلى مجادلة؟. ولماذا تلجأ الحكومة إلى اللدد فى الخصومة ولا تكون القدرة والنموذج فى التسليم لصاحب الحق بحقه حتى دون أن يلجأ إلى القضاء؟. أليس هذا أول واجبات الحكومة التى يلزمها الدستور إلزاما بالسهر على تأكيد سيادة الشعب، واحترام الدستور وسيادة القانون؟ فهل هكذا تكون رعاية مصالح الشعب؟!.. وهل هكذا تكون سيادة القانون..؟!
كل ما أطالب به أن يصدر مجلس الوزراء قرارا بتنفيذ جميع الأحكام النهائية الباتة التى صدرت ضد جهات حكومية، وأن يكون التنفيذ على جميع الحالات المماثلة دون تمسك بمسألة أن الحكم لصاحبه فقط.. ولا تكلفوا الناس من أمرهم عسرا.. وكفاهم ما هم فيه..
وليس المهم أن يصدر مجلس الوزراء هذا القرار.. المهم أن ينفذ!