الشيــــخ الشعراوى شاعـرا ( 2 )
كان الشيخ الشعراوى فى بداياته - فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى - حريصا على حضور الصالونات الثقافية مثل صالون العقاد، وصالون أمير الشعراء أحمد شوقى، وصالون الموسيقار محمد عبدالوهاب، ويلتقى فيها مع كبار الأدباء والشعراء وقادة الفكر. ولاشك أن هذه الفترة كان لها تأثيرها فى إنضاج موهبته كشاعر، وإن كانت هذه الموهبة قد ظهرت قبل ذلك، وله ديوان (الباكورة) وديوان (من بنات الفكر) وأشعار كثيرة متفرقة لم تنتشر فيهما ولم يهتم بنشرها.
وأطول قصيدة نظمها الشيخ الشعراوى كانت فى مدح الرسول، وهو لم يجاوز السابعة عشرة من عمره، وهى بعنوان (الباكورة) يقول فيها: يا ليلة المعراج والإسراء.......... وحى الجلال وفتنة الشعراء
من ذا الذى يحظى بما استعصى على.......... موسى وعيسى صاحب الإحياء
لا غرو إن كانت كعاب محمد .......... إن العظيم يكون للعظماء
الله فضّله على كل الورى.......... أهداه خير العقل والآراء
هو سيد الثقلين المصطفى.......... «يس» أكمل من على البطحاء
هو شبل عبد الله فى أقوامه.......... هو سبط مُطلب حيا الصحراء
هو زهرة من آل هاشم نفحها.......... نور الهدى هو دعوة استجداء
أهدى بك الدنيا لتصلح أهلها.......... يا رافع الفقراء والبؤساء
لك معجزات يا محمد سطرت.......... رفعت مقامك فوق كل لواء
وقد يدهش البعض مما ذكره الشيخ الشعراوى بأنه فى البداية كان يكتب الزجل والشعر العامى ثم انتقل إلى الفصحى، وبدأ تعلقه بالشعر كان عندما سمع فلاحا يغنى ويقول:
تبرم على مين.......... واحنا الكل برامين
من خبط الباب.......... بنعرف اللى برا مين
ولم يذكر لنا الشيخ شيئا مما قاله بالعامية، ولكنه يذكر لنا قصيدة يقول فيها:
تحرّ إلى الرزق أسبابه.......... ولا تشغل بعدها بالكا
فإنك تجهل عنوانه.......... ورزقك يعرف عنوانك
ويذكر قصيدة أخرى عندما سئل هل كتب قصائد فى الغزل فقال:
ومن لم يزلزله الجمال فناقص تكوينه..........وسوى الخلق الله من يهوى ويأذن دينه
وله قصيدة كتبها فى استقبال شهر رمضان كان يرددها دائما كلما استقبل الشهر الكريم يقول فيها:
يا طبيب النفوس أهلا وسهلا..........أنت فقت الشهور زهوا ودلا
أنت للداء داؤه حيث حلا..........إنما الذل فى صيامك أحلى
تكبح النفس عن ورود المعاصى..........ولكل القلوب تقوى وعدلا
وقصيدة أخرى كان يعتز بها ويترنم بها يقول فيها:
حسب نفسى عزا أنى عبد.......... يحتفى بى بلا مواعيد ربى
هو فى قدسه الأعزّ ولكن.......... أنا ألقاه متى وأين أحب
وله قصائد عن الملك فاروق منها قصيدة كتبها عندما سافر فاروق إلى لندن للدراسة وهو ولى العهد قال فيها:
سر إلى الغرب رافقتك السلامة..........يا أمير الصعيد وأنعم إقامة
فلك المجد فى طموحك يبنى..........بعد أن كان من أبيك الدعامة
فكفى النبل من أبيك صنيع..........فى الميراث ناسخ أهرامه
يشهد الله أنه خير ملك..........وهب الشعب فى الرقى مرامه
فبقيتم للملك آل فؤاد..........فى بنى مصر أو تقوم القيامة
وبعد تولية فاروق العرش كتب قصيدة يقول فيها:
أيا فاروق إن بك العزاء..........لمصر وفى جلالتك الرجاء
وقصيدة أخرى يقول فيها:
مفرد المجد أشم باذخ.......... وله الدهر حميدا ناسخ
واسمه فى كل صدر راسخ.......... يا أبيت اللعن يا أنت الرجاء
وفى بداية الثورة وعندما كان الشيخ الشعراوى يعمل فى السعودية أقامت السفارة المصرية حفلاً بمناسبة زيارة (اللواء) عبد الحكيم عامر والدكتور محمود فوزى ألقى قصيدة قال فيها:
عبد الحكيم الفتى من مثله همما.......... فلن يوفيه المهزول من أدبى
استسمح الآن شوقى لأنشده.......... (يا خالد النيل جدد خالد العرب)
عبد الحكيم تولى الله غايتكم.......... يا صاحب الظفر المحتوم أن تثب
قد للمغانم جيش الله مندفعا..........حزما بأركان حرب بُسِّلٍ نُـجب
قولوا الجلاء فإن أكثرتْ مفاوضه.......... (فالسيف أصدق برهانا من الكتب)
الشعراء فى كل واد يهيمِون
كان الشيخ الشعراوى يقول إن الشعراء - كما قال عنهم الله - فى كل واد يهيموِن، وكان هو يجرب موهبته فى كل مجال من مجالات الشعر، وله قصائد كثيرة فى الغزل يقلد بها الشعراء القدامى ويثبت بها موهبته، من ذلك قوله:
سبحان من خلق الجمال والانهزام لسطوته..........ولذاك يأمرنا بغض الطرف عنه لرحمته
وقصيدة أخرى يقول فيها:
أعيش لها عبدا وتحيا مطاعة..........فإن مت يا قومى ومنطقت بالترب
فقوموا امنعوها حقها من تراثه.........فقاتل هذا الميْت يُمنع بالحجب
وواضح فى البيت الأخير تأثره بقاعدة شرعية فى المواريث تمنع القاتل من أن يرث القتيل وهذا هو (الحجب) فى الفقه.
وفى قصيدة أخرى يقول:
لما تناءت عن حبى دنا الأرق..........وعز فى وحدتى أن يطلع الفَلَقُ
آوى إلى مضجعى جمرا كأن به..........شرك القتاد وعظمى منه يخترق
وارحمتاه لصب بات فى بلد..........وقلبه فى سواها بات يحترق
يا رب عبدك فارحمه فإن له..........قلبا بحب العذارى القيد ملتصق
يا لائمين فؤادى أقصروا عتبا..........فالقلب للحب مفتوح ومنبثق
الشعراوى شاعر الوطنية
وللشيخ الشعراوى قصائد وطنية تدل على أنه كان منغمسا فى الحركة الوطنية ومتحمسا لقادتها فى السياسة والفكر ومقاومة الاحتلال، وقد شارك فى المظاهرات الطلابية - حين كان طالبا - وهتف ضد الاحتلال والاستبداد السياسى وكانت قصائده لتشجيع الشباب على المقاومة تلهب مشاعرهم ومنها:
يا شؤمه من منطق.......... رئيسه من أحمق
يقضى على آمالنا.......... فى سابق وأسبق
سياسة ظلمومة.......... غشومه لم ترفق
قد أنكرت حقوقنا.......... بخلف كل موثق
فيا شباب أقدموا.......... لصد شرٍ محدق
وأعلموها أننا.......... من الردى لم نشفق
نموت فى كفاحنا.......... وليبق حرا من بقى
ويا جسوم أمطرى.......... دما، ويا أرض استقى
لمصر روحى ودمى.......... ضحية لمشرقى
وقصيدة أخرى يقول فيها تحية لأرواح الشباب شهداء الحركة الوطنية:
نداء يا بنى وطنى مجاب.......... دم الشهداء يذكره الشباب
وهل تسلو الضحايا والضحايا.......... بهم قد عزَّ فى مصر المصاب
شباب فى الوغى كالأسد أدى.......... رسالته وهاهى ذى تجاب
وقدم روحه للحق مهرا.......... ومن دمه المراق بدا الخضاب
وما التخليد بالنصب استقرت.......... تذكرنا بمن ضحوا وغابوا
ولكن بالمسير على هداهم.......... لنبلغ ماله ضحى الصحاب
وفى قصيدة أخرى يقول:
ومن هاب المعارك عاش عبدا.......... تسير به العدى حيث الخراب
وذو الإيمان إن زأرت أسود.......... يُحقِّرها كما طنَّ الذباب
ولم يشفق إذا ورد المنايا.......... فقد أودى إذا رجم الشهاب
ونظم قصيدة فى ذكرى شهداء الحركة الوطنية التى عاشها بقلبه ويده ولسانه يقول فيها:
لم يمت من زاد عن أوطانه.......... جاعلا من روحه مهر الجلاء
والذى مات لتحيا أمة.......... موته هذا حياة فى فناء
وعندما عاد الشيخ المراغى إلى مشيخة الأزهر بعد أن أبعده الملك وثارت جموع الطلاب وعلماء الأزهر مطالبين بعودته أنشد الشيخ الشعراوى وكان من قادة الحركة الطلابية المطالبة بعودة المراغى:
الله أكبر هذا أجر من صبروا.......... وجاهدوا فى سبيل الحق فانتصروا
الأزهر اليوم قا فاضت بشائره..........وحفّه اليمن لما تحقق الوطر
فأنت رمز له فى كل أعصره..........إذا تباهت بأشياخ به العصر
وله قصيدة أخرى فى مدح الشيخ أبو العيون حين كان عميدا لمعهد الزقازيق الأزهرى.
وعندما اشتدت مأساة المسلمين فى البوسنة والهرسك غضب الشيخ الشعراوى لما يتعرض له المسلمون فى أنحاء العالم من اضطهاد وظلم وصل إلى حد استباحة أرواح الرجال والنساء والأطفال ونظم قصيدة قال فيها:
يا أمة الإسلام عرضك يُكلّم.......... وإذا استكنْت - ولن يكون - سنُعْدمُ
لا يستنيمك أن ربك حافظ.......... فالحفظ للقرآن ليس لأنتم
وللشيخ الشعراوى قصيدة مليئة بالمشاعر الوطنية يتحدث فيها عن النهضة العلمية كطريق وحيد للتخلص من التخلف والفقر والتبعية، ويدعو الشعوب العربية إلى التحرر من كل صور الاستعمار القديم والجديد، ويتوقف عند الوحدة العربية ويعتبرها ضرورة من ضرورات الحياة للشعوب العربية والبديل الوحيد للوحدة هو الخضوع لأطماع القوى الكبرى التى تريد أن يتمزق الكيان العربى لتنفرد بكل جزء منه وتنال منه ما يحقق أطماعها.. يقول:
نحن شعب موحد لا شعوب.......... مزقتها مكائد الأعداء
جمعته الدنيا على لغة العناد.......... وقوى عراه دين السماء
هكذا نرى أن أشعار الشيخ الشعراوى مليئة بالمعانى والأفكار والمواقف، وفيه نتعرف على جوانب من شخصيته كانت مجهولة ولا يعرفها إلا قلة من أصدقائه المقربين الذين صاحبوه فى رحلة الحياة من دقادوس إلى دار الخلود.. وهكذا العبقرية لها تجليات متعددة.