طه حسين فى مواجهة الاستبداد (2- 2)

كانت فترة حكم إسماعيل صدقى فترة سوداء فى تاريخ الحياة السياسية فى مصر، وكانت نقط الخلاف بين طه حسين -المفكر- وإسماعيل صدقى -الحاكم- تجعلها على طرفى نقيض، وتجعل التقارب بينهما مستحيلا -على المستوى الفكرى أو على المستوى السياسى- ولذلك كان طه حسين أكبر معارض لسياسات صدقى باشا ويكتب مقالات نارية فى عدة صحف فى الهجوم على ديكتاتورية صدقى ولم تكن مقالاته تخلو من وصف رئيس الوزراء بالتضليل، وبأن وجوده فى الحكم مأساة لا يمكن احتمالها، وعهده هو عهد الذل والهوان لشعب مصر. و بسبب هذا الموقف عاش طه حسين أصعب فترات حياته، عندما تحدث عنها فى رسالة إلى صديق فرنسى قال إن ما لاقاه ويلاقيه المثقفون فى مصر فى عهد صدقى من الهجوم والرعب ما يجعلهم يواجهون التهديد كل يوم ومع ذلك فإنه -رغم ما يعانى من الاضطهاد- لن يستسلم للاستبداد مهما تحمل.
كان من الطبيعى أن يتصادم طه حسين -المؤمن بالديمقراطية والمدافع عن الحرية- مع إسماعيل صدقى الذى كان مؤمنا بأن الشعب المصرى لا تصلح معه الحياة الديمقراطية وكان لا يخفى ذلك بل يعلن عن سياسة «اليد الحديدية» ولا يهتم باحترام الدستور حتى إنه قام بحل مجلس النواب للمرة الثانية لنفس السبب مخالفًا بذلك النص الصريح فى الدستور بعدم جواز زلك.
وكان صدقى يمارس الضغوط على الصحافة والصحفيين وعلى أحزاب المعارضة ومنها حزب الوفد وهو حزب الأغلبية الشعبية، ويوجه رسائل التهديد للمفكرين وأساتذة الجامعة.
قبل أن يكون رئيسا للوزراء قدم صدقى مذكرة إلى الملك فؤاد برأيه عن السياسات التى يجب فرضها فى البلاد قال فيها إن الحياة الدستورية ونظام الحكم النيابى ليسا من طبيعة الشعب المصرى، وإن هذا الشعب يناسبه حكم الفرد لأنه شعب لم يبلغ من التعليم ما يؤهله لتفهم معنى الحرية والديمقراطية وكيفية الممارسة السلمية للحكم النيابى. وكان هدفه أن يقدم نفسه على أنه أفضل من ينفذ مشيئة فؤاد الذى كان عدوا للحريات، وبالفعل كانت هذه المذكرة التى مست رغبة الملك هى التى جعلته رئيسا للوزراء فى حكومة تمثل الأقلية بينما الأغلبية خارج الحكم.
***
ولم يكن صدقى بعيدًا عن دائرة الضوء فقد كان من الشخصيات السياسية المعروفة شارك سعد زغلول ثم انقلب عليه، وتولى وزارة المالية فى حكومة من حكومات الاقليات التى كان الملك يتحدى بها حزب الأغلبية، وكان معروفًا بأنه من أكثر المقربين والمتعاونين مع سلطات الاحتلال الإنجليزى، ولا يخفى ذلك مبررًا موقفه بأن عدم الوقوف فى وجه الإنجليز من حسن السياسة لأنهم أصحاب القوة فى البلاد ومقاومتهم لن تجدى!.
هاجم طه حسين إسماعيل صدقى هجوما فى غاية العنف حين طلب من الملك حل مجلس النواب للمرة الثانية بالمخالفة للدستور، وهاجمه لأن صدقى كان يجمع ثلاثة مناصب فى الحكومة، فهو رئيس الوزراء، ووزير المالية، ووزير الداخلية، وعندما اشتد الهجوم اضطر صدقى إلى تعيين وزير للداخلية واحتفظ لنفسه بالمنصبين رئيسا للوزراء ووزيرا للمالية.
***
لم يترد صدقى فى فصل طه حسين وهو استاذ بالجامعة فى ذات اليوم الذى كان عليه أن يتسلم منصب عميد كلية الآداب، ولم يكتف بالفصل وأحاله إلى التحقيق فى عدة اتهامات كان أغربها تهمة «الاتصال ببعض الهيئات الأجنبية» والمقصود بها منظمة اليونسكو الدولية.
ولم يستطع طه حسين أن يسكت على ما اعتبره جريمة فى حق الوطن حين تنازل إسماعيل صدقى عن واحة جغبوب وهى أرض مصرية، وهاجمه حين أحال الصحفى الكبير توفيق دياب إلى المحاكمة فى قضية من قضايا الرأى. وكتب طه حسين أن صدقى ينفذ إرادة الإنجليز وهم أعداء البلاد مهما عرّض ذلك مصالح البلاد للضياع، وإن بقاء صدقى فى الحكم خطر على حقوق مصر ومصالحها، ثم هاجمه لأنه وضع على الجامعة قيودًا ثقيلة. وكتب محذرًا من أن حكومة صدقى تمثل الرجعية الفكرية والاجتماعية وتقود البلاد إلى عصر الظلام بعد أن أغلقت معهد التمثيل وحاربت الاختلاط فى الجامعة بحجة (التقاليد) ولأنها تحارب حرية الفكر وتقف ضد التجديد.
فى نفس الوقت كانت لطه حسين مواقف معارضة للملك فؤاد وهذا ما جعل الملك فؤاد يؤيد صدقى فى كل ما فعله لاضطهاد ومطاردة طه حسين.
***
لكن هجوم طه حسين على صدقى بلغ أقصى ما يمكن من العنف حين الغى دستور 1923 وهو أول دستور لمصر الحديثة وفيه نصوص تحمى مبادئ الديمقراطية وتحمى الحريات، وكان صدقى -قبل أن يكون رئيسًا للوزراء- يعلن ترحيبه بهذا الدستور وبأنه يمثل إرادة الشعب، لكنه -بعد أن صار رئيسًا للوزراء- الغاه ووضع بدلا منه دستور سنة 1930 الشهير الذى يكدس سلطة الملك. وبعد أن كان دستور 23 يقرر أن الملك يملك ولا يحكم جاء دستور 30 ليقرر أن الملك يملك ويحكم وأن له سلطة التشريع مع مجلس الشيوخ والنواب، وله وحده اقتراح القوانين المالية والغى بذلك ما كان فى دستور 23 من أن البرلمان هو الذى يقترح هذه القوانين، وبالإضافة إلى ذلك نص دستور صدقى على أن سلطة الملك مطلقة فى رفض التصديق على القوانين التى يوافق عليها البرلمان، وكان دستور 23 ينص على الملك إذا لم يوافق على قانون يعيده إلى البرلمان وإذا لم يرد القانون خلال شهرين يعتبر ذلك تصديقًا عليه، أما دستور 30 فقرر إذا لم يرد الملك القانون يعتبر كأن لم يكن (!) وكان دستور 23 يقرر الحصانة لأعضاء البرلمان فجاء دستور 30 ليقرر جواز إحالة نواب البرلمان إلى المحاكمة على ما يقع منهم فى العيب فى ذات الملك أو أحد أعضاء الأسرة المالكة فى جلسات البرلمان. وبهذا النص حوكم العقاد بتهمة العيب فى ذات الملك تحت قية البرلمان وحكم عليه بالسجن وهو نائب فى مجلس النواب.
***
لم يكن ممكنا لمفكر فى حجم طه حسين أن يقبل التصالح مع إسماعيل صدقى حين توسط بعض الباشوات ذوى النفوذ، ولم يكن ممكنا أن يهادن أو يسكت فضلا عن أن يتعاون ويقبل رئاسة تحرير جريدة الشعب التى أنشأها صدقى وفرضها على العمد والمشايخ، وقد رأى البعض -فى ذلك الوقت- أن مواقف طه حسين من صدقى كانت بدافع (العناد) ومبالغة طه حسين فى الاعتزاز بنفسه حتى إنه علق على الذين هاجموه بسبب كتابه عن الشعر الجاهلى (وماذا علينا إذا لم يفهم البعض) والحقيقة أن مواقف طه حسين كانت نابعة من ضميره وإحساسه بالمسئولية فى الدفاع عن الحريات وهو موقف ثابت لم يتغير ولم يتنازل عنه أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف