أين التسامح الدينى واحترام حقوق الإنسان فى أمريكا؟!
 فى المدارس يقرأ التلاميذ بيتا من الشعر يقول: يا أيها الرجل المعلم غيره.. هلا لنفسك كان ذا التعليما.. والمعنى أنهم يريدون تعليم الأطفال أن يبدأوا بإصلاح أنفسهم قبل أن يحاولوا إصلاح غيرهم.. وفى الكنائس-والمدارس أيضا- يقرأ التلاميذ قول السيد المسيح لماذا ترى القشة فى عين أخيك، ولا ترى الخشبة التى فى عينك ؟ والمعنى أن على الإنسان أن ينظر إلى عيوبه ويعالجها أولا قبل أن ينظر إلى عيوب الناس، وقد تكون عيوبه أكبر بكثير مما يعيبه على الناس.. وهذا بالضبط ما ينطبق على أمريكا ، وكما تعكسه الصحافة الأمريكية.

فالولايات المتحدة تشن الحروب، وتمارس الضغوط على الدول لكى تطبق النموذج الأمريكى فى الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتسامح الدينى إلى آخر القائمة المعروفة.

ومن قراءة صحيفة أمريكية واحدة محترمة مثل نيويورك تايمز وما تنقله عنها صحيفة هيرالد تريبيون يمكن أن نعرف إن كان النموذج الأمريكى هو مثال الكمال الذى يجب أن تحتذى به سائر الدول، أم أن هذا النموذج ذاته به من الخلل ما يكفى لكى يطالب الأمريكيون بإصلاحه، كما يفعلون الآن؟ بل أن يطالب العالم أيضا بهذا الإصلاح، لأن أمريكا قد أصبحت  القوة التى لا مثيل لها فى العالم، فإن ما يجرى فيها يؤثر فى العالم بقوة عن طريق التأثر والمحاكاة والتقليد.

<U>هل فى أمريكا تسامح دينى ؟</U/>

المفكر الأمريكى الشهير نعوم تشوفسكى الأستاذ بمعهد ماساشوتس صدر له كتاب بعنوان ( 11 سبتمبر ) ترجم إلى كل لغات العالم تقريبا،أشار فيه إلى التاريخ الإرهابى لأمريكا، وقال بمنتهى الصراحة: إن ثقافة الولايات المتحدة من أكثر  الثقافات تطرفا وتعصبا دينيا على المستوى الشعبى، وإن أعضاء تنظيم طالبان، وأعضاء الجماعات الإسلامية المتطرفة هم الأبناء الذين قامت على تنشئتهم وإعدادهم واحتضانهم الأجهزة الأمريكية. وفى تلك الفترة كان  التعصب الدينى فى أمريكا متجها إلى الكنيسة الكاثوليكية فى أمريكا اللاتينية لأنها كانت تساند (حزب الفقراء).

وفى يوم 6 فبراير 2003 نشرت الصحف الأمريكية تقريرا قالت فيه إن مجلس العلاقات الأمريكية ناشد كوفى عنان الأمين العام للأمم المتحدة بأن تقوم المنظمة الدولية بإجراء تحقيقات حول القوانين الأمريكية التى صدرت بعد 11 سبتمبر، وذلك من حيث مشروعيتها، وأساليب تطبيقها، وذلك بالإضافة إلى القمع السياسى للمسلمين العرب والآسيويين والأفارقة، وحتى المسلمون الأمريكيون يتعرضون أيضا لهذا القمع، أما قوانين الهجرة فإنها تهدف إلى مطاردة واضطهاد القادمين من دول إسلامية، وقد قامت السلطات الأمريكية بترحيل عدد كبير من الأسر المسلمة وتشتيت عدد آخر، ولم تستجب الإدارة الأمريكية إلى شكاوى المسلمين، أو الرد على استفساراتهم والتماساتهم بوقف هذه السياسات العنصرية، ولم يعد أمام المسلمين المقيمين فى الولايات المتحدة سوى أن يلجأوا إلى الأمم المتحدة للتحقيق وإصدار مطالبة دولية للإدارة الأمريكية بتطبيق الديمقراطية الحقيقية التى جاءت هذه القوانين على عكسها.

وفى هيرالد تريبيون يوم 13/3/2003 مقال بعنوان (الإسلام تحت التهديد) كتبه ديفيد ستينبرج مدير مركز الدراسات الآسيوية بجامعة جورج تاون بواشنطن  أنه من المحتمل ظهور موجة من الغضب المعادى لأمريكا فى جنوب شرق آسيا وهذه المنطقة تضم خمس عدد مسلمى العالم، والأرجح أن ينفجر هذا الاستياء ويظهر فى شكل عنف. وبالرغم من الجهود التى تبذلها الحكومات الآسيوية للسيطرة على مشاعر الغضب، فإن المسلمين فى جنوب شرق آسيا ينظرون إلى الهجوم على العراق على أنه هجوم على بلد مسلم وعلى الإسلام خاصة بعد الهجوم الأمريكى على أفغانستان وتهديدها لإيران، بحيث يبدو أنه ليس لأمريكا عدو غير المسلمين! ونتيجة لذلك فسوف يضعف تعاون جنوب شرق آسيا فى الحملة ضد الإرهاب، لأن الحكومات ستجد صعوبة فى الوقوف ضد الرأى العام، وحتى لو تحالفت بعض الدول العربية مع الولايات المتحدة ضد العراق فمن المستبعد أن يخفف ذلك من حدة الشعور العدائى لأمريكا خاصة فى دولة مثل أندونيسيا، حيث أصبح العنف الطائفى  متوطنا فى بعض المناطق، ومن المثير للسخرية أن أندونيسيا-وترتيبها الرابع بين أكبر دول العالم سكانا-عندما  تحولت من الحكم الشمولى إلى  الديمقراطية والتعددية أصبحت قدرتها على السيطرة على العنف أقل. ومع سعى الولايات المتحدة للسيطرة على الإرهابيين والمشتبه فيهم يتعارض مع ما تطالب به دول جنوب شرق آسيا من تطبيق الديمقراطية والالتزام بالقانون.

***

وفى عدد 5/3/2003 مقال فى هيرالد تريبيون بعنوان (المسيحيون الجدد يزداد نفوذهم) كتبه نيكولاس كريستوف قال فيه إن الإنجيليين أو المسيحيين الجدد فى أمريكا يمثلون 46% من الأمريكيين، وتلك هى النسبة التى أعلنها معهد جالوب فى ديسمبر 2002  وقد انتقل الإنجيليون من الهامش ليصبحوا فى قلب الحياة الأمريكية، كما هو واضح فى الإدارة  الحالية، ومن المستحيل فهم الرئيس جورج دبليو بوش دون معرفة التأثير الكبير للعقيدة عليه، ودون معرفة كيف يرى نفسه، فإن رؤيته لنفسه أنه المخلص المنتظر للعالم.. ليخلص العالم من الشر..

وفى رأى روبرت فوجل الأستاذ بجامعة شيكاغو أن أمريكا تمر الآن بمرحلة صحوة دينية كبرى، وتعتبر هذه الصحوة الدينية الرابعة تاريخيا، بعد الصحوات الدينية التى اكتسحت أمريكا خلال القرون الثلاثة الماضية. فقد أصبح الإنجيليون هم الأكثر  أهمية وتأثيرا فى الثقافة الأمريكية، وعلى سبيل المثال فإن أكبر الكتب مبيعا فى أمريكا سلسلة دينية مسيحية بعنوان (ألق وراء ظهرك) Left behind يكتبها تيم لاهايى Tim Lahaye عن سفر الرؤيا، وقد بيع من هذه السلسلة 50 مليون نسخة، وأشهر شخصية تلفزيونية فى أمريكا الآن هو بينى هين Benny Hinn ويعرض البرنامج فى 190 دولة وهو إنجيلى.

والرئيس بوش يؤمـن بالأفكار الدينية المتعصبة، فعلى سـبيل المثال أعلـن أنه لا يؤمن بنظرية التطور، وهذا ما كان يقوله الرئيس الأسبق رونالد ريجان أيضا، ومثل هذه الأفكار تمثل نموذج الفكر الأمريكى، وقد أظهر استطلاع للرأى أجراه معهد جالوب مؤخرا أن 28% فقط من الأمريكيين يؤمنون بنظرية التطور، وأن 68% من الأمريكيين يؤمنون بوجود الشيطان، ويمثل الإنجيليون الصفوة المؤثرة، ويقول نيكولاس كريستوف: إن عواقب هذا النفوذ الدينى المتزايد ستكون محزنة، وقد منعوا تعليم الجنس، وسيؤدى ذلك إلى انتشار الإيدز داخل وخارج أمريكا، كما سيؤدى إلى زيادة كبيرة فى حالات الحمل خارج الزواج، أما أصحاب الفكر الليبرالى فإن تأثيرهم يقل، وكثيرون فى أمريكا لا يعرفون شيئا عن ديانة شعب أفغانستان، وعموما فإن المجتمع الأمريكى يعانى من الانقسام بين الإنجيليين والعلمانيين وثغرة الشك المتبادل بين الجانبين، وما يظهر على السطح نتيجة لذلك من معارك على سياسات الإجهاض، وغيرها، ويتبادل هؤلاء وهؤلاء التعبيرات التى تدل على ازدراء كل منهما للآخر.

***

وفى عدد 19/5/2003 مقال فى هيرالد تريبيون بعنوان (كيف يؤثر  الدين على الرئيس) كتبه بيل كيلر قال فيه: إن الرئيس بوش متشدد دينيا، ويقود حشدا فى هذا الاتجاه، وتتحدث عن ذلك جماعات فى أنحاء أمريكا من الجامعات، إلى مانهاتن، إلى هوليود، وحتى مواقع الانترنت، ويرى هؤلاء أن بوش مبشر دينى، ولديه جدول أعمال أخلاقى ينبع من مسيحيته التى ولدت حديثا، وهو الذى سلم الأمور الرئاسية إلى اليمين الدينى مقابل أن يفيده نفوذهم فى الحملة الانتخابية الثانية، وهو يرد كل ما يقولونه ابتداء من الربط بين صدام حسين وتنظيم القاعدة وتنظيمات الإرهاب إلى قضية اللواط.. والذين يوجهون النقد إلى بوش يظهرون انزعاجهم  من التشدد الدينى عنده، ويقولون إن ذلك يساهم فى إعطاء صورة من الغرور الصليبى، ويثير عدوانية الآخرين ضد أمريكا.

وفى الفترة الأخيرة رفض الرئيس بوش أداء السناتور ريك سانتوريوم عضو مجلس الشيوخ، وهو كاثوليكى رومانى متشدد يطالب بأن تقوم السلطات بالقبض على الشواذ جنسيا، وتهاجمهم فى غرف نومهم، وأن يصدر قانون بتحريم الأزواج الذين يستخدمون وسائل منع الحمل.

ويقول بيل كيلر: كنت أتحدث مع بعض الأشخاص المختصين  فى الشئون الدينية الذين يعرفون بوش عن قرب، فوجدت كثيرين يؤمنون بأن الدوافع الدينية هى القوة المحركة للرئيس بوش، وهى أهم مكوناته السياسية، ومعروف ان الرئيس بوش كان سكيرا، ثم أقلع عن الخمر عندما بلغ سن الأربعين، عندما استسلم لتجربة دينية قوية زادها قوة تفرغه لدراسة الكتاب المقدس مع جماعته، وهذا أمر شائع فى أمريكا، يؤدى إلى الإيمان الشديد الذى لا يخالجه الشك بعد ذلك، ويشعر المشاركون فى هذه الجماعات أن حياتهم تحسنت بعد ذلك، وبوش مرتبط بالكنيسة بشكل منظم ومنهجى، وباللغة اللاهوتية يعتبر من أهل التقوى، والدين عنده مسألة عقيدة بالقلب وليس بالعقل، وإيمان بوش قائم على علاقة مباشرة بينه وبين الرب، بدون وساطة، وليس له مرجع إلا الكتاب المقدس، ويقول المقربون منه إنه مدفوع بقوة إيمانه لعمل ما يرى أنه العمل الصحيح.

ويتساءل بيل كيلر: كيف يؤثر هذا اليقين الدينى على بوش كرئيس؟ فيقول: إن هذا التشدد الدينى يجعل بوش يصنف القادة على أساس تمسكهم بالعقيدة المسيحية، فرئيس الوزراء البريطانى تونى بلير فى نظره أكثر القادة البريطانيين تقوى منذ جلادستون، فى حين أن كلا من رئيس فرنسا جاك شيراك، والمستشار الألمانى جيرهارد شرودر علمانى، ويذكر بوش لشرودر أنه أول مستشار ألمانى رفض فى حفل تنصيبه ان يقول فى ختام حلف اليمين: ساعدنى يارب.

وقد كتب مسيحى ليبرالى معروف هو ايستر بروك يقول: أعتقد أن بوش يرى أن الصراع الأكبر سيكون بين الذين يؤمنون بالله ومن يؤمنون بالمادة، ويرى أيضا أن العلاقة مع الرب هى نوع من المصافحة، ويكرر بوش فى خطبه ذكر الله ويختم كل حديث بقوله: ليبارككم الله، و(فليبارك الله أمريكا) وهذا ما يزعج الأمريكيين الذين عاشوا على أن أمريكا بلد علمانى وليس بلدا مسيحيا، كما يزعج العلمانيين فى أوربا ويرون أنه يقول فى سره: (وليذهب كل شخص وكل بلد  آخر إلى الجحيم). وهذا الانزعاج راجع إلى إسراف بوش فى استخدام لغة دينية طائفية، وهو أول رئيس يعلن ولاءه للكنيسة، ويتردد عليها كثيرا، ويقول القريبون منه إن عقيدته الدينية تملى عليه الطريقة التى يتخذ بها قراراته ولا تملى عليه القرارات ذاتها، وهم لا يعرفون ما هى القرارات التى يتخذها من وحى إيمانه الدينى والقرارات التى يتخذها بحسابات ومصالح سياسية.. فهو يؤيد البرامج الاجتماعية مثلا بدافع الإيمان الدينى وتجربته الدينية الشخصية، ويرى أن الدين هو السلاح الذى يمكن أن يعالج به مشكلات كثيرة مثل انتشار المخدرات وهذا ما دفعه إلى التحمس لإصدار قانون لمنع الإجهاض المتأخر، ولم يعلن موقفه حتى الآن من الحرية الجنسية هل يؤيدها أو يعارضها، والأهم من ذلك أن التشدد الدينى هو الذى يمنح بوش ثقة شديدة فى نفسه وفى كل قرار يتخذه وكل عمل يقوم به، وكان ذلك واضحا أشد ما يكون فى أحداث 11 سبتمبر والطريقة التى تحدث بها إلى الأمريكيين وإلى العالم.

ويقول بيل كيلر: إن جيرى فالويل وبات روبرتسون قدما إلى الرئيس بوش فكرة تحويل الحرب على الإرهاب إلى حرب دينية، وهذه الفكرة أعطت بوش فرصة عظيمة للظهور فى صورة المصلح العالمى، أو مخلص العالم من الشر، ولدى كارل روف فى البيت الأبيض بذكائه السياسى خطة لتوسيع نطاق دائرة المؤمنين وربطهم بالحزب الجمهورى، وهؤلاء من المتشددين فى العقيدة الكاثوليكية، والإنجيليين، واليهود، والمورمون، وإذن فإن القضية ليست فى أن بوش أسير لليمين الدينى، ولكن القضية الأهم أن معاونيه يعملون بقوة على أن يجعلوا اليمين الدينى مرتبطا بالحزب الجمهورى!

***

<U>هل فى أمريكا حقوق الإنسان ؟</U/>

جون شاتك فى مقاله فى نيويورك تايمز يوم 28/12/2001 بعنوان (مراعاة حقوق الإنسان فى كل مكان) يقول : إن وزارة الخارجية الأمريكية تنشر تقريرا  سنويا عن حقوق الإنسان فى كل دولة من دول العالم، وهذا التقييم أصبح منذ الآن أصعب مما كان فى أى وقت سابق، ففى سنوات التسعينات كان التقرير ينتقد ما تقوم به الحكومات من اعتقالات لا يعلن عنها، ومحاكمات عسكرية، فى بيرو، ونيجيريا، وروسيا، ومصر، ودول أخرى كثيرة، ولكن منذ الآن فإن الأمريكيين لديهم نفس الممارسات، وأصبحنا نطالب بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان فى داخل أمريكا، بينما أصبح مسموحا بإجراء محاكمات سرية، وسوف يكون ذلك مبررا لأن تقدم دول أخرى متهمين أمريكيين إلى محاكمات مماثلة، كما ستؤدى إلى تقليل فرص تسليم الإرهابيين الذين يتم القبض عليهم فى الخارج ما دامت المحاكمات فى أمريكا لم تعد ملتزمة بحقوق الإنسان، والاستمرار فى تجاهل حقوق الإنسان سوف يزيد من صعوبة إقناع الدول الأخرى بمراعاة حقوق الإنسان فيها، بينما تعلمنا من جرائم 11 سبتمبر أن الإرهاب ينمو أكثر فى الدول التى تسىء إلى حقوق الإنسان، فقد ازدادت قوة تنظيم القاعدة فى أفغانستان، لأن نظام حكم طالبان كان يمارس كل صور القمع على المجتمع كله، ويفرض التفرقة العنصرية الوحشية ضد النساء، وكان نموذجا للتعصب الدينى، وقتل وتعذيب المدنيين، وفى السنوات الماضية فإن البوسنة، ورواندا، والصومال، وتيمور الشرقية، وهايتى، وسيراليون، والشيشان، وكوسوفو، ومناطق أخرى، عاشت فى كوارث مماثلة لكارثة طالبان، من الإساءة إلى حقوق الإنسان، وجاءت أحداث 11 سبتمبر لتكشف العلاقة بين الإرهاب وسوء ممارسات أنظمة الحكم ضد حقوق الإنسان، مما يعنى أن الجهود لنشر حقوق الإنسان يجب أن تشمل جميع دول العالم دون استثناء. ولكن منذ توقيع الميثاق العالمى لحقوق الإنسان فإن مراعاة حقوق الإنسان لم تكن من سمات السياسة الأمريكية، وهذا يفرض على الرئيس بوش مراعاة ذلك، وذلك فى صالح الأمن القومى الأمريكى، ولكن أمريكا كانت دائما ترفض التوقيع على معاهدات مع الدول الأخرى للالتزام بحقوق الإنسان، ولم تتحرك أمريكا من أجل حقوق الإنسان التى كانت تنتهك فى أفغانـستان وروانـدا، وكـانت أمـريكا تعلـم ذلك جيـــدا. لذلك نحن -الأمريكيين-نحتاج إلى تأكيد التزامنا وتعهدنا باحترام الحقوق المدنية فى داخل أمريكا حتى نعطى النموذج أمام الدول الأخرى.

وملخص مقال جون شاتك أن على أمريكا أن تبدأ بنفسها قبل تطالب الآخرين بمراعاة حقوق الإنسان!

***

وفى نيويورك تايمز أيضا كتب انتونى لويس يوم 17/12/2001 مقالا بعنوان (العلاج الوحيد للجنون هو احترام القانون) قال فيه : إن التعصب وجمود الفكر أمام النصوص وفهمها فهما حرفيا كان ينسب إلى جماعات من المسلمين يهددون أمن المجتمعات، ويرفضون التفكير العقلانى، ولكن هذا الاتجاه غير العقلانى ليس بين المسلمين وحدهم، بل إنه موجود فى أمريكا أيضا، ففى أمريكا مسيحيون يؤمنون بجمود النصوص وفهمها  فهما حرفيا، ويرفضون النظريات العلمية بناء على ذلك، وفى العقود الماضية كان التطرف فى التدين مرض وفى الوطنية يمثل وحدة مخيفة تتعارض مع العقل، فقد قام الصرب باسم الدين والتاريخ القومى بقتل الآلاف ، وتشريد الملايين فى عملية التطهير العرقى للبوسنة، كما أدى الجمود والتطرف فى فهم الديانة اليهودية والنزعة الإسرائيلية إلى قيام إسرائيل ببناء المستعمرات فى الأراضى الفلسطينية وإشعال حركة النضال الإسلامى بين الفلسطينيين.

ومنذ بناء الولايات المتحدة كانت الثقة فى العقل هى حجر الأساس فى هذا البناء، ولذلك حرص الرجال الذين اجتمعوا فى فيلادلفيا عام 1787 لإنشاء الولايات المتحدة على أن يكون الأساس لهذه الدولة هو الدستور والقانون. ولكن أمريكا لم تكن دائما مخلصة فى الالتزام بالقانون، ففى أوقات الحروب والضغوط خالفت القوانين، وعلى سبيل المثال عندما شعرت أمريكا بالخوف من الإرهاب اليعقوبى فى فرنسا قامت بأعمال القمع فى عام 1798 ، وفى الحرب العالمية الأولى تعرض الرجال والنساء لأحكام بالسجن لمدد طويلة لمجرد أنهم أعلنوا آراء سياسية فيها نقد لتوجهات الحكومة، وفى الحرب العالمية الثانية زادت عمليات الاعتقال، وكذلك فى الحرب الباردة وباسم الخوف من الشيوعية انتشرت عمليات القمع والتنكيل، وبعد 11 سبتمبر تم اعتقال أعداد كبيرة من الأجانب لعدة أشهر، وقام النائب العام بفرض إجراءات قمعية تحت قانون الأدلة السرية الذى لا يلزمه بتقديم أسباب لهذه الإجراءات، مع أن ذلك من علامات الاستبداد.. وكيف يتفاءل المرء بمستقبل حقوق الإنسان فى أمريكا بعد ما حدث فيها خلال حرب فيتنام، وبعد أن تم قتل أعداد كبيرة لمجرد قيامهم بالدفاع عن حقوقهم المدنية؟ وبعد أن توسعت الإدارة الأمريكية الحالية فى إثارة الفزع ووضعت الخطط الفاسدة باسم حماية الأمن القومى، والأمريكيون يشعرون بالندم على الأخطاء التى ارتكبتها حكوماتهم فى حقوق الإنسان فى الماضى، وتعلم الأمريكيون من الندم  على هذه الأخطاء أنه لا يمكن أن يكتسب حاكم ثقة الناس عن طريق الاستخدام التعسفى للسلطة، ولكن ها هى ذى الإدارة الأمريكية تفعل نفس الشىء.

وسوف تتعلم نفس الدرس مرة أخرى. لقد قامت فى أمريكا ثورتان: الأولى لإنهاء التفرقة العنصرية والثانية لتحقيق المساواة للمرأة، ولكن الثورتين لم تحققا أهدافهما حتى الآن.

وفى النهاية على الأمريكيين أن يدركوا  أن تحقيق الحرية فى ظل القانون ليس سهلا، والخلاصة أن أهم دور فى بناء الديمقراطية هو دور المواطن.

وخلاصة ما أراد انتونى لويس أن يقول: إن أمريكا تضغط على الدول لكى تلتزم بمراعاة حقوق الإنسان بينما لا تراعى هى حقوق الإنسان، وتضغط على الدول من أجل إنهاء التفرقة العنصرية وعدم مساواة المرأة بينما لم تصل هى إلى ذلك بعد!!

***

وفى نيويورك تايمز أيضا كتب مايكل ايجناتيف يوم 6/2/2002 مقالا بعنوان.. هل العمل لتحقيق الأمن سيؤدى إلى إهدار ميثاق حقوق الإنسان؟. قال فيه: لقد ظلت أمريكا تتحدث عن حقوق الإنسان طوال فترة الحرب الباردة، ولكن بعد 11 سبتمبر أصبح التساؤل.. هل انتهى عهد حقوق الإنسان؟. ولكى ندرك الخطر نشير إلى أن الضغط من أمريكا ودول الغرب على الصين يمارس بقوة من أجل احترام حقوق الإنسان، ولكن عندما أيدت الصين فى الحرب الأمريكية باسم محاربة الإرهاب ساد الصمت فى أمريكا على ما يحدث فى الصين، وبدأت أمريكا فى ترديد أن الصين إنما تمارس القمع ضد الإرهابيين والمتشددين الإسلاميين وتقبل فكرة الربط بينهم  وبين تنظيم القاعدة، وفى نفس الوقت بدأت أصوات فى أمريكا وألمانيا تعلن أن حرب روسيا فى الشيشان حرب على الإرهاب وأن المقاتلين فى الشيشان على صلة بتنظيم القاعدة، ويتناسى هؤلاء أن روسيا فى الشيشان لا تحارب تنظيما، ولكنها تحارب شعبا بأكمله!. وأدت هذه الحرب طوال عشر سنوات إلى قتل عشرات الآلاف من أبناء الشيشان. كذلك تستخدم حكومة استراليا حجة الإرهاب لتبرير اعتقال اللاجئين الأفغان فى منطقة صحراوية، وكذلك فعلت طاجيكستان وأوزبكستان فى ممارسة القمع، والسودان التى كانت أمريكا تتهمها بإهدار حقوق الإنسان أصبحت تؤيدها كحليف ضد الإرهاب.

يقول مايكل إيجناتيف إن انشغال أمريكا بأمور أصبحت لها الأولوية لا يعنى أن موضوع حقوق الإنسان قد انتهى من بين أولوياتها، وأن احترام حقوق الإنسان داخل أمريكا هو المقدمة الضرورية للدفاع عن حقوق الإنسان خارجها، ولكن الأمل فى حماية أمريكا لحقوق الإنسان كان لفترة وانتهت عندما  كانت تدفع الأمم المتحدة لإدانة انتهاكات الدول لحقوق الإنسان، وتعمل وزارة الخارجية الأمريكية على الضغط على الدول لاحترام حقوق الإنسان، لكن هذه الفترة انتهت، لأن القوة العسكرية الأمريكية فى ذلك الوقت كانت تعانى من الفراغ، وبعد أن بدأت أمريكا الحملات العسكرية لم تعد لديها الطاقة السياسية للعمل فى مجال  حقوق الإنسان، فضلا عن أن المناخ الفكرى والسياسى فى الولايات المتحدة الآن يشبه المناخ الذى كان سائدا أيام الحرب الباردة، بل إن المناخ الآن فى أمريكا أكثر سوءا عما كان أيام الحرب الباردة، وقد تراجع ريجان عن الاهتمام بحقوق الإنسان، أما بوش فإنه عديم الصلة بالموضوع.. وسيجد أنصار حقوق الإنسان فى أمريكا أنفسهم فى معركة التحدى لهذا الادعاء بأن الأمن القومى يتعارض مع حقوق الإنسان، وعليهم أن يرسخوا مبدأ أن حقوق الإنسان هى أفضل ضمان للأمن القومى. وأن ضمان مستقبل حقوق الإنسان هو الضمان لخلق الاستقرار السياسى، ولذلك  يجب على الأمريكيين ألا يستمروا فى الصمت على الاعتقالات التعسفية والمحاكمات العسكرية وقانون الأدلة السرية وغير ذلك مما يجرى فى بلادهم، ولا يكفى الاستنكار، ولكن يجب التدخل والتعاون مع النشطاء وتحريك المجتمع الأمريكى لحماية أمريكا من الكارثة.. على الأمريكيين أن يعملوا على الدفاع عن حقوق الناس، وإذا لم يعملوا فسوف يحاسبهم التاريخ!

خلاصة ما أراد أن يقوله مايكل ايجناتيف. إن إهدار حقوق الإنسان فى أمريكا بحجة حماية الأمن القومى ومحاربة الإرهاب يجب ألا يستمر لكيلا تفقد أمريكا مصداقيتها عندما تنصب نفسها المدافع عن حقوق الإنسان فى العالم!

***

وفى أبريل2002 أعلنت مجموعة من 128 مثقفا ومفكرا أمريكيا معارضتهم تقديم الحرب الأمريكية على أنها حرب على الإرهاب وأنها حرب عادلة. ووجهوا رسالة إلى نظرائهم الأوروبيين طالبوهم فيها بتوجيه انتقادات صريحة لسياسة الحرب التى تخوضها الإدارة الأمريكية. وعارضوا فى رسالتهم ما تدعيه الإدارة الأمريكية من أن هذه الحرب هى حرب بين الخير والشر، وعارضوا أيضا التفسير الذى يقدمه الرئيس بوش للشعور المعادى للولايات المتحدة. وقالوا إن هذه الحرب اعتداء على حقوق الإنسان.

وقال المثقفون الأمريكيون إنهم أرادوا بهذه الرسالة طرح فكرة مختلفة عن أفكار المغالاة فى التعصب القومى فى الصحف والإدارة الأمريكية وبين الجماهير الأمريكية أيضا، وأكدت الرسالة أن الكثير من المطلعين على الحقائق داخل الحكومة يدركون مخاطر الجنون الذى يدفع إدارة بوش إلى الحروب، ولكن القليلين لديهم الجرأة للتعبير عن رأيهم بصراحة، لأنهم يخشون أن توجه إليهم التهمة التى اعتادت الإدارة الأمريكية أن توجهها إلى كل من يخالفها، وهى تهمة العمل ضد أمريكا وبهذه التهمة تحقق الإدارة الأمريكية الأصوات المعارضة، وتطلق العنان أمام جوقة من العصبية الشوفينية المهيمنة على وسائل الإعلام. وطالبت الرسالة الأوربيين بأن يعلنوا معارضتهم لسياسة الإدارة الأمريكية بصوت عال لكى يصل إلى الإدارة وإلى الشعب فى أمريكا.

وقالت رسالة المثقفين الأمريكيين-وهم من صفوة المؤرخين والأدباء والكتاب والمبدعين-لماذا يكرهنا العالم؟ إن الإدارة الحالية تدعى أنهم يكرهوننا لأننا ناجحون، ويكرهوننا بسبب القيم الأمريكية، وهذا غير صحيح، فإن معظم الأمريكيين لا يدركون أن استخدام القوة العسكرية الأمريكية فى الخارج له آثار سيئة لا علاقة لها بالقيم التى يعتنقها الشعب الأمريكى فى الداخل، بل إن هذه الحروب تحرم شعوبا أخرى من التمتع بهذه القيم.

***

وكان المثال الحى للممارسات الأمريكية لحقوق الإنسان عندما اعتقلت القوات الأمريكية فى العراق الشيخ محمد الفرطوسى وهو من زعماء الشيعة وله أتباع كثيرون، وبعد أن خرج من المعتقل قال فى أحاديثه لشبكات التلفزيون: إن الوسائل التى اتبعتها القوات الأمريكية معه أثناء اعتقاله كانت أسوأ من وسائل النظام العراقى فى حكم الدكتاتور صدام حسين، وقال إن القوات الأمريكية مارست عليه كل ألوان الإهانة من التقييد بقيود حديدية، والضرب، والمنع من الحركة، وقال الفرطوسى لمئات من اتباعه الذين احتفلوا بخروجه من المعتقل الأمريكى: كان الأمر بشعا، ورغم ذلك لم يرفع أى من شبابنا الواعى السلاح فى وجه الأمريكيين، ولكن إذا تكرر ذلك فماذا سينجم عن الغضب الجماهيرى؟

وجاء بعد أن أنكرت سلطات الاحتلال الأمريكية أنها اعتقلت الفرطوسى وعددا من رفاقه وأفرجت عنهم بعد أن رأت أن اعتقاله سوف يؤدى إلى توتر بين الشيعة وقوات الاحتلال.

***

وليس هذا كل شىء .. فالحديث يطول !
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف