رسالة إلى أحفاد خنفس باشا
 ليس غريبا أن نجد فى الصحافة ونشاهد فى بعض الفضائيات العربية مفكرين وكتاباً يرحبون بالاحتلال الأمريكى ويروجون لفكرة أن الوجود العسكرى الأمريكى فى المنطقة ليس استعمارا قديما أو جديدا، ولكنه تحرير للعالم العربى.. ليس غريبا أن نجد فى الصحافة العربية من كنا نسميهم (أعوان الاستعمار).. لأن الاستعمار لا يدخل بلدا.. ولا يستقر.. إلا إذا كان له (أعوان)..

وبعض هؤلاء الأعوان يدافعون عن وجود الاحتلال الأمريكى بحماسة شديدة لا نجدها فى الصحافة الأمريكية.. بل نجد فى الصحافة الأمريكية عكس ما يقوله بعض الكتّاب العرب، وهم أجيال جديدة من أحفاد خنفس باشا الخائن العظيم الذى ساعد الاحتلال البريطانى على مصر عام 1882 وقدم له أعظم الخدمات.

أحفاد خنفس باشا يقولون إن علينا أن نرحب بالوجود الأمريكى لأنه سوف يفتح لنا الباب لندخل إلى القرن الحادى والعشرين.. ونتذوق حلاوة الديمقراطية والليبرالية والحرية الجنسية والهامبورجر.. ونطبق أسلوب الحياة الأمريكية.. ونعيش عيشة الأمريكان وندخل عصرا من السعادة والنعيم.. وهم يشيدون بحكمة وعبقرية السياسة الأمريكية وإدارتها للحرب.. ويشيدون بالنوايا الطيبة التى جعلت الأمريكان يدفعون حياتهم ثمنا لتحرير العراق!

كل هذا وأكثر منه نقرأه ونسمعه من بعض العرب بينما الصحافة الأمريكية تقول إن السياسة الأمريكية فاشلة.. والانتصار فى العراق لم يكن انتصارا عسكريا، ولكنه كان خديعة كبرى كانت فيها الرشاوى وخراب الذمم هى أسلحة الدمار الشامل التى دمرت الدولة والشعب فى العراق الشقيق..

أحفاد خنفس باشا فى الصحافة والفضائيات العربية يقولون: إن استيلاء أمريكا على بترول العراق، وسيطرتها على حكم البلاد خير وبركة لأنه خلّص العراق من دكتاتور فاسد، وأقام فى البلاد قواعد حكم نزيه وعادل فى ظل حاكم العراق بول بريمر الذى يستحق أن ندعو له فى المساجد ونشكر الله لأنه سبحانه يولّى علينا خيارنا ولا يولى علينا شرارنا!.. والصحافة الأمريكية تقول: إن أمريكا تتجاهل قواعد العدالة، وتفرط فى استعمال القوة، وتعامل المدنيين العراقيين بالعنف، وقد قتلت منهم أعدادا لا تقل عن أعداد من قتلهم صدام حسين..

أحفاد خنفس باشا فى الصحافة العربية بارعون فى النفاق.. وفى الصحافة الأمريكية أقلام شريفة ونزيهة يعلنون رفضهم لسياسة الإدارة الحالية التى ستؤدى على المدى الطويل إلى الإضرار بمكانة أمريكا العالمية، وبمصالحها الحيوية.

إنهم يتهمون الإدارة الأمريكية بالخداع حتى مع أصدقائها وحلفائها.. وفى نيويورك تايمز كتب وليم فاف مقالا بعنوان (من الذى تحاول الولايات المتحدة خداعه؟) قال فيه إن الولايات المتحدة تواصل المناورات والخداع فيما يتعلق بالعراق ونواياها الحقيقية وراء خريطة الطريق، فهى تتحدث عن أمجادها وانتصاراتها فى العراق، وتكرر أنها تستحق الشكر لما فعلته من أجل تحرير الشعب العراقى، بينما الوضع الإنسانى والسياسى فى العراق يزداد تدهورا، والتقارير التى تنشرها الصحافة البريطانية مليئة بالمرارة والشعور بالإحباط، مع أن بريطانيا شريكة فى الحرب على العراق وفى غنائم الحرب، فقد أعلن الرئيس بوش انتهاء الحرب، ولكن سلطات الاحتلال الأمريكية فى العراق تبدو حتى الآن مشوشة، وليست لديها خطة واضحة لما ستفعله فى العراق بعد الحرب، وقد فشلت فى السيطرة على الأوضاع واستعادة النظام وإدارة الدولة، وهى ما زالت تفكر وتجرب وتغطى على الفشل بالدعاية والادعاء، وما يدلى به قادة قوات الاحتلال فى مقرهم الجديد فى أحد قصور صدام حسين الفخمة، ليس سوى تقارير لا تعبر عن الحقيقة التى يلمسها المراقبون فى الشارع العراقى عن الوضع الأمنى، والفوضى، وانعدام القانون، ولا يستطيع مسئول أمريكى أن يخرج بدون موكب من الحراسة المشددة، وحتى الآن ما زال من المتعذر على ممثلى منظمات الإغاثة الدولية الوصول إلى الناس لتقديم المعونات، ولا يزال حاكم العراق الأمريكى بول بريمر حائرا بسبب الصراع فى واشنطن بين وزارتى الخارجية والدفاع، ولا يعرف بالضبط ما الذى يجب عليه أن يعمله.. وقد بادر بحل القوات المسلحة والحرس الجمهورى والمخابرات ووزارتى الدفاع والإعلام قبل أن تكون له خطة متكاملة للبدائل، وفى الوقت نفسه ما زالت بغداد تعانى من انقطاع الكهرباء ومياه الشرب، والمرافق الأساسية متوقفة.. والحياة كلها متوقفة فى العراق فى انتظار أن يعرف الأمريكيون ماذا سيفعلون؟!.  وحجم الدمار الذى أحدثته أمريكا فى العراق أكبر ألف مرة مما يظهر فى البيانات والتصريحات ومشاهد التليفزيون، حتى إن صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية قالت إن عائدات بترول العراق لعشر سنوات قادمة لن تكفى لإعادة إعمار ما خربته الحرب.!

***

وما زالت معظم الأحياء فى بغداد غير آمنة، وكذلك معظم المدن والمناطق العراقية، والمستشفيات فى حالة سيئة للغاية، والبنوك مغلقة، والسوق السوداء يتسع نطاقها، وآثار التضخم تظهر بشكل مخيف، وما زالت الحرائق تندلع، وتجارة السلاح والمسدسات والقنابل اليدوية منتشرة، ولم يعد للعمل سوى جزء من شرطة بغداد، والجنود الأمريكيون يتعاملون مع الشرطة العراقية بحذر ولا يطمئنون إليهم ولذلك لا يسمحون لهم بحمـــل السلاح.. وما زال الصحفيون ومراسلو شبكات التليفزيون ومسئولو منظمات الإغاثة الدولية يرتدون السترات الواقية من الرصاص خشية إطلاق النار عليهم من القوات الأمريكية عند حواجز التفتيش، حيث يقف الجنود الأمريكيون وهم فى حالة من التوتر والعصبية والخوف من أن تنفجر فيهم فى أية لحظة عبوات ناسفة من جماعات المقاومة التى بدأت التحرك.. وفى شمال العراق حالة من التوتر والقلق بين الأكراد والعرب.. والكوليرا انتشرت فى البصرة نتيجة سوء الأحوال المعيشية.. كل هذا ولم يتم العثور على أسلحة دمار شامل.

***

الملحوظة التى يسجلها المراقبون أن إدارة الحرب الأمريكية ضد العراق لم تكن جيدة، وكأن هذه الإدارة كانت مستعدة للحرب والتدمير فقط ولم تستعد لما بعد ذلك، على العكس مما كان يحدث فى الحرب العالمية الثانية مثلا، فقد كانت قوات التحالف تتقدم فى أوربا مصحوبة بالشرطة العسكرية، والشرطة المدنية للسيطرة على المدن المحررة، وإعادة إصلاح المرافق والخدمات العامة فورا.. بينما تركت الإدارة الأمريكية شئون العراق بعد الحرب دون تخطيط.. وكأن شعب العراق لا يهمها.. وكل ما يهمها هو تدمير الكيانات القائمة.. والاكتفاء بإصدار الأوامر والتعليمات وكأن ذلك يكفى لمواجهة حالة الفوضى القائمة.. وتصور الأمريكيون أن عملاءهم من العراقيين الذين دخلوا العراق مع قوات الغزو الأمريكية من أمثال أحمد جلبى يمكنهم أن يتدبروا الأمور وإعفاء الأمريكيين من مسئوليات التعامل مع الشعب العراقى.. وحتى بعد فشل هؤلاء العملاء ومقابلة الشعب العراقى لهم بالرفض والكراهية لأنهم (ذيول الاستعمار) كما أطلق العراقيون عليهم.. حتى بعد كل هذا الفشل ما زال الأمريكيون يتعاملون مع الاحتياجات الأساسية للشعب العراقى بلا مبالاة.. وحتى منظمات الإغاثة الدولية لا تجد مساعدة حقيقية من سلطات الاحتلال الأمريكية..

***

هذا ما قاله وليم فاف فى نيويورك تايمز منذ أيام، وأضاف فى مقاله: إن إدارة الرئيس بوش وعدت بدولة فلسطينية مستقلة، ولكن شارون ما زال على موقفه الرافض لإزالة المستوطنات فى الضفة وغزة، وحجته فى ذلك أن الحكومات الأمريكيةالمتعاقبة وافقت على إقامة هذه المستوطنات ولم يحدث أن حاولت أمريكا فى أى وقت محاولة جادة لإيقاف بناء هذه المستوطنات.. وقبول شارون لخريطة الطريق ليس سوى مناورة يكسب بها الوقت، ويعطى للرئيس بوش فرصة ليظهر للعرب أنه مهتم بقضية الشعب الفلسطينى لتهدئة مشاعر الغضب بسبب الغزو الأمريكى للعراق، وبعد ذلك ستهدأ الأمور عندما تشتد حرارة الحملة الانتخابية للرئاسة، ويحتاج الرئيس بوش إلى استرضاء شارون وإسرائيل، ويسدل الستار على خريطة الطريق، ويكرر الحجة التقليدية وهى أن الرئيس الأمريكى لا يستطيع أن يتخذ قرارات أو مواقف حاسمة فى السنة الأخيرة من فترة ولايته لأنه كما يسميه الأمريكيون يصبح (البطة العرجاء).. وعليكم يا عرب أن تنتظروا إلى أن تنتهى المعركة الانتخابية، ويحقق الرئيس بوش حلمه بالحصول على أغلبية ساحقة تعوض شعوره بأنه رئيس مشكوك فى شرعيته لعدم حصوله على أغلبية فى الانتخابات، وبعد أن يفوز بفترة ولاية ثانية يستطيع أن يتحدث من موقع قوة عن مواصلة خريطة الطريق..

وتذهب القضية إلى الثلاجة مرة أخرى.!

وصحيفة نيويورك تايمز هى التى قالت: إن الرئيس بوش وضع خريطة الطريق لكى يلطف الأجواء الملتهبة فى العالم العربى بسبب غزو العراق..!

***

مقال آخر كتبه أوليفر روى الخبير فى المركز القومى للأبحاث العلمية نشره فى صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية يوم 14 مايو الحالى بعنوان (أمريكا لن تستطيع أن تخدع أوربا مرة أخرى) قال فيه: إن القرار الذى قدمته الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن ووافقت عليه روسيا وفرنسا وألمانيا برفع العقوبات عن العراق، لن يؤدى إلى تحسين علاقات هذه الدول مع أمريكا، لأن الإدارة الأمريكية تتفاعل مع حلفائها الأوربيين بأساليب الخداع والمراوغة، وما زالت تفكر وتتصرف وحدها وتخفى عنهم توجهاتها الحقيقية.. والمشكلة أن النوايا الأمريكية لا يمكن الإفصاح عنها.. وما تعلنه أمريكا يبدو غير مقنع لأحد.. وعندما أرادت إقناع أوربا بغزو العراق لم تكن أهدافها من هذا الغزو واضحة ومنطقية، ولم يكن لدى الإدارة الأمريكية سوى الإعلان عن أن هدفها هو تدمير أسلحة الدمار الشامل التى تعرف أماكنها فى العراق، ومحاربة الإرهاب الذى يمثله النظام العراقى، والتخلص من حاكم مستبد، وكان موقف الحلفاء الأوربيين أنه لا توجد أسلحة دمار شامل فى العراق، ولو كانت فيه أسلحة فإن فرق التفتيش يمكنها أن تستمر سنوات فى البحث والتنقيب عنها فى كل مكان وتدمير ما تجده منها دون حاجة إلى حرب.. أما علاقة صدام حسين بتنظيم القاعدة فهذا ادعاء ليس عليه دليل، وصحيح أن صدام حسين دكتاتور ولكن أمريكا هى التى أبقت عليه وقررت عدم التخلص منه بعد حرب تحرير الكويت عام 1991..

ولدى أوربا إدراك بأن أمريكا لديها جدول أعمال سرى.. والحرب من أجل الاستيلاء على البترول هو عودة إلى الاستعمار القديم.. ولدى الأوربيين شكوك فى أن أمريكا تخفى أهدافا أخرى بعد العراق سبق أن عبّر عنها واضعو استراتيجية الحروب الأمريكية فى مؤسسة انتربرايس الأمريكية المتخصصة فى التفكير والتخطيط الاستراتيجى، وما تخفيه الولايات المتحدة يشمل مواجهة الورطة التى تجد نفسها فيها دائما كلما اقتربت من حل المشكلة الفلسطينية، ولكى تنفذ التصور الأمريكى الإسرائيلى لحل هذه المشكلة، ترى الإدارة الأمريكية أنه لابد من خلخلة النظام الإقليمى فى الشرق الأوسط كله، وهكذا فإن هدف غزو العراق لم يكن فقط السيطرة على العراق، وبترول العراق، وفرض السيادة الأمريكية على العراق، ولكن بالإضافة إلى كل ذلك كان هناك ما هو أهم وأكبر.. كان الهدف أن تتواجد أمريكا بذاتها بقواتها المسلحة فى المنطقة، وأن تصبح دولة جوار لسوريا والأردن والسعودية.. وأن يلقى هذا الوجود العسكرى والسياسى بثقله على المنطقة، ويشعر الجميع بأن أمريكا هنا، وأنها قادرة على تدمير من يعترض على سياساتها، وأنها لا تهدد بالحرب، ولكنها تشن الحرب فعلا.. وهى فى حالة استعداد..

وليس الهدف من إعادة تشكيل الشرق الأوسط تغيير الحدود، ولكن المقصود هو تهديد نظم الحكم القائمة، وزعزعة الاستقرار فيها، وإثارة القلاقل حولها بإثارة موضوع الديمقراطية.. والضغط على سوريا وإيران للتخلى عن حزب الله والمنظمات الفلسطينية، وإضعاف الأيديولوجية التى تقوم عليها شرعية الحكم فيها، وإضعاف نظم الحكم، ويتساءل أوليفر روى: هل كانت مجرد صدفة أن القرار الأمريكى بشأن العراق أرسل إلى مجلس الأمن فى الوقت الذى كان فيه وزير الخارجية كولن باول متوجها إلى إسرائيل؟، ويجيب : إن جدول الأعمال الأمريكى هذا خطير جدا، والأخطر منه أن تخادع أمريكا حلفاءها وتخفى جدول أعمالها عنهم بدلا من أن تناقشه معهم.. والرئيس بوش لا يبدى اهتماما بدول أوربا على عكس بوش الأب الذى كان دائم السفر إلى أوربا ولقاء قادتها والتشاور معهم وكسب تأييدهم. وكما كان ريجان أيضا يفعل ذلك ويظهر الاحترام لقادة أوربا، وحتى اللقاءات التى تمت بين الدبلوماسيين والخبراء الأوربيين والأمريكيين لم يصرح فيها الأمريكيون بأهدافهم الحقيقية وظلوا يرددون أن هدفهم إعادة تشكيل الشرق الأوسط ونشر الديمقراطية فيه، والتعامل مع سوريا وإيران بعد العراق، بينما جدول الأعمال الأمريكى الحقيقى ظل خافيا.

هل كانت أوربا ستقبل نوايا أمريكا الحقيقية لو كانت صارحت بها أوربا؟

يقول أوليفر روى : بالتأكيد لم تكن أوربا ستقبل، ولكن كان الحوار سيكون حول المسائل الحقيقية، وكانت أوربا ستعرض موقفها بأن إعادة تشكيل الشرق الأوسط لا يتم بالضرورة بالحرب والضغوط العسكرية. لذلك فليس من الممكن أن تدخل أوربا فى ائتلاف مع أمريكا بدون أن تتفق معها على استراتيجية محددة وواضحة، ولا يمكن أن تسير أوربا وراء أمريكا وهى مغمضة العينين ودون أن تعرف إلى أين ولماذا تسير هنا أو هناك.. وأوربا فيها رأى عام معارض للحرب.. وأوربا قريبة من الشرق الأوسط، وفيها أعداد كبيرة من المسلمين لهم أصوات فى الانتخابات وتأثير فى القرار وليس ذلك فى أمريكا.. والنوايا الحقيقية للرئيس بوش على المدى الطويل لن يستطيع تحقيقها بدون حلفاء، وغطاء دولى، وقريبا سوف يدرك الشعب الأمريكى أن بلده أصبح دولة احتلال وأن جيشه أصبح جيش احتلال لأراضى الشعوب الأخرى.. وأن قيم ومبادئ أمريكا عن حرية الشعوب انتهت.. وسوف يستمر احتلال أمريكا للعراق سنوات طويلة، وسيبقى فيها عشرات الآلاف من الجنود، وهى الآن تعلن أن هدفها بناء عراق جديد ديمقراطى ومستقر، وبعد سنوات سوف تنسى ذلك وتأمل أن ينسى العالم ذلك أيضا، ولكن عاجلا أو آجلا سوف يقف الشعب العراقى وقفة التحدى للاحتلال.. ومنطقيا لا يمكن قيام ديمقراطية بدون وطنية، ولا يمكن وجود وطنية بدون إرادة الحرية.. ولا يمكن أن يكون الوطن حرا فى وجود قوات احتلال أجنبى.

وسوف تجد أمريكا نفسها فى صراع فى الشرق الأوسط، ليس مع الإسلام السياسى فقط، ولكن مع المشاعر الوطنية وإرادة الاستقلال، وهى إرادة طبيعية لا يخلو منها شعب من الشعوب.

وهذه هى المشكلة التى لم تفكر فيها الإدارة الأمريكية لأنها مشغولة بالاحتفالات بالنصر الساحق الذى حققته بالرشوة والخداع!

***

والنقد الموجه للإدارة الأمريكية لسياستها فى العراق يفوق الوصف.. توماس فريدمان الناطق بلسان البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية هو نفسه كتب مقالا فى نيويورك تايمز فى 19 مايو الحالى قال فيه: إن اثنين من كبار الجنرالات الأمريكيين عقدا مؤتمرا صحفيا فى مركز المؤتمرات فى بغداد، بعد أن تم تدمير نصف هذا المركز، وكان الموضوع حالة الأمن المتدهورة، ووقف الجنرال ديفيد ماكيرنان والجنرال بور فورد بلاونت فلم يقنعا الحاضرين، لأنهما-كما يقول توماس فريدمان-تم تدريبهما على قتل الناس وليس على حفظ الأمن، وهما لا يفكران فى العمل كقوة حفظ للنظام، وهما أمام مشكلة، فقد كان فى بغداد 20 ألف ضابط شرطة، واختفى صدام واختفت الشرطة والحكومة، وأصبح فى العراق فراغ ولم تكن أمريكا مستعدة لملء هذا الفراغ، واكتفى دونالد رامسفيلد بالحديث عن انتشار النهب والفوضى بقوله: إن الحرية قدرة، والناس الأحرار أحرار فى ارتكاب الأخطاء والجرائم والقيام بأعمال شائنة!!

يقول توماس فريدمان: لقد نهب وخرب اللصوص ونحن نتفرج! ويقول: إن ما يحدث فى البصرة أسوأ مما يحدث فى بغداد.. يكفى أن تشاهد جامعة البصرة التى كانت تضم 12 ألف طالب والآن تبدو وكأن إعصارا ضربها فلم يبق منها سوى الأنقاض! حتى المكاتب والمقاعد والمكتبات والشبابيك وكابلات الكهرباء تم تدميرها.. وتوقفت حول بغداد الوزارات ومحطات الكهرباء ومراكز الشرطة ومحطات تكرير المياه والتليفونات.. ولا يوجد قضاة ومحاكم.. ومن الممكن أن يتعرض أى إنسان للقتل دون أن يقول أحد للقاتل شيئا، ويقول توماس فريدمان : بعد جولة فى أنحاء العراق أشعر أن هنا مأساة، ولكن لا  أحد يهتم، وقد غيرت شبكات التليفزيون الأمريكية موضوعاتها بعد سقوط بغداد ووجهت اهتماماتها نحو موضوعات أخرى.. وحتى الرئيس بوش بدأ يتحدث عن تخفيضات الضرائب.. ويبدى الجميع استهانة بما يجرى فى العراق.. ولا أحد يتفهم مدى الصعوبة من إعادة بناء دولة بعد تدميرها.. والفراغ السياسى وانعدام النظام جعل الأمريكيين يشعرون بأنهم وقعوا فى حفرة عميقة، والبلد مهلهل واقتصاده فى حالة انهيار كامل، وشعب العراق الآن شعب أرهقه الحصار والدمار والخراب.. ورامسفيلد الذى كان يخرج كل يوم ببيان يزهو فيه بسير العمليات العسكرية لم يعد يخرج ليتحدث عن خطوات إعادة البناء والخدمات والدولة والاقتصاد.

يقول توماس فريدمان : إن أمريكا تقوم فى العراق بدور إمبريالى.. ومركز أمريكا فى العالم يتوقف على قدرتها على بناء العراق كما وعدت.. وحذر من أن يتوقف اهتمام الإدارة الأمريكية بالعراق عند هذا الحد!

***

وحتى صحيفة هيرالد تريبيون المؤيدة لسياسة بوش على طول الخط خصصت افتتاحيتها يوم 21 مايو الحالى عن سياسة بوش وقالت: إنه يستعد للحملة الانتخابية التى ستبدأ العام القادم بينما العراق فى حالة فوضى، والصراع بين إسرائيل والفلسطينيين يتصاعد، والإرهابيون بدأوا فى شن هجمات خطيرة، والأمريكيون يريدون من بوش الآن أن يفكر كرجل دولة ، ولكن يبدو أن كل الأمور تسير فى الاتجاه الخطأ فى منطقة من أكثر مناطق العالم اشتعالا بالغضب، ويجب أن يلوم بوش نفسه على ذلك، فالعراق فى حالة فوضى لأن إدارة بوش فشلت فى التخطيط لما بعد الحرب، وأثبت البنتاجون تفوقه فى التخطيط للحرب، ولكن فشل فى التعامل مع نتائج وآثار الحرب، ويبدو أن رامسفيلد كان يتصور أن الجنرالات ليس عليهم سوى قيادة وحكم العراق، وستجرى الأمور تلقائيا نحو الاستقرار والديمقراطية، ولكن العراق الآن ليس دولة.. وليس فيه قانون.. ولا حكومة.. ولا خدمات أساسية وأبسطها المياه والكهرباء والرعاية الصحية والأمن .. وبدلا من أن تقدم أمريكا للعراق نظامها المستنير، قدمت صورة أمريكا القبيحة، التى تتعامل بالقوة والرصاص، ويبدو أن الرئيس بوش فوجئ بأن حجم الدمار الذى أحدثه فى العراق سوف يحتاج إلى سنوات وأموال أكبر بكثير مما كان يتوقع.

وتقول هيرالد تريبيون: إن الصراع الإسرائيلى الفلسطينى له آثار مدمرة، وقد تأخرت واشنطن فى السعى إلى وقف هذه الآثار، ولو لم يكن بوش قد أهمل أزمة الشرق الأوسط لما واجه هذه الورطة الصعبة التى يواجهها الآن، حيث يبدو أن وقف دائرة العنف أمر مستحيل، ما لم يضغط بقوة على الطرفين وليس على طرف واحد. والهجمات الفلسطينية تستهدف حكومة محمود عباس أبو مازن. كما تستهدف حكومة شارون، ولا يستطيع أبو مازن إيقاف الجماعات الفلسطينية بينما شارون يواصل أعماله العسكرية القاسية، ويقول إنه ما دامت التفجيرات الانتحارية مستمرة فلا تتحدثوا عن تخفيف الأوضاع.. وبعد تفجيرات السعودية والمغرب شعر الأمريكيون بالخوف من أن الإرهاب لم يتم القضاء عليه بالقضاء على نظام صدام حسين . كما وعد الرئيس بوش .. وكما أعلن بوش أمام الشعب  الأمريكى أن قادة تنظيم القاعدة تم ا لقضاء عليهم وقتلهم أو اعتقالهم.. وللأسف فإن تصرف إدارة بوش بالحرب المنفردة فى العراق قلل من استعداد أصدقاء أمريكا للتعاون معها، وأمام بوش أن يبذل مجهودا كبيرا لإعادة بناء هذه العلاقات المدمرة، ولكنه مشغول بخفض الضرائب وتقديم ما يضمن له الفوز فى الانتخابات، ولكن عليه الأهم من ذلك، عليه أن يبذل الكثير من الجهد فى الشرق الأوسط قبل أن يستطيع أن يدعى لنفسه الحق فى لقب : رئيس الدولة!

هذا ما قالته هيرالد تريبيون فى افتتاحيتها.

***

وقبل ذلك ، فى يوم 16 مايو الحالى كانت افتتاحية هيرالد تريبيون بعنوان (الأخطاء فى أفغانستان) وقالت فيها: إن العراقيين يشعرون بالقلق على مستقبل بلدهم وهم يرون ما يحدث فى أفغانستان، وأفغانستان قدمت فيها أمريكا أول نموذج عملى لمصداقيتها فى بناء دولة فى العالم الإسلامى، وبعد 18 شهرا من الحرب الأمريكية والإطاحة بنظام طالبان، تذبل أفغانستان ولم تنتعش، وتعيش فى حالة بين الحرب والسلم، ولم تتحقق وعود أمريكا بإعادة بناء أفغانستان اقتصاديا وسياسيا. وأخطأت إدارة بوش مرة بإهمالها لقضية الأمن الداخلى فى أفغانستان، كما أخطأت بخفض الإعانة الضرورية للإغاثة الإنسانية لشعب أفغانستان ولإعادة بناء ما دمرته الحرب. ونتيجة لذلك فقد الرئيس حامد قرضاى قوته ولم يحدث الانتعاش الاقتصادى الذى كان ينتظره الشعب الأفغانى. وتبين أن كل ما كان يهم الإدارة الأمريكية هو القضاء على طالبان، دون اهتمام بما حدث بعد ذلك، بينما المسلحون الأفغان فى كل مكان، وهناك ميليشيات متعددة تضم مائة ألف مقاتل، تدور بينهم معارك مسلحة، ويقومون بقطع الطرق، وابتزاز الآخرين، وقوات حفظ السلام الدولية موجودة فى العاصمة كابول فقط وبقية أفغانستان تعيش فى حالة فوضى وتحت رحمة الميليشيات المتناحرة.. لم يتم بناء جيش وطنى، ولم تنفذ أمريكا سوى تدريب 4500 فرد، بينما تستعد لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان مع حلول العام القادم. والمعونات التى تتلقاها أفغانستان لا تكفى لإصلاح الدمار الذى أحدثته القوات الأمريكية والحروب الأهلية، وأفغانستان فى ظل الحكم الأمريكى هى أفقر بلاد العالم وأقل دول العالم فى معدل التنمية، وأكثرها فى معدل البطالة، والشعب الأفغانى يعيش على المعونات الإنسانية وبرامج الإغاثة الدولية، ولم يتم إصلاح المرافق أو المبانى الحكومية والأهلية، كما لم يتم حتى الآن إصلاح الطرق، ومحطات الكهرباء والمياه، والتليفونات، ونظم الرى.

هل سيكون مصير العراق مثل مصير أفغانستان؟.

السؤال ليس من عندى.. ولكنه من عند الصحافة الأمريكية..

وما تقوله الصحافة الأمريكية أكثر صراحة ومرارة من كل ما تقوله الصحافة العربية.. بل إن فى الصحافة العربية. من يقدم المبرر للغزو الأمريكى، والتحية للاحتلال الأمريكى، ويرى أننا يجب أن نشكر أمريكا لأنها حررت العراق كما حررت أفغانستان، وكما قدمت خريطة الطريق، ويقول لنا: احمدوا الله.. واشكروا الرئيس بوش.. وقبلوا يديكم وقدموا الورود للقوات الأمريكية.. واستعدوا لعصر أمريكى تعيشون فيه فى الديمقراطية والرخاء.

وأنا شخصيا أصدق ما تقوله الصحافة الأمريكية، واحترم هذه الأقلام الأمريكية!!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف