ديك تشينى يقود أمريكا.. إلى أين ؟
ديك تشينى، نائب الرئيس الأمريكى، هو أكبر الصقور، والمهندس الأول للاستراتيجية التى تنفذها إدارة الرئيس بوش. فى مقدمة الصورة يظهر الرئيس بوش ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد وحوله مجموعة الصقور الجارحة، وتظهر مستشارة الأمن القومى كوندوليزا رايس.. وعشرات غيرهم.. كلهم من اليمين المتشدد.. كلهم من المحافظين الجدد.. كلهم صانعو فلسفة الحروب الأمريكية للسيطرة على العالم.. ولكن ديك تشينى هو الرأس الأكبر.. هو الذى يقود فى الحقيقة، ولكنه لا يظهر كثيرا هذه الأيام لأن فضائح الفساد المالى والرشوة والتلاعب فى ميزانيات الشركات المسئول عنها.. كل ذلك يطارده.. والمفروض أن يخضع للتحقيق أمام لجنة فى الكونجرس.. ولكنه يتوارى على أمل أن تهدأ العواصف من حوله.. وليتفرغ للتخطيط وإدارة عملية التفكير فى أمريكا.

كيف يفكرون فى أمريكا ؟

النزعة الغالبة على الفكر والمفكرين فى هذه المرحلة هى النزعة الاستعمارية. وكما كان مفكرو الألمان قبل الحرب العالمية الثانية يقدمون الرؤية الاستراتيجية لأحلام الإمبراطورية، وكما كان شعراء وفلاسفة الإمبراطورية الرومانية يتحدثون عن تفوق دولتهم وحقهم فى استعباد الشعوب، وكما حدث فى كل الإمبراطوريات السابقة واللاحقة، فإن المبدأ الذى يواكب النزعة إلى الحرب والتوسع العسكرى هو قانون القوة.. أو (قانون المنتصر).. أى أن من يقدر على هزيمة الآخرين ليس محتاجًا إلى الالتزام بقانون، لأنه هو القانون ويجب أن يطيعه الجميع ويلتزموا به.

نفس التفكير نجده فى إسرائيل.. وكأن أمريكا وإسرائيل كانتا على موعد لتقودا تيار الحرب.. وأنصار مبدأ القوة هم الآن فى مواقع القيادة هنا وهناك فى وقت واحد.

فى مناسبة احتفال إسرائيل بما يسمونه عيد الاستقلال - ويقصدون به يوم اغتصاب الوطن الفلسطينى من أصحابه- قالت صحيفة ها آرتس الإسرائيلية إن إسرائيل تشعر الآن أنها قادرة على الدفاع عن نفسها، بفضل استعداد الولايات المتحدة لمساندة الاقتصاد الإسرائيلى، وهى تفعل ذلك وستفعله دائما، وبفضل هذه المساندة سوف يستطيع الاقتصاد الإسرائيلى الخروج من الأزمة الشديدة التى يعانى منها، وبفضل الضغوط الأمريكية أمكن انتزاع كثير من سلطات ياسر عرفات لمحمود عباس (أبو مازن).. وبفضل التدخل العسكرى الأمريكى فى العراق والإطاحة بنظام صدام حسين تعيش إسرائيل فى مرحلة يتم فيها تشكيـل العالم وفقا لقانون التوازن، وبمجرد تحريك القوات فى مكان ما فى العالم فإن تأثير ذلك يمتد إلى شعوب كل مكان، وإسرائيل الآن كانت مجرد ملجأ آمن للشعب اليهودى، فأصبحت دولة تحتل الأراضى الفلسطينية، وتحرم الشعب الفلسطينى من الحرية، وتعامل المواطنين العرب بإهمـال ولا مبـالاة، وإن كان هذا الوضـع قد نتج عن حرب الأيام الستة، إلا أن هذا الوضع بعد مرور 36 عاما لا يمكن أن يستمر، وعلى إسرائيل أن تتوصل إلى إدراك ذلك بنفسها، وإلا فسوف يتدخل العالم ليرسم لها الطريق.

ها آرتس تعبر عن الشعور بالزهو والقوة، وبالثقة فى الدعم الأمريكى غير المشروط لإسرائيل فى ممارساتها الاستعمارية، وفى نفس الوقت تعبر عن الخوف من عدم استمرار هذا الوضع، لأن إسرائيل- ككل قوة استعمارية تعمل ضد قانون العدل- تدرك أن مصيرها سيكون مثل مصير كل قوة طاغية فى التاريخ، سوف تنتهى.. لأن حكمة التاريخ هى التى صاغت المبدأ (دولة الظلم ساعة.. ودولة العدل إلى قيام الساعة).

***

التفكير الاستعمارى تجده فى أمريكا ممثلا فى مقال وليام فاف فى هيرالد تريبيون يوم 8 مايو الحالى بعنوان: (تخويف أمريكا) وقال فيه إن مسئولاً كبيرا بإدارة بوش أعلن فى نهاية الأسبوع الماضى للصحافة أنه لا يتوقع العثور على أى أسلحة للدمار الشامل فى العراق، وسوف يدهش إذا عثر على أى كمية من البلوتونيوم، أو اليورانيوم، أو المواد الكيماوية أو الجرثومية، لأن الولايات المتحدة لم تتوقع أبدا وجود أى شىء من هذه المواد، وعلق وليام فاف: إذن فماذا كان سبب الحرب على العراق؟ والإجابة أعلنها المسئول الأمريكى، الذى لم يذكر اسمه واكتفى بوصفه بأنه مسئول كبير، وهى أن ما كانت أمريكا تريده فى الحقيقة، هو القبض على العلماء العراقيين الذين لا يقل عددهم عن ألف عالم، وكان من الممكن أن يطوروا فى المستقبل أسلحة نووية، فالحرب الأمريكية لم تكن موجهة إلى خطر قائم، أو مشكلة موجودة فعلا، ولكن كانت الحرب من أجل خطر محتمل، ومشكلة ربما تحدث فى المستقبل!

ويقول وليام فاف: إن المسئول الكبير المطلع على الحقائق قال ذلك علنًا للصحفيين ونشر فى الصحف، ولكن يبدو أن الرئيس بوش لم يخبره أحد بذلك، فهو لا يزال يؤكد للأمريكيين أن الأسلحة المحظورة سوف تظهر فى وقت ما، ولا يزال يثير الرعب فى نفوس الأمريكيين، بينما قدمت وزارة الخارجية الأمريكية تقريرها السنوى إلى الكونجرس عن الإرهاب، وذكرت فيه أن حوادث الإرهاب فى العام الماضى بلغت 199 حادثا فى جميع أنحاء العالم، وهى أقل من حوادث الإرهاب فى العام السابق بنسبة 44%، وبذلك فإن العام الماضى هو أقل الأعوام منذ عام 1969 التى شهدت حوادث إرهاب، فلم تحدث فيه أية هجمات إرهابية على الولايات المتحدة، بينما وقعت 5 هجمات فى أفريقيا، و9 فى شرق أوربا، و99 هجمة فى آسيا، و50 هجمة فى أمريكا اللاتينية، وفى الشرق الأوسط 29 هجمة، وكل الحوادث التى وصفتها الحكومة الأمريكية على أنها من أعمال الإرهاب العالمى فى عام 2002 وقعت فى أربعة أماكن فقط، هى: كولومبيا، والشيشان، وأفغانستان، والانتفاضة الفلسطينية، وفى جزيرة بالى فى أندونيسيا وقع حادث التفجير الذى أدى إلى مقتل 200 شخص.

***

ويقول وليام فاف: قبل 11 سبتمبر، لم تكن الولايات المتحدة تعتبر هذه العمليات مما يدخل فى تصنيف الإرهاب، وكانت تسميه حوادث عصيان مدنى، أو عنف طائفى، أو حركات انفصالية، وبعد 11 سبتمبر أصبحت الولايات المتحدة تركز الاهتمام على هذه الحوادث، وجعلتها السبب فى تعبئة الدولة، وتقييد الحريات المدنية فى الولايات المتحدة، وإقامة مستعمرة فى جوانتانامو تمارس فيها الاعتداء على حرية الإنسان كما تشاء، وأصبح القمع الذى تمارسه الدولة مبررًا بحجة حماية البلاد من الإرهاب، ولم يَعد التقرير السنوى للخارجية الأمريكية يعتبر هذه الانتهاكات انتهاكات لحقوق الإنسان، والنتيجة أن التصريحات المحرفة، والروايات المبالغ فيها عن الإرهاب كان لها تأثير نفسى شديد على الأمريكيين، وجعل كل أمريكى يشعر أنه معرض شخصيا للخطر، لأسباب ليس لها أساس، إلى درجة أن كاتبًا فى نيويورك كتب يقول: إنه بعد سقوط بغداد شعر لأول مرة منذ 11 سبتمبر عام 2001 بالاطمئنان إلى أنه لن يتعرض للقتل بقنبلة إرهابية عند عبوره ميدان التايمز، وعبر بذلك عن شعور كثيرين نتيجة الدعاية السياسية التى جعلت الآلاف من سكان نيويورك يقومون ببناء حجرات محكمة لتخزين المياه والطعام والأقنعة الواقية من الغازات السامية والهجوم البيولوجى، ويستعدون لاحتمال الوقوع تحت حصار قد يطول من الإرهابيين، وكل ذلك نتيجة حالة الذعر بسبب تحذيرات الحكومة.

كل ذلك بينما الحكومة الأمريكية تتقدم إلى الكونجرس بتقرير رسمى تعترف فيه بأن الإرهاب أصبح فى أدنى مستوياته منذ ثلاثين عاما، وأن الخطر الذى يمثله الإرهاب لا قيمة له إحصائيا، ومع ذلك فإن هذه الحكومة مستمرة فى جعل الأمريكيين يعيشون فى رعب من جرائم الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.. ويتساءل وليام فاف فى آخر المقال: إلى أين يؤدى هذا بالأمريكيين؟

***

ولكن آلة الدعاية الضخمة التى توجهها الإدارة الأمريكية أقوى من محاولات إعلان الحقيقة، وبعد أن أقنعت آلة الدعاية الأمريكيين بأن العراق هو قاعدة الإرهاب التى ستصل إليهم فى بيوتهم، وتوجه إليهم أسلحة الدمار الشامل، جاء الدور على سوريا، وبدأت آلة الدعاية تكرر مرة أخرى نسج الأكاذيب والتهويل فى تصوير المخاطر التى تمثلها سوريا على أمن أمريكا. وهذا شىء غريب جدا، ففى دراسة نشرها فلينت ليفريت عضو مركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكنز، وكان فلينت يعمل مديرًا لشئون الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومى من فبراير 2002 حتى مارس 2003، والدراسة بعنوان: (كيف نبعد سوريا عن بيزنس الإرهاب) ويقول فيها: إن الانتصار العسكرى الأمريكى على صدام حسين شجع بعض المسئولين فى إدارة بوش على التحريض على عمل عسكرى مشابه ضد دولة أخرى راعية للإرهاب، وبالنسبة للمتشددين فى الإدارة الأمريكية أصبحت سوريا هى هدفهم التالى المفضل فى الحرب على الإرهاب، وأنا أعلم ذلك لأنى سمعت بنفسى الجدل فى الأيام الأخيرة حول سوريا. وخلال السنوات الثمانى الأخيرة كنت محللاً فى المخابرات الأمريكية (سى- آى- ايه) ولى صلة مباشرة بصناعة السياسة الأمريكية تجاه سوريا ضمن فريق تخطيط السياسة التابع لوزارة الخارجية والفريق التابع للبيت الأبيض، وخلال هذه الفترة لم أقابل مسئولين فى الإدارة الأمريكية يرغبون فى الإطاحة بنظام الحكم السورى كما أقابل اليوم، وإن كان القلق بشأن سوريا يمكن تفهمه، لما يوجه إليها من اتهامات بمساندة جماعات إرهابية، وبتطوير أسلحة دمار شامل، ومساندة صدام حسين للنهاية، متحدية بذلك المصالح الأمريكية. ولكن سوريا - مع ذلك - تقدم للإدارة الأمريكية منذ 11 سبتمبر فرصة استراتيجية سيكون من الحماقة تجاهلها.

ويقول الباحث الاستراتيجى المشارك فى صنع السياسة الأمريكية: إن مسألة إخراج الدول من بيزنس الإرهاب تشكل قضية حاسمة بالنسبة للسياسة الأمريكية، ففى أفغانستان والعراق حققنا- نحن الأمريكيين- هذا الهدف، بالإطاحة بنظامى الحكم فيهما، ولكن هل نستطيع تغيير سلوك سوريا دون خلع نظام الحكم؟ هل من الممكن إصلاح سوريا بالتدخل الدبلوماسى بدلا من القوة؟ الإجابة: نعم. وزيارة وزير الخارجية كولن باول إلى دمشق هى المرحلة الأولى، ويعتمد نجاح العمل الدبلوماسى على الرئيس بشار الأسد، وهو ليس متعصبا أيديولوجيا، وليس مثل الملا عمر ولا صدام، ولكنه شاب، متعلم فى الغرب، ومتزوج من سيدة من أصل بريطانى، وواضح أن سوريا تحتاج إلى تحديث، وأن مصالحها على المدى الطويل فى إقامة علاقات أفضل مع الولايات المتحدة. وقد يكون الرئيس السورى محاطا بعدد من مستشارى والده، فإنه لم يتح له الوقت بعد للقيام بتغييرات جذرية فى السياسة، ويكفى لمعرفة العوائق التى تواجهه أن يشاهده المرء فى الاجتماعات محاطا بوزير خارجية يحتل منصبه منذ عام 1984، ووزير دفاع منذ عام 1982، ونائبه يحتل منصبه منذ السبعينات، ولذلك لن يكون ممكنا للمسئولين الأمريكيين الوصول إلى إقناع سوريا بقائمة المطالب الأمريكية المتعلقة بحزب الله، وحماس، وقد سمع السوريون هذه المطالب من قبل ولم يردوا إلا بكلمات بليغة تتكرر فى الرد على هذه المطالب.. هذه المرة يجب أن يتجنب الأمريكيون التعميم، ويحددوا لسوريا الخطوات التى يجب اتخاذها، وقد تشمل إغلاق مكاتب الجماعات الفلسطينية (الإرهابية!) مثل حماس والجهاد الإسلامى، وإبعاد الزعماء (الإرهابيين) مثل رمضان صلاح زعيم الجهاد، ووقف الإمدادات الإيرانية لحزب الله فى لبنان عبر سوريا.

***

وبعد ذلك- كما يقول فلينت ليفريت- يجب على الأمريكيين تحديد سلسلة من الإجراءات تتخذها الحكومة الأمريكية إذا لم تستجب سوريا لهذه المطالب، وربما تكون البداية بالعقوبات الاقتصادية الإضافية، مثل حرمان سوريا من الاشتراك فى إعادة إعمار العراق، وفرض حظر تجارى شامل على منتجاتها، وتنتهى بهجمات سرية، أو علنية، ضد الأهداف المتصلة بالإرهاب فى سوريا ولبنان، ولكن العصا وحدها لن تؤدى إلا إلى تعديلات تكتيكية قصيرة المدى فى سلوك سوريا، ولكى يحدث تغيير حقيقى يجب أن نعرض بوضوح الفوائد التى ستعود على سوريا إذا استجابت لمطالبنا، ليدرك الساسة السوريون أن مصالح بلدهم تتحقق بالتعاون مع الولايات المتحدة أكثر مما تحققها المواجهة معها. وفى هذا الصدد هناك حافز مهم، هو إعطاء سوريا دوراً مهما فى الحوار الاستراتيجى بشأن مستقبل المنطقة، لأن تهميش سوريا فى مباحثات السلام فى الشرق الأوسط هو سبب الإحباط السورى، وهذا الإحباط يمكن أن يزداد بعد أن أصبحت سوريا محاطة بدول موالية للغرب، بما فيها العراق الآن، إذن فيجب أن نظهر استعدادنا للبدء فى مباحثات مع سوريا حول مصالحها الإقليمية مقابل قطع علاقاتها بهذه المنظمات، ويجب أن نوضح أننا مستعدون لحذف سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكنا نشترط أن إزالة سوريا من هذه القائمة تتوقف على توقيعها معاهدة سلام مع إسرائيل، والآن يجب أن نربط مسألة رفع اسم سوريا من القائمة بالتغييرات فى علاقاتها بهذه المنظمات، ورفع اسم سوريا من القائمة يعنى السماح بتدفق المعونة الأمريكية إليها مرة أخرى بعد قطع هذه المعونة منذ عقود، وسيؤدى ذلك أيضا إلى زيادة المساعدات لسوريا من المؤسسات المالية الدولية.

وينهى فلينت ليفريت مقاله بقوله: سيكون إخراج سوريا من بيزنس الإرهاب عن طريق الدبلوماسية إنجازا كبيرا لسياسة أمريكا فى الشرق الأوسط، وسوف يثبت هذا النجاح أن الدبلوماسية هى أكثر الطرق فعالية بدلاً من المواجهة، وأن تغيير الدول ممكن بدون حرب.

هكذا يستخدمون لعبة الحرب على الإرهاب للضغط على سوريا، من أجل تنفيذ سياسة أمريكا فى الشرق الأوسط، وهى أولا فرض وجود إسرائيل كأقوى دولة فى المنطقة، وإخضاع الجميع للاستسلام والتعامل معها على هذا الأساس، وإبقاء دول المنطقة تحت بطش اليد الأمريكية الثقيلة، بالتهديد، والإغراء، بالحرب، والمساعدات، وقطع الطريق أمام دول المنطقة لتحقيق أملها فى الاستقلال.

سياسة استعمارية.. وتفكير استعمارى.. لا فرق بين الدبلوماسية والحرب.. الهدف واحد، وإن اختلف السلاح.

***

وكانت صحيفة نيويورك تايمز صريحة فى الحديث عن أمريكا فى ظل الإدارة الحالية، وذلك فى افتتاحيتها يوم 24 سبتمبر الماضى تحت عنوان (فلسفة بوش) وقالت فيها: إن الواضح أن الإمبراطورية الرومانية أو إمبراطورية نابليون ولدت من جديد، وأن التوجه السائد فيها هو الاندفاع نحو القتال، حيث يرى بوش أن أمريكا يجب أن تكون مرعبة، وثقيلة الوزن، وتكون القوة العسكرية الأمريكية كافية لإقناع الخصوم المحتملين بالتراجع عن أى تفكير فى تحدى التفوق العسكرى الأمريكى، ويسلم الجميع بأن أمريكا حرة فى اتخاذ أى عمل عسكرى وقائى ضد أى دولة معادية تطور أسلحتها، وكذلك فإن فلسفة إدارة الرئيس بوش قائمة على أن استراتيجية الحرب الباردة لم تعد صالحة، لأنها كانت تعتمد على التهديد بالانتقام الأمريكى لردع العدوان الخارجى، وكذلك لم يعد صالحا الاعتماد على المعاهدات لمنع انتشار الأسلحة النووية وغيرها، والأكثر فاعلية اتخاذ أمريكا إجراءات فعالة لإلزام الدول بذلك، وسياسة الإدارة الأمريكية الحالية هى البدء بالضرب كوسيلة لمنع العدوان.. ثم تقول نيويورك تايمز: إن هذه الفلسفة فى التعامل الأمريكى مع الدول والتى تسيطر عليها النزعة إلى القتال فيها مجازفة، لأن أصدقاء أمريكا قد يبتعدون عنها، وسيؤدى ذلك إلى زيادة التهديد على المصالح الأمريكية التى يسعى بوش إلى حمايتها، وتقول نيويورك تايمز: إن القادة الأقوياء الواثقين من أنفسهم يجب ألا يشعروا بالغرور، لأن الغرور يفسد فاعلية القيادة، ولذلك فإن من الضرورى أن يراعى بوش- وهو يعمل على تأمين أمريكا- أن يكون حذرا من أن يجعل أمريكا حصينة إلى حد أن تثير عداء العالم لها، بدلاً من حقده عليها كما يتصور.

***

هذه المخاوف.. وهذه التحذيرات.. هى بالضبط ما تريد دول العالم أن يصل إلى الإدارة الأمريكية.. ولحسن الحظ أن يصل إليها من داخل أمريكا ذاتها.. ولكن هل وصلت.. وهل كان لها صدى أو تأثير؟

***

طبعا لم تجد هذه النداءات استجابة، رغم أنها تكررت كثيرا، كما فعل ريتشارد بيرنشتين فى مقاله فى نيويورك تايمز أيضا منذ أيام، وبالتحديد يوم 14 إبريل الماضى، والمقال بعنوان (إمبريالية أمريكا تثير القلق فى العالم).. وقال فيه إن ما تفعله أمريكا فى العراق بعد الحرب أعاد إلى دول أوربا ودول أخرى فى العالم ما كان يحدث فى عهد الإمبريالية، حيث كتب سيمس ميلنى كاتب العمود الشهير فى صحيفة الجارديان البريطانية (إن مظاهر الزهو والخيلاء التى يتصرف بها الجنود الأمريكيون فى العاصمة العراقية، وإسقاطهم تماثيل صدام حسين، وإعلانهم: نحن نمتلك العراق، يكشف الطبيعة الاستعمارية الفجة لهذا المخطط).. ويعلق بيرنشتين على عبارة ميلنى،فيقول: إن التعبيرات العدائية تجاه أمريكا أصبحت شائعة فى الأيام الأخيرة، لأن الحرب فى العراق لم تؤكد وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى فقط، ولكنها أظهرت أمريكا كقوة إمبريالية تستخدم القوة لتعزيز هيمنتها على معظم أنحاء العالم، كما فعلت الإمبراطورية الرومانية من قبل، وكما فعلت الإمبراطورية البريطانية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وإن كان الأمريكيون يعلنون المعارضة لهذه الحقيقة، وينكرون أنهم يريدون السيطرة على أراضى الدول، ويقولون إن الحكم فى العراق سيتولاه العراقيون فى أقرب وقت ممكن، إلا أن ذلك لا ينكر الحقيقة والواقع.. فالولايات المتحدة أصبحت إمبراطورية مثل إمبراطوريات الماضى. وفى أنحاء العالم تظهر الولايات المتحدة فى صورة جديدة، كأقوى قوة إمبريالية فى التاريخ على مدى القرون.. ويستشهد الأوربيون وغيرهم باجتياح الجيوش الأمريكية للعراق، وأفغانستان، وكوسوفو، وفى حرب الخليج عام 1991، وهذا ما أسمته صحيفة فرانكفورتر الجمانية الألمانية بالقوة العالمية المسيطرة، فهل سيكون ذلك لصالح العالم أو ضد مصالح العالم؟ والإجابة كما قال كارل أوتو هنريتش أستاذ علم الاجتماع السياسى الألمانى فى جامعة جوته فى فرانكفورت: إن الحكم على مدى النفع والضرر الذى سيعود على دول العالم من هذه الإمبريالية الجديدة يتوقف على مدى قدرتها على توفير الأمن والاستقرار لدول العالم دون أن تفرض عليها أسلوب الحياة الأمريكية، وإن كانت الولايات المتحدة قد أصبحت خلال السنوات العشر الأخيرة قوة مسيطرة، وأنها أخذت دور شرطى العالم، وهى الآن تعلن للعالم أنها مستعدة للقتال، وقد يرى البعض أن هذه ليست إمبريالية ولكنها قوة واحدة فى العالم، أو عالم أحادى القطب، والكثيرون يرون أن حرب العراق نقطة تحول جديدة فى السلوك الإمبريالى الأمريكى، سواء بالتوسع فى تطبيق نظرية الحرب الوقائية على نطاق واسع فى مواجهة معارضة عريضة منتشرة فى العالم، حتى من أقرب حلفائها.

مدير مركز الدراسات الأمريكية فى معهد العلاقات الدولية بفرنسا جلومى بارمنتيه يرى أن المحافظين الجدد الذين يقودون الولايات المتحدة الآن قاموا بتطوير الرؤية الإمبريالية وصياغتها صياغة جديدة، وأصبح لكبار المستشارين فى إدارة بوش مثل بول وولفويتز، وريتشارد بيرل، نفوذ حاسم فى تحديد السياسة الخارجية الأمريكية، مما جعل وزير الخارجية كولن باول يبدو مهزوما وليس ثابتا على رأى واحد. وقد أدت السرعة المذهلة التى حققت بها الولايات المتحدة الانتصار العسكرى على العراق إلى تعزيز مركز ونفوذ هؤلاء المستشارين، وسيدفعهم ذلك إلى التفكير فى القيام بالمزيد من عمليات الغزو العسكرى، وربما تكون أهدافهم القادمة سوريا وإيران وكوريا الشمالية. ولقد أكدت الولايات المتحدة قوتها على الضغط على الدول الأخرى، وأصبحت تقول لرؤساء الدول الذين عارضوا حربها على العراق إنها هى التى كانت على صواب وإن من مصلحتهم أن يتبعوها بعد ذلك دون مقاومة.. والآن تؤكد الولايات المتحدة قوتها بأسلوب أكثر فظاظة ووحشية بكثير عن أى وقت مضى، وجعلت رؤيتها للشئون الخارجية مقصورة على مصالحها وحدها تماما كما كان هذا المفهوم سائدا فى القرن التاسع عشر.

ويتساءل الجميع فى أنحاء العالم: هل ستستخدم الولايات المتحدة القوة من الآن فصاعدا كما فعلت فى العراق متحررة من قيود الأمم المتحدة، وضاربة عرض الحائط بالمعارضة الدولية وتحذير الحلفاء؟

***

ويجيب البعض عن هذا السؤال بتعريف جديد مذهل لهدف أمريكا فى هذه المرحلة، بأن هدف أمريكا ليس إزالة أسلحة الدمار الشامل.. وليس إقامة نظام حكم جديد فى العراق.. الهدف هو تأسيس إمبراطورية.. وتأكيد هيمنة أمريكا على العالم.. وإقناع الجميع- بالقوة- بعدم التفكير فى معارضتها أو تحديها، وبعض الأمريكيين يرفضون الاعتراف بذلك، ولكنه هو الرأى السائد فى أوربا، ولدى كثير من الأمريكيين.. ويرون أن الحرب ضد الإرهاب ليست سوى حجة وليست الدافع الرئيسى لاتجاه استراتيجى جديد فى العلاقات الدولية تسير عليه سياسة أمريكا تجاه العالم، ومن هذا المفهوم يمكن رؤية الحرب ضد العراق على أنها دفاع منطقى، وضرورى، عن الهيمنة الأمريكية، وتضمن الإدارة الأمريكية إسكات كل من ينتقد سياستها هذه بتوجيه الاتهام إليه بأنه يدافع عن الدول والنظم الشريرة مثل العراق..

وقد يقال إن المسألة تتلخص فقط فى أن أمريكا بالغت فى رد فعلها على الإرهاب، وإن هدف أمريكا هو تحقيق السلام للعالم عن طريق الحرب، أى أن أمريكا تحارب بدافع الخير للإنسانية، حتى وإن كانت أفعالها تتسم بالعنف وبدون مبرر.. وهذا يعنى أن هناك أعمالاً عسكرية جديدة لأمريكا بعد أن تنتهى من العراق، لأن قوة أمريكا العسكرية بلغت درجة لم تحدث فى تاريخ الإنسانية، فلم تظهر على الأرض دولة استطاعت الهيمنة على العالم بالكامل بسياساتها، ودباباتها، ومنتجاتها، كما تفعل الولايات المتحدة اليوم.

بالقطع لا يستطيع أحد أن يطلب أو يفكر فى تقليل القوة الأمريكية، ولكن هل يمكن كبح جماح هذه القوة الطاغية؟ وهل يمكن أن تعود للاندماج فى نظام دولى..؟ والجميع متفقون على أن القوة الأمريكية لا يمكن الاستغناء عنها، ولكن الاستنكار فقط ينصب على استخدام هذه القوة بإرادة منفردة، أى أن تكون هذه القوة أداة للإمبريالية، فهل تعمل أمريكا على ترشيد استخدام قوتها وتراعى مصالح الآخرين.. وتعالج الصدع الذى تسببت فيه بينها وبين أوربا ودول عديدة فى العالم باستهانتها بالجميع، وفرض إرادتها على الجميع، والتصرف كقوة وحيدة فى العالم وليس فى العالم أحد سواها؟

هل يمكن أن يحدث ذلك
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف