هل هذا هو صراع الحضارات؟
فى السنوات الأخيرة انتشرت نظرية صراع الحضارات بشكل يلفت النظر، وكان واضحا أنها انتقلت من مراكز التفكير والبحث العلمى إلى دوائر صنع القرار، ثم إلى غرف العمليات العسكرية.. وكانت الأصوات تدوى فى الكونجرس.. وفى الإعلام الأمريكى.. وفى الدراسات والأبحاث.. تؤكد أن الصراع بين الغرب والاتحاد السوفيتى انتهى.. وبدأ الصراع بين الغرب والإسلام.. وأن العدو الآن هو الإسلام.
كان الحديث منذ سنوات يصل إلى كل مسئول وغير مسئول، وكان واضحا أن الذين يتحمسون للحرب ضد الإرهاب يقصدون الحرب ضد الإسلام، بعد أن ربطوا ربطا حثيثا مقصودا بين الإسلام والإرهاب. وقدموهما للغرب على أنهما شىء واحد.. وعدو واحد..
ومع ذلك ظل العرب والمسلمون يكررون ويؤكدون رفضهم لفكرة صراع الحضارات وللعداء بين الأديان.. وأتعب شيخ الأزهر نفسه من كثرة ما قال وأعلن أن الإسلام يرفض الكراهية والعداء بين البشر، ويؤمن بأن الله خلق الناس جميعا، وكلهم لآدم، وجعل الاختلاف بينهم فى اللغة والعقيدة والفكر لكى يتبادلوا الأفكار، ويثرى بعضهم بعضا، ويتعاونوا على ما يفيدهم.. وأتعب القادة العرب والمسلمون أنفسهم ليؤكدوا نفس المعنى وليقولوا إن العرب والمسلمين لايكرهون الغرب. بالعكس، فإنهم معجبون بالتقدم العلمى والحضارى والتكنولوجى والاقتصادى الذى حققته الحضارة الغربية فى العصر الحديث، وهم حريصون على أن يأخذوا من الحضارة الغربية كما أخذت الحضارة الغربية من الحضارة العربية الإسلامية من قبل.
لكن تكرار هذا المعنى من جانب العرب والمسلمين لم يغير شيئا من العقيدة التى أصبحت راسخة عن صراع الحضارات، والتى ظهرت فى فلتات لسان بعض القادة الغربيين ممن بيدهم قرار الحرب، وكما ظهرت فى كتابات وأحاديث يصعب إحصاؤها، وقد جمعت بعضها فى كتابى الأخير (صناعة العداء للإسلام)، وحرصت فيه على ألا أقدم شيئا مما كتبه العرب والمسلمون، واقتصرت على كتابات وأقوال شخصيات لها تأثيرها فى الغرب.
بعد ذلك جاءت الحرب على أفغانستان وقيل إنها للقضاء على تنظيم الإرهاب وقادته، والحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطينى وقيل إنها أيضا للقضاء على الإرهاب، ثم جاءت الحرب على العراق أيضا بادعاء أنها حرب ضد الإرهاب، وجاءت التهديدات لسوريا، وإيران، ويقال أيضا إنها موجهة للإرهاب..
المسألة إذن ليست الإرهاب.
***
المسألة كما عبر عنها الكاتب العالمى جونتر جراس الحاصل على جائزة نوبل فى مقال نشرته صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية فى يوم 10 أبريل الماضى بعنوان (الانحدار الأخلاقى لقوة عظمى) قال فيه: إنه بالرغم من كل تحذيرات الأمم المتحدة شنت قوة عسكرية طاغية هجوما انتهكت به القانون الدولى، ودون اعتبار للاعتراضات الدولية، وعبرت به عن ازدرائها لمجلس الأمن، بل حكمت على مجلس الأمن بأنه لم تعد له قيمة، وبدأت مع تساقط القنابل على بغداد عصرا جديدا يسود فيه حكم القوة على حكم القانون. وبناء على هذا الظلم أعلن الرئيس الأمريكى أنه هو القانون، وأنه هو الحق، وقال: من ليس معنا فهو ضدنا، وهكذا حدثت الانتكاسة الكبرى للبشرية، وعادت إلى عصر البربرية..!
وقال جونتر جراس إن المثير للدهشة أن لغة المعتدى تشبه لغة المعتدى عليه، والتطرف الدينى على الجانبين يسىء إلى كل الأديان وإلى من ينتمون إلى كل الأديان.. وأصبحت فكرة الله رهينة للإدراك المتعصب للطرفين، وحتى تحذيرات البابا الذى يدرك مدى خطورة الكوارث التى تسببت فيها أفكار وأفعال الصليبيين المسيحيين من صراعات طويلة انتهت بالفشل.. حتى تحذيرات البابا ذهبت أدراج الرياح ولم تجد آذانا صاغية.. والآن هانحن أولاء نشهد الانحدار الأخلاقى للقوة العظمى الوحيدة فى العالم ويملأ نفوسنا الغضب، ونشعر بالانزعاج، ونحن ندرك أن هذا الجنون المنظم لن تكون له سوى نتيجة واحدة، هى المزيد من الإرهاب، والمزيد من العنف، والعنف المضاد، وهل يمكن أن تكون هذه هى الولايات المتحدة التى نشعر تجاهها بالحب، والتى قدمت بدافع الخير مشروع مارشال لإعادة بناء أوربا بعد أن دمرتها الحرب العالمية الثانية؟
هل هذه هى الولايات المتحدة التى تقدم للعالم دروس الوعظ عن الديمقراطية؟! هل هذه هى الولايات المتحدة التى كانت نموذجا لحرية الرأى والنقد الذاتى؟! هل هذه هى الدولة التى ازدهر فيها فكر التنوير، وقادت الصراع ضد أسيادها المستعمرين البريطانيين حين كانوا يخضعونها للاحتلال ووضعت دستورا يعتبر قدوة للباحثين عن حرية الإنسان؟! هل هذه هى الدولة التى كانت تعتبر حرية القول حقا من حقوق الإنسان بلاجدال؟!
وقال أيضا:
ليس العالم الخارجى فقط هو الذى يشعر بالخوف من ذبول هذه المثالية فى الولايات المتحدة، وقد أصبحت الولايات المتحدة أشبه برسم كاريكاتيرى مثير، ولكن هناك أمريكيين كثيرين يحبون بلدهم، ويشعرون بالقلق والخوف لهذه الخيانة للقيم الأمريكية الأساسية على يد هؤلاء الحكام.. وأنا أساند هؤلاء الأمريكيين الشرفاء الرافضين للعدوان وللتنكر للمبادئ الأمريكية.. وأشارك معهم فى الاحتجاج على الأعمال الوحشية التى ترتكبها القوة الظالمة، وأرفض معهم القيود التى فرضوها مؤخرا على حرية التعبير وحرية التفكير، وأستنكر معهم السيطرة الحالية على الإعلام الأمريكى التى تذكرنا بممارسات الدول الدكتاتورية، والتى تبرر قتل المدنيين الأبرياء، وتصوره على أنه عمل بطولى يستحق التمجيد والفخر، وتدعى أنه لحماية المصالح الاقتصادية والسياسية لأمريكا.
ويستطرد جونتر جراس معبرًا عن الضمير الإنسانى فيقول:
لا.. ليس صدام حسين ودولته المنزوعة السلاح هما اللذين يشكلان خطرا على أقوى دولة فى العالم، بل إنه الرئيس بوش وحكومته هما اللذان يمثلان الخطر على القيم الديمقراطية، ويتسببان فى كارثة مؤكدة لأمريكا، ويتجاهلان الأمم المتحدة، ويمارسان الإرهاب على العالم بحرب تنتهك القانون.
ويضيف جونتر جراس: نحن الألمان، كنا نشعر بالتردد عندما نسأل أنفسنا: هل نشعر بالفخر لأننا ننتمى إلى ألمانيا؟ وكانت هناك أسباب تدعونا للشك فى الإجابة بنعم، لأننا مسئولون عن إشعال حربين عالميتين ومسئولون عن الجرائم التى ارتكبت فيهما، ولكن الآن أستطيع أن أقول إننى أشعر بالفخر لأن الأغلبية الساحقة من الشعب الألمانى اعترضت على هذه الحرب الظالمة.. وأشعر مع الملايين من الألمان بالفخر لأن ألمانيا أصبحت لديها الشجاعة لحماية نفسها من الارتداد إلى السلوك المراهق، وفى هذه الأيام يشعر كثير من الناس باليأس، ولهم الحق فى ذلك، ولكن يجب ألا نسمح لأحد بأن يكمم أفواهنا ويخرس أصواتنا لنصيح: لا للحرب.. ونعم للسلام.. وإذا كان الحجر الذى دفعناه إلى قمة الجبل قد تدحرج وسقط إلى السفح، فإن علينا أن نتحمل مشقة دفعه إلى أعلى مرة أخرى..
هذا ما قاله الأديب والمفكر العالمى الحاصل على جائزة نوبل: جونتر جراس.
وفى أمريكا أيضا من يعترف بأن هذه الحروب هى صراع الحضارات!
***
مورين داود الكاتب الأمريكى المعروف نشر مقالا فى هيرالدتريبيون يوم 22 أبريل الحالى بعنوان (الصليبيون فى البنتاجون يضعون الملح على الجرح) قال فيه: إن البنتاجون أظهر للعالم مرة أخرى حساسيته الثقافية العميقة، فقد دعا البنتاجون القس فرانكلين جراهام وهو المعروف بعدائه للإسلام والمسلمين، لإلقاء الخطبة وقيادة قداس الجمعة الحزينة الذى أقيم فى وزارة الدفاع الأمريكية، وقد وصف القس فرانكلين جراهام - الإنجيلى المسيحى - الإسلام بأنه دين كريه وشرير، وبعد أن ارتفع صوت المغنية الأمريكية المشهورة كينا وست بترانيم قالت فيها: يوجد إله واحد، وعقيدة واحدة، خاطب فرانكلين جراهام جمهوره من الجنود، والقادة العسكريين والمدنيين بالبنتاجون قائلا: لايوجد سبيل آخر للرب إلا عن طريق المسيح.. وعندما تقدمت المنظمات الإسلامية بالشكوى مما يردده جراهام، وقالت إنه بذلك يفتح الباب للهجوم على الإسلام والمسلمين، لم يقل كلمة ترضى المسلمين، مما دعا المسلمين إلى إعلان شكوكهم فى أن أمريكا أصبحت تعطى الفرصة لقيام حملة صليبية ضد الإسلام، خصوصا بعد أن قرر القس فرانكلين جراهام القيام بحملة تبشير فى العراق(!) وبعد أن أدلى بتصريحات إلى إذاعة (إن. بى. سى) قال فيها: إن الذين دمروا مركز التجارة العالمى لم يكونوا بروتستانت من أتباع لوثر، ولكنهم كانوا ينتمون إلى العقيدة الإسلامية، وبعد أن ذكر فى كتابه الأخير أن الاختلاف بين المسيحية والإسلام يماثل الاختلاف بين النور والظلام، وصرح لصحيفة صنداى تايمز بقوله: إن الإله الحق هو إله الكتاب المقدس، وليس إله القرآن(!). وجراهام يقود منظمة تعمل الآن فى الأردن، وستبدأ عملها فى العراق، واسمها (منظمة الإغاثة المسيحية)، وقد أعلن مؤخرا أن ضرب العراق حدث سعيد من أجل يسوع المسيح، ونشر على شبكة الإنترنت فى موقع Beliefnet (لقد جئنا إلى العراق لإنقاذهم، وباعتبارى مسيحيا فإننى أفعل ذلك باسم يسوع المسيح).
أما بيلى جراهام ابن فرانكلين جراهام فهو أيضا متعصب دينيا، ويتمتع بصلة قوية بالرئيس جورج دبليو بوش، وكان هو الذى يقدم المادة الدينية منذ عام 1988 للتحريض على ضرب العراق ويسمى هذه الحرب (هبة الرب للإنسانية) أى أنه يعتبرها حربا دينية ويدعو إليها بهذا المفهوم.. والقس فرانكلين جراهام الأب هو الذى أقام الصلاة فى حفل تنصيب الرئيس بوش، وقال الرئيس بوش عن ابنه: إن القس بيلى جراهام زرع بذرة فى قلبى، وهو الذى جعلنى أتوقف عن شرب الخمور وأعانق يسوع المسيح!
ويقول مورين داود فى مقاله أيضا: إن الأمريكيين الذين خططوا للحرب يشعرون بالارتياح الآن، وهذا الشعور يجعلهم لايسمعون الأصوات التى تحذرهم من صراع الحضارات، حيث بدا أن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد قد عقد العزم على التعامل مع تخريب آثار الحضارة القديمة على أنها أمر ليست له أهمية ولايبكى على هذه الآثار سوى المخنثين..!
وكان رد فعل رامسفيلد وهو يرى مشاهد تخريب المتاحف والمكتبات السخرية من الأمر، ويقول مورين داود: لقد كان الجيش الأمريكى قادرا على إنقاذ المتاحف و المكتبات ببساطة لو كان قد نشر بعض القوات المكدسة لحراسة أحمد جلبى صديق ريتشارد بيرل ومرشح البنتاجون للرئاسة فى العراق، والمحكوم عليه قضائيا بالسجن فى قضية اختلاس، والذى ترك بلاده منذ أربعين سنة، وعاد على الدبابات الأمريكية!
ويختم مورين داود مقاله بقوله: يجب الكف عن إرهاب الذين يعبرون عن الشك فى قدرة الجيش الأمريكى فى الاستمرار فى احتلال العراق، ويجب الكف عن تأييد الإنجيليين الذين يريدون تغيير ديانة المسلمين فى العراق، والكف عن تأييد دمية مشبوهة (أحمد جلبى) والكف عن إرضاء المشاركين معهم فى الحرب بمنحهم عقود إعادة تعمير العراق، وتجب مراجعة إعطاء معظم العقود للشركات الأمريكية خصوصا هاليبرتون وباكتل، والتصرف بخيلاء وزهو، بينما تراث العراق الثقافى يحترق!
هذا ما قاله كاتب أمريكى معروف فى صحيفة أمريكية معروفة!
***
وفى صحيفة هيرالد تريبيون أيضا كتب ديفيد روتشى مقالا يوم 23 أبريل الماضى، بعنوان (الثمن الفادح للتفوق)، يقول فيه إن التفوق الذى وصلت إليه الولايات المتحدة وجعلها القطب الأوحد والقوة الأكبر هو ما يجعل تحالفاتها الجوهرية تضعف، ويزيد حدة الإرهاب.
وديفيد روتشى رئيس مركز البحوث الاستراتيجية فى لندن وهو يرى أن الصراع الذى تخوضه أمريكا يرجع إلى سياسة المحافظين الجدد الذين جاءوا إلى البيت الأبيض مع الرئيس بوش، وإصرارهم على فرض النموذج الأمريكى على الدول الأخرى، حتى ولو اقتضى الأمر تغيير نظم الحكم بالحروب التى يسمونها العمل العسكرى الوقائى، ووفقا لهذه السياسة قرروا الحرب ضد العراق، ويمارسون الضغوط على سوريا وكوريا الشمالية، وذلك لكى يزداد النفوذ الأمريكى، ولكن النموذج الأمريكى فى الاقتصاد، وأسلوب الحياة، هذا النموذج غير مقبول فى عدد كبير من الدول، وحتى فى داخل أمريكا ذاتها أصبح هذا النموذج موضع شك، وإدارة الرئيس بوش تتراجع عنه، وفى الوقت الذى تفرض فيه الإدارة الأمريكية على الدول ألا تفرض إجراءات لحماية منتجاتها، فإنها تفعل ذلك، وتفرض على الدول الالتزام بالحرية الاقتصادية وعدم التدخل فى السوق بينما هى تفعل عكس ذلك، وتفرض على الدول عدم استخدام التجارة الخارجية كسلاح سياسى بينما هى التى تقوم بذلك.
ومعنى ذلك أن الصراع بين أمريكا وعدد كبير من دول العالم يدخل فى إطار صدام الثقافات أو صراع الحضارات، لأن أمريكا تريد أن تفرض نموذجها الثقافى والحضارى على الآخرين بقوة السلاح.. والنتيجة أن أمريكا تشن الحروب لكى تحمى نفسها من الهجمات الإرهابية، بينما هى بهذه القوة العسكرية المفرطة تتسبب فى انتشار الخوف منها والكراهية لها، وبذلك يزداد التطرف فى أنحاء كثيرة من العالم، وسيؤدى ذلك إلى مزيد من الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة ومصالحها فى العالم، ويقول المحلل الاستراتيجى ديفيد روتشى: لو كانت القوة العسكرية هى الحل لمشكلة الإرهاب، لكانت إسرائيل قد حققت لنفسها الأمن منذ سنوات.
والفكرة أن هذا الصراع الحضارى الذى تقوده أمريكا لن يحقق لها سوى الخسارة على المدى الطويل.
***
وحتى توماس فريدمان، الكاتب اليهودى الصهيونى المراوغ، القريب من البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية لم يستطع أن يخفى أن هذه الحرب هى حرب حضارات وثقافات، وكتب مقالا من مدينة أم القصر بالعراق يوم 14 أبريل الحالى فى نيويورك تايمز بعنوان (المعركة من أجل تغيير العقل العربى) قال فيه: بعد سقوط حائط برلين سقط حائط أم القصر الذى يحيط بالميناء، بعد أن دمرته القوة الأمريكية بسهولة، لتسقط دكتاتورية فاسدة فى هذه المنطقة المليئة بنظم للحكم يحميها مثل هذا الحائط الهش، ولكن سقوط هذا الحائط لا يكفى لتحقيق الحرية التى تحققت بسقوط حائط برلين، لأن هناك حائطين آخرين يعوقان انفجار الحرية فى الشرق الأوسط، وهما حائطان أشد صلابة ولكن يجب إسقاطهما أيضا، الحائط الأول هو العقل العربى، وقد اصطدمت رأسى فى هذا الحائط فى القاهرة عندما كنت أناقش موضوع الحرب فى العراق فى قهوة الفيشاوى مع عدد من الصحفيين من المعارضة، فرأيت أن هؤلاء الصحفيين لايرون أى شىء مفيد فى هذه الحرب ولايرون منها إلا أنها احتلال أمريكى للعراق، ورأيت منهم الإصرار على أن أمريكا قامت بهذه الحرب فقط لقمع العرب، وتقوية إسرائيل، والاستيلاء على البترول، وأوضحت لى هذه المشاحنات أن أمريكا لم تكن فى حرب مع صدام وحده، ولكن مع الصدامية، أى مع عقلية عربية منغلقة، تكونت فى سنوات الاستعمار والإهانات، وهذه العقلية تصر على أن إعلاء الكرامة والقومية العربية ليس لها طريق سوى تحدى الغرب، ويرون أن تحدى الغرب أهم من الحرية ومن الديمقراطية ومن الحداثة!
ويقول فريدمان: خلال هذه الحرب انتشرت النزعة الصدامية من خلال قناة الجزيرة، والمفكرين العرب، والجامعة العربية، ولايمكن تخيل مدى الحزن الذى يملأ صدور الصفوة العربية لأن شعب العراق يفضل التحرر على يد أمريكا على استمرار التحدى للغرب فى ظل حكم صدام. وفى الصباح التالى لتحرر العراق كتب عبدالحميد أحمد محرر صحيفة أخبار الخليج مثل الكثيرين من الكتاب العرب يقول: هذه لحظة حزينة بالنسبة لكل عربى وهو يرى قوات المارينز تطوف شوارع بغداد.
وقال فريدمان إن حائط الصدامية هو الذى ساعد القادة الأشرار على البقاء فى الحكم، وساعد على بقاء الشباب العربى فى التخلف والإحباط، واستشهد بما كتبه شفيق جبرا رئيس الجامعة الأمريكية بالكويت الذى قال: (إن المرض الاجتماعى والسياسى والثقافى والاقتصادى فى هذا الجزء من العالم أصبح تهديدا للأمن القومى الأمريكى، وأثمر أحداث 11 سبتمبر، وجاءت هذه الحرب تحديا للنظام العربى بأكمله، وهذا هو سبب معارضة كثير من العرب لها، فقد كانت الحرب لتحرير الكويت عام 1991 جراحة خارجية، أما هذه الحرب فهى جراحة قلب مفتوح!
ويعلق فريدمان على ماقاله شفيق جبرا بأن هذه الجراحة سوف تنجح فى الإطاحة بصدام وبالصدامية، إذا نجح الأمريكيون فى خلق عراق سليم صحيا، ولكن النهب الواسع الانتشار الذى تبع سقوط صدام يجعلنى أشعر كم سيكون ذلك صعبا، فإن كل ما حققناه فى العراق حتى الآن هو الفوضى، وليس الحرية، ولايوجد مجتمع مدنى هنا، فنحن نبدأ من لا شىء!
ويقول: يجب أيضا هدم حائط الأسمنت والخوف والأسلاك الشائكة الذى أقامه الإسرائيليون والفلسطينيون، ونزع فتيل هذا الصراع، لأننا إذا تركنا هذا الحائط فسوف يقوى حائط الصدامية، وسوف يتستر القادة العرب وراء هذا الصراع كعذر لعدم التغيير، وسوف يستخدمه المفكرون العرب لنزع شرعية وجود القوات الأمريكية فى المنطقة، وسوف يستخدمه أعداء القادة الجدد للعراق لإعاقتهم عن العمل معنا.
ويقول فريدمان: عندما أصر أحد الصحفيين المصريين فى مقهى الفيشاوى على أننا خرجنا لاحتلال العراق قلت له عبارة كولن باول: إن أمريكا قوية، مثلها مثل أى إمبراطورية فى التاريخ، ولكنها عندما قامت بغزو دول أخرى، كانت قطعة الأرض التى طلبتها هى قطعة صغيرة لدفن جنودها الذين لن يرجعوا إلى وطنهم.. وذكرتنى هذه اللحظة بما كان يقوله الكاتب العربى رامى خورى من أن العرب منذ فترة طويلة وهم يرون قوة أمريكا، ولكنهم لم يروا الخير على يد أمريكا. ويعلق توماس فريدمان على ذلك بأن العرب لم يروا الخير من أمريكا لأن وسائل الإعلام العربية شوهت عن عمد الخير الذى قدمته أمريكا لهم! وجزئيا لأن أمريكا استخدمت قوتها من أجل النفط وإسرائيل أكثر من الدفاع عن الديمقراطية..
***
هذه بعض الأفكار والمواقف الأمريكية التى تتكرر قبل الحرب على أفغانستان والعراق وبعدها..
هل يمكن استخلاص المعنى من وراء السطور لنعرف هل هذه الحروب هى التعبير بالسلاح عن صراع الحضارات الذى كان مجرد نظرية فى الكتب فتحول إلى جيوش تدمر وتحرق وتقتل؟!*