(1)الإعلام.... والإسلام

بدأت اجتماعات وزارة الإعلام فى الدول الإسلامية بالقاهرة منذ أيام بداية تقليدية هادئة, وانتهت نهاية تقليدية, لأن الأسئلة الجديدة التى طرحت فيها ولم تجد إجابات بعد, كانت أكثر من الأسئلة التى توصلوا إلى إجابتها.


الحقيقة الأولى التى لا يريد كثير من الناس أن يدركوها, هى أن الإعلام لا يصنع واقعًا, ولكنه فقط يعكس الواقع القائم كما هو, وواقع العالم الإسلامى فى هذه المرحلة ملىء بالأحزان والهزائم والتناقضات.. قضية البوسنة والهرسك.. تقاتل الأشقاء فى أفغانستان تحت راية واحدة هى راية الجهاد الإسلامى.. من أهم دواعى الأحزان. والإرهاب الذى ينتشر بصورة منظمة فى أكثر من بلد إسلامى يرفع شعارات واحدة, ويعمل بطريقة واحدة, تؤكد وجود تنسيق وتكامل, وعقلية مدبرة واحدة, واستراتيجية إرهابية واحدة.. هذه أهم هزائم العقل فى العالم الإسلامى، لأن كل عملية إرهابية تحدث باسم الإسلام تدل على هزيمة بعض العقول التى سقطت فى يد الشيطان ليزيف لها حقائق الإسلام ويشوه لها رؤية جوهره الراقى المتحضر. أما المتناقضات فى العالم الإسلامى فإن شواهدها تفوق الحصر.. كلام عن الوحدة وفعل يعكس التشتت والتشرذم.. أموال تنفق فى ما لا يفيد بإسراف وبذخ وتقتير شديد فى الإنفاق على المشروعات التى تفيد أو تحقق التنمية التنمية البشرية للمسلمين بمعناها الواسع.. جماعات تدل على اهتمام بالعلوم والتكنولوجيا وغياب المنهج العلمى فى التفكير وإبعاد المؤسسات العلمية عن الفاعلية وتهميش لدور العلماء..


أحزان.. وهزائم.. وتناقضات.. فى وقت تتسارع فيه خطى العالم نحو إشراقة قرن جديد سيكون فى حقيقته حياة جديدة فى عالم جديد، من لا يستعد لمواكبته سيقف بعيدًا عنه لينتظر مصير الكائنات المتخلفة عن التطور: الإنقراض!


بدأت اجتماعات وزراء الإعلام بكلمات ليس فيها جديد، ثم تزايدت حرارة المناقشات حين تحدث وزيرا الإعلام المصرى والسعودى من ملامح استراتيجية إعلامية جديدة للدول الإسلامية، وتحدث وزير الإعلام السورى عن القضايا القومية والمتغيرات الدولية، وفجر وزير الإعلام التونسى قضية فى الصميم فى شكل سؤال استنكارى: هل مناهج العمل فى الإعلام والتعليم فى العالم الإسلامى كافية – فى الكم والنوعية – لتكوين رأى عام مستنير فى الدول الإسلامية، وتحصينه ضد الجهود الذكية المنظمة لتشويه الإسلام وربطه بالإرهاب؟


عند هذه القضايا كان لابد من مواجهة الحقيقة وهى أن التنسيق العالمى بين الدول الإسلامية لم يتحقق بصورة مرضية حتى الآن، رغم كثرة الاجتماعات والمؤتمرات، ربما لأن هذا التنسيق لابد أن يستند أولا إلى وضوح فى الفكر يحتاج إلى اجتماعات كثيرة مستمرة للخبراء والمفكرين والباحثين، لأنه لا يمكن وضع استراتيجية بحق ما لم تقم على أرضية جيدة ممهدة من المفاهيم والأفكار والتوجهات واضحة تمام الوضوح ومستقرة فى كل الأذهان دون أدنى لبس أو غموض وبنفس القدر فإن هذا التنسيق لا يمكن أن يتحقق إلا إذا توافرت الإرادة السياسية لذلك، فالإعلام لا يملك القرار السياسى الاستراتيجى، ولكنه يعمل فى إطاره ويدور فى حلقته التنفيذية.


حقيقة إن الإعلام يستطيع أن يسهم بشكل جاد فى إيجاد رأى عام مستنير يفرق بين الصدق والكذب، وبين الصواب والخطأ، وبين الهداية والضلال، وبين الدعوة والتضليل، ولكن ذلك يحتاج إلى جهد مدفوع خاص. ليست المسألة إعداد برنامج تليفزيونى أو حتى مائة برنامج.. وليست فى قافلة للدعوة تلقى بعض الخطب فى بعض الناس.. ولا فى مقالات هنا أو هناك أو ندوة أو اجتماع. الأمر يحتاج إلى فلسفة واضحة للعمل، وإلى كوادر قادرة مؤهلة ومخلصة، وإلى برامج يومية متصلة..وقد يبدو الأمر- فى الكلام – سهلاً، ولكنه عند التنفيذ شديد الصعوبة.


عند التنفيذ نصطدم بصعوبة عندما نريد مواجهة حملات تشويه الإسلام داخل العالم الإسلامى نفسه لأنها ليست الآن مؤسسات لإعداد جيل جديد من القائمين على الاتصال "ولا أقول الدعوة أو الإعلام" بحيث تتوافر فيهم معرفة بدقائق القضايا المثارة، وبأساليب الدعوة وفقًا للنظريات والمناهج الحديثة، وهى – فى عجالة – ليست مجرد عقد ندوات أو إقامة سرادقات، أو إلقاء خطاب، ولكنها نشاط يومى دائم يعكس ويعمق ويغرس المفاهيم ويثير دوافع السلوك، وليس هذا كلامًا جميلاً فقط، ولكنه أمر يتحول إلى عمل أمام عيوننا داخل وخارج بلادنا، وهناك من يجعل قضاياه بالعمل اليومى البسيط، والسلوك والقدرة، جزء من عقول وشخصية ناس بذاتهم، ويتم ذلك فيما يشبه التلقائية ولكنه فى حقيقته مقصود بدقة، ومخطط بعناية شديدة جدًا.


وعند التنفيذ نصطدم أيضًا, نجد بعض القيادات المشتغلة فى العمل التنفيذى غارقة فى "الأنا" المتضخمة, ونجد قطاعات من أمة الناس فى أسفل السلم الاجتماعى رافضة للواقع الاجتماعى الذى تعيش فيه، ـ أو على الأقل راغبة فى تغييره، ونجد العمل الإعلامى فى الدول الاسلامية يخلط بين الإعلام، والإعلان، والدعاية، مع ما بينها من فروق كبيرة ليس هذا مجال عرضها ولكن يكفى الإشارة إلى أن خلط المفاهيم يؤدى إلى ظهور مقاومة، وعلى الأقل حذر وشعور بعدم الثقة لدى الذين يتلقون الرسائل الإعلامية الإسلامية الرسمية، لأنهم بشكل ما يشعرور بأن ما يقال لا يعكس واقعًا، ولا يعبر عن حقائق، ولكنه يعبر عما تريد أجهزة الإعلام الرسمية أن تفرضه على العقول وتضغط بكل وسائل الضغط النفسى والعقلى لادخاله ضمن مكونات النفس والشعور.. وطبيعى أن يتولد مع  الإلحاح غير الواعى، وتكرار الأقوال العامة المبهمة دون مناقشة، وترديد أقوال عن أشياء ليس لها وجود فى الوقع الملموس الذى  يعيشه الناس، لا يمكن أن يحظى بالاحترام، ولا بالإقناع بل ولابد ان يظهر الرفض والمقاومة.


من هنا نرى أن استراتيجية الإعلام التى طرحتها مصر والسعودية قد جاءت فى وقتها المناسب, وهى بالتالى تستحق أن تطرح على أوسع نطاق لكى يشارك فى بلورتها كل من يستطيع أن يقدم إضافة مفيدة, أو يزيدها وضوحا ويكسبها الصلاحية للتطبيق العلمى.


اما الصعوبات التى تواجه الإعلام الإسلامى فهى كثيرة يصعب الحديث عنها كلها, ولكن يكفى إشارة عاجلة إلى الاستراتيجية الإعلامية المضادة، القائمة والتى نلمسها فى الإعلام الغربى بشكل عام, ولأنها غريبة فهى قائمة على أسس علمية بحق, وموضوعة بذكاء شديد, وتنفذ بدقة بالغة, وبنعومة وهدوء بالغين بحيث لا يشعر بها إلا من لديه حاسة النقد والتمييز..


يكفى أن نراجع ما يكتب فى اللاهوت عن الإسلام على انه دين يؤمن بالقدرة الوحيدة الكلية الشاملة, بحيث لا يستطيع العقل المسلم أن يفهم مبدأ السببية. ومثل هذه القضية التى تبدو فلسفية تأخذ فى الإعلام الغربى أشكالا  متعددة تقربها إلى الممارسات اليومية وسلوك الحياة العادية للمواطن  المسلم. إنهم يعمقون الثقة لدى كل عربى بأن المسلمين قوم لا يؤمنون بالعقل أو بالمنطق، والإيمان بهما يؤدى إلى الإيمان بأن كل شئ لابد أن له سببا مباشرا، وشخصا أو أشخاصا هم الذين تسببوا فيه، وبذلك تقوم المسئولية الإنسانية، وتظهر قدرة الإنسان، ويتولد الشعور بأن هذه الحياة على الأرض يمكن أن تتغير إلى الأفضل، وأن كل ظلم يمكن دفعه, وكل خطأ يمكن إصلاحه، وكل نقص يمكن استكماله ، وكل حلم يمكن تحقيقه، أما العقل المسلم فلا يثق فى مبدأ السببية ، لأنه يؤمن بأن الله هو الذى جعله فقيرا أو مظلوما أو متخلفا أو جاهلا.. الخ.


طبعا هذا كلام لا يتفق مع حقيقة الإسلام الذى يقول لنا فيه ربنا تبارك وتعالى: (وآتيناه من كل شئ سببا فاتبع سببا)، لكن مفكرى الغرب لا يريدون أن يفهموا ذلك. وربما لأننا نحن المقصرين فى عرض ذلك.


ويبدو أننا لابد أن نعود إلى هذا الحديث ليتضح أنه ليس كلام فى الفلسفة فقط، ولكنه كلام عن الحياة البسيطة لأى إنسان بسيط: هل يثق فى الإرادة الإنسانية وقدرة الإنسان على العمل ويدرك ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أم يستسلم لتصور بأن الإنسان ليس أكثر من ريشة فى مهب الريح، أو حجر ملقى ليس له إلا أن يتلقى ما تأتى به المقادير، وهو فى موقف سلبى يدعو ولا يفعل.. ليس هذا كلاما فى الفلسفة.


ولكنه كلام عن كيفية النهوض من الكبوة  الثقافية الكبرى، والخروج من مأزق الجهل والتخلف، والبحث عن مكان فى عالم يجرى بالعلوم والأفكار الجديدة ونحن واقفون..


بدأنا فى الحديث عن الاعلام وانتهينا بحديث عن المؤامرات والصعوبات. وهذه هى القضية.  


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف