عودة إلـى نداءات الضمير العربى
 لن يفيد العرب البكاء على الحال الذى وصلوا إليه، وليس هذا وقت البحث عن المسئول عن هذا الحال، لأن الأزمة التى يعيشها العالم العربى اليوم، والأخطار الجسيمة التى تهدد الجميع، بسبب الحرب الأمريكية على العراق، وما سوف يترتب عليها من آثار وتداعيات لن ينجو منها أحد، لا تعطينا فرصة للحساب أو العقاب، وخير للعرب أن يفيقوا ويستيقظوا ويتحركوا لإنقاذ حاضرهم ومستقبلهم، وإذا أرادوا أن يسيروا على الطريق الصحيح، فليس أمامهم إلا العودة إلى نداءات الضمير العربى، التى تكررت عشرات المرات على مدى عشرين عاما على لسان حسنى مبارك، وكان فيها معبرا عن الروح العربية والمصالح العربية.

وطالما حذر مبارك وأنذر من خطورة التمزق  العربى.

وطالما سافر هنا وهناك، وعقد عشرات القمم، وأجرى مئات اللقاءات والمباحثات لكى يساعده الجميع على رأب الصدع، وإعادة الصف العربى للتوحد فى مواجهة الأخطار المحدقة، التى كان يراها قبل أن تقع بسنوات رأى العين، ونبه إليها بقوة وبصراحة كاملة، وشرح لكل من قابله رؤيته للنظام العالمى الجديد، وما فيه من تهديدات للكيانات العربية، وعلى القضية الفلسطينية، ومعها منظومة الدول العربية التى توشك أن تقع فريسة للخديعة الكبرى، وتتفكك وحدتها، وتتحول الدول العربية إلى كيانات وحيدة صغيرة يسهل ابتلاعها واحدة بعد الأخرى، فى مناخ يظن فيه كل كيان منها أنه يستطيع أن ينجو وحده، حتى ولو تنازل عما لا يمكن التنازل عنه.

وطالما نادى مبارك إلى تجاوز الخلافات العربية، والارتفاع فوق الأحداث والتجاوزات المؤلمة، وتأجيل الرغبة فى تصفية الحسابات، والتنازل عن سياسة المزايدات، والاكتفاء بما جرته العنتريات وأوهام الزعامة على الأمة العربية من انتكاسات وهزائم، والتعامل بين الأشقاء العرب بروح جديدة، قائمة على العمل، وليس على النوايا أو الشعارات وليفعل كل منهم ما يستطيع بدلا من أن يهاجم الآخرين.

ولم يتردد مبارك يوما فى طرح المبادرة تلو المبادرة لحماية المنطقة العربية كلها على أساس أن الأمن القومى العربى كل لا يتجزأ ، ولا يمكن أن يكون أمن دولة عربية منفصلا عن أمن سائر الدول العربية، وكانت له مبادرة متكاملة طرحها على القادة العرب، مجتمعين فى رحاب الجامعة العربية فى مناسبة مرور خمسين عاما على توقيع ميثاق العمل العربى المشترك، وقيام الجامعة العربية، قدم فيها رؤية لعالم عربى جديد، ونظام عربى جديد، وفكر عربى جديد، بمنهج علمى وواقعى، وبدون تهويمات أو شعارات أو فلسفة جوفاء.. بكلمات بسيطة، وتوجه عقلانى طالب العرب أن يبدأوا بالصدق مع النفس، والصدق مع الغير، ليروا حقائق الواقع الجديد فى العالم الذى يتحول بسرعة نحو السعى إلى القوة، والقوة هى التى ستكون لها الكلمة والغلبة، ستكون القوة فوق القانون، وفوق الحق، وستكون المصالح هى المحرك للدول الكبرى، ولن تكـون أيـة دولــة أو مجموعة من الدول قادرة على أن تعيش بمعزل عن غيرها أو أن تتحرك خارج السياق العالمى، وإلا فسوف تصبح كيانا هامشيا لا تأثير له فى تشكيل الصورة الجديدة لعالم الغد. وقال إن الأمة العربية مؤهلة للمشاركة بدور فى التحول العالمى، إذا التزم الجميع برؤية ناضجة، ولقد كانت الغاية فى الستينات هى الدعوة إلى توحيد الصف العربى، وتحقيق العدالة الاجتماعية، لإقامة مجتمع عربى قوى، وتركز الجهد العربى فى السبعينات والثمانينات حول تحرير الأرض العربية التى احتلت عام 1967 وصياغة منظور عربى للسلام فى الشرق الأوسط على أساس احترام الحقوق والالتزام بالواجبات، وتوفير الاستقرار الذى تحتاج إليه شعوب  المنطقة لاستعادة قواها بعد أن استنزفت مواردها فى الصراعات والمعارك، وسارت بالتوازى مع هذا محاولة التوصل إلى مفهوم واضح للأمن فى المنطقة، وتصور للعمل العربى المشترك، فإن الدول العربية محتاجة إلى السير بجدية على طريق جديد.

الدول العربية محتاجة للسير على طريق جديد بإرادة حقيقية ومخلصة، وبدون مناورة أو خداع، لوضع خطط قابلة للتنفيذ، للتنسيق السياسى والتعاون فى كل المجالات وكل الأوقات بين الدول العربية، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لحماية استقلال وسيادة الدول العربية.. ولابد أن نصارح أنفسنا بأن ما تحقق من الأهداف التى أنشئت الجامعة العربية من أجلها أقل كثيرا جدا من طموحات الشعوب، وأقل كثيرا جدا مما كان فى الإمكان. ويجب ألا نلوم الجامعة العربية كمنظمة أو كإطار للعمل، لأنها لا يمكن أن تكون أكثر فعالية إلا فى الحدود التى تلتقى عندها إرادة الدول الأعضاء، والشعارات ليست بديلا عن العمل، وليس من الصواب إهدار الممكن سعيا وراء المستحيل، وهدف الوحدة العربية يبدو بعيدا اليوم ولكنه مازال فى حدود الممكن، بل هو فى حكم الضرورى، ولكنه لكى يتحول إلى واقع يجب أن يكون التحرك لتحقيقه بخطوات تدريجية، ويجب ألا يقيد العرب أنفسهم برؤية واحدة جامدة، وأن يستفيدوا من النماذج الناجحة لتجارب التكامل التى قامت بها دول أخرى سبقت، وبدأت بخطوات محدودة بجدية فوصلت إلى الهدف بدون قفزات متعجلة. ولذلك تجب إعادة ترتيب الأهداف القومية، وأول هذه الأهداف وأهمها على الإطلاق حماية الأمن القومى العربى بمعناه الشامل، لأن الأمن القومى العربى هو الضمان الأول للوجود ولحماية الشعوب العربية من العدوان، وهو أيضا الضمان للدفاع عن المصالح الحيوية لكل الدول العربية، وبدون هذا الضمان يصبح وجود الأمة ذاته فى الميزان، وتظهر احتمالات تفكك واهتزاز الحقوق الأساسية للأمة، ولا يكون هناك معنى للحديث عن دور للأمة العربية فى المستقبل.. وفى سياق حماية الأمن القومى أعلن مبارك مبادرته عام 1990 بإخلاء منطقة الشرق الأوسط كلها من أسلحة الدمار الشامل بمختلف أنواعه، النووية والكيماوية والبيولوجية، لأن حيازة هذه الأسلحة لدى أى طرف كفيلة بتهديد الاستقرار والأمن فى المنطقة كلها، وإشاعة مناخ التوتر، وإشعال منافسة محمومة تؤدى إلى أوخم العواقب؟

وقال مبارك: إن المصلحة القومية العليا تدعو لتحقيق التقارب والتنسيق الاقتصادى بين الدول العربية، وهذا هو السبيل الوحيد لرفع مستوى معيشة الشعوب العربية جميعها، وإقامة مجتمع اقتصادى عربى يعطى للعرب القدرة على التفاوض مع التكتلات الاقتصادية الكبرى، وفى نفس الوقت على الدول العربية أن تعمل معا لتحقيق نهضة ثقافية شاملة محورها حماية الثقافة القومية، وتمكين العقل العربى من القيام بدوره فى رسم صورة المستقبل، واستعادة القيم العربية النابعة من شرائعنا وتراثنا، وفى مقدمتها قيم الاعتدال، والتسامح، ونبذ التطرف والعنف، وحرية الرأى.

وقال مبارك إن المصالحة العربية يجب ألا تكون مجرد التقاء عاطفى وحديث عن النخوة العربية ونسيان الماضى وفتح صفحة جديدة، وإنما يجب أن تتحقق بوضع آلية معينة للتعامل مع الأزمات.

 ولقد كان غزو العراق للكويت فى أغسطس 1990 كارثة قومية، لا ندرى كم تتطلب من السنين ومن الجهود لكى تتلاشى من الذاكرة العربية، ولكن الكارثة الأكبر إذا تركت الأمة العربية تتفكك، ويتعرض مستقبلها للخطر بسبب عدم وضوح مخرج من هذه المأساة.

وفى هذه الرؤية طالب مبارك بأن تتبنى الدول العربية ميثاق شرف يحول دون ظهور خلافات مدمرة فى المستقبل، ويضمن احتواء أى منازعات بحيث لا تصل إلى انفجار المواقف بالصورة التى شهدناها من قبل، ويتعهد فيها كل العرب باحتواء كل خلاف، وبتأكيد الاحترام لنظام الحكم القائم فى كل قطر عربى.

قال مبارك ذلك أمام الجميع فى عام 1995 ، أى منذ 8 سنوات، فماذا فعل العرب خلال هذه السنوات الطويلة؟

ماذا فعلوا..؟

ولو كانوا استجابوا ونفذوا ما أعلنه صوت الضمير العربى، هل كنا قد وصلنا إلى ما نحن فيه الآن ؟!

ومع ذلك، هل يمكن أن نأمل فى أن يفيق الغافل، ويستيقظ النائم، لتحويل هذا المشروع إلى حقيقة.. هل يمكن أن يتحول الحماس بالأقوال إلى حماس بالأعمال؟

إننى كلما عدت إلى ما قاله مبارك فى ذلك اليوم، وأنظر إلى ما يجرى اليوم، أتذكر قول الشاعر العربى القديم:

ولقد نصحتكم بسقط اللوى

فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد!

لقد نصحهم فى مكان  اسمه (سقط اللوى) فلم يستجيبوا، ولم يدركوا الحقيقة وقيمة النصيحة إلا متأخرا جدا، وبعد أن وقعت الواقعة.

ومع ذلك مازال للأمل بقية.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف