بعد العراق.. من الضحية القادمة ؟
الاندفاع الأمريكى المحموم لغزو العراق قائم على حسابات خاطئة منذ البداية، ومع ذلك من سيكون عليه الدور بعد العراق؟.

لست أنا الذى أقول ذلك ، ولكن الأمريكيين هم الذين يقولونه.

الرئيس الأسبق جيمى كارتر قال:إن هذه الحرب تتعارض مع المبادئ الأمريكية، ومرفوضة من المجتمع الدولى، ولا تستند إلى الشرعية الدولية، وسوف تؤدى إلى فقدان أمريكا للتعاطف الكبير الذى كان العالم يتعامل به معها بعد 11 سبتمبر، وقال أيضا إن هذه الحرب تعبير عن سياسات أحادية الجانب، ومستبدة، وسوف تؤدى إلى انحدار مكانة أمريكا حين تتحدى الأمم المتحدة، وسوف يفقدها دورها كنصير للسلام وحقوق الإنسان والحريات، والخلاصة عند كارتر: لا يوجد مبرر للهجوم والأفضل إعطاء الفرصة الكافية للمفتشين وللحلول السلمية.

وحتى توماس فريدمان المعبر عن المخابرات الأمريكية وعن البيت الأبيض كتب مرة يشكك فى الادعاء الأمريكى بأن الدافع للحرب هو تغيير العراق ليكون ديمقراطيا، وتحويل العالم العربى نحو الديمقراطية.. فقال:إن الولايات المتحدة لم تظهر أى اهتمام بالديمقراطية فى العالم العربى من قبل لأن ذلك لا يهمها، ما يهمها هو النفط، والأسواق، والموقع الاستراتيجى، وقبل كل ذلك: إسرائيل.

 وكتب مرة أخرى مقالاً بعنوان (الحرب ليست ضرورية) علق فيه على المؤتمر الصحفى للرئيس بوش الذى قال فيه: إن هذه الحرب من أجل أمن أمريكا، وقال فريدمان: هل صحيح أن غزو العراق ضرورى للأمن القومى الأمريكى، وصدام حسين ليست لديه نوايا، وليست لديه قدرة على تهديد أمريكا؟!، وحتى إذا هدد أمريكا فإن من السهل ردعه، وقال : إن حرب أفغانستان كانت ضرورية ، ولكن حرب العراق ليست كذلك، والأهم فيها الحرص على الأمم المتحدة، ومشكلة بوش أنه يريد إقناع الجميع بأن هذه الحرب ضرورية، وهو يبالغ فى التعبير عن ذلك، ومن الطبيعى أن يرى الناس أن فى ذلك خداعاً لهم، وأن السبب الحقيقى للحرب قد يكون رغبة شخصية فى تحقيق ما لم يحققه والده بعزل صدام حسين وتغيير نظام الحكم، أو يكون السبب هو البترول، أو يكون الاستسلام للجناح اليمينى.

ويعلق أيضا على العبارة التى قال فيها بوش (نحن لا نحتاج إلى إذن من أحد ) فيقول إن ذلك غير صحيح.. ففى حرب أفغانستان لم تكن أمريكا محتاجة للحصول على موافقة أحد لأنها كانت تطارد التنظيم الذى ارتكب جريمة فى عقر دارها، ولكن بالنسبة للعراق فإن أمريكا بالقطع محتاجة إلى موافقة العالم، ليس فقط من أجل مسئوليات ونتائج الحرب ، ولكن أيضا من أجل مسئوليات إعادة البناء. لأن أمريكا لن تستطيع بناء وإدارة العراق وحدها، وتواجدها وحدها ليس له اسم إلا أنه احتلال أمريكى، وذلك يجعل أمريكا هدفا لكل من يعانى من الإحباط والغضب، وأمريكا وحدها لن تستطيع البقاء سنوات فى انشغال بإعادة بناء دولة وهذا يحتاج إلى زمن طويل.

ويقول فريدمان إن أمريكا وحدها لن تستطيع تحقيق الأهداف التى تعلنها، وأمريكا محتاجة إلى إعادة التفكير فى خياراتها وتكتيكاتها، لأن أمريكا إذا هاجمت العراق بدون الشرعية الدولية فسوف تخسر نفوذها ومكانتها كقائد استراتيجى وأخلاقى لعالم حر.

ويحكى توماس فريدمان أن الملك عبد العزيز بن سعود قبل أن يلتقى مع الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت على متن سفينة فى قناة السويس عام 1945 سأل مستشاريه عن روزفلت: هل يؤمن له؟ وهل الأمريكيون لهم مستعمرات؟ وكان العاهل السعودى يريد أن يعرف كيف يستخدم الأمريكيون قوتهم الهائلة، هل يستخدمون قوتهم كما يستخدمها الأوربيون فى السيطرة على المستعمرات واستغلالها، وهل لهم أطماع إمبراطورية؟.. أو هم ينفذون بالفعل ما يقولونه عن المبادئ والقيم؟.. ويقول فريدمان إن سؤال الملك عبد العزيز بن سعود لا يزال هو أهم سؤال للأمن القومى الأمريكى، فالعالم لا يريد أن يقوده رجال أنقياء مثل شيراك ووزير خارجيته، ولكن لا يريد العالم أيضا أن تقوده أمريكا والكونجرس فيها عاجز عن اتخاذ القرار الصحيح من آثار جرح 11 سبتمبر، ولا يريد العالم أن يقوده رئيس ملتزم أيديولوجياً بضرب العراق مهما كان السبب ومهما كان الثمن، بمساندة دولية أو بدون مساندة، بالشرعية الدولية أو خارج الشرعية الدولية. العالم يريد أن تقوده أمريكا أكثر تواضعا، تستمع إلى ما يقوله العالم، ومستعدة للتعاون مع حلفائها، والعمل معهم على حل الأزمة، ولماذا لا يعطى لعملية التفتيش الفرصة الكاملة سواء نجحت أو لم تنجح؟!.. لماذا يجهض عمليات التفتيش ويتسرع بالحرب؟ وتذكروا روزفلت بعد أن حقق النصر والفوز الكاسح فى الحرب العالمية الثانية، وكانت أمريكا فى ذروة قوتها، ولم تكن تحتاج إلى موافقة أحد فى العالم على أى شىء تريده، ومع ذلك فإنه وهو عائد من مؤتمر  يالتا الشهير سافر إلى الشرق الأوسط لمقابلة قادة مصر والسعودية وأثيوبيا وكان حريصا على إظهار الاحترام لهم.. لماذا؟ لأنه كان يعلم أنه يحتاج إليهم ليس لكسب الحرب، ولكن لكسب السلام!

وكاتب آخر هو نيكولاس كريستوف كتب عن الخطأ فى تصور الإدارة الأمريكية أن العمل الوطنى الوحيد هو غزو العراق، ويذكر تجربة الرئيس الأمريكى أيزنهاور ويقول: (لو كان أيزنهاور هو الذى يحكم الآن هل كان يسحق صدام حسين كما يقول بوش الآن، مع أن أيزنهاور كان البطل الذى سحق هتلر؟ الإجابة : لا.. أيزنهاور الذى قاد الأوروبيين إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية، عندما كان رئيسا من 1953 حتى 1961 واجه أزمة مع مصر تشبه أزمة بوش مع العراق ، لكن أيزنهاور اختار سياسة (الاحتواء) وليس (الغزو).. وحين واجه الرئيس كيندى أزمة الصواريخ مع كوبا-وهى سلاح دمار شامل-اختار سياسة (الاحتواء) وكذلك فعل الرئيس ريجان مع ليبيا.. وقال كريستوف وهو يخاطب بوش:أتمنى أن تتمتع بالشجاعة وضبط النفس لتكون مثل أيزنهاور، وكيندى، وريجان، وتعمل مثلهم على احتواء العراق بدلا من غزوه.

وقال كريستوف: لقد واجه أيزنهاور رجلا كان الغرب يعتبره بالإجماع أكثر خطرا من صدام عشرات المرات ، هذا الرجل هو جمال عبد الناصر الذى كانت لديه القدرة على أن يحدث انقلابا فى العالم، وكانت الجماهير العربية تعبده، وكان يساعد الجزائريين فى حربهم مع الفرنسيين، ويعقد روابط قوية مع السوفييت، ويسرب الفدائيين إلى إسرائيل، وعندما قام بتأميم القناة عام 1956 كان الغرب واثقاً أن القناة سوف تنهار وسيؤثر انهيارها على التجارة الدولية، ومع ذلك كان اختيار أيزنهاور (الاحتواء) وليس (الغزو) بل إنه عارض غزو فرنسا وبريطانيا وإسرائيل لمصر عام 1956 ووجه إليهم إنذارا بالانسحاب فانسحبوا. ولو فعل أيزنهاور كما يريد بوش أن يفعل ربما كان الجنود الأمريكيون فى مصر حتى الآن. وإن كان الصقور فى الإدارة الأمريكية قد رأوا أن غزو أفغانستان مر بسهولة كما مرت حرب الخليج عام 1990 بسهولة، فإن تصورهم عن غزو دولة صغيرة أخرى كل حين يبدو من التصورات الهستيرية، فالصقور دائما يبالغون فى رؤية التهديدات، ففى الخمسينات والستينات بالغوا فى رؤية التهديد من فيتنام وكوبا، وفى الثمانينات سيطر عليهم هاجس نيكاراجوا، والآن جاء الدور على صدام ويقولون إنه يشكل تهديدا منذ 25 عاما مع أن السنوات العشر الأخيرة من حكمه لم يكن فى سلوكه أى تهديد، وهو الآن فى الخامسة والستين من عمره، وجيشه فى ثلث القوة التى كان عليها من قبل.

وقال كريستوف: (سيقول الصقور إن التراجع سيؤدى إلى فقدان المصداقية، وسيقولون نحاربه الآن أفضل من الانتظار إلى أن يزداد قوة، وهذا خطأ، لأن صدام سوف يذهب كما ذهب غيره. صحيح إن العراق سيكون أفضل بدون صدام، ولكن الأفضل الأخذ بالتوجه العاقل للرئيس أيزنهاور.. أيزنهاور حذر بريطانيا من أن الإطاحة بناصر ستؤدى إلى تزايد المشاعر المعادية لبريطانيا، بالرغم من أن الانتصارات العسكرية فى البداية تكون سهلة، لكن الثمن النهائى يكون كبيرا جدا).
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف