التطرف الدينى فى أمريكا
الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش يعتقد أن له رسالة بعثه الله بها ومنحه التفويض لتنفيذها. وكانوا يقولون إن أمريكا دولة علمانية ليس للدين فيها تأثير على السياسة أو على علاقات الناس أو حياة المجتمع.. لأن هذا بلد حر ولكن الآن فى أمريكا، كما فى العالم العربى والإسلامى، تيارا دينيا متطرفا، وهو ككل التيارات الدينية المتطرفة يمثل خطورة على الأديان أولا، وعلى المجتمعات ثانيا، وخطورة هذا التيار فى أمريكا أكبر مئات المرات من غيره، لأن أمريكا توشك أن تكون الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس، وسطوتها وسيطرتها قد تمتد إلى أطراف العالم، خاصة بعد السيطرة العسكرية على الشرق الأوسط وقلب آسيا فإذا لم تكن هذه القوة الطاغية عاقلة ومعتدلة وعادلة ومتزنة فإن العالم سوف يعيش أسوأ فترات التاريخ فى ظل هذه القوة المتطرفة، والأهم من ذلك أن التيار الدينى المتطرف فى أمريكا ليس موجودا فى مواقع محدودة أو غير مؤثرة فى السياسات والقرار، المصيبة أن هذا التيار الدينى المتطرف وصل فعلا إلى مواقع شديدة الأهمية فى مؤسسات السلطة والحكم.

وكما هى العادة فإن الأضواء تسلط على التطرف فى العالم الإسلامى، ويتم التعتيم على التطرف الدينى فى أمريكا، ولا يتحدث الجميع إلا عن الديمقراطية والليبرالية فى أمريكا واعتبارها أرض الأحلام.. ولذلك جاءت الكُرّاسة الاستراتيجية التى أصدرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى الأهرام فى وقتها المناسب، والكُرّاسة بعنوان (موقف اليمين المسيحى والكنائس الأمريكية من قضايا الشرق الأوسط)، من إعداد أديب نجيب الباحث فى الهيئة القبطية الإنجيلية، وهو يقول لنا ما كنا نريد أن نعرفه عن اليمين المسيحى، وعن المسيحية الصهيونية وأيضا عن موقف الكنائس الأمريكية من قضايا الشرق الأوسط، وفى إيجاز وبساطة يشرح لنا معالم الخريطة الدينية فى الولايات المتحدة، ثم ينتقل إلى تشريح الخطاب الدينى فى أمريكا، ومن التحليل نكتشف أن فى أمريكا ثلاثة اتجاهات رئيسية: الأول: هو التيار المسيحى الأصولى المتشدد، وهذا التيار يفكر تماما كما يفكر التيار الإسلامى الأصولى المتشدد فى العالم الإسلامى، والذى تريد أمريكا تغييره بالقوة أو القضاء عليه وتعقب قياداته بالقتل والاعتقال، ولا تعمل شيئا لكبح جماح التشدد والأصولية عندها، أما التيار الثانى فهو التيار الأصولى العنصرى وهذا، هو التيار الذى يروج لنظرية صراع الحضارات، ويفسر الإنجيل تفسيرا حرفيا متشددا، وفى أعماقه الروح العنصرية الأمريكية عن تفوق الرجل الأبيض، أو تفوق الإنسان الأمريكى، أما التيار الثالث فهو التيار المسيحى الكنسى ويشمل المؤمنين المعتدلين الذين لم تصبهم لوثة التعصب.

المهم أن فى أمريكا حركة مسيحية صهيونية لم تظهر فجأة، ولكن لها جذوراً قديمة وتاريخاً طويلاً فى أمريكا وغيرها من الدول الأوربية، ومهما قيل من أن الأصولية الدينية فى أمريكا لا تمثل الأغلبية، فإنها تمثل أصحاب القوة والنفوذ الآن فى دوائر صنع القرار، وبالتالى لا يمكن تجاهل هذه الحركة وتأثيراتها بعيدة المدى على السياسة الأمريكية، وعلى المجتمع الأمريكى، فهذه الحركة لها تأثير بالغ على اتجاهات التصويت فى الانتخابات، وكما تكشف الدراسة فإن عددا غير قليل من القيادات السياسية الأمريكية يتبنى أفكار هذه الحركة، والأهم من ذلك ما تكشفه من أن هذه الحركة هى الاحتياطى لإسرائيل عند الرأى العام والمجتمع الأمريكى، وأخيرا نكتشف أن هذا التيار ليس مقصورا على أمريكا وبريطانيا فقط، ولكنه ممتد فى دول ومجتمعات أخرى مثل كندا، وهولندا، وألمانيا، والنرويج، وفنلندا، واستراليا، ونيوزيلندا، وجنوب أفريقيا، وليس هذا فقط، بل إن هذا التيار موجود حتى فى بعض المجتمعات العربية خاصة فلسطين ولبنان..!

وبداية المسيحية الصهيونية كانت فى بريطانيا فى أوائل القرن السادس عشر، حول فكرة حتمية عودة اليهود إلى أرض الميعاد، ووجدت الفكرة أصداء واسعة فى الكتابات السياسية والأيديولوجية، وظهرت جمعيات لنشر الفكرة والترويج للنظرية الصهيونية، وكان وعد بلفور نتيجة لضغوط ونفوذ هذه الجماعات، ومع بدايات القرن السابع عشر انتقلت الفكرة والحركة إلى أمريكا واستطاعت أن تحقق انتشارا ونفوذا واسعا فى أوساط المثقفين وفى الأوساط الشعبية، ثم أصبح لها نفوذ وتأثير فى المؤسسات السياسية الأمريكية، وقام تحالف قوى بين المسيحية الصهيونية من ناحية واليمين السياسى الأمريكى، وأصبح اللوبى اليهودى يجد الدعم من هذا التيار المسيحى الأصولى المتشدد، ومن اليمين السياسى المتشدد.

فى سبتمبر 1980 تم تأسيس (السفارة المسيحية فى القدس)، وهى التعبير العملى عن التيار المسيحى الأمريكى الأصولى المسيحى الذى يرى أن إسرائيل تحقيق لنبوءة التوراة، وهذه السفارة المسيحية أسست الكنيسة التى تروج للمسيحية الصهيونية مستندة إلى بعض آيات فى الكتاب المقدس منتزعة من سياقها، وفى المقابل فى أمريكا كنائس ترفض هذا التيار.

***

الخريطة الدينية فى أمريكا كما يلى:

* عدد المسيحيين الكاثوليك 62 مليونا وهم أكبر طائفة دينية وتزداد زيادة كبيرة نتيجة الهجرة من أمريكا اللاتينية وفيتنام، والأرقام كلها تقريبية لأن الإحصاءات الرسمية الأمريكية لا تشمل خانة الديانة، والتقديرات أن عدد المسيحيين الإنجيليين فى أمريكا حوالى 98 مليونا، وهناك 17 طائفة دينية، من بينها أربع طوائف فقط يزيد عدد أعضائها على مليون. وهناك منافسة بين الكاثوليك والإنجيليين على اجتذاب الأسبان المهاجرين إلى أمريكا، لأنهم يتوقعون أن يصبح الأسبان ربع سكان الولايات المتحدة فى عام 2050.

تشير الدراسة إلى (الكنائس المعمدانية) التى سيطرت عليها التيارات الأصولية، والكنائس البروتستانتية هى الأوسع انتشارا فى أمريكا وإن كانت قد تفرعت إلى العشرات من المذاهب. وعلى سبيل المثال فإن الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر ينتمى إلى الكنائس المعمدانية، وهذه الكنائس منقسمة إلى 15 طائفة، وتضم 34 مليون أمريكى، وهناك أعداد لا تحصى من الكنائس والمذاهب، ولكن المهم أن بداية المسيحية الصهيونية كانت سنة 1622 عندما صدر كتاب السير هنرى فيش عضو البرلمان البريطانى قال فيه: إن اليهود سوف يعودون إلى وطنهم ويعودون أمة تعمر كل أنحاء الأرض، وأخذت المسيحية الصهيونية طابعها الدينى سنة 1649 عندما تقدم اثنان من رجال الدين البريطانيين بمذكرة إلى الحكومة البريطانية يطالبان فيها بأن تتولى بريطانيا وهولندا نقل اليهود إلى الأرض التى وعد الله بها أجدادهم ومنحها لهم إرثا أبديا.. ثم انتقل التيار الصهيونى المسيحى إلى المجال السياسى والأيديولوجى، حين رحب أوليفر كرومويل بمذكرة رجلى الدين ودعا إلى عقد مؤتمر فى عام 1655 لإقرار تشريعات تكفل عودة اليهود إلى بريطانيا بعد أن كان محكوما عليهم بالنفى ومحظورا عليهم دخول بريطانيا، وقام كرومويل بإلغاء قانون النفى الذى كان الملك ادوارد قد أصدره من قبل.. وكانت هذه خطوة مهمة لصعود التيار المسيحى الصهيونى.

فى عام 1807 ظهرت فى لندن جمعية اسمها (جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود، وكانت هذه أول جمعية صهيونية منظمة، وكان اللورد شافتسبرى واحدا من أهم قادتها، وهو الذى نشر مقالا شهيرا فى سنة 1839 نادى فيه بضرورة تحقيق إرادة الله بعودة اليهود إلى فلسطين، وأن اليهود هم الأمل الوحيد فى تجدد المسيحية وعودة المسيح، وفى هذا المقال صك اللورد شافتسبرى الشعار الشهير (وطن بلا شعب لشعب بلا وطن).. وتزايد نشاط المسيحية الصهيونية على المستوى الفكرى والسياسى إلى أن جاء أرثر بلفور وزيرا للخارجية البريطانية، وكان هو نفسه من المؤمنين بنظرية أن اليهود هم (شعب الله المختار) وأن اليهود لهم الحق الإلهى فى (أرض الميعاد)، أما الذى كتب مسودة الخطاب التاريخى الشهير الذى تضمن وعد بلفور فكان اسمه هـ.هشلر توفى سنة 1931 وكان يعمل فى السفارة البريطانية فى النمسا وهو أصولى صهيونى من المؤيدين للأب الأول للحركة الصهيونية ثيودور هرتزل. وأديب نجيب فى دراسته يشير إلى ما نشره المؤرخ البريطانى البروفيسور ويليام روبنشتاين من أن الذى كتب مسودة وعد بلفور كان مسيحيا فى الظاهر ولكنه كان فى حقيقته يهوديا، وكان يخفى ذلك، ويخفى اسمه الحقيقى (ليوبولد تشارلز امبرى) وظل يخفى الحقيقة سبعين سنة وتظاهر بأنه اعتنق البروتستانتية، ووصل إلى منصب حساس فى الخارجية البريطانية وأصبح المستشار السياسى لوزير الخارجية بلفور، ومن هذا الموقع عمل لخدمة الصهيونية، وبعد أربعين سنة من وفاته اكتشفوا مذكراته التى سجل فيها شعوره بالفخر للدور الذى لعبه فى تأسيس إسرائيل وفى إحدى صفحات المذكرات كتب يقول: (يبدو أننى وضعت إصبعى فى الكعكة، ليس فقط بكتابة إعلان بلفور، بل أيضا فى وضع الأساس لجيش إسرائيل). والمؤرخ البريطانى يقول فى نهاية دراسته لشخصية هذا الرجل الذى يصفه بأنه (اليهودى السرى والبروتستانتى العلنى)، فيقول: إنه عمل دون كلل لصالح قضايا اليهود، ونظرا للمناصب المهمة التى احتلها فى حياته، فقد لعب دورا مصيريا فى نجاح المشروع الصهيونى الذى أدى فى النهاية إلى إقامة دولة إسرائيل.. وقصة هذا الرجل تكاد تكون مجهولة فى العالم العربى بالرغم من أنها شديدة الأهمية، ولها دلالات كثيرة لمن يريد أن يعرف ما حدث وما سيحدث.. وأصغر أبناء هذا الرجل كان عضوا فى مجلس العموم البريطانى ووزيرا فى الحكومة البريطانية واسمه جوليان أمبرى..

***

والأسماء كثيرة فى حركة المسيحية الصهيونية منها القس لويس واى (1809) وعضــو مجلـــس العمـــوم البريطــانى هنـــرى درامــوند، واللورد شافتسبرى (1801- 1885) والقس وليم هشلر (1845 - 1931) وفى تقرير لمجلس كنائس الشرق الأوسط أصدره سنة 1991 تفاصيل وأسماء أخرى كثيرة. وما يهمنا أن نعرف كيف أصبح فى أمريكا تيار أصولى يؤمن بأن الله جعل فى التاريخ مسارين متوازيين، أحدهما يعمل من خلال إسرائيل، والثانى من خلال الكنيسة، وأن المسيح سوف يجىء فى النهاية ثانية ويحكم ألف سنة. ومن الذين يؤمنون بهذه النظرية التى يسمونها (القدرية) رجال تولوا رئاسة أمريكا مثل جيمى كارتر وإن كان اللوبى الصهيونى الذى أيده فى الانتخابات انقلب عليه حين تحدث عن حقوق الشعب الفلسطينى، وأيضا الرئيس الأسبق رونالد ريجان ممن يؤمنون بهذه النظرية.. النظرية التى تقول إن إسرائيل تحقيق لنبوءة التوراة. ويشير أديب نجيب إلى كتيب أصدرته السفارة المسيحية فى القدس بعنوان (الأسس الكتابية للصهيونية المسيحية) تضمن آيات مقتطعة من التوراة منتزعة من سياقها ودون دراسة لخلفية النص. ويشير أيضا إلى مؤتمر  عقدته هذه السفارة فى مدينة بال بسويسرا من 27 إلى 29 أغسطس 1985 تحت عنوان (القيادة المسيحية الدولية) وهذه السفارة تأسست فى 30 سبتمبر 1980 من مجموعة تعمل على الضغط على الحكومات وعلى الرأى العام فى دول عديدة لكى تصل إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل باعتبارها الدولة العبرية، ولهذه السفارة نشاط فى أمريكا، وبريطانيا، وكندا، وهولندا، وألمانيا، وسويسرا، والنرويج، وفنلندا، واستراليا، ونيوزيلندا، وجنوب أفريقيا. وقد أعلن المتحدث الرسمى باسم بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس أن هذه السفارة المسيحية والمجموعات الصهيونية الأخرى التى تبرر عدوان الكيان الصهيونى على الشعب الفلسطينى، وتدعم تهويد الأراضى الفلسطينية والاحتلال، وقال إن الأماكن التى تمارس فيها هذه الجماعات العبادة ليست كنائس ولكنها (دكاكين) صهيونية مسخّرة فى خدمة المشروع الصهيونى، وأن المسيحية الحقيقية يمثلها المسيحيون العرب وليس ذلك (القابع فى البيت الأبيض).

***

فى أمريكا صدر كتاب بيع منه 20 مليون نسخة، اسمه (الأرض ذلك الكوكب المتأخر) ومؤلفه اسمه هال لندس وكله عن عقيدة الألفية التى تؤمن بأن المسيح بعد عودته مرة أخرى سوف يملك ألف سنة كاملة، وفى أمريكا حركة اسمها (الأغلبية الأخلاقية) أسسها القس جيرى فولويل، الذى يقود أقوى حركات اليمين الراديكالى وهو قريب من الرئيس الأمريكى الحالى جورج بوش، وله محطة تليفزيون لنشر الأفكار التى تعتنقها الأصولية المسيحية والصهيونية المسيحية ويوجه الإهانات المقذعة إلى الدين الإسلامى وإلى المسلمين ويقدّرون اتباعه بأربعة ملايين أمريكى ويصفونه بأنه متطرف دينيا وسياسيا وهو من أقطاب الحزب الجمهورى الحاكم الآن. وفى القدس تتوافد جماعات من أنصار المسيحية الصهيونية من أمريكا وكندا واستراليا، ويوجهون الدعوة إلى قيادات الإرهاب اليهودى لزيارة أمريكا وكندا واستراليا بصفة مستمرة بجمع التبرعات لتنفيذ المشروع الصهيونى الكبير؛ ببناء الهيكل على أنقاض الحرم القدسى الشريف. وهذه الجماعات لديها أموال طائلة تستخدمها فى نشر أفكارها المتطرفة ولها تأثير متزايد على الرأى العام والحكومة الأمريكية، وهكذا أصبحت المسيحية اليهودية الصهيونية تيارا راسخا فى الثقافة الغربية وتحولت من الدين إلى السياسة.

يذكرنا أديب نجيب برسالة وجهها نابليون بونابرت إلى اليهود أثناء غزوه للشام قال لهم فيها: أنتم ورثة فلسطين الشرعيون، وكان ذلك قبل وعد بلفور بحوالى 118 سنة! ويقول أديب نجيب: إن المسيحية البروتستانتية اصطبغت بطابع يهودى كامل مما كان له تأثيره على المؤسسات السياسية الأمريكية وفى طليعتها البيت الأبيض.. فالرئيس الأمريكى الأسبق ولسن أيد وعد بلفور، والتأثير الحقيقى لليهود فى أمريكا ليس بعددهم ولكن بتأثيرهم فى تهويد المسيحية، ولذلك تبارى الرؤساء الأمريكيون فى مغازلة إسرائيل وذلك بتأثير اللوبى المسيحى الصهيونى الأمريكى المتحالف مع اليمين السياسى الأمريكى والذى يسيطر الآن على رسم السياسات واتخاذ القرار، لدرجة أن مايك ايفانز كتب يقول: إن إسرائيل تلعب دورا حاسما فى المصير الروحى والسياسى لأمريكا.

ومن الغريب أن هناك من ينكر وجود الصهيونية المسيحية مع أن أصحابها يعترفون بوجودها، إلا إذا كان ذلك استنكارا وليس إنكارا، لأن هذا التيار موجود منذ منتصف القرن السابع عشر كما يذكر المؤرخون الأمريكيون، ومع نهاية القرن الثامن عشر أصبح الاعتقاد بالبعث اليهودى يمثل جانبا مهما من اللاهوت البروتستانتى الأمريكى، واحتل الاعتقاد بعودة المسيح المنتظر، ليحكم ألف سنة، احتل هذا الاعتقاد مكانا بارزا، وأصبحت الإنجيلية تتضمن كثيرا من تعاليم الصهيونية الروحية خاصة الاعتقاد بأن مجىء المسيح المنتظر يتوقف على عودة الدولة اليهودية، والتفاصيل كثيرة ولكن أهم الطوائف التى تمسكت بهذه الفكرة هى المعمدانية، واللوثرية، وبعض أتباع الكنيسة المشيخية، ومع نهاية القرن التاسع عشر كان اتباع هذا المذهب الذى يؤمن بالتفسير الحرفى للنبوءات التى ورد ذكرها فى التوراة، وبالإحياء القومى للشعب اليهودى، يشكلون نسبة كبيرة من البروتستانتيين الأمريكيين، بل لقد وصلوا إلى درجة أنهم اعتبروا اليهود مفتاح المستقبل كما ذكر الباحث الأمريكى لويس جاسبر فى كتابه (الحركة الأصولية).. وتطور فكر هذا التيار حتى أصبح فيها زعماء يطالبون بعمل شعبى لإعادة اليهود إلى فلسطين.. كان منهم مثلاً وليام بلاكستون الذى توفى عام 1935 وكان ينفق الملايين على التبشير ويعتبر (بطل صهيون البارز) وهو مسيحى من الطائفة البروتستانتية الايفنجيلية، وأصدر كتابا بعنوان (عيسى قادم) عام 1878 كان له تأثير كبير فى هذه الطائفة، وترجم هذا الكتاب إلى 48 لغة بما فى ذلك العبرية، وأصبح من أهم الكتب التى تنشر المثالية الصهيونية والإيمان بالعصر الألفى السعيد، وكان لهذا الكتاب تأثير كبير على عدد من الزعماء وأعضاء الكونجرس ورجال أعمال مشهورين مثل مورجان، وروكفلر، وغيرهما، وكان المروجون للمسيحية الصهيونية لا يتحدثون عن أهميتها من الناحية الدينية فقط ولكنهم كانوا يروجون لأهمية المكاسب السياسية التى ستجنيها الولايات المتحدة، وهكذا تعمقت فكرة الوطن القومى لليهود فى فلسطين فى الثقافة الأمريكية حتى قبل انعقاد المؤتمر اليهودى الأول فى بازل، إلى أن جاء يوم تاريخى يمثل بداية الالتزام الرسمى من الدولة الأمريكية تجاه الحركة الصهيونية، وهذا اليوم هو يوم 31 أغسطس 1918، حين أرسل الرئيس الأمريكى وودر ولسن رسالة إلى زعيم الحركة الصهيونية الأمريكية الحاخام ستيفن وايز مؤيداً بصفة رسمية وعد بلفور، وقال فى رسالته:

(راقبت باهتمام مخلص وعميق العمل البنّاء الذى قامت به لجنة وايزمان فى فلسطين بناء على طلب الحكومة البريطانية، وأغتنم الفرصة لأعبّر عن الارتياح الذى أحسست به نتيجة تقدم الحركة الصهيونية فى الولايات المتحدة والدول الحليفة منذ إعلان بلفور باسم حكومته على موافقتها على إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين)، ووعده بأن تبذل الحكومة البريطانية قصارى جهدها لتسهيل تحقيق ذلك الهدف، مع الحرص على عدم القيام بأى عمل يلحق الأذى بالحقوق المدنية والدينية لغير اليهود فى فلسطين أو بحقوق اليهود ووضعهم السياسى فى دول أخرى.

وكانت هذه الوثيقة الأمريكية الرسمية بالتصديق على وعد بلفور قرارا جاهزا قبل ذلك بكثير.. والمهم أن الرئيس الأمريكى ولسن كان ينحدر من أبوين ينتميان إلى الكنيسة البروتستانتية المشيخية، ونشأ على التعاليم البروتستانتية الأمريكية التى تؤمن بأساطير الصهيونية، وذكرت مجلة نيوزويك الأمريكية فى عدد 4 أكتوبر 1982 أن الرئيس ولسن كان (ربيب بيت القسيس ويجب أن يكون قادرا على المساعدة على إعادة الأرض المقدسة لأهلها) وكانت موافقة الرئيس ولسن على وعد بلفور هى التى شجعت الحكومة البريطانية على إصداره فى شكله النهائى وأزالت آخر عقبة كانت تقف فى طريقه، مع أن وزير الخارجية الأمريكى فى ذلك الوقت أعلن عدم تأييده لوعد بلفور.. وهكذا أمور السياسة الأمريكية!

ولكن رؤساء أمريكا بعد ذلك كانوا يعلنون التزامهم بالموقف الصهيونى.. إلى أن جاء الرئيس هارى ترومان فكان المهندس الأكبر لسياسة أمريكا تجاه إسرائيل، ولذلك يعتبرونه تجسيدا للصهيونية المسيحية الأمريكية على المستوى السياسى، ويختلفون فى تفسير أسباب حماسه للصهيونية هل كان لدوافع دينية فقط أو كان أيضا لأسباب انتهازية وهى الحصول على أصوات ونفوذ اليهود فى أمريكا.

وباختصار الصهيونية المسيحية هى الحركة الروحية التى تمثل الوجه الآخر للحركة الصهيونية السياسية، بمعنى أنها خلط بين الدين والسياسة، أو بالمعنى الدقيق خلط بين الأطماع السياسية الأمريكية والصهيونية، والأساطير المؤسسة للصهيونية مثل أساطير الشعب المختار، والميثاق، وعودة المسيح المنتظر ليحكم العالم من القدس ألف سنة، فأسطورة الشعب المختار تعنى أن اليهود هم الأمة المفضّلة عند الله على سائر البشر، وأسطورة الميثاق تعنى أن هناك ارتباطا أبديا بين هذا الشعب المختار والأرض المقدسة كما وعد الله، وأسطورة ترقب عودة المسيح فى القدس حين يتجمع فيها كل يهود العالم فكانت هى الأساس الروحى لهجرة اليهود إلى فلسطين لإقامة (الوطن القومى).

وكل رؤساء أمريكا يؤيدون إسرائيل على طول الخط.. إما عن تأثر بالفكر المسيحى الصهيونى، وإما لاعتبارات المصالح الأمريكية فى المنطقة، وإما لأسباب شخصية هى ضمان الحصول على الفوز بمقعد الرئاسة لفترتين متتاليتين والأمل فى العودة إليه بعد ذلك إن أمكن. وبعض الرؤساء الأمريكيين كانت تحركهم الدوافع الثلاثة معا.

***

التيار الأصولى العنصرى فى أمريكا تتزعمه قيادات مهمة، ولديه أموال كثيرة، ويملك محطات تليفزيون وأقلاما تردد أفكاره، ومن هؤلاء القس فولويل، والقس روبرتسون، وسواجارات، وبيكر، وكويلاند، وبن هن، وهمبرد، وكراولى، وربيسون، وولفورد، ورالف ريد، ودون هولد.. وغيرهم.. وغيرهم.. كلهم يرددون الحديث عن صراع الحضارات ونهاية التاريخ ويكررون أن الحضارة الإسلامية فى جوهرها العداء للغرب، ولذلك فإن الصراع بين الغرب والعالم الإسلامى صراع حتمى، وهذا التيار يخلط بين ما هو يهودى وما هو مسيحى، وبين ما يدخل فى الدين وما يدخل فى السياسة، ويؤيد بقوة مزاعم إسرائيل عن الشعب المختار، وعن مجىء السيد المسيح مرة ثانية.. هذا التيار- مع التيار الأصولى الأخلاقى- السند الرئيسى للجماعات المسيحية التى تؤيد إسرائيل على طول الخط.

وصحيفة (ديلى تلجراف) البريطانية نشرت تقارير عن بروز حركة الصهيونية المسيحية بين المسيحيين البروتستانت المحافظين فى الولايات المتحدة، وقالت إن تحالفات مثيرة للاهتمام تتشكل بين إسرائيل والمسيحيين المحافظين الذين يزيد عددهم على 40 مليونا فى أمريكا.

ويقولون إن الرئيس بوش يقرأ الإنجيل كل صباح قبل أن يبدأ يومه، ويبدو أنه فهم الآية التى تقول (طوبى لصانعى السلام) على عكس معناها.. ويبدو أيضاً أنه لم يقرأ ما أعلنه بابا الفاتيكان بمنتهى الصراحة: أن الرئيس بوش بهذه الحرب يتحمل مسئولية خطيرة أمام الله والتاريخ وأمام الضمير.

***

طبعا ليس كل المسيحيين ولا كل البروتستانت فى أمريكا صهاينة أصوليين. وطبعا السياسة الأمريكية تحركها المصالح، وطبعا نحن نرفض اعتبار الصراعات أو الخلافات السياسية هى صراعات دينية، وطبعا نحن نرفض فكرة أن الصراع القائم الآن هو صراع بين الأصوليات: الأصولية الإسلامية، والأصولية المسيحية، والأصولية اليهودية، ولكن فقط نقول كما أن هناك أصولية فى المسلمين فإن هناك أصولية فى الأديان الأخرى، والأصولية المسيحية الصهيونية تهمنا لأن عقيدتها تمس مستقبلنا، وهذه العقيدة تؤمن بأن المسيح قادم ليحكم مدة ألف عام، وأن كل يهود العالم سوف يتجمعون فى فلسطين، وسوف يقام هيكل سليمان على أنقاض الحرم القدسى الشريف، وأن القدس هى العاصمة الأبدية لإسرائيل، وعلى جميع الدول دعم إسرائيل دوليا، وتسهيل هجرة اليهود إليها، ونقل سفاراتها إلى القدس، ومنع تسليح (أعداء إسرائيل).

أما كنائس الشرق الأوسط فلها موقف آخر معروف تماما ولا يحتاج إلى إيضاح، وهو موقف عربى وطنى يتعارض مع هذه الأصولية المسيحية الصهيونية.

والهيئة الإنجيلية فى مصر من أنشط هيئات التفكير والخدمات، وعليها أن تقدم لنا المزيد من المعلومات لكى نعرف الحقائق، ونفهم ماذا يجرى فى العالم.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف