أمريكيون يقولون الحقيقة
أعلن الرئيس بوش مرة أن الحرب التى يقودها هى (حرب صليبية) ثم أعلن بعدها أنها ليست حربا على الإسلام ولكنها حرب على الإرهاب، وأعلن مرة ثالثة أن الحرب هدفها تغيير العالم الإسلامى، وبعض الكتاب يقدمون لنا تفسيرات لنوايا أمريكايقولون: إن الهدف هو تغيير الدين الإسلامى ذاته والبعض الآخر يقول إن الهدف هو تغيير المسلمين.. تغيير عقولهم.. وتغيير سلوكهم.. وتغيير نظمهم السياسية وأسلوب حياتهم.. ولا أحد يعرف بالضبط الأسباب الحقيقية للحرب.
ومن المعروف- حتى لتلاميذ المدارس- أن كل حرب لها أهداف معلنة، هى الغطاء، أو الدعاية السياسية لإقناع الشعوب بأن الحرب لمصلحتهم، أما الأسباب الحقيقية لكل حرب فهى الأسباب غير المعلنة، وهذه الأسباب الحقيقية فى الغالب تتلخص فى هدف واحد: السيطرة.. السيطرة على مصادر الثروة.. السيطرة على مواقع استراتيجية من العالم.. السيطرة على التجارة العالمية وعلى الأسواق.. كل حرب هى غزو.. وكل غزو يعلن أسبابا نبيلة وكأن الجيوش التى تحارب تقتل وتدمر وترتكب هذه الفظائع لنشر الفضيلة والديمقراطية، ولا أحد طلب منها أن تعلمنا الفضيلة أو أن تفرض علينا مفهومها عن الديمقراطية.. ومع ذلك، فماذا يقول الأمريكيون عن الحرب ودوافعها؟.
نلاحظ أولا أن عددا من الكتاب يكرر معنى واحداً هو أن العالم لا يثق فى الوعود والنوايا التى يعلنها الرئيس الأمريكى جورج بوش، وكاتب معروف هو بول كروجمان كتب بمنتهى الصراحة مقالا فى صحيفة هيرالد تريبيون يوم 26 فبراير 2003 بعنوان (العالم لا يثق فى بوش) قال فيه إن الرئيس بوش لديه مشكلة بخصوص المصداقية، والشىء المضحك أن إدارة بوش تعلق أهمية كبيرة على المصداقية، رغم التخبط والتذبذب فى المبررات التى تعلنها كأسباب لغزو العراق، مرة تقول: إنها الحرب لأن صدام حسين يطور أسلحته النووية، وحين يظهر بوضوح أن العراق ليست لديه أية أسلحة نووية تقول الإدارة الأمريكية إن النظام العراقى على علاقة وثيقة مع أسامة بن لادن، وحين تعجز عن تقديم أى دليل على هذه العلاقة المستحيلة، تقول إن الحرب سببها أن النظام العراقى نظام شرير.. والصقور فى الإدارة الأمريكية أرسلوا الجيوش.. وبعد أن سقطت الحجج والمبررات للحرب أصبح لديهم سبب أخير هو: لقد أرسلنا الجيوش، وإذا لم نحارب فلن يأخذنا العالم بجدية بعد ذلك وسوف تخسر أمريكا المصداقية!
يقول بول كروجمان إنه لا أحد يشعر بهذه المصداقية، والدليل على ذلك أن تركيا لم تكن تساوم على الثمن الذى ستأخذه مقابل تعاونها مع أمريكا فى الحرب على العراق، فقد حصلت على ما تريد من مليارات، ولكنها أرادت أن تحصل على الثمن نقدا وفورا لأنها تعلم أن الوعود والتأكيدات بالمساعدة المالية يمكن أن تذهب إلى النسيان بعد الحرب.. ويقول أيضا: إن المصداقية ليست فى معاقبة الناس الذين يثيرون غضبك، ولكن المصداقية تتأكد بقول الحقيقة أولا، وبالوفاء بالوعود ثانيا، والإدارة الأمريكية الحالية لديها مشاكل بالنسبة لذلك، ويكفى أن ننظر إلى ما يجرى فى مجلس الأمن، حتى رئيس المكسيك يبدو غير مستعد للتصويت مع مشروع القرار الذى قدمته أمريكا إلى مجلس الأمن، رغم الروابط الاقتصادية القوية بين أمريكا والمكسيك، والعلاقة الشخصية القوية جدا بين الرئيس بوش ورئيس المكسيك، وكانت الإدارة الأمريكية تتوقع أن يكون موقف المكسيك معها فى مجلس الأمن فورا، ودون تردد، وفى أى شىء، ولكن ذلك لم يحدث! ما السبب؟ يقول كروجمان إن السبب أن الرئيس المكسيكى يشعر بأن الإدارة الأمريكية خذلته، فقد غامر واتخذ خطوة سياسية خطيرة بانحيازه الكامل للإدارة الأمريكية مقابل الوعد بأن تساعده أمريكا على إجراء إصلاحات بإصدار تشريع يصحح أوضاع المهاجرين غير الشرعيين من المكسيك إلى أمريكا، ولكن الإدارة الأمريكية لم تنفذ وعودها، ولذلك فإن الرئيس فوكس Fox رئيس المكسيك لم يعد مستعدا لتقديم خدمات أخرى إلى الرئيس بوش!
وليس فوكس هو الوحيد، فكل من عقد صفقة مع الرئيس بوش انتهى به الأمر إلى الشعور بأنه كان عرضة لمناورة، فيما عدا جماعات الضغط اليهودية المتشددة فهى وحدها التى تم إنجاز الصفقات معها كاملة ودون مراوغات، ويضيف كروجمان إلى ذلك قوله: ثم هناك أمر آخر يتعلق بالأمانة، فالرئيس بوش لم يقل الحقيقة عن الأمور الاقتصادية فى أثناء انتخابات الكونجرس عام 2000، ولكنها تفجرت بعد ذلك وظهر ما كان خافيا من الأزمة الاقتصادية والفضائح المالية، ولذلك عانى الرئيس بوش كثيرا فى محاولاته لإقناع خبراء الاقتصاد الشرفاء بتصديق ما قاله من أن خطته الاقتصادية صحيحة، واستند الرئيس بوش إلى تقرير Blue Chip وقال إن هذه الدراسة أظهرت نجاح خطته الاقتصادية، ولكن كاتب التقرير أعلن أنه لم يقل ذلك، وقال (لا أعلم شيئا عما ذكره الرئيس بوش عن تقريرنا!) وما لم يدركه الأمريكيون أن هذه الادعاءات التى تكررت فى أكثر من مجال والتى ليس لها أساس، هى التى أضعفت الثقة فى السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية فى نظر الكثيرين فى العالم، ومهما كانت مزايا الحرب على العراق، فإن الإدارة الأمريكية استشهدت مرارا بأدلة اتضح أنها مضللة ولا قيمة لها، وعلى الرغم من انخفاض شعبية الرئيس بوش فى استطلاعات الرأى فإنه لم يستنفد كل رصيد الثقة فى داخل أمريكا، ومازال الأمريكيون يذكرون صورته وهو يقف وسط حطام مركز التجارة العالمى وذراعه حول كتفى أحد رجال الإطفاء، وفى نفس الوقت فإن الإعلام الأمريكى لا يذكر شيئا عن الوعود التى قدمها الرئيس بوش ولم ينفذها، ولكن بقية العالم يذكر هذه الوعود، ولا يثق فى تنفيذ الوعود التى يقدمها بعد ذلك، ولا يثق فى أن ما يقال على لسان المسئولين فى الإدارة الأمريكية الحالية هو الحقيقة..
وأخيرا يتساءل بول كروجمان: هل تستطيع أمريكا توجيه السياسة الخارجية فى غياب الثقة؟ وهل تعتقد الإدارة الأمريكية أنها تستطيع استخدام التهديدات لتنفيذ سياستها كبديل للثقة؟ وهل يكفى أن يغير أعضاء مجلس الأمن موقفهم المعارض لما يريده الرئيس بوش تحت تأثير الضغوط وخوفا من التهديدات؟، وهل الحصول على موافقة بالإكراه فى مجلس الأمن هو الحل؟
يقول كروجمان: حتى إذا نجحت الضغوط فى إكراه أعضاء مجلس الأمن على الموافقة على الحرب، وحتى إذا كسبنا- نحن الأمريكيين- المصداقية فيما أعلناه من قدرتنا على النصر فى الحرب على العراق، فإننا- نحن الأمريكيين- يجب ألا نخدع أنفسنا، فإن هذا النصر -إذا تحقق- فلن يكون إلا مجرد تعويض صغير بالنسبة للثقة التى فقدناها فى أنحاء العالم.
هذا هو رأى كاتب أمريكى نشره فى أكبر صحيفة أمريكية.
***
وفى أمريكا معهد معروف من معاهد البحوث السياسية هو معهد لوس أنجلوس للعلوم الإنسانية، نشر تقريرا يوم 22 فبراير 2003 علّق عليه نورمان ميلر Norman Mailer فى هيرالد تريبيون أيضا يوم 25 فبراير تحت عنوان (الفوز بإنشاء إمبراطورية وخسارة الديمقراطية) قال فيه إن هناك سبباً لما يفعله مساعدو الرئيس بوش استعدادا للحرب فى العراق، السبب هو أن الرئيس بوش وعدداً كبيراً من التيار المحافظ توصلوا إلى استنتاج أن إنقاذ أمريكا وإخراجها من حالة الانحدار الحالية هو أن يكون لأمريكا تواجد عسكرى أكبر، وأن تعمل أمريكا على بناء امبراطورية، ويقول نورمان ميلر (خوفى أن الأمريكيين قد يفقدون ديمقراطيتهم فى هذه العملية).
ما هو الانحدار الذى تسير فيه أمريكا؟ يقول نورمان ميلر: أنا لا أعنى بالانحدار فضائح الشركات، وفضائح الكنائس، وفضائح مكتب التحقيقات الفيدرالية (إف. بى. آى) فقط، ولكن أقصد الانحدار فى التعليم حيث لا يجيد أطفال المدارس القراءة، وحيث أصبحت الثقافة، وخاصة بالنسبة للتيار المحافظ، هى الثقافة الجنسية!
ويضيف: إن العراق هو المبرر للتحرك الأمريكى فى اتجاه إمبريالى، حيث ستكون الحرب مع العراق عملية مثيرة وسريعة، وسوف تمكن أمريكا من السيطرة على الشرق الأدنى وتحوله إلى قاعدة نفوذ، على الأقل بسبب وجود البترول ومياه دجلة والفرات، وسوف يساعد ذلك على بناء إمبراطورية أمريكية عالمية. ويتوقع رجال بوش نقل الديمقراطية إلى المنطقة، ويعتقدون أن ذلك وحده كفيل بالقضاء على الإرهاب، ولكننى أتوقع أن يحدث العكس، ويرفض الإرهابيون الديمقراطية لأنهم متطرفون إلى أقصى درجة، وكلما سارت المنطقة خطوة نحو الديمقراطية الحقيقية فسوف يتولد المزيد من الإرهاب!.
ويقول ميلر: إن رجال بوش يرون أن الصين هى العائق الوحيد أمام هذه الإمبراطورية الأمريكية، ومن بين مخاوف إدارة بوش حول أسباب انحدار أمريكا أن الدراسات العلمية والتكنولوجية والهندسية بدأت تنحدر فى الجامعات الأمريكية، وأعداد الأمريكيين الحاصلين على الدكتوراه يتناقص بينما تتزايد أعداد الآسيويين الذين يحصلون على الدكتوراه فى هذه المجالات، وتعتقد إدارة بوش أنه سيأتى وقت ستكون فيه الصين هى التى تمتلك التكنولوجيا التى تفوق التكنولوجيا الأمريكية، وبالتأكيد، فإن رجال بوش يواجهون معارضة من الدول الخارجية، ومن قطاعات واسعة من الشعب الأمريكى فى الداخل، وهذه المعارضة فى الخارج والداخل أكبر بكثير مما كانوا يتوقعون، وربما يجد رجال بوش أنفسهم فى مأزق إذا حاربوا، وإذا لم يحاربوا، ويقول ميلر: فى هذه الحالة فإن توقعاتى أن تصبح أمريكا من جمهوريات الموز، أى أن نظام الحكم فيها سوف يتحول إلى نظام دكتاتورى، وتصبح للجيش أهمية أكبر فى الدولة، وربما تنتهى الديمقراطية، وخبرتى الطويلة مع الطبيعة الإنسانية وقد بلغت الثمانين من عمرى أن النظام الطبيعى هو الفاشية وليس الديمقراطية، وأن الديمقراطية هى حالة خاصة واستثناء، ولذلك فإنها تحتاج إلى جهد كبير للدفاع عنها فى المرحلة القادمة.
هذا أيضا ما يقوله كاتب أمريكى متخصص، تعليقا على تقرير من معهد أمريكى متخصص فى الدراسات السياسية والعلوم الإنسانية، لا يحتاج إلى تعليق!
***
وبصراحة لا يقوى عربى على أن يعلنها فإن رونالد سبيرى وكيل أول وزارة الخارجية الأمريكية منذ عام 1983 حتى عام 1989 ونائب الأمين العام للأمم المتحدة من عام 1989 حتى عام 1992 كتب مقالا فى صحيفة هيرالد تريبيون أيضا يوم 13 ديسمبر 2002 بعنوان (الولايات المتحدة كانت تحظى بالإعجاب والاحترام) قال فيه: عندما التحقت بالخدمة فى وزارة الخارجية الأمريكية منذ خمسين عاما تقريبا، كانت الولايات المتحدة تحظى باحترام وإعجاب على نطاق واسع فى العالم، وكانت معظم شعوب العالم ترى الأمريكيين على أنهم شعب يمكن الاعتماد عليه وكان الأمريكيون فى نظرهم محبين للغير، وكرماء، وفيهم نبل، وشعور بالمسئولية، وكان من دواعى الفخر أن يكون الإنسان ممثلا للولايات المتحدة فى الخارج، وفى ذلك كنا- نحن الأمريكيين- كدولة، نتمتع بالإحساس بالمسئولية، ونتجاوز حدود المصالح الأمريكية الضيقة، وكنا لا نحتاج إلى الإعلان عن أنفسنا وعن تميزنا، أو أن نظل نكرر لأنفسنا دائما: (نحن أعظم الناس) كما نفعل الآن وكأننا نعمل على إقناع أنفسنا بشىء نشعر فى داخل نفوسنا بالشك فيه، حتى أظهرت الأبحاث والاستطلاعات الأخيرة ما كان الدبلوماسيون يعملون على تفادى وجوده، وهو أننا أصبحنا أقل شعبية فى العالم مما كنا عليه، وأمريكا تتميز بأنها بلد يجد الحماية والقوة فى موقعه الجغرافى ووفرة موارده، وشعبه الذى يتميز بالتنوع والحيوية، وثقافة مفتوحة تساعد على زيادة الإنتاج، وحرية لا تتوافر لكثير من شعوب العالم، ولكن يبدو أننا قد بددنا الكثير من هذه المزايا. وسوف نكون فى حال أفضل إذا قللنا من تمجيد أنفسنا، والزهو بفضائلنا، وجعلنا أفعالنا تتحدث عنا مثلما فعلنا بعد الحرب العالمية الثانية عندما نفذت أمريكا مشروع مارشال لمساعدة دول أوربا على تجاوز أزمتها الاقتصادية, وعملنا على إنشاء منظمة حلف شمال الأطلنطى، والأمم المتحدة، وقدمنا التضحيات من أجل الآخرين، ما الذى جرى..؟ لم نعد شعبا متماسكا وقويا وثابتا على المبادئ كما كنا، بالرغم من أننا نستطيع أن نكون كذلك. ولقد أصبحت العقلية الجامدة الأحادية الجانب هى التى تسيطر على كثير من قادتنا، بل على كثير من المواطنين الأمريكيين أيضا، وها نحن أولاء قد وصلنا إلى القول: (إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا)! وتحولت إدارة السياسة الخارجية إلى مسابقة للحصول على الشعبية بصرف النظر عن المبادئ والمصالح، وفقدت أمريكا جزءا كبيرا من القوة التى يسميها بعض علماء السياسة (القوة اللينة) وهى القوة التى تستخدم التفاهم والحوار والدبلوماسية وتبادل المصالح دون تفكير فى استخدام العنف أو (القوة الصلبة) بالجيوش. ولذلك يرى كثير من المفكرين فى أنحاء العالم أن أمريكا أصبحت عملاقا معجبا بنفسه، يتصرف بانفعال وباندفاع، ويريد أن يفرض ما يريد على الآخرين، وهذا العملاق يسيطر عليه هوس المال والاستهلاك باسم الديمقراطية.. ونتيجة تغلغل وانتشار هذه الصورة لأمريكا فى العالم فإن الدبلوماسيين الأمريكيين يشعرون بالخزى من هذا الإصرار الشديد على إرغام الآخرين على التكيف مع مصالحنا حتى إذا تعارضت مع مصالحهم، ومخاطبة الدول بغطرسة غير لائقة، حتى أن هناك من تحدث بلهجة ناظر المدرسة حين يتحدث إلى تلاميذه، وقال إن أمريكا يجب أن توضح صراحة لرئيس دولة حليفة بأن أمريكا لن تسامحها أبدا إذا استمرت فى التعامل مع كوريا الشمالية.. وتظهر هذه العجرفة على نطاق واسع فى التليفزيون والصحافة والأحاديث، رغم أن الرئيس بوش قال فى بداية عهده إن على أمريكا أن تضع سياستها الخارجية على أساس التعامل مع الدول بتواضع، ولكنه لم يفعل ذلك، وإذا لم يصبح حكام أمريكا معتدلين فى أحكامهم ويحترمون الشعوب الأخرى، فسوف تنظر الشعوب إلى أمريكا على أنها دولة أصيبت بغرور القوة.
هذا ما قاله رجل عاش فى دهاليز السياسة الأمريكية سنوات طويلة، ويعلم الكثير من خبايا وخفايا ودهاليز المؤسسات السياسية، ويوجه النقد إلى الإدارة الأمريكية الحالية من واقع الحرص على تصحيح مسارها قبل أن تنجرف أكثر فى تيار غرور القوة
***
وفى هذا السياق كتب روبرت ليفين مقالا بعنوان (صورة أمريكا فى العالم فى طريقها إلى التدهور) فى يوم 13 ديسمبر 2002 فى هيرالد تريبيون أيضا، وروبرت ليفين Robert Levine محلل سابق فى وزارة الدفاع وتولى عدة مناصب تشريعية وتنفيذية، وقال: إن مركز بو Pew للأبحاث نشر تقريرا عن دراسة قام بها فى 27 دولة بعنوان: (مشاعر العداء لأمريكا تتزايد، وصورة عالمية تتدهور) وهذا يدعو إلى التساؤل: لماذا يكرهوننا؟ وهل يجب أن نهتم بذلك؟ وما الذى نستطيع أن نفعله فى ذلك؟ والإجابة الأساسية إننا- نحن الأمريكيين- يجب علينا أن نتخذ خطوات عاجلة لتغيير صورتنا، فإن السياسة الأحادية لإدارة بوش، ورد الفعل العدوانى على أحداث 11 سبتمبر، والإصرار على مهاجمة العراق، من أهم أسباب هذا التيار المتزايد من العداء لأمريكا، وليس ذلك جديداً، فقد كانت حرب فيتنام، ولغة رونالد ريجان عن (إمبراطورية الشر) من أسباب هذه الكراهية أما السؤال: هل يجب أن تهتم أمريكا بهذه الكراهية؟، فالإجابة نعم، لأن وجود أمريكا فى عالم لا يحبها ولا يتمنى لها الخير ليس شيئا طيبا، وإن كانت القيادات الحالية التى تمثل اليمين الجديد لا تبالى بما يراه وما يقوله الآخرون، ويكررون قول وزير الخارجية البريطانى فى القرن التاسع عشر اللورد بالمرستون (إن الدول ليس لها أصدقاء، ولكن لها مصالح) ويعتقد هؤلاء الحكام أن أمريكا تمكنها إقامة تحالف دولى قائم على المصالح وليس على المبادئ أو الشرعية أو القواعد الدولية، وقد تم تنفيذ ذلك فى أفغانستان، فقد تعاملت أمريكا هناك بالقوة العسكرية وبشراء التأييد الداخلى وحققت ما تريد ولم تعتمد إلا على القليل من الحلفاء الحقيقيين، أما فى العراق فإن على الإدارة الأمريكية ألا تتجاهل أوربا، ويجب أيضا ألا تتجاهل المعارضة العربية الشديدة..
ويجيب روبرت ليفين عن السؤال: ما العمل؟
فيقول: إننا لن نستطيع تغيير التاريخ، ففى أوربا يمكن أن يكون التاريخ لصالحنا، ولكن فى أماكن أخرى فإن التاريخ ضدنا، وفى المستقبل القريب لن يمكننا تقليل الثغرة بين الغنى والثروة فى أمريكا وبين الدول الفقيرة المتخلفة، وما سوف يترتب على ذلك من إثارة مشاعر الغيرة، ولن نستطيع تغيير ثقافتنا، لأن ثقافة أمريكا الشبابية، والغرور الأمريكى، والعنصرية المتعمقة، من السلبيات، وفى نفس الوقت من المستبعد أن نبدأ فى إعادة التفكير فى المصالح الجوهرية، وسنبقى حريصين على مصالحنا الذاتية الاقتصادية والأيديولوجية، وسنبقى متمسكين بالديمقراطية الليبرالية وبالسوق الحرة، ولكن ما يمكننا عمله هو أن نغير السياسة واللغة التى نخاطب بها الآخرين. فإن سياسة إدارة بوش أحادية الجانب تختلف فى ذلك اختلافا كبيرا عن السياسة الخارجية الأمريكية فى عهد كلينتون وإن كانت استراتيجية الأمن القومى واحدة فى الحالتين. فإن انسحاب بوش من اتفاقية كيوتو لحماية البيئة بعد أن وقعها كلينتون أثار غضب العالم، كذلك انسحاب أمريكا من معاهدة حظر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، وسياسة وزير الدفاع رامسفيلد بالتدخل العسكرى لفرض ما تريده أمريكا، كل ذلك لابد أن يؤدى إلى الإضرار بصورة أمريكا، وتضاف إليها آثار العولمة القائمة على تحقيق أمرين: التجارة الحرة وحماية مصالح أمريكا أولا، وفرض شروط مستحيلة على الدول الضعيفة اقتصاديا ثانيا.. أما سياسة بوش فى الشرق الأوسط فهى التى تسبب العداء الشديد لأمريكا، لأن هذه السياسة قائمة على المساندة غير المشروطة لإسرائيل، وعدم وجود حدود للإجراءات والقيود المفروضة على المسلمين التى تتخذها أمريكا باسم محاربة الإرهاب، والإصرار على ضرب العراق..
هل تستطيع إدارة بوش تغيير سياستها بالانحياز لإسرائيل.. الإجابة: إن هذه السياسة مرتبطة بالانتخابات فى داخل أمريكا.
هذا ما يقوله خبير أمريكى فى الدفاع وفى السياسة الخارجية.
وليس هؤلاء وحدهم الذين يرفضون ويدينون سياسة القوة والغطرسة الأمريكية.. فى أمريكا كثير جدا من المثقفين والخبراء وأساتذة العلوم السياسية والاستراتيجية يرفضون ويدينون هذه السياسة، ويطالبون الإدارة الأمريكية بالعمل على تخفيف حدة الكراهية المتزايدة لأمريكا بين شعوب العالم.. بأن تكون سياستها قائمة على العدل.. والتواضع.. والديمقراطية.. والشرعية الدولية. وهم يقولون ما لم يقله أحد من العرب.. وهذه من حسنات الديمقراطية الأمريكية على كل حال.
وليس الأمريكيون هم الذين يقولون الحقيقة عن السياسة الأمريكية فى عهد الإدارة الحالية، ففى كل أوروبا مظاهرات بالملايين، كما فى أمريكا أيضاً، وفى العالم العربى كذلك، وفى أوروبا آلاف المقالات والكتب لمفكرين وأساتذة ومحللين استراتيجيين وآلاف التصريحات من قادة سياسيين كلها تعبر عن هذه الحقيقة المرة التى وصلت إليها أكبر قوة فى العالم وتوشك أن تملأ العالم بالكراهية لها.
ففى لندن- على سبيل المثال- فاز الكاتب الأمريكى مايكل مور بجائزة كتاب العام فى بريطانيا عن كتابه الجديد.. (رجال بيض أغبياء) الذى يتناول فيه المسئولين فى الإدارة الأمريكية بشكل ساخر، ويهاجم فيه بقسوة النخبة الجديدة فى الولايات المتحدة، ويقترح أن تتم الانتخابات الأمريكية تحت رقابة مراقبين من الأمم المتحدة لضمان نزاهة الانتخابات بعد المخالفات التى شابت انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عام 2000، بل وأكثر من ذلك يدعو الكاتب الأمريكى الأمم المتحدة إلى الإطاحة بنظام بوش قائلاً إن استطلاعات الرأى تشير إلى أن 60% من الأمريكيين غير راضين عن هذا النظام الذى يقوم فيه قضاة فاسدون بتعيين رئيس الجمهورية، ومعروف أن هذا الكتاب منعت الرقابة فى أمريكا نشره وقالت إن نشره بعد أحداث سبتمبر (مجاف للمشاعر الوطنية) وأخيراً صدر منذ أسابيع واحتل المركز الأول بين الكتب الأكثر مبيعاً فى أمريكا وبريطانيا.
وكل ما فى الكتاب قاله كاتب أمريكى وليس عربياً أو مسلماً.
***
وإذا لم تستمع الإدارة الأمريكية إلى أصوات العقل والحكمة هذه فسوف يكون مصيرها نفس المصير الذى انتهت إليه الدول التى انفردت بالقوة فأصابها الغرور والعمى.. ولم تهتم بالعداء والكراهية التى تزايدت وأحاطت بها من كل جانب.. ولم يكن تجاهل العداء والكراهية هو الصواب، فدفعت الثمن باهظا..
والتاريخ شاهد على المصير المحتوم الذى ينتظر كل قوة طاغية.