كتـاب يجب أن يقـرأه كل مسئول عربى
فاجأنا الدكتور حسين كامل بهاء الدين بكتاب جديد اختار أن يكون عنوانه صدمة للقارئ وربما كان أيضاً إنذاراً وتحذيراً.. عنوان الكتاب (مفترق الطرق).. وكأنه يريد أن يقول لنا: توقفوا.. تمهلوا.. انظروا حولكم لتعرفوا أين أنتم.. وتعرفوا على الطريق الصحيح الذى يجب أن تسيروا عليه حتى لا تضل بكم الخطى، وتسيروا فى طريق يؤدى بكم إلى التهلكة، أو طريق يفضى بكم إلى متاهة، وتكتشفوا أن التقدم أصبح مستحيلاً، والعودة إلى نقطة البداية أيضاً مستحيلة.وأهمية الكتاب ليست فقط لأن مؤلفه يقدم لنا خلاصة ما وصل إليه من فكر وتحليلات ومعلومات وهو فى موقع المسئولية، كوزير للتربية والتعليم، وهو بحكم هذا الموقع يعيش فى قلب الأحداث، ويعايش الناس كل يوم، ويعرف الكثير من الحقائق المختفية تحت السطح، لكن هذه العوامل ليست كل الأسباب التى تجعل لهذا الكتاب كل هذه الأهمية، لأن الدكتور حسين كامل بهاء الدين لم يضع رؤيته للعالم، وللواقع العربى، وللمجتمع المصرى من موقع الوزير، ولم يقدم فى الكتاب معلومات اطلع عليها بحكم هذا الموقع، ولكنه يقدم كتابه من موقع آخر هو الذى جعله مؤهـلا للعمل السياسى والتنفيذى.. موقع المفكر.. والمحـلل السـياسى .. وصـاحب الرؤية الاستراتيجية.

ومن السطور الأولى نعرف أن هذا الكتاب ليس من كتب الدعايات السياسية، ولكنه من كتب النهضة، وهدفه ليس تجميل الواقع، ولكن هدفه تشريح الواقع بموضوعية، وبمنهج علمى، لا يرى سوى الحقائق، ولا يهدف إلا إلى الإصلاح.. ولأن الدكتور حسين كامل بهاء الدين فى الأصل أستاذ فى الطب، فإنه يستخدم خبرته فى هذا المجال، فيبدأ فى تشخيص (الحالة) التى وصل إليها العالم، و(الحالة) التى وصل إليها العرب، و(الحالة) التى نعيش فيها، وبعد أن استخدم كل وسائل وأدوات التشخيص كتب لنا العلاج، بعد أن شرح لنا أن الأمور وصلت إلى درجة لابد أن نتعامل معها بمنتهى الجدية، وبمنتهى السرعة، وبمنتهى الحسم، وليس مسموحا بالخطأ لأن الاختيار الخطأ للطريق الذى سنسير عليه ستترتب عليه نتائج من الصعب تداركها، وقد يكون من المستحيل تداركها، وفى لحظة الاختيار هذه لابد أن نستجمع كل قوانا، وكل ملكاتنا، ولا نعتمد على حسن النوايا وحدها، ولا نستسلم لحسن الظن وحده.

****

يرى الدكتور حسين كامل بهاء الدين أن الشعب العربى يشعر فى كثير من الأحيان بمزيج من الإحباط والتوتر، لأن الجو المحيط بالمنطقة العربية جو يبعث على الأسى.. يسوده التبجح، ويخيم عليه جموح القوى، ويسرى فيه الظلم أو على الأقل الإحساس بالظلم، وتطغى فيه مشاعر العجز تجاه قوى ضربت عرض الحائط بموازين الحق والعدل والشرعية، وقلبت الحقائق ولم تعد تحتاج إلى فضيلة الحياء.. شعب عربى يُضرب بالقنابل ويدهس بالدبابات، وتهدم بيوته على أصحابها، والعالم يتغاضى ويتظاهر بعدم الالتفات، وسقوط شائن للشرعية الدولية، وتطبيق فاجر لمعايير مزدوجة!.

وماذا بعد؟..

الدول النامية، والدول العربية والإسلامية، والدول الفقيرة تقف فى مواجهة مشهد مأساوى تعربد فيه القوة الباغية، وتزداد الفجوة الحضارية بين الدول المتقدمة والدول النامية، ويتم بغير حياء التربص بالضعفاء وحصارهم واتهامهم بما لم يرتكبوه!.

هل حدث ذلك فجأة وفى لحظة واحدة من الزمن يوم 11 سبتمبر 2001؟.

أبداً.. هذا المشهد كانت له مقدمات وأسباب تماماً كما يحدث فى الظواهر الطبيعية، فالعناصر التى قامت بهذا العمل الذى أدانه العالم سبقته تحركات ومشاعر وأحداث سياسية واجتماعية وسّعت الفجوة بين طبقات البشر، وزادت من الهوة بين أحلام البسطاء وما يلمسونه على أرض الواقع، وعمقت الإحساس باليأس والاغتراب بين شرائح ودول وأفراد أحسوا بالمرارة، وتصاعد فى داخلهم الإحساس بالكراهية ودفعهم كل ذلك إلى تصرفات هوجاء طائشة وانتحارية..

وماذا عنا نحن العرب؟.

ضيعنا الزمن من أيدينا.. أهدرنا ثروات كبيرة.. وفقدنا فرصا كثيرة.. وانشغلنا بما لا جدوى من التصارع عليه.. ثم كانت أحداث 11 سبتمبر لحظة فتح الستار عن مشهد مأساوى تم التدبير له والإعداد لتنفيذه فى غفلة منا.

والحقيقة أن الدكتور حسين كامل بهاء الدين كان واحدا من المفكرين الذين نبهوا إلى إرهاصات 11 سبتمبر.. وفى كتابه (الوطنية فى عالم بلا هوية) الذى صدر فى يناير عام 2000 أشار إلى موجات الغضب الكاسحة ضد العولمة التى تفجرت فى مدينة سياتل الأمريكية، وحدثت فيها مصادمات ومظاهرات فى عقر دار القطب الأكبر للعولمة، ورأى فى هذه الموجة من الغليان نذيرا يقول للقوى المفتونة بالعولمة وبمقدرتها الساحقة: إن القوى المهمشة والشرائــح غير القادرة والدول التى نهبت مواردها وأهملت مصالحها ما زالت قادرة على ردود الأفعال التى ستختلف فى مداها وخطورتها.

وحين ضرب الدكتور بهاء الدين بمشرط التحليل فى هذا المشهد المأساوى الذى عاشت فيه سياتل اكتشف أن هناك عوامل أوصلت إلى هذه الذروة،أهمها: الفجوة التكنولوجية والعلمية الواسعة بين عالم متقدم وصل به التقدم إلى حد الغرور، وسيطرت فيه التكنولوجيا على الثقافة وعالم متخلف يعيش فى الفقر والجهل.

أما أحداث 11 سبتمبر فقد شهد العالم بعدها اختلال الموازين، وسقوط الشرعية الدولية، واستباحة التدخل الدولى والعدوان، وضرورة التعامل مع الفوضى.

****

العالم يعيش الآن فى قرن التكنولوجيا، والطفرة كبيرة جداً، وكل عشر سنوات تتضاعف المعلومات المتاحة فى مجال العلوم الفيزيائية، فى حين كان وصول المعلومات إلى الضعف يستغرق ثلاثمائة أو أربعمائة سنة، والتغيرات التى حدثت فى الخمسين عاما الماضية تفوق ما حدث فى العشرين قرنا الماضية، والاكتشافات العلمية التى تحققت فى السنوات العشر الأخيرة تعادل الاكتشافات التى تمت فى خمسين سنة قبلها، وهذا بالطبع يحمل تهديدا خطيراً لمن لا يستطيعون اللحاق بهذا السباق.. ونحن منهم!.

****

ونحن نعيش فى عصر لا مجال فيه للضعفاء ولا أمل فيه للجهلاء، وعلى سبيل المثال فإن المنافسة فى صناعة السيارات بين اليابان وأوربا وأمريكا حسمت فى ثمانينات القرن العشرين لصالح اليابان، لأن اليابان استطاعت اختصار تكلفة الموديل الجديد من السيارات إلى الثلث، وزمن الإنتاج إلى الربع، فحسمت المنافسة نهائياً لصالح اليابان، وهذا مجرد مثال!

والحروب. أصبحت حرباً علمية لا مجال فيها للعنتريات.

واليوم هناك منظومة جديدة من أسلحة الدمار الشامل، وفى معايير القوة فيما يسمى (مثلث الرعب الجديد)، وبعد أن كانت الأسلحة الذرية، والكيميائية، والبيولوجية، هى أسلحة الدمار الشامل فى القرن العشرين برزت لنا ثلاثية مخيفة جديدة هى: الهندسة الوراثية، والتكنولوجية فائقة الصغر، والإنسان الآلى (الروبوت) وهذه المنظومة تمثل طاقات هائلة للبناء، وفى نفس الوقت هى أدوات وأسلحة للدمار الشامل..

التقدم فى الهندسة الوراثية جعل من الممكن تغيير الصفات الوراثية وإنتاج كائنات أو أنسجة لم تكن موجودة من قبل! وبالهندسة الوراثية أصبح ممكناً مضاعفة الإنتاج الزراعى وإنتاج أنواع جديدة لم تكن موجودة.. وأصبح ممكنا إنتاج محاصيل بكميات كبيرة مثل القطن وغيره فى المعامل بدون مزارع ولا زراع.. وإنتاج البرتقال والموالح فى المعامل دون حاجة إلى زراعة البرتقال وتحويل مزارع نبات الخردل ومزارع الدخان إلى مصانع لإنتاج البلاستك عن طريق التكنولوجيا الحيوية، وتحويل المخلفات الزراعية ومخلفات الصرف الصحى إلى كحول ليكون مصدر الطاقة إلى جانب البترول!، وسوف تصبح لدى المستشفيات قطع غيار غير بشرية وينتهى عصر نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر! خاصة بعد أن أصبح من الممكن تخليق أعضاء جديدة للإنسان، بدءاً من الجلد إلى المثانة، والعظام، ومعظم الأعضاء الأساسية، إلى غير ذلك مما جاءت به التكنولوجيا الجديدة فى نقل الأعضاء التى تمثل ثورة طبية هائلة بحيث أصبح كل إنسان يستطيع أن يحصل لنفسه على قطع غيار.. واستطاع العلماء تحديد الجينات المسئولة عن المرض، وطول العمر، والسلوك، والاتجاهات السيكولوجية، وبذلك وصلنا إلى عصر جديد للعبودية، بامتلاك الشفرة الوراثية والتحكم فى الأجيال القادمة واحتكار مستقبل السلالة البشرية.. ونسخ العقل البشرى كله على الكمبيوتر.. وإنتاج أسلحة بيولوجية تؤثر على سلوك الإنسان وتستطيع السيطرة على إرادته، أين نحن من هذا كله؟.. مصيبة أن يتصور البعض أن هذه أوهام أو أحلام.. لأنها حقائق موجودة هناك.. وليست هنا.. فما العمل؟..

****

العلماء استطاعوا أن يحققوا نوعا من التزاوج بين الكمبيوتر والعقل البشرى على أجهزة كمبيوتر متطورة، وهذه ثورة أخرى كنا لا نستطيع تخيلها ولكنها اليوم حقيقة.

العلماء أثبتوا أن هناك فعلا سرعة تفوق سرعة الضوء كما جاء فى إحدى روايات الخيال العلمى، وإذا تجاوز الإنسان سرعة الضوء فمعنى ذلك أنه سوف يستطيع أن يسبح فى الزمن ذهاباً وإياباً كما شاهدنا فى فيلم (آلة الزمن)!.

والآن أعقد المسائل التى كان علماء الرياضيات والطبيعة يتوقفون أمامها أصبحت تحل فى ثوان بواسطة الكمبيوتر العملاق وبإمكان هذا الكمبيوتر أن يعالج تريليونات من الاحتمالات فى جزء من الثانية، مما يعجز العقل الإنسانى على الوصول إليه.

والأمثلة كثيرة.. كثيرة.. يذكرها الدكتور بهاء الدين ليقول: يجب أن نسابق الزمن ونلاحق التقدم وإلا فسوف تكون العواقب وخيمة.. فالعالم الجديد لا يرحم الضعفاء ولا مكان فيه لمن لا يملكون العلم والمعرفة..

****

والعالم يتجه بسرعة إلى الاقتصاد الحر وإلى الديمقراطية، ولابد لها من صحافة حرة، وأحزاب سياسية فعالة، ومؤسسة تشريعية يقظة، وقضاء عادل ونزيه، وقد آن الأوان لكى نستفيد من التجارب التاريخية والممارسات التى شابت العمل الديمقراطى فى بلاد كثيرة ومراحل زمنية مختلفة، وأن نفكر فى ضوابط ومواثيق شرف تحكم عمل هذه المؤسسات التى تحمى الديمقراطية والاقتصاد الحر لحماية المجتمع من الجشع، وغلبة المصالح الشخصية أو الفئوية.

وفى ظل المنافسة، هناك تخوف من تآكل الطبقة المتوسطة، وهى صمام الآمان فى أى مجتمع، وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من تقويض السلام الاجتماعى، وزيادة البطالة، والجريمة، فزيادة  معدل البطالة بنسبة 1% تزيد جرائم السطو على المنازل بنسبة 14%، وتزيد جرائم السرقة العادية بنسبة 11% وتزيد جرائم سرقة السيارات بنسبة 8% وتزيد جرائم الاعتداء على النفس بنسبة 5%، وهناك دراسات كثيرة حول هذا الموضوع، فمع فقدان عدد كبير من الناس فرصة العمل الشريف وتخلى المجتمع عن مسئولتيه عنهم، ومع التفكك الأسرى والأخلاقى وزيادة العنف والجريمة والإدمان، أصبح التساؤل: هل سيتحول العالم إلى غابة؟.. وهل أصبح الخيار أمام من لا يملك أن يتحول إلى مجرم ليعيش، أو ينتحر؟..

وفى أمريكا صدر كتاب بعنوان (خرافة الصحافة الحرة فى أمريكا) للكاتبة كريستنيا بورجيسون Kristina Borjesson يتحدث فيه 18 من كبار الكتاب ورجال الصحافة عن تجاربهم فى تضليل الرأى العام والتعتيم على معلومات خطيرة تمس المجتمع، وتحوير المعلومات فى بعض الأحيان، وعلى الجانب الآخر فإن الضمانات البرلمانية يمكن أن تخضع أيضاً لتأثيرات سلبية، كما حدث فى كثير من الدول ومنها أمريكا، وكما حدث فى مجلس الشعب المصرى من تورط عدد من أعضائه فى تصرفات وصلت بهم إلى السجن!.. وفى أمريكا صدر كتاب بعنوان (كيف تتم رشوة أعضاء الكونجرس؟) وهذا الكتاب عبارة عن وقائع من سجلات المحاكم الأمريكية ومؤلفه جوزيف مور Joseph Moore .

****

الفجوة بين الأغنياء تتسع فى الغرب، ففى أمريكا ذهبت 97% من الزيادة فى الدخل فى العشرين سنة الماضية إلى 20% فقط من الأمريكيين هم أغنى العائلات الأمريكية، وانخفض دخل الشريحة الأفقر فى المجتمع بنسبة 44%، ويعيش فى أمريكا الآن 36 مليون إنسان فى حالة فقر، وهؤلاء يمثلون 13.7% من عدد السكان، ويمتلك 1% فقط من الصفوة 40% من الثروة، ومنذ 21 عاماً كانت نسبتهم 13% فقط، أى أن تركيز الثروة يتم بسرعة، وفى بريطانيا عندما تولت مارجريت تاتشر الحكم عام 1979 كان 20% من الشعب البريطانى يحصل على 43% من إجمالى الدخل، ويحصل 20% على 2.4% من الدخل، وفى عام 1996- آخر عام لحكومة المحافظين كانت الشريحة الأغنى تحصل على 50% والشريحة الأفقر تحصل على 2.6% رغم زيادة الناتج المحلى الإجمالى، مما يعنى أن الفقراء لم يحصلوا على شىء يذكر، وازداد عدد العائلات التى تعيش تحت خط الفقر بنسبة 60% فى الثمانينات، وفى عام 1996 كانت فى بريطانيا أعلى نسبة من الأطفال الذين يعانون من الفقر فى أوروبا، وقد استمرت الزيادة فى أعداد الذين يعيشون تحت خط الفقر فى ظل حكومة حزب العمال التى يرأسها تونى بلير، بالرغم من الجهود التى بذلت لتغيير هذا الوضع.

وفى اليابان اعترفت الحكومة بأن نسبة البطالة بلغت 10% وهذا هو الرقم الرسمى.

وفى أوروبا لم تنجح دولة فى خفض نسبة البطالة عن 10% وفى بعضها تصل النسبة إلى 16%.

والعولمة تزيد الاعتماد المتبادل بين سكان العالم،كما تزيد تداخل وتشابك الاقتصاديات وتمتد بتأثيرها إلى الثقافة، والسياسة، والتكنولوجيا، ولم تعد الأحداث مؤثرة فى مجتمع واحد، فمثلاً لو انخفضت قيمة العملة فى تايلاند فإن هذا ربما يؤدى إلى تصاعد معدلات البطالة فى جنوب شرق آسيا، وإلى تباطؤ الاستثمار والخدمات فى أمريكا اللاتينية، وارتفاع تكلفة الأدوية التى تستوردها أفريقيا.. وتحديات العولمة المفروضة على الدول النامية- ونحن منها- تحتاج إلى عمل فوق العادة.

****

مع العولمة تتحرك الشركات العملاقة متعددة الجنسيات وعابرة القارات، بميزانيات تزيد على ميزانية دولة، بل إن بعضها تزيد ميزانيتها على ميزانية عدة دول، ولها أهداف وأطماع عابرة للحدود، ولها مصالح لا تتطابق مع مصالح الدول.. هذه الشركات ترفع شعار العولمة للتوغل فى الأسواق، وتقدر على تغيير تشريعات ونظم، وتقضى على منافسيها الصغار فى الدول التى تعمل فيها، ولا تهتم بالأضرار التى تلحق بمصالح دول العالم الثالث الفقيرة.

التغيرات القادمة سوف تقضى على الحد الفاصل بين ما هو وطنى وما هو عالمى، وفى ظل اتفاقية الجات وحرية التجارة سوف تزول الحدود، ويزداد الضغط على كل ما هو وطنى، لدرجة أن هناك الكثير من المفكرين يناقشون فكرة الكيان الوطنى ذاته، وهل يمكن أن يستمر الكيان الوطنى فى مواجهة التكتلات العالمية والشركات متعددة الجنسيات وحرية تجارة غير مسبوقة؟ وفى ظل الإنترنت الذى اخترق حاجز المكان والزمان ووصل إلى كل أنحاء الأرض؟. وهل يمكن أن تكون هناك حماية وطنية لصناعة وطنية أو للقيم أو حتى للقرارات الوطنية؟. هذه الأسئلة يطرحها الكتاب حين يقف عند عالم اليوم والغد الذى يتحول إلى سوق عالمية واحدة.. وقرية كونية واحدة.. هذا العالم سوف تنتشر فيه البطالة وستكون الوظائف وفرص العمل المتاحة فى نطاق إنتاج المعرفة بالدرجة الأولى، والعامل المثالى فى إطار العولمة هو الإنسان الآلى، والوظيفة الأساسية فى الموجة الثالثة هى (المحلل الاعتبارى Symbolic Analyst)، ومجال النشاط الأمثل هو الحقيقة الاعتبارية Virtual Reality وهكذا.. فالحديث عن المستقبل يحمل الكثير من احتمالات كثيرة وكبيرة وغريبة، وفى ظل ذلك النظام سوف تتم الاستثمارات فى إطار احتكارات عالمية من أكثر من دولة تتخطى كل الحواجز، ولو تصورنا أن هناك دولة ستعطى لهذه الاحتكارات ميزات أحسن من هونج كونج أو سنغافورة مثلا، فإن هذه الشركات سوف تنتقل إليها فورا دون حساب لما سيحدث من فراغ يهدد استقرار هذه الدول.

****

من هنا ينادى الدكتور حسين كامل بهاء الدين: نحن فى الوطن العربى فى حاجة شديدة لأن نفكر فى المستقبل بعقلية المستقبل، وليس بعقلية الماضى التى لا تزال تسيطر على طريقة تفكير الكثيرين ممن يشتغلون بساحة العمل العام. ومصر جزء من العالم الجديد، ولن تستطيع أن تعيش بمعزل عن الأحداث.. ولقد مضى الوقت الذى كنا نستطيع فيه أن نتمسك بمعايير محلية أو نتقوقع داخل حدود جغرافية أو أن نكتفى بمعدلات أداء محلية.. هذا الوقت مضى وولى إلى غير رجعة، ومضى الوقت الذى كنا نتعلل فيه بظروف محلية، كما مضى الوقت الذى كنا نستفيد فيه من توازنات القوى الدولية، وكنا فيه نحصل على مزايا من هنا وهناك، ونكتفى بتطبيق المعايير التى نتصور أنها تلائمنا، وكنا نكتفى بتكنولوجيا متدنية ونستفيد من الكثرة العددية أو رخص العمالة أو ميزة تنافسية أخرى نملكها بحكم الموقع أو التاريخ.. هذا زمن ولى إلى غير رجعة!

والعولمة تسعى بكل قوة إلى تفكيك الدولة- أية دولة- لأن الكيان الوطنى والمؤسسى للدولة عائق فى وجه العولمة، والتجارة، والرأسمالية، والسوق، كلها لا تعرف الوطنية ولا تحرص على كيان الدولة، وترفع شعارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب مثل اللامركزية والمجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية، ثم تستخدم اللامركزية طريقا لتحجيم دور الدولة فى الحفاظ على الهوية والكرامة الوطنية، ويصبح نظام دعم المجتمع المدنى وسيلة لاستقطاب أفراد أو هيئات عن طريق منح ومزايا أجنبية، وتصبح حقوق الإنسان هى حقوق الخارجين على القانون.. وفى النهاية تصبح المبادئ الجميلة التى تأتى مع العولمة آليات لتفكيك الدولة.

****

ومع سيطرة التكنولوجيا والقيم المادية فى هذا العالم الجديد انتشر التحلل الأخلاقى، والتفكك الأسرى، والعنف، والبطالة، والجريمة، والمخدرات.. الخ وظهر نوع من التعصب الشديد. كيف نتقدم فى هذا العالم، ونأخذ بأسباب التكنولوجيا، وفى نفس الوقت نحافظ على الهوية الوطنية والقيم؟..

وكيف نتعامل مع العالم الجديد الذى لا يعترف إلا بالقوة، ولا مكان فيه للضعفاء، أو الجهلاء، أو أنصاف المتعلمين؟، وبعد أن كنا قديما نعتقد أن القوة تتمثل فى الاقتصاد والأرض والثروات الطبيعية، وإجمالى الدخل القومى، أصبح تصنيف الدول على أساس جديد، هو الرصيد القومى للمعرفة.. أى عدد العلماء، والمهندسين، والفنيين، ومتوسط سنوات التعليم بالنسبة للفرد على مستوى الدولة، وعدد الاكتشافات العلمية الجديدة، وحقوق الملكية الفكرية، وعدد الدوريات العلمية ذات القيمة، وعدد البحوث المنشورة ذات القيمة، والقدرة على استيعاب واستخدام التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، ومتوسط استخدام الأفراد للصحف، ونسبة الملتحقين بالتعليم العالى والجامعى، وعدد الحاصلين على الماجستير والدكتوراه، هذه هى عناصر القوة فى العالم الجديد.. فأين نحن منها؟

العالم الجديد يشهد اليوم مهازل فى الشرعية الدولية، ومأساة للقانون الدولى، وتكفى الإشارة إلى ما تفعله حكومة شارون، وما تجده من مساندة وانحياز من القطب الأوحد..

ومع الأسف ظهرت فى هذا العالم الجديد جماعات تنسب نفسها إلى الإسلام، وليست جماعة بن لادن الوحيدة.. وقد أساءت هذه الجماعات إلى العرب وإلى الإسلام بجهل أفرادها وضيق أفقهم وقسوتهم واستهانتهم بقيم الإسلام السمحة، وقد آن الأوان لكى يتحول الغضب إلى طاقة عمل مفيد وبناء بدلاً من أن يكون طاقة تدمير وهدم ودافعا للانتحار.

والسياسة هى فن تحقيق الممكن، وهذا الممكن لا يتحقق بالشعارات أو بالأوهام، أو بالتمنيات، ولكن يتحقق فقط بالعمل، وبالعلم، وبالقوة.

القوة.. القوة.. خصوصا بعد زلزال الحادى عشر من سبتمبر، وسيدفع العالم كله فاتورة ما جرى فى أمريكا بحكم قوانين العولمة.. وفى 11 سبتمبر ظهر أن التطور الصناعى والتكنولوجى الهائل سبق بكثير النمو الثقافى للمجتمع، ولذلك فإن المجتمع الأمريكى الذى كان يقدس الحريات الشخصية وحرية الرأى ويرفض التمييز والتفرقة ويعتبر ذلك من المقدسات، انقلب عليها فى لحظة، فأباح انتهاك الحريات الشخصية، وأعطى شرعية قانونية للتنصت، والاعتقال دون إبداء الأسباب، والمحاكمة بلا ضمانات، وتورط فى ممارسات تجسد التفرقة العنصرية، وعدم التسامح بل سمح النظام الأمريكى بإصدار أوامر بالاغتيال والتصفيات الجسدية.. وهكذا ظهر الجوهر الحقيقى لهذا المجتمع الذى يتناقض مع الشعارات التى كان المبشّرون ينشرونها فى أرجاء العالم ويطالبون العالم بأن يكون مثلهم.!

وظلال الماضى تسيطر على الحاضر والمستقبل. فى الحرب الصليبية كانت كنوز الشرق هى الهدف وليس مهد المسيح، وفى هذه المرة بترول الشرق هو الغاية وليست الديمقراطية ولا محاربة الإرهاب.. والحروب الصليبية كانت بالنسبة للوطن العربى تجربة خطيرة مليئة بالدروس أولها أن وحدة العرب هى الملاذ الوحيد لهم وقت الخطر، وكانت هذه الحروب بالنسبة للغرب مغامرة فاشلة.. وهكذا فإن ما يحدث اليوم ليس جديدا.. وما تفعله الدول الكبرى ليس جديدا حين تعمل بمبدأ (اعمل ما شئت ثم ابحث عن المبررات) وبمبدأ (فرّق تسُد).. ولن تغير القوى الكبرى مبادئها ومصالحها, ولكن علينا نحن أن نحمى أنفسنا ولا نطلب من الذئب أن يحمى الغنم!

****

والإرهاب أصبح ظاهرة عالمية.. انتشر، وسوف يستمر ما دامت الشرعية والعدالة غائبتين.. وماذا يفعل الضعيف المظلوم حين يعجز عن تحقيق العدل للحصول على حقه الضائع؟.. ليس أمامه إلا أن يقتل الظالم أو أن ينتحر إعلانا عن رفضه لفساد القيم وفساد هذا العالم..

والإسلام يتعرض للتشويه.. الإسلام دين يدعو إلى الأمن ويحرّم استخدام السلاح من أجل الاعتداء والله لا يحب المعتدين، والإسلام دين حرية ودين حوار: (فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر) و(من شاء فليؤمن ومن تشاء فليكفر) و(وجادلهم بالتى هى أحسن) وفى الإسلام كل القيم الإنسانية.. ولكن مع ذلك هناك من يصور الإسلام على غير حقيقته.. عن عمد ومع سبق الإصرار، وهذه معركة أخرى.

وبعد 11 سبتمبر تعقدت الأمور، ووضعت الدول العربية والإسلامية فى موقف الدفاع، وإسرائيل هى المستفيد الأكبر، فقد استطاعت أن تربط بين أحداث 11 سبتمبر والإرهاب ومقاومة الاحتلال، ونسبت الإرهاب إلى العرب والإسلام، وخلطت بين الدفاع الشرعى عن النفس والاعتداء على الغير.

ولابد أن ندرك أن لغة الخطاب العربى والإسلامى أصبحت لا تتمشى مع الواقع الدولى، فقد تغيرت أمور كثيرة، فمن حوار الحضارات إلى هيمنة الحضارات، ومن قبول الآخر إلى إرهاب الآخر، ومن الشرعية الدولية إلى السطوة الدولية، ومن السيطرة المغلفة إلى السيطرة السافرة، كيف يمكن للعرب كسر الحصار المفروض عليهم؟ هذا هو السؤال الذى يتوقف على إجابته مصير العرب.

****

نحن فى مفترق طرق.. أمامنا طريق الجمود وسجل أبطال الفرص الضائعة، وأمامنا طريق المستقبل، فإذا اخترنا طريق المستقبل.. وهذا الطريق يبدأ بالتخلص من أخطاء الماضى.. نبدأ فى الأخذ بقيم التقدم التى حققت النجاح للدول المتقدمة، وهى تحديد الهدف، والإتقان، وروح الفريق، والمنافسة الشريفة، وتقديس العلم، وتطبيق الاكتشافات العلمية فى الإنتاج، وإنتاج البرمجيات، وزيادة المدخرات، والديمقراطية، وحرية الرأى، وحق الاختلاف، والعدل، واحترام الوقت، والتسامح، والنظافة.. هذه القيم تصنع التقدم وغيابها يعنى التخلف.

وعلينا أن نواجه أنفسنا بحقيقة مؤلمة هى أن السنوات القادمة سنوات قاسية، فيها مشاكل وتحديات صعبة، ومنها الأزمة الاقتصادية، وأزمة الشباب التى تتجسد فى تآكل الثقة فى كثير من المسلّمات والقيادات، والمخاطر على الهوية الوطنية أمام العولمة، والعزوف عن العمل العام، وتزايد الروح المادية، وضعف الأمل فى المستقبل، واهتزاز القدوة، والفراغ السياسى، والفساد الذى يؤدى إلى فقدان الثقة فى الدولة، وضياع الحق والعدل، والإحساس بالغربة، وضعف الانتماء، وما قد ينتج عن ذلك من عصيان مدنى فى نهاية الأمر.

هذا التشخيص الدقيق للحالة يضعنا أمام دور الدولة، وهذا الدور قد يتغير ولكنه لا يتقلص، ومشاركة الدولة مع القطاع الخاص لابد منها لدعم المجتمع المدنى والعمل التطوعى والجمعيات التى تؤدى خدمات إنسانية.. وما لم تصل الخدمات إلى المحرومين فسوف تنفق الأموال على بناء السجون لاستيعاب المجرمين الذين سينشأون نتيجة غياب العدالة الاجتماعية ونقص الخدمات الأساسية لقطاعات محرومة، مما يؤدى حتما إلى زيادة التذمر والغربة والتطرف والإرهاب.

دور الدولة أيضا منع الاحتكار، وتحقيق التوازن بين المصالح المختلفة، ومنع سيطرة رأس المال على الحكم، والتصدى لعمليات شراء الأصوات الانتخابية، وضبط تأثير اقتصاد السوق على المجتمع، وتحقيق التوازن بين حرية رأس المال ومقتضيات الديمقراطية..

هذه بعض المهام الأساسية للدولة لا يمكن التفريط فيها بالإضافة إلى المهام الرئيسية المعروفة مثل المحافظة على الوحدة الوطنية والأمن القومى وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير الرعاية للفقراء..

****

ليس أمامنا إلا طريق واحد.. هو تنمية القوة الذاتية.. كيف؟ بتنمية البشر أولا كما فعلت اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا.. وتغيير البشر لا يتحقق بتكرار الحديث عن التطوير والتغيير، ولكن بالتعليم.. ولابد أن نواجه المشكلات التى تعوق التطوير الحقيقى للتعليم، خصوصا مشكلة الفجوة التمويلية، ولابد من أساليب غير تقليدية بزيادة المشاركة المجتمعية فى تمويل التعليم، وقضية التعليم قضية كبيرة نتحدث عنها كثيرا وما نعمله من أجلها قليل.. ويكفى أن نشير إلى ما يطرحه الدكتور حسين كامل بهاء الدين من أن التعليم بمعناه العصرى هو التعلم مدى الحياة، وتمكين الإنسان من خبرات التعليم الذاتى، لأن المؤسسة التعليمية فى أية دولة متقدمة لا تشكل سوى 40% من معرفة الإنسان والباقى يكتسبه بالتعلم الذاتى.. والتعليم بمعناه العصرى هو صناعة التفوق وليس إعداد موظفين.. وعموما فهذا موضوع يطول شرحه.. والدكتور حسين كامل بهاء الدين يخصص صفحات كثيرة يضع فيها تصورا متكاملا لكيفية الارتقاء بالتعليم والبحث العلمى ومراكز الدراسات، ومعالجة الانفصال بين البحث العلمى وقطاعات الإنتاج والخدمات وهذا هو سر الجمود وعدم التطور..

وأخيرا يختم الدكتور حسين كامل بهاء الدين كتابه بفصل عن (الحلم القومى) الذى يحُيى الأمل ويرفع الروح المعنوية للناس ويجدد الثقة.

ولعل ما يحدث الآن من ضغط علينا، وتحجيم لقوتنا، يكون دافعا لوحدتنا، فالأزمة تلد الهمة.

وأعتقد أن هذا الكتاب الجديد يكشف لنا عن الوجه الحقيقى للدكتور حسين كامل بهاء الدين مع كتابيه السابقين: التعليم والمستقبل، والوطنية فى عالم بلا هوية، ولأهميتهما تمت ترجمتهما إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية.. والوجه الحقيقى للوزير أنه ليس مجرد وزير، ولكنه أساسا مفكر، لديه رؤية، رؤية لوزارته ورسالته، ورؤية استراتيجية تدرك بوعى كامل ما يجرى فى العالم اليوم وما سيجرى غدا، وتعرف كيف تشير إلى الطريق الصحيح فى وقت يقف فيه العرب جميعا عند مفترق الطرق..

ويكفى أن نتوقف عند كلمات قليلة فى الكتاب ولكنها تحمل (رسالة) إلى كل عربى.. رسالة تقول: لعل ما يحدث الآن من ضغط علينا، وتحجيم لقوتنا، يكون دافعا لوحدتنا.. ولعل ذلك يكون دافعا لإدراك أهمية (الحلم القومى) الذى ُيحيى الأمل، ويرفع الروح المعنوية للنــاس، ويجـدد الثقـة..

وعسى أن تصل هذه الرسالة.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف