الشيــــخ الشعراوى والتصوف
اتصلت يوما بالشيخ الشعراوى لتحديد موعد لإجراء حديث صحفى عن رأيه فى التصوف والفرق الصوفية وزيادة أضرحة الأولياء والصلاة داخلها وتقبيل الأضرحة وطلب قضاء الحاجات منهم وكان ذلك فى السبعينات، وكنت أكتب فى الصفحة الدينية فى الأهرام، ويومها قال لى:(تعالى أهلاً وسهلاً.. أما التصوف فإن العلم به لا ينفع، والجهل به لا يضر، وأما المتصوفة فدعهم فى حالهم فليس منهم ضرر لأحد. بعد ذلك عرفت أنه كان فى مرحلة من مراحله الأولى متصوفا ومندمجا فى حياة التصوف، ولكنه تحول من الممارسات الصوفية الجماعية إلى المارسات الفردية بالإكثار من الصلاة والصيام وقراءة القرآن وتلاوة الأوراد والصلاة على النبى. وأنه يفعل ذلك فى «الخلوة» فى بيته بعيداً عن العيون، لأنه لا يريد أن يقلده الناس، ويكفى أن يرى الناس منه جانبا واحدا هو جانب الداعية المتفرغ للتأمل فى كتاب الله والإعداد لأحاديثه عن تفسير القرآن وعن خواطره الإيمانية. عرفت من الشيخ محمد السنراوى الذى كان مستشارا دينيا بالأزهر وكان ملازما للشيخ الشعراوى وهو الذى كان يكتب له خواطره، لأن الشيخ الشعراوى كانت أفكاره تتدفق حرة وبسرعة حين يتكلم بعكس حاله إذا أمسك بالقلم وأراد كتابة ما يجول فى خاطره، وظل الشيخ السنراوى وفيا للشيخ الشعراوى بعد رحيله وأنشأ مكتبة ضمت مقتنياته وأعماله وكتبه ومراجعه التى تزيد على 10 آلاف كتاب، وقال عن ذكرياته معه إن الشيخ الشعراوى كان يحب «الموالد» التى تقام للأولياء وفى رأيه أن هذه الموالد فيها متناقضات تدعو للتأمل، ففيها المتعبدون المخلصون، وفيها الأغنياء والفقراء، وفيها السكارى والمخدرون، وفيها الصالحون والدجالون والنشالون، وكل هؤلاء يحتاجون إلى سماع كلمة الحق ليعرفوا الدين الصحيح، وربما يستفيدون من النصيحة، ومهمة الداعية أن يهتم بمخاطبة المنحرفين والضالين أكثر من اهتمامه بمخاطبة المهتدين الصالحين، ولذلك كان بيت الشعراوى مفتوحاً لكل من يقصده، من يريد حاجة يقضيها له، ومن يحتاج إلى مساعدة مالية يعطيها له دون سؤال، ومن يرد الطعام فإن الشيخ لا يترك ضيفه ينصرف إلا بعد أن يتناول معه الطعام، ولم يكن يتناول طعامه وحده أبداً، ويظل منتظراً إلى أن يأتى إليه القاصدون فيأكل معهم، وعموما لم يكن الشيخ الشعراوى يحب أن يكون وحده، ويحب أن يكون الناس حوله دائماً فى البيت أو فى المسجد أو فى بيوت الأصدقاء الذين يزورهم. وربما كانت علاقة الشيخ الشعراوى بالتصوف نتيجة لحياته فى صباه وشبابه فى قرية «دقادوس» دقهلية، فقد كانت فى هذه القرية فرق صوفية عديدة تعقد حلقات للذكر وترديد الأناشيد الدينية والمدائح النبوية. وقد تأثر فى طفولته بالشيخ أحمد الطويل فقيه القرية الذى علمه القرآن، والشيخ مصطفى البياضى الذى حببه فى الشعر وعلمه بحوره وعرفه على أشعار كبار الشعراء، والشيخ يوسف النجاتى الذى تعلم منه علوم اللغة العربية.
مع شيخه محمد بلقايد
وعندما ذهب الشيخ الشعراوى إلى الجزائر للتدريس هناك التقى بالشيخ محمد بلقايد وهو من أكبر شيوخ التصوف فى ذلك الوقت، وكان ذلك فى بداية فترة الاستقلال ورحيل الاحتلال الفرنسى عن الجزائر، وتمسك الجزائريين بالدين الإسلامى وباللغة العربية تعبيرا عن الهوية العربية التى أراد طمسها الاستعمار، ومعروف أن الاحتلال كان يعتبر الجزائر مقاطعة فرنسية فكان التعليم فى المدارس باللغة الفرنسية، وأهملت اللغة العربية عمداً، وكان الجزائريون يسافرون إلى فرنسا بدون تأشيرة، بل وكانت الجزائر ضمن الدوائر الانتخابية الفرنسية وينتخب الجزائريون ممثليهم لعضوية الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) ولم تحصل على الاستقلال إلا بعد أن ضحى الجزائريون بمليون شهيد فى نضالهم ضد الاستعمار الفرنسى.
فى وقت الصحوة الإسلامية والعربية ذهب الشيخ الشعراوى إلى الجزائر فى بداية العمل على استعادة الهوية العربية الإسلامية، وتعريب المناهج التى كانت تدرس كلها باللغة الفرنسية، وتطبيق قانون باعتبار اللغة العربية هى اللغة الرسمية فى الجزائر بدلاً من اللغة الفرنسية، وعاش الشيخ الشعراوى فى الجزائر سبع سنوات ارتبط فيها ارتباطا شديدا بشيخه الشيخ بلقايد شيخ الطريقة «الهبرية» نسبة إلى مؤسس الطريقة الشيخ الهبرى بعد أن أخذ عليه «العهد»، وكان الشيخ الشعراوى يشارك بصفة دائمة فى مجالس الشيخ بلقايد وفى حلقات الذكر التى يعقدها، وفى مدينة تلمسان وفى هذه المرحلة كان يتمسك بالجانب الروحى والتعبدى فى التصوف ويحتفظ فى نفس الوقت بالجانب العقلانى فى تفكيره وسلوكه ودعوته، وعبر عن ارتباطه بالشيخ بلقايد بقصيدة طويلة جدا قال فيها:نور الوجود ورىَّ روح الوارد
تزهو بسلسلة لها ذهبية
طوفت فى شرق البلاد وغربها
أشفى به ظمأ لغيب حقيقة
فهدانى الوهاب جل جلاله
واليوم آخذ نورها عن شيخنا
ذقنا مواجيد الحقيقة عنده
عن شيخه الهبرى درَّ كنوزه
إياك من لفت الفؤاد لغيره
شاهد رسول الله فيه فإنه
فإذا وصلت به لنور المصطفى
وهناك تكشف كل سر غامض
..............
سر فى طريقك يا مريد ولا تُعر
.........
الله قصدك والرسول وسيلة هبرية تدنى الوصول لعابد
شاهد للمصطفى عن شاهد
وبحثت جهدى عن إمام رائد
وأهيم منه فى جلال مشاهد
حتى وجدت بتلمسان مقاصدى
محيى الطريقة محمد بلقايد
وبه عرجنا فى صفاء مصاعد
فاغنم لآلئه وجدّ وجاهد
واجعل سبيلك واحداً للواحد
إرث توورث ماجدا عن ماجد
فالمصطفى لله أهدى قائد
وتشاهد الملكوت مشهد راشد
أذنا لصيحة منكر ومعاند
وخطاك خلف محمد بلقايد
انقطع عمله إلا من ثلاث
فى الحديث الشريف: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له، وقد اجتمعت للشيخ الشعراوى هذه الفضائل الثلاث، فكان ينفق على الفقراء والمحتاجين أموالاً كثيرة جدا سرا وعلانية، وقد تصادف فى أحد أيام شهر رمضان قبل آذان المغرب بقليل أنى كنت فى شارع 26 يوليو فى بولاق (أبو العلا) فى طريقى إلى البيت، فرأيت سيارة مرسيدس تتوقف بجوار رجل يسير بصعوبة ويدل مظهره على رقة الحال، ورأيت السيارة تقترب من الرجل وتتوقف للحظة ويدا تمتد من نافذة السيارة لتعطى للرجل فى يده نقودا كثيرة، ولن أنسى وجه الرجل وهو محدق فى النقود فى يده وهو يتلفت حوله بحثا عن مصدر هذه الثروة المجهولة المصدر وعلامات الذهول بادية عليه ولكن السيارة أسرعت بالابتعاد، وعند الإشارة توقفت المرسيدس وتوقفت بجانبها فاكتشفت أن الشيخ الشعراوى هو الذى يجلس فى المقعد الخلفى وأنه يتجول فى هذا الوقت وببصره وبصيرته يتعرف على المحتاجين فيعطهم دون أن يتعرفوا على من يعطيهم وتجرى به السيارة قبل أن يفيق الشخص من المفاجأة، وعلمت بعد ذلك أنه كانت لديه قوائم بأسماء أشخاص وعائلات وطلبة محتاجين تصل إليهم منه رواتب شهرية ولا يعلم بها إلا واحد أو اثنين من مساعديه، وأذكر أنه تبرع بمليون جنيه للأزهر وطلبته المحتاجين وتبرع سرا بمبالغ كبيرة لمشروعات خيرية فى أماكن متعددة وفى معظم الأحيان كانت التبرعات تصل إلى هذه الجهات باسم «فاعل خير».
وقريبا من مسجد السيدة نفسية أقام الشيخ الشعراوى مبنى مكوناً من صالة واسعة جدا ومطبخا كبيرا وعددا من الحجرات للنون والخلوة، وكان يقيم فى هذا المبنى أحيانا ولكن المطبخ فكان يعمل يوميا والصالة مفتوحة لتقديم الطعام طوال اليوم لكل من يقصها دون سؤال عن اسم أو صفة، وقبل وفاته أوصى أبناءه بأن يستمروا فى تقديم الطعام ولايزال الحال كذلك حتى اليوم وفى معظم الأحيان تجد ابنه عبد الرحيم فى استقبال وخدمة القاصدين.وفى قريته «دقادوس» بنى الشيخ الشعراوى مسجد الأربعين، واعتاد إقامة خيام لاستقبال الضيوف فى المولد الذى يقام سنويا لأحد الأولياء المعروفين بالقرية، ويقدم فيه الطعام للزوار إلى اليوم، وفى القرية مبنى كبير بالغ الفخامة مكون من 6 طوابق هو مركز للخدمات أقامه الشيخ اشعراوى على نفقته زادت تكلفته على 13 مليون جنيه وفيه معهد أزهرى ابتدائى، ومعهد إعدادى ومدرسة رياض أطفال ومدرسة تحفيظ القرآن ومعهد لإعداد معلمى القرآن وفيديو يذيع حلقات الشيخ الشعراوى وفيه أيضاً مكتبة شاملة وعيادات لجميع التخصصات الطبية ولجنة الزكاة تقدم مساعدات شهرية لأكثر من 350 أسرة من خلال مشروع كفالة اليتيم الذى أنشأه الشيخ وأوصى باستمراره، وأمام هذا المجمع يوجد بيت الشيخ الشعراوى وهو مكون من أربعة طوابق وحوله حديقة كبيرة يسكن فيه الآن حفيده الأكبر محمد عبد الرحيم الشعراوى وهو المقيم فى الرقية وتأتى عائلة الشيخ فى زيارات منتظمة فتقيم فيه لزيارة قبره وإحياء ذكراه. كان التصوف عنده حب الله بالقلب والحياة مع الناس بالعقل وفعل الخير دون انتظار جزاء ولا شكورا من مخلوق، فقط كانت سعادته فى إسعاد الآخرين.