هل بالقانون وحده نشجع الاستثمار؟
منذ عام 1971 حتى اليوم ونحن نحاول تشجيع الاستثمار والمستثمرين.. أكثر من 32 عاما ونحن نسعى إلى تحويل مصر إلى جنة المستثمرين.. حلمنا أن تمتلئ أرض مصر بالمصانع والمشروعات الإنتاجية.. حلمنا أن تأتى الشركات العالمية الكبرى لا لكى تبيع منتجاتها كاملة التصنيع فى أسواقنا وتخرج بحصيلة أرباحها من دمنا ولحمنا.. بل أن تأتى لكى تقيم المصانع عندنا، وتفتح أمام شبابنا الفرصة للعمل، واكتساب الخبرة، والتعامل مع التكنولوجيا الحديثة..
هل تحقق ذلك ؟
تحقق ذلك، وأكثر منه فى بلاد كثيرة.. فى كوريا، وماليزيا، وسنغافورة، وتايوان، وفى الصين أيضا رغم أن الحزب الحاكم فيها لا يزال حتى الآن هو الحزب الشيوعى.. وتحقق بما يشبه المعجزة فى دبى بدولة الإمارات.. ولكن لم يتحقق عندنا سوى الاستثمار التجارى.. مستثمرون أقاموا صناعة تعبئة مياه النيل فى زجاجات بلاستيك وحققوا أرباحا بالملايين حولوها إلى دولارات خرجت ومازالت تخرج من البلد كل سنة.. ومستثمرون فتحوا مكاتب استيراد.. ومستثمرون أقاموا مصانع فى المدن الصناعية الجديدة لقص الورق المستورد وحصلوا على إعفاءات من الجمارك والضرائب.. ومستثمرون أنشأوا مناطق حرة داخل أحياء القاهـرة والإسكندرية وبقية المدن والقرى وحولوها إلى منافذ للتهريب..
أين المستثمرون فى الصناعة والإنتاج؟
وكيف نساوى فى المزايا والإعفاءات بين من يقيم مصنعا للغزل والنسيج أو لصناعة السيارات أو آلات الزراعة أو الكمبيوتر أو المعدات الطبية.. الخ، وبين من يقيم خط إنتاج لتعبئة المياه فى زجاجات أو لصناعة البسكويت واللبان؟.
وكلما صدمتنا حقيقة الفشل لا نجد حلا إلا بإصدار قانون جديد للاستثمار يعطى المزيد من المزايا والإعفاءات حتى أصبحنا أكثر دول العالم إصدارا للقوانين وأكثرها إعطاء للمزايا.. ومع ذلك.. هل زاد الاستثمار بزيادة القوانين والمزايا؟.
نحن أصدرنا قانون استثمار رأس المال العربى والمناطق الحرة عام 1971 ، وأنشأنا هيئة الاستثمار فى نفس العام، وقلنا: إن هذه الهيئة ستكون الجهة الوحيدة التى يتعامل معها المستثمر بسهولة وسرعة نموذجية فى كل ما يحتاج إليه من تراخيص وموافقات وتسجيلات وتوقيعات وأختام.. وأكدنا فى هذا القانون احترام الدولة الكامل لحقوق الملكية الفردية وتحصين وحماية الاستثمارات من أى نوع من التأميم أو المصادرة أو فرض الحراسة.. وأنشأنا نوعين من المناطق الحرة.. مناطق حرة عامة، ومناطق حرة خاصة مملوكة للأفراد. غير أن هذا القانون لم يحقق الهدف منه.. لم يجذب الاستثمارات، بل جذب المغامرين والنصابين ولصوص المال العام ومغتصبى أرض الدولة.
وبعد أقل من ثلاث سنوات أصدرنا قانونا جديدا للاستثمار العربى والأجنبى والمناطق الحرة عام 1974 .. ولم يحقق الهدف منه أيضا.. فتوالت بعده القوانين والتعديلات على القوانين.. مجموعة تعديلات على قانون سنة 1974 بقانون فى سنة 1977 .. ثم صدر قانون جديد فى سنة 1989 باسم قانون الاستثمار.. ثم صدر قانون ضمانات وحوافز الاستثمار سنة 1997 وهو القانون الحالى.. وفى هذه الأيام تعد الحكومة قانونا جديدا للاستثمار.. وقالــت ما سبق أن قالته كل حكومة سابقة منذ 30 عاما: إن القانون سيؤدى تلقائيا إلى تدفق الاستثمارات وزيادة الإنتاج وفرص العمل والتصدير والعملات و.. و..!
فماذا كانت النتيجة؟
التقريرالرسمى لمتابعة التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن عام 2002 – 2003 يقول: (بمراجعة المؤشرات الإحصائية نجد أنها تشير إلى انخفاض معدل النمو الاقتصادى الحقيقى، كما أنها تشير إلى بروز خلل متراكم فى التوازن الكلى الداخلى والخارجى مرتبط بانخفاض معدل النمو، وأن انخفاض إجمالى الاستثمار والادخار يشير إلى عدم كفايتهما لتحقيق معدل مرتفع للنمو والعمالة.. وأن نصيب القطاعات السلعية من إجمالى الاستثمار من بداية عقد الثمانينات حتى الآن 46.5% ونصيب الخدمات الإنتاجية 23% والخدمات الشخصية 29% ولم يحصل قطاع الصناعة والتعدين إلا على 15% فقط من الإجمالى.
ماذا ننتظر بعد انخفاض مساهمة الصناعة والتصدير والعمالة فى الاقتصاد عموما؟
والقوانين الكثيرة تؤدى إلى شعور بعدم الاستقرار.. حتى لو كانت لإعطاء المزيد من المزايا.. ونحن نتحدث عن الاستقرار فى السياسة ولا نراعى الاستقرار فى السياسة الاقتصادية.. كثرة القوانين جعلت المستثمر يشعر أنه فى متاهة..
والمستثمرون لا تجذبهم المزايا وحدها، ولا القوانين والنصوص والقرارات فقط.. ولكن تجذبهم سهولة التعامل فى الحصول على التراخيص والموافقات دون تعقيدات ودون إنفاق 30% من تكلفة كل مشروع فى الرشاوى كما تشير التقارير والصحف الأجنبية.. وهم يطلبون تخفيف التعقيدات البيروقراطية فى الموانى والمطارات والجمارك..
والمناطق الحرة أيضا لم تحقق ما كان مأمولا منها.
كان المأمول أن تؤدى هذه المناطق إلى زيادة الصادرات من خلال إنشاء صناعات متقدمة للتصدير للخارج، وتجذب مزيدا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتجذب معها أساليب الإنتاج والتكنولوجيا الحديثة، وتستوعب مزيدا من العمالة. وتدخل مصر بها عصر صناعة الإلكترونيات والأجهزة الرقمية والكمبيوتر والوسائط المتعددة وأجهزة الليزر والمواد الجديدة.. الخ
هذه المناطق حصلت على إعفاءات جمركيـة على أن تخصص كل ما فيها للتصدير، وتميزت لهذا السبب بمعاملة جمركية مختلفة عن باقى أجزاء الدولة، بحيث تستورد ما تشاء من السلع والخامات بهدف إعادة تصديرها بعد تصنيعها.. إلا أن ذلك لم يحدث.. تسربت السلع والخامات المعفاة من الجمارك إلى السوق الداخلية وحقق المحظوظون أرباحا بعشرات - ومئات - الملايين. والدليل على ذلك العجز المستمر فى الميزان التجارى للمناطق الحرة.. كانت قيمة واردات هذه المناطق أعلى دائما من صادراتها.. فأيـــن يذهب الفرق؟ لا أحد يسأل.. ولا أحد يحقق.. ولا أحد يحاسب!
وما يعلنه المسئولون عن الزيادة التى تحققت فى صادرات المناطق الحرة ينطوى على مغالطة، لأن الزيادة رقمية وليست حقيقية سببها زيادة سعر الدولار أمام الجنيه.. كان الدولار عام 2000 يساوى 387 قرشا، وأصبح فى عام 2001 يساوى 452 قرشا وهو الآن يساوى 648 قرشا وفقا للأسعار التى يعلنها البنك المركزى.
يقول التقرير الرسمى للحكومة: إن نسبة كبيرة من صادرات المناطق الحرة ذهبت إلى السوق المحلية وليست إلى الأسواق الخارجية، وذلك لسهولة واتساع السوق المحلية، وعدم الإلمام الكافى بالأسواق الخارجية، وضعف القدرة على المنافسة.. وهذا هو ما يؤثر على المنتجات المحلية ويعرضها لخطر المنافسة غير المتكافئة مع منتجات المناطق الحرة التى تتمتع بالإعفاءات.
الأرقام تشير أيضا إلى تراجع المساهمات العربية والأجنبية فى المشروعات المقامة داخل المناطق الحرة..
تشجيع الاستثمار ليس بالقوانين وحدها.. ولكن بالسهولة فى التعامل.. وسهولة فى تحويل الأموال.. والقضاء على البيروقراطية والرشوة والفساد.. وباستقرار النظم والقوانين.. وبالقضاء على منافذ التهرب والتحايل.
وتعلموا من النماذج الكثيرة الناجحة من الصين إلى دبى