السور يكشف نوايا إسرائيل.. ونوايا أمريكا!
من أراد أن يعرف حقيقة نوايا إسرائيل وأمريكا فلينظر إلى الجدار الفاصل الذى تقيمه إسرائيل بينها وبين الفلسطينيين.. وما تعلنه الولايات المتحدة فى التصريحات وما تفعله فى الواقع.. وهذا وحده سوف يكشف حقيقة النوايا..
إسرائيل تقول: إنها تريد السلام مع العرب عموما ومع الشعب الفلسطينى، ومع ذلك فهى تقيم جدارا يفصل بينها وبين الشعب الفلسطينى، ومعنى ذلك أن نواياها الحقيقية أنها لا تريد أن تتعامل مع الفلسطينيين اليوم أو غدا.. وأنها لا تعتزم إقامة سلام.. وأن روح الكراهية والعداء لديها سوف تستمر.
وهى تقول: إنها تقبل خريطـة الطريق الأمريكية وهى تبدأ بوقف عمليات الاعتداء العسكرى على الفلسطينيين، والبدء فى مفاوضات من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، ولكنها بهذا الجدار تضع الفلسطينيين أمام واقع جديد تستحيل معه إقامة دولة فلسطينية فى يوم من الأيام، وكيف يمكن إنشاء دولة ممزقة.. وأجزاؤها مبعثرة ومحاطـة بالأسوار، ولا يسمح للشعب الفلسطينى بالانتقال من مكان إلى مكان عبر هذه الأسوار بدون إذن من السلطـات الإسرائيلية، وعبر بوابات تخضع للحراسة ونقاط تفتيش إسرائيلية، ولا يتم فتح هذه البوابات إلا عندما تريد إسرائيل.. هل فى العالم كله دولة مثل هذه الدولة؟.. وهل فى العالم كله شعب يعيش فى مثل هذه الظروف؟!
وإسرائيل تقول: إنها تقيم الجدار لتوفير الأمن لسكان المستوطنات الإسرائيلية.. وهذه المستوطنات أقيمت على الأرض الفلسطينية، وليس هناك أية ضمانات للأمن للفلسطينيين وكأنهم ليس من حقهم أن يعيشوا فى أمن.. وإسرائيل تقتحم المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية وتقتل من تشاء وتهدم من البيوت ما تشاء.. وتحرم الفلسطينيين من أبسط حقوق الإنسان.. تحرمهم من التنقل، ومن العمل، ومن التعليم، ومن الحصول على العلاج.. وذلك بشهادة منظمة الصليب الأحمر الدولية، ولجنة حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة.
والولايات المتحدة تشاهد كل ما يجرى.. وتقدم لإسرائيل الأموال لمساعدتها على بناء مزيد من المستعمرات على الأراضى الفلسطينية ولاستكمال بناء السور؟..
ما معنى هذا السور؟.
معناه أن إسرائيل تعبر عن العداء والكراهية ورفض السلام.
وأنها تكرر ما سبق أن فعلته حكومة جنوب أفريقيا العنصرية عندما حكمت على أبناء جنوب أفريقيا - أصحاب البلد- بالعيش داخل معازل محاطة بالأسوار أشبه بالسجون.. إسرائيل تريد أن تحول الأراضى الفلسطينية إلى سجون ليعيش الفلسطينيون تحت رحمة نيران الرشاشات والصواريخ والدبابات الإسرائيلية.
ولقد سقطت الأسوار فى جنوب أفريقيا وعادت السلطة إلى شعبها.. لأن الولايات المتحدة ودول أوروبا فرضت على الحكومة العنصرية الحصار والعقوبات الاقتصادية والسياسية، لكنها لم تفعل شيئا لإسرائيل سوى الاستنكار بعبارات رقيقة ظاهرها الرفض وباطنها التشجيع..
وماذا كانت النتيجة؟
***
إسرائيل مستمرة فى إقامة الجدار.. هذا الجدار يحاصر جميع المناطق التى يعبر منها الفلسطينيون أو يحتمل عبورهم منها، يبلغ عرضه بين 80 و180 مترا، وهو عبارة عن أسلاك شائكة لولبية، ثم خندق بعمق خمسة أمتار، وعرض أربعة أمتار، ثم طريق مسفلت بعرض 12 مترا لدوريات المراقبة، يلى ذلك طريق مغطى بالتراب والرمل الناعم بعرض أربعة أمتار للكشف عن آثار المتسللين، ثم الجدار الأسمنتى ارتفاعه متر يعلوه سياج معدنى إليكترونى ارتفاعه ثلاثة أمتار مزود بأجهزة إنذار وكاميرات وأضواء كاشفة.. وبعد كل ذلك يوجد طريق رملى وترابى آخر، ثم طريق بالأسفلت، وبعده خندق ثان مثل الخندق الأول، ثم أسلاك شائكة لولبية أخرى.
وتتخلل هذا السور مواقع فيها حواجز إليكترونية مكهربة، وحواجز مائية ترابية.. وبعد ذلك سوف تقام مناطق عسكرية مغلقة فى مساحات واسعة شمال الضفة تمتد من جنين حتى طولكرم. وتضم إسرائيل مساحات كبيرة من أراضى الضفة وهى الأراضى الخصبة، وفى نفس الوقت فإن هذا الجدار يحاصر المزارعين الفلسطينيين، ويجعلهم فى ناحية.. ومزارعهم فى ناحية أخرى وبينهما الجدار وتواجد إسرائيلى فى أرض فلسطينية مغتصبة.
***
كيف يتحقق السلام إذن وإسرائيل قررت عزل نفسها خلف الجدار، ومحاصرة الفلسطينيين وتجزئة أرضهم وإيجاد فاصل يمنع الاتصال والتواصل؟
وإسرائيل استطاعت أن تقنع الولايات المتحدة باعتبار مقاومة الاحتلال إرهابا، ثم أقنعتها بأن الحل لتحقيق الأمن للإسرائيليين هو تطبيق نظام الفصل العنصرى الذى طبقته الحكومات العنصرية فى جنوب أفريقيا وفى ناميبيا، وشيدت حتى الآن أجزاء كبيرة من السور، فهل تحقق الأمن؟.. ولاشك أن عملية التفجير الأخيرة فى داخل القدس المحتلة هى الرد الفلسطينى الذى يثبت عدم جدوى السور أمام إرادة التحرر من الاحتلال والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينى وإعلان الرفض لممارسات الطغيان الإسرائيلية.
وإقامة هذا الجدار دليل على أن الجيش الإسرائيلى بكل قوته وأسلحته ومعداته، وبعد المجازر التى ارتكبها وحمامات الدم فى كل مكان، لم يستطع أن يحقق الأمن، ولم يقدر على منع شعب من التعبير عن رفض الاحتلال بكل وسيلة حتى ولو كانت بأن يفجر نفسه ويتحمل أن تتناثر أشلاؤه ليقول للعالم إنه يريد للاحتلال أن يرحل.
وشارون يريد رسم خريطة جديدة يلغى بها قرارات الأمم المتحدة ابتداء من القرار 242، والقرار 338 وعشرات القرارات الأخرى.. ويلغى الاتفاقات والتعهدات الرسمية التى وقعتها إسرائيل وتعهدت فيها بإخلاء الأراضى الفلسطينية وإقامة الدولة.. ابتداء من أوسلو ومدريد إلى غزة أريحا واتفاق القاهرة، واتفاق البيت الأبيض، واتفاق شرم الشيخ.. وغيرها.. وغيرها من الاتفاقات.. شارون يريد إلغاء كل ما تم عمله للتوصل إلى السلام، والعودة إلى نقطة الصفر.
***
والإدارة الأمريكية الحالية أعطت شارون الضوء الأخضر منذ اليوم الأول.. أعلنت - مثله - أن مقاومة الاحتلال إرهاب.. واعتبرت مثله أن الزعيم الفلسطينى المنتخب من شعبه إرهابى.. وسمحت لإسرائيل بوضع الزعيم الفلسطينى المنتخب تحت الحصار لأكثر من عامين بحيث لا يستطيع الخروج من مقره حتى ولا لحضور الصلاة.. ومنعت عن الفلسطينيين المساعدات الإنسانية التى كانت تقدمها دول ومنظمات خيرية بحجة أنها تذهب لتمويل الإرهاب.. وساعدت شارون فى سياسته فى تقديم مناورات للإيهام باستعداده للتفاوض لكسب الوقت وقتل الأمل فى نفوس الفلسطينيين وهزيمتهم من الداخل.. بالتلويح بخطة ميتشل.. ثم تفاهمات تنت.. وأخيرا خريطة الطريق التى لم تنفذ إسرائيل منها شيئا.. ولم تعلن حتى استعدادها لتنفيذها.
***
وشارون يعتبر أن هذا العام هو فرصته الذهبية، ولذلك فإنه يمضى فى بناء الجدار الفاصل ضاربا عرض الحائط بالاعتراضات الدولية.. وبالقانون الدولى.. وبمحكمة العدل الدولية.. وبالأمم المتحدة.. وفرصته الذهبية أن الإدارة الأمريكية الحالية مشغولة طوال هذا العام بالإعداد للمعركة الانتخابية التى يسعى فيها الرئيس بوش إلى إعادة انتخابه لفترة قادمة، ويحرص على ألا يلقى مصير والده الذى فشل فى الانتخابات فى الفترة الثانية وفاز كلينتون.. ودخل بوش الأب التاريخ الأمريكى على أنه من الرؤساء القلائل الذين رفض الشعب الأمريكى إعادة انتخابهم.. بوش الابن يريد أن يحقق الحلم الضائع الذى فشل فيه أبوه..
ويريد أيضا أن يمسح آثار الانتخابات الأولى التى لم يتحقق فيها الفوز إلا بمناورات فى الأصوات واللجوء إلى المحكمة ومعاونة شقيقه.. بوش يريد أن يدخل التاريخ بانتصار شعبى كبير هذه المرة تنسى الشعب الأمريكى ما جرى فى المرة الأولى.. وهو لكل ذلك محتاج لأصوات اليهود وأموالهم ونفوذهم.. ولن يتحقق ذلك بدون الرضا من إسرائيل وإعطائها الإشارة للوبى اليهودى فى أمريكا ليعمل مع أو ضد بوش.. ولن يعطى شارون هذه الإشارة إلا إذا قدمت الإدارة الأمريكية له كل ما يطلب من دعم مالى، وعسكرى، وسياسى، وبإظهار الانحياز لسياسته على طول الخط.. ولا مانع من إصدار تصريحات لإرضاء العرب.. ولكن الفعل كله لصالح إسرائيل وبنسبة مائة فى المائة وليس أقل من ذلك!
يدخل فى حسابات شارون أيضا أن الولايات المتحدة سوف تصبح- بعد الانتخابات - فى موقف جديد يقل فيه احتياجها لإسرائيل. كان دور إسرائيل أن تكون القاعدة المتقدمة للنفوذ الأمريكى والتواجد الأمريكى فى الشرق الأوسط، وتقوم بمهمة التهديد للأمن القومى لدول المنطقة، والضغط السياسى عليها، حيث لم تكن أمريكا تريد أن تقوم بذلك بنفسها.. الآن أصبحت أمريكا موجودة بقواتها العسكرية فى المنطقة، وبالتالى لم يعد لديها ما تخشاه من ممارسة الضغوط بنفسها على دول المنطقة.. ولم تعد تحتاج إلى دور إسرائيل بنفس الدرجة، وهذا التغير قد لا يظهر الآن، لكنه سوف يظهر فيما بعد.
وإسرائيل- لهذه الأسباب مجتمعة- أدركت مبكرا أن عليها انتهاز الفرصة قبل ضياعها، وعمل كل ما تريد عمله دون مراعاة لأية اعتبارات أخلاقية أو قانونية أو أنسانية واتخذت الحكومة الإسرائيلية القرار بتنفيذ خطة الفصل فى يوليو 2001 فهى ليست وليدة اليوم.. ولعلنا نذكر أن رئيس إسرائيل موشيه كاتساف أعلن فى سبتمبر 2001 أنه أعطى شارون خطة الفصل، وبعدها أصدر شارون الأوامر بتنفيذ هذه الخطة بعد أن أجرى مشاورات مع حزب العمل.. أى أن حزب العمل شارك فى إعداد هذه الخطة.. وعرضت الخطة على مجلس الوزراء فوافق عليها وأصدر قرارا بتنفيذ سياسة اغتيال النشطاء الفلسطينيين وتصفية عناصر المقاومة جسديا.
***
ولقد بدأت محكمة العدل الدولية يوم الاثنين الماضى (23 فبراير 2004) الاستماع إلى الحجج القانونية فى طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة لرأى المحكمة فى قانونية هذا القانون وحق إسرائيل فى إقامته.
وفى جلسات المحكمة شاركت 10 دول عربية فقط، وحضر الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وقام بدور عظيم وأسمع صوت الجامعة العربية للعالم من مقر المحكمة فى لاهاى.. وشاركت كوبا وماليزيا وجنوب أفريقيا ودول أخرى فى تقديم الأدلة على عدم شرعية إقامة هذا الجدار.
وأعلنت السلطة الفلسطينية موقفها.. قالت: إن إسرائيل تدعى أن هذا الجدار أقيم باعتباره إجراء لتوفير الأمن لإسرائيل، ولو كان كذلك لكانت قد أقامته على أرضها - أى على حدود 1967 فيما يسمى الخط الأخضر- ولو كانت فعلت ذلك لكان الجدار أقصر، وأقل تكلفة، وأكثر سهولة فى حراسته.. والأهم أنه كان سيعتبر شرعيا، ولكن الجدار ليست له علاقة بأمن إسرائيل، ولكنه أقيم لانتزاع أكبر قدر ممكن من الأراضى الفلسطينية، وفرض الإقامة الجبرية على الفلسطينيين فى الضفة فى مناطق معزولة ومحاطة بالأسوار فيما يشبه السجون، و لذلك يقام السور على الأرض الفلسطينية المحتلة، وبطريقة تفصل المناطق السكنية بعضها عن بعض، وتجعل الأسر ممزقة لا تستطيع التواصل، وأكثر من ذلك يفصل الجدار بين المزارعين ومزارعهم وتغتصب إسرائيل خلف السور آبار المياه الجوفية.
قلقيلية فى شمال الضفة الغربية يحيط بها جدار أسمنتى ارتفاعه 8 أمتار يعزل المستشفيات والمدارس بالمدينة عن القرى والأحياء المجاورة.. وفى القدس الشرقية المحتلة أقيمت ألواح من الأسمنت فى وسط الأحياء الفلسطينية عزلت الأجداد عن أحفادهم، ومنعت الأطفال عن مدارسهم والعاملين والموظفين عن الذهاب إلى أعمالهم.
هـذا بينما يتزايد عدد المستوطنين الإسرائيليين فى الضفة حتى بلغ عددهم 400 ألف يعيشون بشكل غير قانونى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، ويعطيهم الجدار الفرصة لاغتصاب المزيد من الأراضى للتوسع وإقامة مستوطنات جديدة.
وتحت الضغط الذى يعانى منه الفلسطينيون بسبب هذا الجدار سوف يضطر إلى الهجــرة 13 ألف فلسطينى يعيشون فى منطقة من الأراضى الفلسطينية تسميها إسرائيل (المنطقة المغلقة) وهى فى الضفة الغربية فى الجزء الواقع بين الجدار والخط الأخضر، وصدرت أوامر عسكرية إسـرائيلية لهؤلاء الفلسطينيين بالحصــــول على تصـاريح مــن جيش الاحتــــلال تســـمح لهم - أو لا تسمح - بالاستمرار فى الإقامة فى منازلهم دون أية ضمــانات بأن هـذه التصـاريح سـوف تعطى لهم بالموافقــة على البقــاء!
وبينما تقضى هذه الأوامر العسكرية بالسماح لأى إسرائيلى بالإقامة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، فإنها تقضى بعدم السماح للفلسطينيين المقيمين أصلا فى أرضهم ومنازلهم فى هذه المنطقة بالعيش فيها بدون تصريح!
***
ليست جديدة استراتيجية إسرائيل الخاصة بسرقة الأراضى الفلسطينية وإنكار حقوق الشعب الفلسطينى.. الجديد هو نظر محكمة العدل الدولية فى شرعية هذا الجدار.. وهذه هى المرة الأولى فى التاريخ الحديث التى تخضع فيها انتهاكات إسرائيل للقانون الدولى للبحث وصدور أحكام من هيئة قضائية دولية محايدة ومستقلة لها مكانتها، ولأحكامها وقــراراتها حجية لا يتنازعها أحد..وإسرائيل- كما قال صائب عريقات- ليست معتادة على العمل وفقا للقواعد، وتاريخها كله قائم على رفض تطبيق أى قرارات أو أحكام عليها منذ نشأتها عام 1948.. إسرائيل تعتمد على القوة العسكرية.. والنفوذ الأمريكى.. وبها تتجاهل القوانين الدولية.. وترفض تنفيذ أكثر من 40 قرارا من مجلس الأمن، وترفض حتى الاتفاقات التى سبق أن وافقت عليها ووقعت عليها مع الولايات المتحدة والسلطـة الفلسطينية وأطراف دولية أخرى.
لو كانت إسرائيل دولة بحق.. ولو كانت تحترم الإرادة الدولية والقانون الدولى لما استمرت فى احتلال المدن والقرى الفلسطينية والعربدة العسكرية فيها واستباحتها طوال ما يقرب من ثلاثة أعوام..
والولايات المتحدة تقول إن كل هذه الأمور يمكن أن تكون موضوعاً للتفاوض، وكأن الإسرائيليين والفلسطينيين طرفان متساويان عندما يجلسان للتفاوض.. وكيف يكون التفاوض بين محتل يتحدث من موقع القوة ومسنود بالقوة العظمى فى العالم.. والخاضع للاحتلال المغلوب على أمره الذى يعانى ذل الاحتلال والقهر وضغط الجميع عليه على أنه هو المسئول عن الحالة التى وصل إليها (؟!)
هل سيؤدى قرار المحكمة إلى تصحيح حالة عدم التوازن فى القوة بين إسرائيل والشعب الفلسطينى.. وسيؤدى إلى إعادة القانون فى حسابات التعامل الدولى مع إسرائيل؟.. وقد يقال: إن قرار المحكمة ليست له قوة إلزام.. لكن مع ذلك تبقى قوة القرار المعنوية وآثاره السياسية.. وسيكون له أثره فى توجيه جهود المجتمع الدولى نحو مبادرات سلام جديدة قائمة على تطبيق القانون، وعلى الجدية فى التعامل، وليست قائمة على المراوغة.. أما إذا فشل المجتمع الدولى فى التعامل مع قرار المحكمة بالاحترام الواجب فسوف يكون ذلك رسالة إلى الشعب الفلسطينى بأن أملهم فى الحلول السياسية والقانونية قد انتهى، وأن عليهم أن يأخذوا حقهم بأيديهم وبأية وسيلة، وليكونوا مثل إسرائيل معتمدين على وسائل غير أخلاقية وغير قانونية وفقاً لمبدأ المعاملة بالمثل.. وسيكون ذلك تطوراً خطيراً جداً..
***
من بين الإسرائيليين أنفسهم من يعترف بالحقيقة، دليلاً على وجود بقايا ضمير مازال حياً.. جدعون ليفى كتب فى صحيفة هآرتس يوم 11 يناير 2004 تحت عنوان (مؤشر على عنصرية إسرائيل) وقال: إن هذا الجدار هو العقوبة الثانية للفلسطينيين بعد العقوبة الأولى بإقامة المستوطنات على أرضهم.. ولم تبق وسيلة لإنقاذ إسرائيل من نفسها وإعادتها إلى الصواب وتحويلها إلى دولة عادلة سوى الضغوط الخارجية.. وإن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتحويل قضية الجدار الفاصل إلى محكمة العدل الدولية يكشف عن الظلم الذى يعبر عنه هذا الجدار، الذى يسجن آلاف العائلات الفلسطينية مما جعل نظام إسرائيل أمام العالم مثل نظام جنوب أفريقيا السابق.. آلاف التلاميذ ينتظرون كل صباح تحت المطر، وفى البرد، إلى أن تأتى دورية عسكرية أو حرس الحدود ليفتحوا لهم الباب لكى يذهبوا إلى مدارسهم.. أما المزارعون الفلسطينيون فقد عزلهم الجدار عن مزارعهم.. والمرضى أصبحوا فى ناحية والمستشفيات فى الناحية الأخرى ويفصل بينها وبينهم الجدار.. ولا يمكن لأحد أن يتخيل كيف تبدو مدينة كاملة من خلف الجدران التى تحيط بها وتخنقها وتخنق أهلها؟.. جنوب أفريقيا أزالت الجدار العازل وتحولت إلى دولة عادلة وديمقراطية وانتهى فيها عصر التمييز العنصرى، لكن ذلك لم يحدث إلا تحت ضغط المقاطعة والعقوبات الدولية الاقتصادية والسياسية، لكن إسرائيل - على العكس- تجد التشجيع والدعم بغير حدود من الولايات المتحدة..
ويقول جدعون ليفى أيضاً: إن محكمة العدل الدولية هى التى أصدرت قراراً بإدانة نظام الفصل العنصرى (الابارتايد) وبعد ذلك فرضت على جنوب أفريقيا العقوبات، وأدى ذلك إلى سقوط النظام العنصرى الحاكم.. فهل يمكن أن يتكرر هذا السيناريو مع إسرائيل..؟
ويقول أيضاً: إن صورة إسرائيل الأخلاقية تظهر جرائم الاحتلال والعالم يشاهد الفلسطينيين المسجونين فى جيوب خلف جدران وحواجز عسكرية تميز بين الناس بحسب أصولهم.. أليست هذه هى العنصرية؟
ويقول: خسارة أن إسرائيل لم تدرك أن كل واحد له الحق فى إقامة جدار لحماية نفسه، على أن يكون الجدار على أرضه وليس على أرض الغير، وبسرقة الأرض وظلم عشرات الآلاف من المدنيين والأبرياء.. والغريب أن المستشار القانونى للحكومة الإسرائيلية أضفى الشرعية على كل ما تفعله إسرائيل، والمحكمة العليا الإسرائيلية لم يصدر منها تحذير أو حتى كلمة تنبيه إلى الحق.
ويضرب جدعون ليفى مثالاً بقرية (خربة جبارة) المسجونة خلف الجدار من جميع الجهات.. وقرية (عزون) ستختفى خلف الجدار.. ومستوطنة (جيوس بيوتا) ستعزل عن قريتها الأم.
ويقول: فى ظل فشل مؤسسات العدالة والقانون فى دولة إسرائيل لم يعد هناك مخرج سوى اللجوء إلى الحل الدولى، كما حدث مع نظام جنوب أفريقيا العنصرى، إذ لم يدرك المستعمرون البيض من تلقاء أنفسهم أن نظامهم قائم على الظلم.. فهل يمكن أن يدرك الإسرائيليون أيضاً أن نظامهم قائم على الظلم.. وأن هذا الظلم كان يجب أن ينتهى منذ زمن؟.. والآن، وبعد 37 سنة من استمرار الظلم، وبعد أن تحول الاحتلال إلى هذه الدرجة من الوحشية.. وبعد أن فقد الإسرائيليون الوعى فلم يستوعبوا بشاعة ما يقومون به.. فهل ستصرخ الأرض الفلسطينية كما حدث فى جنوب أفريقيا؟.
ويذكرنا جدعون ليفى بصرخة آلان باتون أحد زعماء السود المضطهدين فى ظل النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا عندما صاح: اصرخى أيتها الأرض الحبيبة.. وكان هذا النداء الرافض للتمييز والفصل العنصرى ضد أصحاب البلد السود، هو بداية التغيير.. فهل يمكن أن تصرخ الأرض الفلسطينية..لكى يفيق الإسرائيليون ويدركوا بشاعة ما يفعلونه، أو أنهم ينتظرون إلى أن يصرخ العالم بعد نفاد الصبر واستحالة السكوت..؟
***
والكاتب الإسرائيلى زئيف تساحور كتب فى يديعوت أحرونوت يوم 13 يناير 2004 يقول إن خط بارليف الذى أقامته إسرائيل ليكون الخط الدفاعى الذى لا مثيل له للفصل بين المصريين وأرضهم المحتلة.. هل حقق الهدف منه..؟ إنه لم يحقق سوى تحقيق مزيد من الثراء للمقاولين الذين أصبحوا أغنياء على حساب ميزانية الدولة.. وفى النهاية انهار خط بارليف فى حرب أكتوبر 1973..
وقال أيضاً: إن المشكلة الحساسة تتمثل فى المغزى السياسى للجدار.. فإن مسار هذا الجدار سيحدد مسار الحدود المستقبلية بين دولة إسرائيل والدولة الفلسطينية، التى يكرر الأمريكيون القول بإقامتها فى نهاية العام القادم، والجدار يفرض واقعاً على الأرض، وتتصور الحكومة الإسرائيلية أن أحداً لن يجرؤ على هدم الجدار بعد الانتهاء من إقامته..
***
والجنرال إيفى إيتام زعيم حزب المفدال الدينى قال: (من يريد إثبات انتصار الحركة الوطنية الفلسطينية على الحكومة الصهيونية عليه أن ينظر إلى هذا الجدار الذى يعكف الجيش على إقامته حولنا.. أى إنجاز يريده الفلسطينيون أكثر مما حققوه بإجبارنا على الانغلاق خلف الجدران الأسمنتية والأسلاك الشائكة..؟).
وبنحاس فالنشتاين أحد قادة المستوطنين فى الضفة قال: إن هذا الجدار مثل جدار معسكر أوشفيتز، أكبر مراكز الاعتقال التى أقامها النازيون لليهود فى بولندا أوائل الأربعينات من القرن العشرين، والفارق أن أوشفيتز أقامه أعداؤنا، أما هذا الجدار فنحن الذين نقيمه لأنفسنا..!!
وعضو الكنيست إيلى كوهين ممثل مجلس المستعمرات فى الضفة وغزة فى حزب الليكود الحاكم قال: إن النتيجة الفورية لبناء ذلك الجدار هى وقوع عمليات ضد المستوطنين.. إننى أسمى هذا الجدار (الوهم).
***
فى أمريكا أيضاً مازالت هناك ضمائر حية.. وعلى سبيل المثال:
الكاتبان الأمريكيان جيرولد كيسيل وبير كلوكيندلر اللذان أقاما فى إسرائيل وقتا طويلاً لتغطية أحداث الشرق الأوسط والصراع الإسرائيلى الفلسطينى لشبكة (سى. إن. إن) كتبا فى صحيفة هيرالد تريبيون تحت عنوان (ليست خطة سلام)، قالا فيه إن شارون يريد إنهاء مبدأ الأرض مقابل السلام بخطته للانسحاب الأحادى الجانب وإقامة الجدار الفاصل، وهذه الصيغة مقصود بها تمييع الصراع وليس الحل.
***
أما المفكر الأمريكى الشهير ناعوم تشومسكى فقد كتب مقالاً فى واشنطن بوست يوم 24 فبراير الحالى بعنوان (الجدار محاولة لطرد الفلسطينيين، قال فيه: إن الحكومات الإسرائيلية تتخذ عادة حجة الأمن كلما قامت بعمل عدائى، ولو كانت إسرائيل قد أقامت الجدار فى أرضها داخل الخط الأخضر المحدد بعد حرب 1948 لما وجد اعتراضاً دولياً ولا كان مخالفاً للقانون الدولى.. لكن أمريكا تعارض اللجوء إلى محكمة العدل الدولية وبريطانيا تؤيدها فى ذلك.. ووزير الخارجية البريطانى أعلن أن الجدار غير قانونى، ولكنه فى نفس الوقت اعترض على عرض الأمر على محكمة العدل الدولية.. وسبق أن توجهت لجنة تحقيق بريطانية إلى بناء السور على الأرض الإسرائيلية وأدانت المسار الحالى باعتباره جزءاً من استراتيجية إسرائيل للاستيلاء على الأراضى والسيطرة على الفلسطينيين.. إن هذا الجدار حوَّل المناطق الفلسطينية إلى زنزانات تبدو المعازل التى كانت فى جنوب أفريقيا إلى جانبها رموزاً للحرية والسيادة والاستقلال (!) لقد خلقت مشروعات إسرائيل خمسين جيباً فلسطينياً منفصلاً فى الضفة، وقرر البنك الدولى أن الجدار سوف يؤدى إلى عزل 250 ألف فلسطينى. أى أكثر من 10% من السكان، وسوف يؤدى إلى خصم 10% من أراضى الضفة، وسيؤدى إلى تمزيق الضفة الغربية إلى 16 قطعة معزولة، ولن يتبقى للفلسطينيين سوى 42% من أراضى الضفة وهى المساحة التى سبق أن أعلن شارون أنه مستعد للانسحاب منها لإقامة الدولة الفلسطينية عليها. والأراضى التى يقتطعها الجدار من أراضى الفلسطينيين هى الأكثر خصوبة، وفيها موارد المياه المهمة بينما يعيش الفلسطينيون أصحاب الأرض محرومين من المياه للشرب.. وإسرائيل تعتزم نقل 7500 مستوطن من قطاع غزة للإقامة على الأرض الفلسطينية المستولى عليها بينما يعيش مليون فلسطينى فى حالة بائسة من نقص المياه، وأصبحت غزة عبارة عن سجن.. وبعد هدم مدينة رفح سوف يستحيل على الفلسطينيين الاتصال بمصر عن طريق البر.. وطبعاً هم ممنوعون من الخروج عن طريق البحر.
يقول تشومسكى: إن تسمية هذه السياسة بأنها سياسة إسرائيلية هى تسمية مضللة، لأنها سياسة إسرائيلية أمريكية.. والمساندة العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية لإسرائيل هى التى مكنت إسرائيل من تنفيذ هذه السياسة.. وإسرائيل رفضت وترفض عروض السلام بمساندة أمريكا.. وأمريكا استخدمت وتستخدم الفيتو لإجهاض أى قرار يمس إسرائيل حتى القرار الخاص بالتسوية على أساس دولتين..
يقول تشومسكى: إن محكمة العدل الدولية سوف تقرر فى الغالب أن هذا الجدار غير شرعى.. لكن ذلك لن يغير شيئاً.. ولن تكون هناك فرصة حقيقية لأية تسوية سياسية ولتحسين أحوال المعيشة للفلسطينيين إلا حين تريد الولايات المتحدة..
هذا ما يقوله العرب.. والإسرائيليون.. والأمريكيون..
فهل تريد أمريكا - حقاً - التوصل إلى تسوية عادلة.. وهل تريد تحسين معيشة الشعب الفلسطينى البائس..؟
وإذا كانت تريد.. فمتى؟!
***
وأرجوك أن تتأمل الرسم الذى نشرته هيرالد تريبيون نقلاً عن واشنطن بوست ووضعت له عنواناً (جيران السوء يقيمون أسواراً سيئة) وعلقت على الخريطـة بكلمات ساخرة قالت فيها: إنك الآن لن تستطيع إيجاد طريقك حتى ولو كانت معك خريطـة الطريق (!)
أرادت أن تقول إن حكومة إسرائيل تصنـع متــاهة لا تؤدى إلى حل.
وحتى لو صـدق القول بأن أمريكا فى يدها 99% من أوراق الحـل.. فماذا فعل العرب بما تبقى فى أيديهم من أوراق؟!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف