الدبلوماسية الثقافية والاستراتيجية الأمريكية لاحتلال العقول
خصص الكونجرس الأمريكى 40 مليون دولار لبرامج الإعلام والثقافة الموجهة إلى العالم العربى، وجاء فى قرار الكونجرس أن الهدف من ذلك تغيير أفكار العرب الرافضة للاحتلال والسيطرة الأمريكية، وتحويل مشاعرهم إلى الإعجاب بالنموذج الأمريكى للحياة American Style Of Life وبالثقافة الأمريكية، وبالسياسة الأمريكية، وبالنظـام الاقتصادى الأمريكى، وباختصار الهدف بصراحة هو احتلال العقول، بعد أن أدركت الإدارة الأمريكية أن الاحتلال العسكرى والهيمنة السياسية والسيطرة الاقتصادية لن تكتمل إلا بالسيطرة على العقول والمشاعر والأفكار!
ولتحقيق هذا الهدف لم تعد إذاعة صوت أمريكا تكفى، ولذلك ظـهرت محطـة إذاعة (سوا) الأمريكية تتحدث باللغة العربية ولا تقدم سوى الأغانى ومواد الترفيه لصرف أذهان المستمعين عن الاهتمام بما وصل إليه حالهم فى ظل الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق، والضغوط السياسية والاقتصادية على كل الدول العربية، وتغرقهم فيما يسميه خبراء الإعلام (المخدرات الثقافية).
وظهرت أيضا قناة فضائية باسم (فى الهوا سوا) موجهة للشباب لتفكيك القيم العربية المتعلقة بالعيب والحرام، وظهرت معها أكثر من قناة تليفزيونية تعرض طول الوقت الأفلام والمسلسلات المليئة بمشاهد الجنس والإثارة والجريمة، وسوف تظهر قريبا قناة أخرى باسم (حرية) تبث برامجها من إحدى الولايات المتحدة الأمريكية، وكما يقول أستاذ علم الاجتماع الدكتور ياسر خضير فإن بعض الفضائيات أصبحت أشبه بالكباريهات والنوادى الليلية لا تقدم لجمهورها سوى الإثارة الجسدية، مما يشير إلى أن هناك (صناعة ثقافية إعلامية) مسمومة لا تسعى إلى تأكيد القيم الإسلامية والعربية والوطنية.. بل إنها تعمل بوعى وذكاء وإصرار على تسطيح الفكر العربى، وخلق الوعى المشوه والمبسط، وهدر الوقت، وقتل روح الوطنية ومقاومة السيطرة الأجنبية لدى الشباب بصفة خاصة، والشباب يمثل أكثر من نصف المجتمع المصرى والعربى، أى أن عقول الجيل القادم ستكون صناعة أمريكية.
وحتى الآن لم يتنبه أحد بالقدر الكافى إلى خطورة هذه الاستراتيجية الأمريكية، ولم يفكر أحد بجدية فى تنفيذ استراتيجية لحماية العقول من هذا الغزو، ولا نرى ولا نسمع سوى كتابات وأصوات مصرية وعربية تسخر من كل من يقول بوجود غزو ثقافى أو استراتيجية للسيطرة على العقول، وتوجه لكل من ينبه إلى هذا الخطر اتهامات جاهزة بالتخلف، ومعاداة التطور والانفتاح والعولمة، وغير ذلك من قائمة الاتهامات الطويلة التى يجيدون صياغتها وينشرونها من خلال مراكز بحوث، وصحف، وندوات وحلقات بحث كلها ممولة من الخارج.
وليس غريبا أن يخصص الكونجرس مليون دولار لمركز ابن خلدون فى مصر، وليس غريبا أيضا أن يخصص هذا المركز حلقة بحث عن أخطاء أئمة المسلمين باسم التنوير وحرية البحث العلمى، وليس غريبا أيضا أن يركز هذا المركز على موضوع الأقليات وتغذية التوتر والنزعات الانفصالية بينها.
وليس غريبا فى ظل الاستراتيجية الأمريكية أن تخصص ملايين الدولارات لاستضافة الصحفيين والفنانين والمثقفين، وقد عاد بعضهم معلنا أن هذا البرنامج كان هدفه تغيير أفكارهم تجاه السياسة العدوانية الأمريكية والإسرائيلية تجاه العرب.
وليس غريبا أن تصدر صحف وتجند أقلام لتبرير الغزو العسكرى الأمريكى للعراق والدفاع عن السياسة الأمريكية تجاه العالم العربى التى يعترف الأمريكيون أنفسهم بأنها سياسة امبريالية.. حتى أصبح من بيننا أمريكيون أكثر حماسا لهذه السياسة من الأمريكيين أنفسهم!
وليس غريبا أن يتحرك السفير الأمريكى فى القاهرة لمطاردة كل من يكشف حقيقة النوايا الأمريكية الحالية تجاه العرب والمسلمين ويكتب محذرا ومنذرا من الإشارة إلى كتب صدرت فى أمريكا وأوروبا تكشف هذه النوايا الأمريكية.
ويكشف تحليل علماء الاجتماع للمواد الثقافية والإعلامية الأمريكية الموجهة للعالم العربى أن القاسم المشترك فيها هو التركيز على القيم الفردية، وسلطة المال والنساء، والنهم فى الاستهلاك، وعدم الاكتراث بالقضايا العامة، والتمرد، وإثارة الغريزة، والإغراء على الانحراف، وكلها مفردات تتعمق فى إدراك الفرد وسلوكه، وتؤثر قطعا فى الشخصية المصرية والعربية والإسلامية عن طريق المحاكاة والتقليد وعمليات التطبيع الاجتماعى، والنتيجة فى النهاية تفكك الشخصية، وتحول الفكر، وضعف الولاء للوطن وللمجتمع.
***
من أهم الدراسات التى حددت أبعاد الاستراتيجية الجديدة لاحتلال العقول وكشفت عن نوايا ووسائل السياسة الأمريكية الدراسة التى نشرتها مجلة فورن أفيرز فى عدد نوفمبر- ديسمبر 2003 بعنوان (الدبلوماسية الثقافية والتأثير على الشعوب). وتبين هذه الدراسة كيف تعمل المخابرات الأمريكية ووزارة الخارجية على التأثير على الرأى العام فى دول العالم، وخاصة فى الدول العربية والإسلامية. وأهمية الدراسة ترجع إلى أنها من إعداد دبلوماسية بارزة عملت مؤخرا عضوا بمجلس العلاقات الخارجية، هى السفيرة هيلينا فين Helena Finn . ولا يقلل من أهميتها أنها تقول إن ما جاء فيها يعبر عن آرائها الشخصية، لأن هذه الآراء فى النهاية محصلة معرفتها عن قرب بما يدور فى دهاليز السياسة الأمريكية.
تقول الدراسة: إن المخابرات الأمريكية كانت فى سنوات الحرب الباردة تقوم مع قسم العلاقات الثقافية بوزارة الخارجية بتمويل نشاط الدبلوماسية الثقافية، ومن خلال التبادل الثقافى الذى كانت ترعاه المخابرات والخارجية كان يتم التداخل والالتحام مع الجماهير فى مختلف الدول، ويتم بذلك الانتصار على الأعداء الأيديولوجيين، وكان صناع السياسة الأمريكية يدركون أهمية هذه الوسائل الثقافية، ويعتبرونها نشاطا متصلا بالأمن القومى الأمريكى. لكن صناع السياسة الأمريكية الآن يعتقدون أن القوة العسكرية أصبحت هى الخيار الوحيد لقمع الإرهاب الإسلامى الراديكالى، ولو أنهم تذكروا ما كان يفعله أسلافهم لكان ذلك أفضل، لأن الحوار والتأثير فى الناس من الأمور الضرورية للفوز بقلوب وعقول العناصر المستعدة للتعاون فى هذه المجتمعات الراديكالية.
والشباب فى هذه المجتمعات محروم من حقوقه الأساسية، ولذلك بدأ فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فى البحث عن وسيلة لنيل هذه الحقوق، وكانت الشيوعية هى الإغراء، وتنبه المسئولون الأمريكيون إلى ذلك، فلم يسمحوا لهذه النزعة بالاستمرار، وصعّدوا الحملة على الشيوعية من خلال الثقافة والاتصال والإعلام، وقادوا حملة أيديولوجية ناجحة، وقليلون هم الذين يقدّرون إلى أى مدى ساهم نشر الثقافة الأمريكية فى القضاء على الشيوعية، سواء كان ذلك بمشاركة المواطنين فى هذه الدول فى البرامج الأمريكية للتبادل الثقافى والرحلات، أو حضور المحاضرات الثقافية التى كانت تنظمها المراكز الثقافية الأمريكية ووكالة الإعلام، أو حتى بالاستماع إلى إذاعة صوت أمريكا. أما اليوم فإن الشباب فى العالم الإسلامى مشوش بدرجة كبيرة، ويشعر بأزمة هوية، وناقد لحكامه الفاسدين المستبدين، ولا يجد السلوى إلا فى أيديولوجية متطرفة تقدم له الوعود بحياة أفضل، وليس على الولايات المتحدة سوى مواصلة نجاحها فى الماضى، بأن تقدم لهؤلاء البديل الأمريكى أكثر إغراء. وإذا كان المسلمون الأثرياء يدعمون وجهة نظر عالمية غير عملية ومهجورة، بتوفير تعليم تقليدى للشباب فى المدارس الدينية فى العالم الإسلامى، فلماذا لا تعمل الحكومة الأمريكية على إيجاد مؤسسات تعليمية أخرى؟ خاصة أن الأسرة فى الدول الإسلامية فقيرة، وفيها أطفال كثيرون، ولذلك فإنها ترسل أبناءها إلى المدارس ليس فقط للتعليم، ولكن لأن فى هذه المدارس أماكن لإيواء الأبناء.. ففيها حجرة، وسبورة، بجانب التعليم الدينى، وإن كان معظم الآباء يفضلون أن يتعلم أبناؤهم الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والكيمياء، والتاريخ، والأدب، وتكنولوجيا الحاسب الآلى، ولكنهم لا يجدون الفرصة لذلك، وإذا وجدوا البديل الحقيقى فإن الولايات المتحدة تستطيع من خلاله الاشتباك مع التطرف على أرض الواقع، وأن تهزمه.
***
وتقول هيلينا فين: فى السنوات الأخيرة ازداد الشعور المعادى لأمريكا فى العالم، وتمركز فى الشرق الأوسط، ولكى نتمكن من تغيير اتجاه هذا الفيض من الشعور المعادى يجب أن تبدأ الولايات المتحدة فى العمل على الفور فى إنشاء جسور اتصال بالأغلبية الصامتة فى العالم الإسلامى غير القوة العسكرية، أو الدبلوماسية التقليدية. وهذا الشعور المعادى لأمريكا الذى نشهده اليوم هو تعبير عن حالة الغليان الناتج عن الإحباط الشديد، الذى يزيد من شدته شعور المسلمين بأنهم تخلفوا عن الشعوب الأخرى، وبدلاً من اعتقاد صناع السياسة الأمريكية بأن الإسلام بطبيعته أكثر عنفًا من الأديان الأخرى، عليهم أن يدركوا أن هناك أسباباً للاستياء المنتشر فى الشرق الأوسط، ويحاولوا تقديم حلول عملية للتعامل مع هذه الأسباب، ويأخذوا من تجربة الدبلوماسية الثقافية التى حققت النجاح فى الحرب الباردة، ويطوروا جهودهم للتكيف مع الظروف الجديدة، ومع الأعداء الجدد الذين يواجهونهم.
***
وتحت عنوان (تغيير ثقافى) تقول السفيرة هيلينا فين: عندما تولت الولايات المتحدة القيادة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية كانت تعتبر الدبلوماسية الثقافية جزءًا أساسيًا مـن استراتيجيتهـا، وساندت المخابرات الأمريكية الأنشطة الثقافية بالخـارج. حيث نظمت مؤتمرات وقامت بتمويل الإصدارات الثقافية والفكرية، واستمرت هذه الأنشطة فى الخمسينات تحت رعاية وكالة الإعلام الأمريكية
(U. S. Information Agency (USIA
التى كانت جديدة فى ذلك الوقت، ولكن فى نهاية الحرب الباردة غيرت الولايات المتحدة اتجاهها، واعتقد كثيرون فى واشنطن أن انهيار الاتحاد السوفيتى كان فرصة لإنهاء التدخل الثقافى الأمريكى فى الخارج، وفى التسعينات كان الكونجرس ذا نزعة انعزالية، ولم يتناسب فهمه للعالم مع الحقائق الجديدة للقوة الأمريكية، فعارض الفكرة التى كانت ترى ضرورة قيام أمريكا بنشر أفكارها وقيمها، فقرر تخفيض عدد مراكز الخدمة الخارجية، مما ترك معظم السفارات الأمريكية تعمل بأعداد قليلة من المتخصصين فى الاتصالات والدبلوماسية العامة، كما أغلقت المراكز الثقافية الأمريكية، وكان الإحساس العام السائد فى واشنطن أن الولايات المتحدة عليها أن تتخلى عن أسلوب التفاعل الشخصى وتتوسع فى الاعتماد على الاتصالات الإلكترونية، وذهب تفكير الإدارة والكونجرس إلى أن التكنولوجيا وحدها تستطيع أن تقوم بالمهمة، حتى أن روس بِيروت تساءل: لماذا نحتاج إلى الدبلوماسيين..؟. أرسلوا ما تريدون بالفاكس وينتهى الأمر!.. وهكذا عندما احتدمت الحرب فى البلقان أغلقت الحكومة الأمريكية المكتبة الأمريكية فى بلجراد، وهى من الأماكن القليلة التى كان الصرب يستطيعون من خلالها الوصول إلى المعلومات عن العالم الخارجى، وعندما شدد العلمانيون والمتشددون صراعهم فى تركيا من أجل تأكيد روح تركيا، أغلقت المكتبة الأمريكية فى أنقرة، وكانت المكان الوحيد الذى يستطيع الأكاديميون والباحثون الشبان التعرف عن طريقه على آخر الإصدارات الأمريكية، ويلتقون بالمفكرين الأمريكيين. وعندما تم تنفيذ اتفاقية دايتون التى أنهت الحرب الأهلية فى يوجوسلافيا السابقة أغلقت الولايات المتحدة مركزها للدبلوماسية الذى كان قد تم بناؤه فى فيينا على أرض محايدة، وكان يعمل على التوفيق بين الكروات والصرب وبين مسلمى البوسنة والهرسك. وعندما سادت القوى الرجعية فى باكستان أغلقت الحكومة الأمريكية المركز الثقافى الأمريكى فى العاصمة إسلام أباد، مما أدى إلى تقوية خصوم سلمان رشدى الذين هاجموه قبل ذلك بسنوات.
***
وتقول هيلينا فين: إنه لا تمكن المبالغة فى قيمة هذه المراكز الثقافية الأمريكية فى تكوين رأى عام إيجابى، وتعميق الصورة الإيجابية عن الولايات المتحدة باعتبارها امتدادا للعمل الدبلوماسى الأمريكى المنتشر فى كل ركن فى العالم، إلا أن هذه المراكز لم تكن مجرد مكتبات فقط، على الرغم من أن ذلك وحده مبرر كاف لوجودها، ولكنها بالإضافة إلى ذلك أنشأت جسورا للتواصل بين الجماهير المحلية فى كل بلد والخبراء الأمريكيين فى مختلف المجالات ابتداء من القضايا السياسة حتى تنظيم النسل، وعلى سبيل المثال فقد كان المركز الأمريكى فى أنقرة ملتقى الأتراك من مختلف الاتجاهات.. من الحكومة، ووسائل الإعلام، والمراكز الأكاديمية مع الباحثين والدبلوماسيين الأمريكيين. ومن خلال تبادل الآراء والتفاعل كان من الممكن بناء صورة إيجابية عن الولايات المتحدة وسياساتها ومواقفها وثقافتها وقيمها، وكانت فى كل هذه المراكز أماكن للاجتماعات العامة والمعارض تجذب الشباب والمثقفين وقادة الرأى العام والسياسيين والمهنيين! ولكن هذه المراكز كانت ضمن ضحايا خفض الميزانية فى التسعينات، وكانت هذه سياسة قصيرة النظر، أدت إلى تدهور أحوال هدف المراكز، وتحولت إلى مجرد وحدات للمعلومات وأماكن تسهل للجمهور للاتصال بالإنترنت، ولم يعد الطلبة يترددون عليها للبحث وكتابة المذكرات، وفقد الصحفيون منتدى كان مليئاً بالحيوية وبالمناقشات حول القضايا الخارجية والداخلية والاقتصادية يشارك فيها الخبراء والدبلوماسيون الأمريكيون، وكأن أمريكا قد قررت أن الجماهير الأجنبية لا تستحق التحدث إليها والحوار معها.
***
وتحت عنوان (أعباء إمبريالية) تقول هيلينا فين: إن الموارد المتخصصة للدبلوماسية العامة والدبلوماسية الثقافية أصبحت غير مناسبة على الإطـلاق فى عهد الرئيس رونالد ريجان، والآن زادت ميزانية وكالة الإعلام الأمريكية على مليار دولار سنويًا، وبلغت ميزانية الدبلوماسية العامة أقل من ثلاثة أرباع المليار دولار، ولا شك فى أن استثمار أمريكا لهذه المبالغ فى مجالات العلاقات والاتصالات والدبلوماسية سيؤدى إلى منع الصراعات والحروب التى تتكلف أضعاف هذه المبالغ.
وتقول: إن الولايات المتحدة هى أعظم قوة عسكرية ظهرت منذ الامبراطورية الرومانية. ويعتبر تدخلها فى الشئون الخارجية الدولية مسألة مهمة فى تشكيل النظام العالمى الحالى، بما لا يقل عن درجة الأهمية التى كانت لتدخل القوى الإمبريالية فى الماضى، ولكن الامبراطوريات السابقة.. اليونانية، والرومانية، والبيزنطية، والعثمانية، والبريطانية، بل حتى المنغولية أخذت مسئوليتها الإمبريالية بجدية، بحيث قامت بإنشاء الطرق والكبارى، والمدارس، والمستشفيات، والترع ونظم الرى، بل الحمامات العامة والمسارح، ولكن الولايات المتحدة رفضت - بحكمة - لغة الامبراطورية والترتيبات الرسمية لها، ولكنها- أيضا - أهملت مسئوليتها كدولة ديمقراطية وعضو فى العائلة الدولية. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد تقديم صورة أفضل لنفسها عبر البحار، فإن عليها أن تركز نشاطها فى هذا الخصوص على خمسة مجالات هى: تشجيع الإصلاحات التعليمية فى الدول الخارجية، وزيادة برامج التبادل الخارجى الموجودة، وتحسين وسائل وصول الناس فى الدول الأخرى إلى المؤسسات والقيم الأمريكية، وتشجيع تفاهم ثقافى أفضل بين الشعوب وأمريكا، وإحياء البرامج الأمريكية التطوعية للخدمة فى الخارج. وأن تساعد الولايات المتحدة على وضع نظم تعليمية مستنيرة فى الدول الواقعة تحت تهديد التطرف وذلك من خلال تدريب المعلمين، وتطوير المناهج، وترجمة الكتب. وكذلك يجب على الولايات المتحدة التوسع فى برامجها الخاصة بالتبادل الثقافى، وإن كان برنامج فولبرايت يقدم حاليا فرصة للدارسين والأكاديميين الأجانب للحصول على درجات أعلى فى الولايات المتحدة، ويسمح للأكاديميين الأمريكيين بقضاء عام بالخارج فى العمل فى مشروعات تعليمية مفيدة، إلا أن ذلك لا يكفى، وتجب زيادة برامج (الزائر الدولى) و(الزائر التطوعى) التابعة لوزارة الخارجية لإعطاء الفرصة للشباب من القادة السياسيين، والأكاديميين، والصحفيين، والمفكرين، والشخصيات المشتغلة بالثقافة، للسفر إلى الولايات المتحدة للاحتكاك بالمؤسسات الأمريكية، والالتقاء بنظرائهم، كذلك يجب تشجيع برامج التبادل بين الشباب، وزيادة المنح المخصصة فى هذه البرامج للشباب فى الدول الإسلامية حتى يستطيع طلبة المرحلة الثانوية فى هـذه الــدول قضاء عام مع عـائلة أمريكيـة. وربمـا يشير النقــاد إلى أحــداث 11 سبتمبر باعتبار أن عددًا من مرتكبيها قضوا فترات طويلة من الزمن فى الولايات المتحدة، ويرتبون على ذلك أن التبادل الثقافى لا يحقق أهدافه بنجاح دائمًا، والذين أنهوا تعليمهم ربما لا يكون فى الإمكان إصلاحهم، ولكن الأدلة كثيرة على أن برامج التبادل الثقافى أفادت فى خلق انطباعات إيجابية عن الولايات المتحدة فى الخارج، وساعدت على تعميق نوع من التفاهم يحقق مصالح الولايات المتحدة على المدى الطويل.
***
وتضيف هيلينا فين: إن على الحكومة الأمريكية زيادة برامج تعريف الشعوب الأجنبية بالقيم الأمريكية، ويجب أن تفتح المراكز الأمريكية أبوابها من جديد لكى تتيح الفرصة أمام الشباب المهتم بالمعرفة عن ثقافة وعلوم وفنون وتقدم الولايات المتحدة، ويجب أن تهتم هذه المراكز بتعليم اللغة الإنجليزية، وتوفير الخدمة الاستشارية للطلبة، وتنشيط برامجها الناطقة باللهجة الأمريكية، وذلك حتى يستطيع الأكاديميون والمحللون السياسيون والأدباء والصحفيون الأمريكيون مخاطبة هؤلاء الأجانب وتقديم آرائهم إليهم، والحوار معهم. ويجب أن تعيد وزارة الخارجية إحياء قسم الفنون، حتى يمكن تقديم الفنانين الأمريكيين من خلال معارض لأعمالهم فى الخارج، خاصة فى الدول التى يكون التواجد الثقافى الأمريكى فيها قليلا، ويجب عليها أيضًا أن تعيد تنشيط برامج ترجمة الكتب حتى يستطيع المعلمون والطلبة الأجانب الوصول بلغتهم إلى الإصدارات الأمريكية الأكثر نفوذا، وعلاوة على ذلك يجب تعزيز الجهود لتحسين التفاهم الثقافى داخل أمريكا أيضًا، لأن إحدى القضايا التى تثير القلق للهيمنة الأمريكية على العالم أن الكثير من الشباب الأمريكى يبدو وقد فقد فضوله واهتمامه بالثقافات الأخرى، وإذا لم يتعرف الأمريكيون على ما يحدث خارج أمريكا فإنهم سوف يكونون أسرى لافتراضات خاطئة عن العالم وعن السياسة الخارجية الأمريكية. ويشير المؤرخ الإمبريالى الجديد (نيال فيرجسون Niall Ferguson) إلى أن البريطانيين ظلوا عقودا من الزمن يتواصلون مع المستعمرات، ولكن يبدو أن الأمريكيين يفتقدون الاهتمام بالدول الأخرى فى وقت تتولى فيه الولايات المتحدة مسئوليات بناء هذه الدول الأخرى، وعلى سبيل المثال فليس لدى الشباب الأمريكيين أية فكرة عن أن الأتراك والإيرانيين ليسوا من العرب، وأن معظم المسلمين فى العالم يعيشون فى شرق وجنوب ووسط آسيا.
***
وتحت عنوان (القوة البشرية) تقول هيلينا فين: إن الولايات المتحدة عليها أن تدرك أن العالم ينتظر ليرى ما إذا كانت قوة أمريكا العسكرية ستصاحبها جهود قوية لإصلاح المجتمعات المدمرة، وعمل يعكس قيام أمريكا بمسئوليتها الإنسانية، ولذلك تجب إعادة برنامج نشر المعرفة باللغة الإنجليزية فى أنحاء العالم عن طريق تطوع آلاف من الشباب الأمريكى لهذا العمل، وهؤلاء الشباب بتواجدهم فى الدول والمجتمعات المختلفة يكتسبون خبرات عظيمة تفيدهم، وتفيد أمريكا باعتبارها مخزونا من الخبرة يحقق الثراء للمجتمع، وقد حصل كثير من هؤلاء الشباب على درجة الدكتوراه فى اللغات مثل الفارسية، والعربية، والتركية، والصينية، ووصل عدد منهم إلى أعلى الدرجات فى السلك الدبلوماسى الأمريكى.
وتقول هيلينا فين: يجب أن يكون شرطا فى اختيار أى دبلوماسى للعمل فى الخارج أن يكون على معرفة كاملة باللغة والثقافة فى البلد الذى سيعمل فيه، لأن الدبلوماسية الثقافية لن تكون ناجحة إلا إذا تولى تنفيذها أشخاص لديهم مهارات تلائم المجتمعات التى يعملون فيها، والدبلوماسية هى طريق ذو اتجاهين، ولكى تكون الدبلوماسية مؤثرة وناجحة وفعالة يجب أن يكون الدبلوماسى على معرفة جيدة باللغة، والثقافة، والتاريخ للدولة التى يعمل فيها، ويجب أن يتمتع بالقدرة على الاستماع، وعلى ذلك فإن على الحكومة أن تسارع بزيادة المنح لتعليم الدبلوماسيين اللغات المهمة، وتجنيد الشباب ذوى المهارات اللغوية للعمل فى السلك الدبلوماسى.
وتقول: إن المخابرات الأمريكية، والخارجية الأمريكية، ارتكبتا نفس الخطأ فى التسعينات عندما اعتمد مجتمع المخابرات بشكل أساسى على المعلومات المستقاة من مصادر إلكترونية، وقلة المعلومات التى يتم جمعها للمخابرات عن طريق أشخاص حقيقيين مباشرة، وعندما قامت وكالة الاستعلامات الأمريكية باستخدام التكنولوجيا بدلاً من المراكز الثقافية، وكان نتيجة ذلك أن رؤساء تحرير الصحف فى الدول الأجنبية الذين يوجهون النقد للسياسة الأمريكية لم يعودوا يستقبلون الملحق الصحفى الأمريكى، أو يتلقون دعوات لزيارة الولايات المتحدة، ولكنهم بدلا من ذلك يتلقون رسائل بالبريد الإلكترونى، وهكذا فقد الأمريكيون وسائل الاتصال الشخصى، مع أن التقدم التكنولوجى مهما تكن أهميته لا يمكن أن يكون بديلا للعلاقات الإنسانية، وعندما سئل الدبلوماسى المحنك دينيس روس عن الشىء الذى كان سيفعله خلال السنوات العديدة التى شارك خلالها فى عملية السلام فى الشرق الأوسط، أجاب: المزيد من الاتصالات الشخصية.
***
وفوائد إبداء الاهتمام بالناس فى الدول الأخرى ظهرت بوضوح فى نجاح برنامج جديد للدبلوماسية الثقافية هو (صندوق السفير للوقاية الثقافية)، ومن هذا الصندوق يتم إعطاء منح تصل إلى عشرين ألف دولار لأحسن الأعمال الثقافية والفكرية التى يتقدم بها أصحابها فى مسابقة سنوية، ثم يعلن السفراء الأمريكيون فى الدول أسماء الفائزين ويقدمون إليهم المنح، والسفراء الأمريكيون متحمسون لهذا البرنامج، لأنه يجعل هؤلاء المثقفين فى الدول الأجنبية يشعرون بأن الولايات المتحدة تقدر ثقافتهم، وخاصة فى الدول التى تكون الآثار الثقافية فيها معرضة للخطر بسبب الإهمال أو التعرية البيئية والهجوم والعبث، وتقديم معونات لهذه المشروعات وحماية هذه الآثار يكون لها تأثير كبير على مكانة أمريكا فى الدول المهمة لأمريكا.
وتختم هيلينا فين بحثها بقولها: إن الدبلوماسية الثقافية هى سلاح من أقوى الأسلحة التى يمكن أن تستخدمها أمريكا، ومع ذلك فقد جاءت فترة نظرت فيها الحكومة الأمريكية إلى الدبلوماسية الثقافية باستهانة فى خضم زهوها بالاستعراضات المثيرة للقوة العسكرية الأمريكية، بينما الأجدى أن تدرك الحكومة أن الفوز فى الحرب ضد التطرف والإرهاب سيتحقق حين يوجد الولاء لأمريكا فى الدول والمجتمعات الأجنبية، وحين يقتنع الرأى العام فى هذه الدول بالمشروع الأمريكى.
***
عشرات الكتب والدراسات والأبحاث، ومئات الباحثين ومراكز الأبحاث ورجال فكر وأكاديميون فى الولايات المتحدة يعكفون على تحليل صورة أمريكا فى كل دولة من دول العالم، خاصة بعد غزو أفغانستان والعراق، وانكشاف سلسلة الأكاذيب التى صاحبت الحرب وتكررت على ألسنة القادة الكبار، وهذه الجهود العلمية وهدفها تحليل أسباب الغضب السائد فى العالم على السياسة التى تذيعها الإدارة الأمريكية الحالية والتى تتسم بالعدوانية والانفرادية، والتحدى، والغطرسة، والحديث للعالم بلغة القوة، كما قال المرشح الديمقراطى للرئاسة جون كيرى.
وقد عبّر عن هذه الحالة مفكر أمريكى معروف هو بيتر بيترسون وهو عضو مؤثر فى مجلس العلاقات الخارجية ويرأس فريق العمل الخاص ببرنامج (الدبلوماسية العامة) الذى يعمل على الترويج للسياسات الأمريكية والتأثير فى عقول الشعوب لتغيير النظرة السلبية إلى نوايا أمريكا.. وقد كتب مقالا بعنوان (مشكلة أمريكا أن صورتها تحمل مخاطر حقيقية) قال فيه: إن الإدارة الأمريكية تنفرد بوضع السياسة الدولية وتتجاهل شركاءها وحلفاءها، ولا تفكر فى أثر هذه السياسة فى الخارج، وتحاول إكراه الجميع على الاقتناع بها والمصالح الأمريكية يمكن تحقيقها بصورة أفضل بالدبلوماسية العامة التى تركز على إقناع شعوب العالم بأن الحرب فى العراق وأفغانستان وغيرها هى لصالح هذه الشعوب ذاتها، كما هى لصالح أمريكا (!) ويلزم لذلك أن يشارك المسئولون عن الدبلوماسية العامة فى صنع السياسات، لكى يوضع فى الاعتبار كيفية التأثير على الرأى العام الخارجى، وعلينا أن ندرك أن اتجاهات الرأى العام فى الخارج يمكن أن تعوق وصول أمريكا إلى تحقيق أهدافها وتنفيذ سياستها، لذلك تجب دراسة ردود أفعال الدول والشعوب تجاه التحركات الأمريكية، وإذا قررت الإدارة الأمريكية القيام بعمل سياسى أو عسكرى فسوف يثير الكراهية لدى الدول والشعوب فى الخارج، وعليها أن تعد خطة مصاحبة لإقناع هذه الدول والشعوب بأن ما تفعله هو الصواب ولخير الجميع وليس لتحقيق أطماع أمريكية، ولكن ما يحدث أن الإدارة الحالية تعمل على خلق الصدامات حتى مع أفضل أصدقائها، وظهرت سياستها مرتبكة وسببت الارتباك للآخرين، وكان الرفض المفاجئ لمعاهدة كيوتو البداية، وتبعه نبذ المحكمة الجنائية الدولية والإصرار على استثناء الجنود الأمريكيين من المحاسبة على جرائم الحرب التى يرتكبونها دون جميع جنود دول العالم.
ويقترح بيتر بيترسون على إدارة بوش تشكيل مجموعة عمل لوضع استراتيجية للدبلوماسية العامة وتنفيذها لكسب ثقة وتأييد العالم، كما يقترح عليها الاستماع إلى ما تقوله الدول والشعـوب على نحو أفضل مما تفعله الآن، وهذه الإدارة خصصت 5 ملايين دولار لدراسة الرأى العام الخارجى وهذا المبلغ لا يكفى، وكذلك لا تكفى المبالغ المخصصة لجولات أعضاء الكونجرس وحكام الولايات للاتصال بمفاتيح الرأى العام فى الخارج، وإجراء حوارات مع القادة السياسيين وقادة الرأى العام، وإذا لم تنفذ الولايات المتحدة برامج الدبلوماسية العامة بجدية، فإن الشعور المعادى لأمريكا فى العالم سوف يتحول من مشكلة سياسية إلى كارثة وسيجد الأمريكيون أنفسهم وحدهم فى العالم، وهذا بالضبط ما يريده أسامة بن لادن، والأمر الواقع الآن أن صورة أمريكا فى دول أوروبا وحتى فى دول الشرق الأقصى، أنها دولة وصلت إلى درجة الغرور والنفاق والأنانية وازدراء الآخرين.
***
وفى مصر عقد فى يونيو 2003 مؤتمر ضم قيادات القطاع العام والخاص، استمر ثلاثة أيام شارك فيه السفير الأمريكى، ونائب رئيس الوكالة الأمريكية بالقاهرة وكان هدفه (مساندة الولايات المتحدة للقيادات المؤثرة فى مصر)، كما جاء فى نشرة الأنباء التى تصدرها السفارة الأمريكية.
***
هذه هى الدبلوماسية الثقافية التى تتبعها الولايات المتحدة لتكون مساندة للحروب العسكرية والسياسة الامبريالية وممهدة لها .
ولعل السادة الكتاب والمفكرين الذين ينكرون وجود استراتيجية ونوايا وأهداف أمريكية للسيطرة على العقول يقرأون هذه الدراسة، ويقرأون ما بين السطور، ليدركوا أن استرتيجية إدارة الرئيس بوش وديك تشينى ورامسفيلد وكوندوليزا رايس وولفوتز وبقية صقور واشنطن لا تقتصر على الغزو العسكرى والضغوط الاقتصادية على العرب فقط..
وإذا لم ننتبه، ونتحرك، فقد يكون صعبا بعد ذلك استعادة العقول العربية، وربما يصبح ذلك مستحيلا!