السياسة الأمريكية.. تناقض وانفصام فى الشخصية!
تحت شعار القضاء على الإرهاب والنظم الدكتاتورية ورسالة أمريكا بنشر الديمقراطية فى أنحاء العالم، بررت أمريكا الحروب التى خاضتها فى أفغانستان ثم فى العراق، كما بررت الضغوط والحصار على عدد من الدول العربية والإسلامية.
وعندما تولى الرئيس جورج دبليو بوش الرئاسة فى يناير 2001 لم يكن شعار مسئولية أمريكا عن فرض الديمقراطية فى العالم مطروحا، ولكنه كان يركز خلال حملته الانتخابية على قوة أمريكا العظمى وأهمية الحفاظ عليها وتنميتها، وعلى المثل العليا والأفكار الأساسية التى قامت عليها أمريكا. ولكن فريق بوش الذى اختاره من تيار اليمين المتشدد المؤمن بسياسة القوة بدأ منذ اليوم الأول فى التراجع عن السياسات التى استقرت فى سنوات حكم كلينتون، ونتيجة لهذا التراجع عن الثوابت السياسية ظـهرت مخاوف على الديمقراطية الأمريكية ذاتها.
ويشرح هذه التطورات باحث سياسى أمريكى كبير هو توماس كاروثرز Thomas Carothers مدير مشروعات البحث فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى فى دراسة نشرها فى مجلة فورن افيرز فى عدد يناير- فبراير 2003 ملخصها كما يلى:
إن هجمات 11 سبتمبر أعقبها تغيير جذرى فى السياسات، وانشغلت الإدارة الأمريكية فى البحث عن أين وكيف تعمل لنشر الديمقراطية فى العالم، وشمل البحث عددا كبيرا من الدول من بينها: إيران، والعراق، وباكستان، والسعودية، وروسيا، وأوزبكستان، ودول أخرى كثيرة. وأعلن الرئيس بوش الحرب على الإرهاب فى كل مكان فى العالم، وقال إن هذه ستكون حربا طويلة، وربط بين الحرب على الإرهاب فى عدد من الدول وفرض الديمقراطية فيها. لكن الإدارة الأمريكية حين بدأت الحرب فى أفغانستان. على حكومة طالبان وتنظيم القاعدة لم تعمل على إقامة الديمقراطية فى أفغانستان.. بل عملت على العكس على تعزيز الدكتاتورية فيها وفى غيرها من الدول فى أنحاء العالم، وفى نفس الوقت أعلن المسئولون والخبراء أن غياب الديمقراطية هو المسئول عن نشأة التطرف الإسلامى.
هكذا ظهرت على الإدارة الأمريكية فى هذه المرحلة من تاريخ أمريكا أعراض (انفصام الشخصية)، فهذه الإدارة تعزز علاقاتها مع النظم الاستبدادية الصديقة، وفى نفس الوقت فهى تمثل تجديدا لسياسة ريجان وتعتبر ممثلة للريجانية الجديدة، تتحدث كثيرا بعبارات حماسية مدوية عن الديمقراطية فى الشرق الأوسط وفى الدول الإسلامية ودول آسيا، بينما تدعم النظم الدكتاتورية، مما جعل العالم يستنكر هذه الازدواجية، كما جعل مستقبل الحرب على الإرهاب موضع تساؤل، وجعل صورة أمريكا وشخصية الرئيس موضع تساؤل أيضا!
***
يبدو التناقض فى السياسة الأمريكية واضحا عندما تتحدث الإدارة الأمريكية عن الضرورات لحماية الأمن القومى لأمريكا ذاتها، وظــروف الحـــرب التى جعلتها تدعم بقوة أنظمة حكم تشعر تجاهها بالكراهية لاحتياجها إليها فى هذه الحرب، وتحاول الإدارة الدفاع عن هذا الموقف المتناقض بالقول بأنها تؤيد النظم الدكتاتورية وفى نفس الوقت تمارس الضغط سرا وبوسائل متعددة لتغيير هذه النظم وتحويلها إلى نظم ديمقراطية، وأنها تضطر إلى إغماض عينيها عما تقوم به هذه النظم الدكتاتورية لإحكام قبضتها على شعوبها بإجراءات معادية للديمقراطية، دون رد فعل بالاعتراض على هذه الإجراءات، وتكتفى بمناشدات فاترة لإدخال إصلاحات ديمقراطية.
ترى الإدارة الأمريكية أن المواقف السياسية وعلاقاتها بهذه النظم الدكتاتورية مليئة بالتعقيدات، كما ترى أن إقامة الديمقراطية فى هذه الدول ليست سهلة، لأن تحول قائد أوتوقراطى إلى حاكم ديمقراطى يقبل مبدأ التخلى عن الحكم فى يوم ما ليس بالبساطة التى كانت تتصورها، بالإضافة إلى ضعف الأحزاب والحياة السياسية، وانتشار الفساد، وعدم كفاءة الإدارة، والسلوك التسلطى السائد فى هذه البلاد، مما يعنى الاحتياج إلى إعادة بناء النظام السياسى فى هذه الدول من الأساس، وإعادة بناء الثقة فى نظم الحكم فيها، وتلك عملية طويلة المدى ولن تحقق نتائجها بالسرعة التى كانت فى حسابات الإدارة الأمريكية.
***
وأمام السياسة الأمريكية مجموعة من الأزمات فى آسيا الوسطى تتصل بالتناقض الذى تجد نفسها فيه بين تحقيق الديمقراطية، وتحقيق الأمن وحماية المصالح الأمريكية، فأمريكا محتاجة إلى تواجد القواعد العسكرية واستمرار التعاون الأمنى مع دول آسيا الوسطى، وتجد أن عليها أن تؤيد النظم الدكتاتورية فيها ما دامت تساعدها على تحقيق سياساتها، حتى أن أحد حكام هذه الدول وجهت إليه الدعوة لزيارة الولايات المتحدة، واستقبل استقبالا حافلا من المسئولين ومن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد خاصة، بالرغم من أن الجميع يعرفون أنه دكتاتور مريض نفسيا ومصاب بجنون العظمة.! وفى الوقت نفسه تستمر الإدارة الأمريكية فى الحديث عن الإصلاح السياسى لدول هذه المنطقة، وتدعى أن مساعداتها الاقتصادية والسياسية مرتبطة بما تحققه من تقدم نحو الديمقراطية ومدى اندماجها فى العالم وأخذها بنظم الحكم والاقتصاد والإدارة الحديثة.
وعلى نحو مثير للدهشة قدمت الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية وعسكرية ضخمة لدولة من دول آسيا الوسطى تعتبر أكبر النظم الدكتاتورية فى المنطقة لأن حاكمها أعطى لأمريكا ما طلبته من الدعم السياسى لأهدافها والشراكة العسكرية معها، وازداد الود بين الولايات المتحدة وهذه الدولة وأصبح المسئولون الأمريكيون يترددون عليها باستمرار ويلتقون مع حاكمها ويقدمون له ما يحتاج إليه من دعم لحماية حكمه، ويقولون إنهم يوجهون إليه رسائل ونصائح لإحداث تغيير ديمقراطى، ويبالغون فى الترحيب بالخطوات الصغيرة التى يتخذها ويعتبرونها خطوات هائلة للإصلاح السياسى والاقتصادى.. والحقيقة أن أمريكا تعلم أن هذه الإصلاحات المحدودة قليلة الأهمية وهدفها الإيحاء بالتغيير للحفاظ على نظام الحكم القائم فى مواجهة التيارات المطالبة بالتغيير.!
***
وفى دولة أخرى من دول آسيا الوسطى لا يظهر رئيسها أية رغبة فى الالتقاء مع الولايات المتحدة، ويشدد قبضة حكمه الدكتاتورى، ويعلن ازدراءه لمطالب أمريكا بالإصلاح. ولكن لأن هذه الدولة فيها كميات هائلة من احتياطى البترول والغاز، ولأن هذا الحاكم يتعاون مع أمريكا فى أهم مجالين بالنسبة لها، هما مجال الاقتصاد وإجراءات الأمن. فإن أمريكا تتعاون معه، ولا تمارس عليه الضغوط وتكتفى بالمطالبة والمناشدة بأن يقوم بإصلاح ديمقراطى، وبمحاربة الفساد، وبتخفيف القبضة الدكتاتورية على البلاد.!
***
وفى دولة ثالثة فى آسيا الوسطـى يحكمها رئيس دكتاتورى أقل تسلطـا من سابقيه، ولكنه يشدد قبضته منذ سنوات على البلاد، وأمريكا توجه إليه مطـالبتها بإدخال الديمقراطية، ولا تضغط بقوة، لأن هذا الدكتاتور يقيم علاقات قوية مع الولايات المتحدة فى مجال الأمن، وهذا ما يجعل أمريكا تغمض العين عما يحدث فى بلده من فساد، واعتقالات، وكبت للحريات!
***
يبدو التناقض واضحا فى علاقات أمريكا مع دول جنوب ووسط آسيا، بسبب التناقض بين سعيها إلى تنفيذ سياستها المتعلقة بالأمن والأوضاع العسكرية الأمريكية، ورغبتها فى تنفيذ دعوتها إلى نشر الديمقراطية فى أنحاء العالم، وهى تستخدم سلاح الديمقراطية وحقوق الإنسان مع هذه الدول للضغط عليها لكى تعمل أكثر فى مساعدتها على تنفيذ سياساتها العالمية الجديدة، والتى تقتضى تأمين وصول القوات العسكرية الأمريكية إلى ميادين القتال والقواعد المنتشرة حول الكرة الأرضية، وحماية المصالح الأمريكية، وربما تكون أفغانستان أكثر النماذج وضوحا لذلك فالحرب الأمريكية على أفغانستان كان هدفها الإطاحة بنظام طالبان لبناء أفغانستان ديمقراطى ومساير للعصر، ولكن العمليات العسكرية ظلت هى الغاية وتلاشت قضية إقامة نظام حكم ديمقراطى.. وفى البداية اعتمدت أمريكا على جنرالات أفغانستان ليتولوا عمليات القتال ضد القاعدة، وزودتهم بالأسلحة وأدى ذلك إلى تقوية نفوذهم فى الأقاليم، وأصبحوا مراكز قوة فى هذه الأقاليم خارج سيطرة الحكومة المركزية التى يرأسها قرضاى وتحميها أمريكا، وأصبحت مراكز القوة هذه تمثل تهديدا جديدا للحكومة المركزية الضعيفة التى لم تعد تسيطر إلا على العاصمة كابول، وهذا الموقف المثير للسخرية يكشف الضعف فى الاستراتيجية الأمريكية ويدل على أنها كانت مجرد عملية عسكرية بحسابات خاطئة، أدت إلى هروب أعداد كبيرة من مقاتلى طالبان إلى الجبال. وفى نفس الوقت عارضت الإدارة الأمريكية تواجد القوات الأمريكية أو القوات الدولية خارج العاصمة كابول، وأدى ذلك إلى فشلها فى إرسال الإعانات والمساعدات الإنسانية إلى الأقاليم كما وعدت، وجعلت إقرار الأمن فى البلاد مسألة مستحيلة بالنسبة لحكومة قرضاى التى ليس لها تواجد سياسى أو عسكرى أو أمنى خارج العاصمة، وبالتالى لم تعد لها الشرعية فى البلاد. لأن شرعية أية حكومة تتوقف على قدرتها على تحقيق السلام والاستقرار فى البلاد، وتوفير الأمن لمواطنيها..أما الوضع فى أفغانستان فهو على العكس من ذلك، فالخصومات قائمة والقتال مستمر بين القبائل والفصائل العرقية، وزراعة وتجارة الأفيون ازدادت انتشاراً عما كانت عليه أيام حكم طالبان، وقادة الفصائل المقاتلة المعارضة للحكومة والمتحاربة فيما بينها جعلوا فشل الحكومة أمراً مؤكداً، وقيام دولة موحدة قوية أمرا مستحيلا، لكن الإدارة الأمريكية ترى أن فى وجود هذه الدولة المهلهلة، والحكومة المعزولة الفاشلة ما يحقق الأمن القومى، والمصالح الحيوية لأمريكا!
***
والتوترات التى نشأت عن الحروب الأمريكية انتشرت فى أنحاء العالم، فأصبحت منطقة جنوب شرق آسيا وخاصة إندونيسيا مسرحا للعداء لهذه الحملة الأمريكية، وفى نفس الوقت فإن لدى الإدارة الأمريكية مخاوف من أن يتخذ قادة القاعدة ملجأ لهم فى هذه المناطق، وأن تكون الجماعات الإسلامية السياسية المعادية للدولة على صلة بشبكة أو أكثر من شبكات التطرف، والبيت الأبيض- لذلك- يساند حكومة إندونيسيا بينما هى على وشك السقوط، برغم أنها تسمح بقدر من الديمقراطية، ولكنها لا تتسامح بالنسبة لحقوق الإنسان. وقد اتخذت أمريكا قرارا بتقديم مساعدات عسكرية وإرسال قوات إلى إندونيسيا، بعد أن كانت المساعدات الأمريكية لإندونيسيا قد تم تخفيضها فى التسعينات على سبيل العقوبة بسبب ما تقوم به القوات الإندونيسية من أعمال وحشية تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، وفى عام 1999 قطعت أمريكا معوناتها لإندونيسيا تماما عندما شاركت القوات الإندونيسية فى المجازر فى تيمور الشرقية، وبإعادة المعونات العسكرية والمالية لإندونيسيا فإن أمريكا توجه رسالة متناقضة: بالحرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما هى تدعم النظم المعادية للديمقراطية وحقوق الإنسان، وتراوغ بالادعاء بأن هذه المعونات موجهة للبوليس وليست للقوات المسلحة التى تقوم منذ سنوات بحملات للذبح والتدمير ضد المدنيين. هذا التناقض يمثل رسالة سلبية لشعوب المنطقة وما وراءها.. وتصل المراوغة إلى حد ادعاء الإدارة الأمريكية بأن وجود الخبراء والقوات الأمريكية فى إندونيسيا يعطى للأمريكيين المتواجدين هناك الفرصة لتوجيه القادة الإندونيسيين لمراعاة حقوق الإنسان.!
***
وموقف الإدارة الأمريكية من نظام الحكم فى ماليزيا متناقض أيضا، فقد تكررت اتهاماتها لرئيس الوزراء مهاتير محمد بأن نظام حكمه نظام أوتوقراطى ومعاد للديمقراطية، ولكن حين قام بالقبض على المجاهدين الإسلاميين، وقدم مساعدات استخباراتية لأمريكا، وتعاون معها بطرق أخرى فى حملتها ضد الإرهاب.. تحولت الإدارة الأمريكية من موقف الناقد والمعارض إلى موقف المؤيد، وأصبح كبار المسئولين فى الإدارة الأمريكية يكيلونه المديح ويقولون: إن مهاتير محمد (قوة استقرار إقليمى) وأنه نجح فى تقديم نموذج ناجح للتنمية الاقتصادية والتسامح، واستقبله الرئيس بوش فى البيت الأبيض فى مايو 2002. استقبالا حافلا.
ونفس المواقف المتناقضة تظهر فى علاقة أمريكا بكل من روسيا والصين، فقد أصبح المهم لدى أمريكا هو دور روسيا الجديد كحليف فى الحرب التى تسميها الحرب على الإرهاب، رغم وجود خلافات مهمة ومستمرة بينهما حول العراق، وإيران، وجورجيا، وأماكن أخرى، ومع ذلك فإن الرئيس بوش ينظر إلى الرئيس الروسى فلاديمير بوتين نظرة إيجابية ويدعوه لزيارته فى مزرعته، ويقول: إنه صديقه، ولا يذكر شيئا عن حقوق الإنسان أو الديمقراطية فى روسيا، أو فى الشيشان، وقد بدأ تأييد بوش لرئيس روسيا على نحو مفاجئ قبل أحداث 11 سبتمبر، بعد لقائهما فى سلوفينيا فى يونيو 2001، ولم تتعرض روسيا لأى هجوم من أمريكا عن سياستها فى الشيشان أو بسبب تقييد حرية الصحافة والمجتمع المدنى، وبعد 11 سبتمبر تحسنت العلاقات السياسية أكثر وازدادت العلاقات الاقتصادية بشكل ملحوظ.
وبالنسبة للصين حدث انقلاب فى علاقة أمريكا بها.. ففى الشهور الأولى من عام 2001 كانت أمريكا تعتبر الصين التهديد الرئيسى والعدو رقم واحد لها، ولكن بعد أن تقاربت سياسة الصين مع السياسة الأمريكية فى موضوع الأمن بالمفهوم الأمريكى الجديد أصبحت الصين فى نظر أمريكا صديقا ووجهت الدعوة إلى الرئيس زيمين لزيارتها واستضافه الرئيس بوش فى مزرعته الخاصة فى تكساس!
وبالنسبة لأمريكا الجنوبية تبدو الولايات المتحدة كأنها غافلة عما يحدث من انتهاكات للديمقراطية ولحقوق الإنسان.. وكذلك الأمر بالنسبة لدول فى أفريقيا مثل نيجيريا الغنية بالبترول، وهى أكبر دولة أفريقية من حيث السكان.
***
أهم من كل ذلك ما حدث فى داخل أمريكا ذاتها بعد 11 سبتمبر من تراجع مذهل فى الديمقراطية وفى حقوق الإنسان على نحو يصعب فهمه وتصديقه.. مثل حملات الاعتقال الواسعة النطاق للمهاجرين، وجلسات التحقيق السرية، وعمليات ترحيل الزوار والمهاجرين، والإعلان الغريب عن أن بعض المواطنين الأمريكيين مقاتلون فى صفوف الأعداء، واتهامهم بالخيانة العظمى، وحرمان المعتقلين والمحتجزين من الاستعانة بمحام بالمخالفة للقانون الأمريكى، ودون توجيه اتهام محدد أو السماح للمتهم بالدفاع عن نفسه وتفنيد الاتهام الموجه إليه إن وجد، وممارسات وزارة العدل الأمريكية كانت فى ذاتهـا رسالة سلبية بالغة التأثير انتشرت حول العالم، وأعطت للحكومات الدكتاتورية الحق فى تقييد حريات مواطنيها أكثر وأكثر بزعم الحرب على الإرهاب وهى نفس الحجة الأمريكية.. وربما يكون فى أمريكا ما يبقى على قدر من التوازن، عن طريق الكونجرس والسلطة القضائية، ولكن هذا القدر ضئيل جدا فى دول أخرى..
والخلاصة أن أمريكا تعلن الحرب على الإرهاب وهى تشجع الإرهاب.. وتعلن الحرب على الدكتاتوريات وهى تتعاون مع الدكتاتوريات وتدعمها وتقدم لها المساعدات.. وتعلن الحرب على انتهاكات حقوق الإنسان بينما تسكت عن هذه الانتهاكات ما دامت مصالحها فى أمان.. وفوق ذلك فإن انكماش الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل أمريكا بعد 11 سبتمبر أصبح نموذجا وعذرا لسائر الدول.. وأصبحت الدول تقول: إذا كانت أمريكا تفعل ذلك، فلماذا لا نفعل نحن ما هو أكثر؟!
***
ويقال إن السياسة الأمريكية فى إدارة الرئيس بوش سياسة واقعية، لكن هذه الإدارة التى تمثل عودة إلى سياسات ريجان تمد يدها لكل من يساعدها ضد تنظيم القاعدة دون أن تتمسك بموضوع الديمقراطية أو حقوق الإنسان.. وهى تفضل الاستقرار فى هذه الدول ما دام هذا الاستقرار يحقق ويحمى مصالحها بصرف النظر عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.. إنها ترى كل من يحمى المصالح الأمريكية صديق، ومن يحارب الإرهاب صديق، ولكنها بدأت بعد ذلك بالضغط على بعض الدول مثل السعودية بحجة أن مرتكبى 11 سبتمبر كانوا سعوديين، والادعاء بأن فى السعودية من كان يمول المنظمات الإرهابية وتنظيم القاعدة بالذات.. وبدأ فريق فى الإدارة الأمريكية يتحدث علنا عن ضرورة تعزيز الحريات وتغيير الخطاب الدينى والتحول إلى الديمقراطية فورا وبقوة وليس بالتدريج. وبعضهم يلوح بالعقوبات على سبيل التهديد والضغط. والرئيس بوش منحاز لهذا التيار، وقد بدأت تصريحاته منذ صيف 2002 موجهة إلى ضرورة التغيير الديمقراطى فى الشرق الأوسط، وأعلن أن من أهداف الحرب على العراق تغيير الشرق الأوسط، وكذلك ربط بين قيام الدولة الفلسطينية وتولى قيادة جديدة وإقامة نظام حكم ديمقراطى فى السلطة الفلسطينية، ولكن هذه الضغوط وراءها مطالب أخرى لأمريكا وليست الديمقراطية سوى المبرر الظاهر!
وتعلن الإدارة الأمريكية أنها ستعمل على إقامة الديمقراطية فى العراق وتحوله إلى دولة ديمقراطية تكون نموذجا لبقية الدول العربية! وتعلن أن وجود نموذجين للديمقراطية فى فلسطين والعراق سيكون له تأثير يعجل بالإصلاحات فى العالم الإسلامى كله، وهذا ما أعلنه بوش فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 2002، وفى نفس الوقت تمارس الضغط على حلفائها وأصدقائها فى المنطقة، لكن ذلك أيضـا ليس ســوى الغطاء السياسى للهيمنة الأمريكية والانحياز لإسرائيل!
***
يقول توماس كاروثرز بعد ذلك: إن الرؤية الأمريكية لتغيير الشرق الأوسط بقيادة أمريكا قائمة على افتراضات مشكوك فيها، أولا: لأن الفكرة القائلة بأن الإطاحة بصدام حسين تجعل الولايات المتحدة قادرة على تحويل العراق إلى نموذج للدولة الديمقراطية فى العالم العربى والإسلامى فكرة مضللة وتؤدى إلى نتائج خطيرة، فالولايات المتحدة قادرة على الإطاحة بحاكم العراق، وتنصيب حاكم أقل ممارسة للقمع وأكثر موالاة للغرب، ولكن ليس معنى ذلك أن العراق أصبح دولة ديمقراطية. وتجربة أمريكا السابقة فى الدول التى أطاحت بحكامها مثل بنما، وهايتى، وأفغانستان، وغيرها أكدت أن كل نظام للحكم جاءت به أمريكا لم يختلف عن النظام السابق الذى أطاحت به. فقد عادت هايتى بعد الغزو الأمريكى لها فى 1994 إلى ما كانت عليه وأسوأ من الحكم العسكرى الذى كان قائما منذ 1991.. وفى العراق، كان نظام الحكم استبداديا قبل صدام، وبعد رحيل صدام ليس هناك ما يشير إلى جدية أمريكا فى ترك العراق للعراقيين ليحكموا أنفسهم بأنفسهم، يضاف إلى ذلك الخلافات العرقية والمذهبية الحادة، والاقتصاد الذى يعتمد على مصدر أساسى واحد هو البترول، سيجعلان عملية إقامة الديمقراطية صعبة جدا وبطيئة جدا، وفى أكثر السيناريوهات تفاؤلا سـوف تجـد الولايــات المتحــدة نفسها ملزمة بإعـادة بناء ما دمرته، وهذا يحتاج إلى تكاليف مالية هائلة، ولابد أن يتم ذلك على المدى الطويل.. كذلك فإن التزام أمريكا بإعادة بناء ما دمرته فى أفغانستان يحتاج إلى أموال وزمن طويل.. وسيؤدى ذلك حتما إلى انعدام الثقة فى تعهدات أمريكا ووعودها.
***
وبالإضافة إلى ذلك فإن النظرية التى تتبناها الإدارة الأمريكية بأن تغيير نظام الحكم فى العراق وفى الأراضى الفلسطينية سيؤدى إلى انتشار الديمقراطية فى كل المنطقة نظرية مشكوك فيها وبعيدة الاحتمال.. لأن الغزو زاد من العداء لأمريكا فى الشرق الأوسط، وأعطى قوة لجماعات الإسلام السياسى المتشددة، وتسبب فى استفزاز حكومات عربية، وجعل التحول الديمقراطى فى الدول العربية يبتعد، ويضاف إلى ذلك أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية غير مواتية لمزيد من التقدم نحو الديمقراطية.. وليس معنى ذلك أن العالم العربى لن يعرف الديمقراطية أبدا، ولكنه يعنى أن تحقيق الديمقراطية سوف يستغرق عقودا، وسوف تؤدى سياسة أمريكا إلى قدر كبير من الشكوك والاضطرابات.. والأفضل لها أن تساعد على التقدم الديمقراطى بالمساندة والمساعدة والإيمان بأن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا بأبناء كل بلد وليس بالتدخل الأجنبى.
***
الازدواجية والتناقض فى السياسة الأمريكية ترجع إلى أن الهدف الحقيقى لهذه السياسة يختلف عن الهدف المعلن، وعندما كان ريجان يعلن أنه يعمل على نشر الديمقراطية كان فى الحقيقة يعمل على توسيع نطاق النفوذ الأمريكى وفتح الأسواق أمام أمريكا.. وكمثال للديمقراطية على الطريقة الأمريكية ما حدث فى الانتخابات الرئاسية فى السلفادور عام 1984.. فقد عملت أمريكا فى الظاهر على أن تكون هذه الانتخابات صورة للديمقراطية الجديرة بالثقة، وفى نفس الوقت أنفقت فى السر ملايين الدولارات لتمويل حملة المرشح الذى تريده وهو جوسيه نابليون دوارتى لضمان نجاحه، وقد نجح بالفعل نتيجة الحملة الأمريكية وليس باختيار وإرادة شعب السلفادور، وفى الأراضى الفلسطينية تطالب الإدارة الأمريكية بنظام ديمقراطى كامل، وتضغط من أجل تنفيذ تغييرات وإصلاحات سياسية ودستورية واقتصادية، وفى نفس الوقت ترفض التعامل مع عرفات وهو الرئيس الذى جاء بالانتخاب من شعبه، وهكذا الحال فى العراق.. أمريكا تريد الديمقراطية التى تتوافق مع سياساتها وتنصاع لمطالبها وتحقق مصالحها، فإذا اختلفت معها أطاحت بالديمقراطية باسم الديمقراطية.!
وظهر أيضا هذا التناقض فى الموقف الأمريكى تجاه الديمقراطية فى إبريل 2002 عندما حدث انقلاب ضد رئيس فنزويلا هوجو شافيز، وكانت السياسة الأمريكية تؤيد بقوة هذا الانقلاب فى بلد من البلاد الغنية بالبترول، لأن سياسة حاكم فنزويلا كانت معادية لأمريكا، كما كانت إجراءاته الاقتصادية تتعارض مع المصالح الأمريكية، وكان واضحا أن توجه الإدارة الأمريكية يكذب ما تعلنه من أنها نصير الديمقراطية، ولا يحتاج الأمر إلى شرح فى أن استغلال موضوع الديمقراطية كجزء من استراتيجية نفعية هدفها إقامة أنظمة حكم تحقق مصالح أمريكا، مما سيؤدى إلى فقدان قيمة وشرعية مفهوم الديمقراطية ذاته. فضلا عن الخطأ الذى تبنى عليه الاستراتيجية الأمريكية بالمبالغة فى تقدير قدرتها على تصدير الديمقراطية كما يعتقد التيار المحافظ الجديد، خاصة بادعائهم أن إدارة ريجان هى التى أدخلت الديمقراطية فى أمريكا اللاتينية أثناء حربها على الشيوعية فى الثمانينات، مع أن أهم التطورات الديمقراطية التى حدثت فى الأرجنتين والبرازيل وغيرهما من دول أمريكا الجنوبية كانت فى أوائل الثمانينات، وكان موقف ريجان وإدارته فى ذلك الوقت مؤيداً لنظم الحكم الدكتاتورية المتشددة وللحكام الذين كان كارتر قبله يسقطهم من حسابه لأسباب تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان.
يخلص توماس كاروثرز من ذلك إلى أن التفاؤل المفرط لقدرة أمريكا على إعادة تصنيع شرق أوسط جديد هو تفاؤل بعيد عن الواقعية، لأن أهداف أمريكا فى الشرق الأوسط فى الحقيقة لا تضع موضوع الديمقراطية فى المقام الأول!
***
ويصل توماس كاروثرز إلى أن هناك تناقضاً واضحاً بين المعلن عن الحرب الأمريكية على الإرهاب، وموضوع تغيير النظم الحاكمة فى اتجاه الديمقراطية، وهذا يعنى أن سياسات الإدارة الأمريكية تعانى فعلا من حالة انفصام فى الشخصية، فأمريكا تريد زيادة مساحة الديمقراطية فى دول معينة وتقليص مساحة الديمقراطية فى دول أخرى، والسياسة الأمريكية مذبذبة بسبب الاعتبارات السياسية واعتبارات الأمن والمصالح، وإن كانت تتصور إمكان تحقيق توازن بين علاقاتها الحميمة مع نظم غير ديمقراطية، والضغط على هذه النظم لإجراء إصلاحات ديمقراطية، إلا أن هذا التوازن غير ممكن عمليا كما أثبتت الأيام.
والسياسة الأمريكية تمارس الضغوط بصور مختلفة، باستخدام المساعدات الاقتصادية والمساندة السياسية كسلاح للضغط،ومنها مساعدة عملية التحول الديمقراطى فى جنوب وشرق أوربا، وفى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، وفى أمريكا الوسطى.. ومنذ عشرين عاما والولايات المتحدة تعلن أن مساعداتها الاقتصادية مرتبطة بالإصلاحات الديمقراطية، وتعلن أن الديمقراطية ضرورية للقضاء على الإرهاب، حتى أن إدارة بوش قررت إنشاء صندوق لتمويل عمليات التغيير والتحول فى عدد من الدول. لكن ذلك لم يحقق شيئا ذا بال لأنه ليس ضمن أولويات السياسة الأمريكية التى تجعل مصالحها وهيمنتها على المناطق الاستراتيجية أهم من حق الشعوب فى الديمقراطية وحقوق الإنسان!
وسوف يسجل التاريخ الأمريكى أن الرئيس جورج دبليو بوش هو أول رئيس انكشف التناقض فى سياساته بمنتهى الوضوح تجاه موضوع الديمقراطية، وهذا هو السر فى أن شعوب الشرق الأوسط لم تأخذ دعوته لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان مأخذ الجد، ولم تتأثر بالعبارات البليغة التى صاغ بها رسالته إلى هذه الشعوب.. والإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس بوش تسير على خط ثبت أنه خاطئ، وهو محاولة الجمع بين الفلسفة الواقعية لوالده الرئيس بوش الأب، وفلسفة القوة التى تجذبه وتجعله يساير تيار الريجانية الجديدة، ولا يوجد حل سحرى لهذا الفصام فى الشخصية.. ونتيجة لذلك فإن الإدارة الأمريكية تمارس نوعا من التعذيب للحكام والشعوب اسمه Tamtaliging باحتضان حاكم ودولة ثم إبعادهما ثم احتضانهما مرة أخرى وهكذا.. وتيار المحافظين الجديد يؤمن بأن هذا الأسلوب فى التعامل مع الدول والشعوب هو أفضل وسيلة للضغط لضمان استسلامها وتسليم قيادها لأمريكا دون أدنى مقاومة!
هذه هى رؤية البروفيسور توماس كاروثرز وهو مدير مشروع الديمقراطية فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى، وهى من أهم مؤسسات البحث والتفكير المؤثرة فى أمريكا وخارجها.. ولا تعليق!