الحرية الدينية فى الإسلام
منذ سنوات كنت فى رفقة الإمام الأكبر د. محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر فى رحلة إلى ألمانيا، والتقينا بمجموعات من القيادات الدينية والمستشرقين وطرح أحد المستشرقين موضوع حد الردة، وقال إن الإسلام لا يعترف بحق الإنسان فى الاختيار الحر، وأن الذى يختار الردة عن الإسلام يكون جزاؤه القتل، وهذا يجعل الإسلام يبدو أنه سجن للإنسان لا يستطيع الخروج منه، وأنه دين قائم على الإكراه، والإيمان به وليد الخوف من هذه العقوبة القاسية، وليس الاقتناع والاختيار الحر.
وكان رد الإمام الأكبر أن حد الردة لم يرد فيه نص فى القرآن، والإسلام دين قائم على الاختيار فى البداية يدخل فيه الإنسان بإرادته الحرة، لأن اعتناق الإسلام تحت ضغط الإكراه يؤدى إلى وجود منافقين وليس لوجود مؤمنين، ومن شاء أن يرتد فلا عقوبة عليه، وهذا مقرر بقول الله تعالى: (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ولا تكون العقوبة إلا حين يناصب هذا المرتد الإسلام العداء، ويعتدى على الإسلام والمسلمين، وفى هذه الحالة فإن من حق المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم وعن دينهم، وأن يحاربوا من يحاربهم. والموقف الإسلامى هنا موقف دفاعى وليس موقفا عدوانيا.
وبعد أن عدنا من ألمانيا أهدانى فضيلة الدكتور محمود زقزوق وزير الأوقاف كتاباً بعنوان (الحرية الدينية فى الإسلام) من تأليف الشيخ عبدالمتعال الصعيدى الأستاذ بجامعة الأزهر الذى تتلمذ على يديه مئات من كبار الأئمة. ومع هذا الكتاب شهادة من مجمع البحوث الإسلامية تقول إن هذا الكتاب جاء برأى جديد مستند إلى أدلة أصولية نقلية وعقلية، وشهادة من فضيلة الدكتور محمد رجب البيومى -وهو من كبار علماء الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية- بأن هذا الكتاب من عالم كبير قضى عمره الطويل فى الأزهر، وقد وضع كتابه لينتهى إلى أن المرتد لا يقتل، واستند إلى أدلة رآها ترجح وجهة نظره.
وحين نشر الكتاب أحدث انتباها غير عادى، وتصدى لنقده عالم كبير من علماء الأزهر هو الأستاذ عيسى منون عضو جماعة كبار العلماء، وشيخ كليتى الشريعة والأصول، فأصدر الشيخ عبدالمتعال الصعيدى الطبعة الثانية من كتابه وفيها ما قاله الأستاذ عيسى منون ورد عليه بما يثبت وجهة نظره الأولى، وإذن فالكتاب يعطى القارئ خلاصة وافية لكل ما قال الفقهاء فى هذا الموضوع، حيث لم يشأ أن يغرر على القارئ برأى جديد دون أن يرجع إلى ما قيل عنه، كما يعرض صفحات كثيرة كتبها ابن حزم فى كتابه (الإحكام فى أصول الأحكام) وكلها تخالف اجتهاده، ورد عليها، وهو بما نقله عن الأستاذ عيسى منون، والإمام ابن حزم قد كشف الوجهة المخالفة لرأيه كشفاً ساطعاً بحيث لا يحتاج قارئ إلى الرجوع إلى مصادر أخرى، وتوصل فى النهاية إلى أن المرتد لا يلزم بالبقاء فى الإسلام بالإكراه سواء كان الإكراه بالقتل أو بالاستتابة، ويكفى دعوته إلى الإسلام بما يكتفى به فى دعوة من لم يسبق منه إسلام، واستأنس بأقوال الإمام النخعى تؤيد اتجاهه، فالكتاب حوار يوضح وجهتى نظر مختلفتين، ولكل وجهة ما يؤيدها، ولم يحاول إنكار الرأى السائد، وعرضه نقلا عن أصحابه، وكان من حقه أن ينتهى إلى رأى له أدلته، والاجتهاد لمن كان فى درجته العلمية حق مشروع، وما انتهى إليه قد قرره إمام معاصر هو الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق فى كتابه الذائع (الإسلام عقيدة وشريعة)، إذ قال: (الاعتداء على الدين بالردة يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، وارتكاب ما يدل على الاستخفاف والتكذيب، وما جاء فى القرآن عن هذه الجريمة هو قوله تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) الآية 217 من سورة البقرة.. وهى لا تتضمن أكثر من حبوط العمل والجزاء الأخروى بالهبوط فى النار، وذكر الشيخ شلتوت حديثا عن ابن عباس (من بدل دينه فاقتلوه)، وقال إن كثيرا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بأحاديث الآحاد، وأن الكفر ليس مبيحا للدم، والمبيح للدم هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة قتلهم.. والقاعدة الإسلامية مقررة فى القرآن بقوله تعالى (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) البقرة 256، وقوله تعالى (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس 99، فهل بعد أمر الله أمر؟
ألا يستحق كتاب (الحرية الدينية فى الإسلام) أن يترجم إلى اللغات الأجنبية لمواجهة الهجمة على الإسلام، وليعرف العالم أن اتهامه بأنه دين ضد الحرية الإنسانية وقائم على الإكراه هو اتهام باطل؟