الصحافة المصرية... ظالمة أم مظلومة؟!
يبدو أن الهجوم على الصحافة فى مصر هو قدر مقدور عليها فى كل العهود والعصور. وكل أزمة تحدث يجد الجميع من الأسهل عليهم أن يوجهوا أصابع الاتهام إلى الصحافة والإعلام عموماً بدلاً من أن يبحثوا بإخلاص عن السبب الحقيقى لكل أزمة.
فى العالم كله الصحافة هى مرآة تعكس ما يحدث فى المجتمع ولا تصنع الأحداث،. الصحافة لا تتخذ القرارات.. ولا تضع السياسات.. ولا تصدر البيانات والتصريحات.. ولكنها تنشر كل ذلك كما يحدث خارجها.. وليس من الإنصاف أن نلوم المرآة وما ينعكس عليها بدلاً من نلوم الأصل..
وقد أصبحت الصحافة المصرية الشماعة التى يعلق عليها الجميع أخطاءهم واعتادت الصحافة أن تنقل ما يصرح به مسئول أو ما يقرره أوما يقوم به وعندما يتبين أن شيئاً أو رفضا من الرأى العام سرعان ما يبادر المسئول بأعلان أنه لا أساس له من الصحة وأن مانشر محض اختلاق، أو يعلن أن تصريحاته تم تحريفها أو لم تنشر بدقة أو أنه أسىء فهمها وتأويلها والنتيجة أن تكون الصحافة هى المتهمة والضحية.
وكل صحفية فى مصر لديها العديد من قصص ومواقف تؤكد ذلك، وأنا شخصيا لدى عشرات القصص.. منها مثلاً أن وزير المالية منذ عشرات السنين أعد مشروعات قوانين لفرض ضرائب جديدة. واستطعت الحصول على نسخة من هذه المشروعات ونشرت على الصفحة الأولى فى جديدة الأهرام التى كنت محرراً فيها فى ذلك الوقت... وفى اليوم التالى فوجئت بالصفحات الأولى للصحف الكبرى فى القاهرة وعليها عناوين بارزة بأن مانشرته «الأهرام» عن قوانين جديدة للضرائب عار عن الصحة ومحض اختلاق ونوع من «الفبركة» الصحفية، وأن «مندوب» الاهرام لم يقابل أحداً فى وزارة المالية وبالتالى لم يحصل على أية معلومات حول هذا الموضوع الذى لا أساس ولا وجود له فى الوزارة.. وكان هذا التكذيب المنشور كارثة بالنسبة لى يمكن أن تقضى على مستقبلى المهنى خاصة أنه منشور على أنه تصريح من وزير المالية وليس من أى موظف كبير فى الوزارة.
فى هذا الوقت كان الأستاذ محمد حسنين هيكل هو رئيس تحرير الأهرام، وكان معلوماً أنه لا يتهاون أبدا مع الصحفى الذى يقدم خبراً غير صحيح ومؤكد . أما أن تحتفل جميع الصحف بتكذيب الأهرام بهذه الصورة فإن «الإعدام» المهنى هو العقوبة المناسبة. وذهبت إلى الأهرام لأجد الأستاذ هيكل يسأل عنى، ولم ينقذنى إلا أن قدمت له صورة من مشروعات القوانين وعليها توقيع الوزير لإحالتها إلى الجهات المختصة لإصدارها.. ويومها تنفست الصعداء عندما طلب الاستاذ هيكل إعادة نشر تفاصيل مشروعات القوانين مادة مادة على ثلاثة أعمدة فى رأس الصفحة الأولى.. ومن ستر ربنا أن كانت هذه الواقعة بداية جديدة بالنسبة لمستقبلى المهنى.
وفى مرة أخرى أجريت حوارا مع أحد الوزراء، والغريب أننى لم اتعود على اصطحاب جهاز تسجيل معى لتسجيل المقابلات، ولكن كانت هذه هى أول مرة أحمل فيها جهاز التسجيل وأسجل حوارى مع الوزير الذى أخذ حبوب الشجاعة فيما يبدو وانطلق لسانه بالنقد والشكوى والحديث عما أصابه من «الزهق» واليأس لعدم حصوله على الإمكانات التى تساعده على تنفيذ مشروعاته وكان فى ذلك تلميح بأن التعطيل مقصود لإحراجه. وبعد النشر فوجئت برئيس التحرير يقول فى الاجتماع الصباحى أمام جميع الزملاء إن الحديث الذى نشرته على صفحة كاملة كان «فبركة» وأن الوزير اتصل به شاكياً من أن كله مختلق وأنه لم يقابلنى من الأساس،ولم ينقذنى إلا أن قدمت شريط التسجيل وبعد حرصت وتعلم الزملاء من هذه الواقعة الحرص على تسجيل المقابلات والتصريحات سواء كانت من مسئول أو من غير مسئول، مع ذلك لم تسلم الصحافة من استنكار المصادر لبعض ما ينشر بالقول بأن التصريحات تم تحريفها أو أسىء تفسيرها.
ليس معنى ذلك أن الصحافة بريئة دائماً وبنسبة مائة فى المائة من الاتهامات التى توجه اليها، وتقارير الممارسة الصحفية التى كان المجلس الاعلى للصحافة يصدرها مليئة بالملاحظات عن الأخطاء المهنية التى ترتكبها الصحف، وكنت عضواً فى المجلس الأعلى للصحافة لمدة أحد عشر عاما شاركت خلالها فى مناقشة هذه التقارير التى كانت تعدها لجنة من الخبراء والباحثين برئاسة الدكتور فاروق أبو زيد عميد كلية الأعلام الأسبق كما كنت وكيلاً للجنة الشكاوى فى المجلس وكنا نتلقى عشرات الشكاوى من مسئولين ومن الجمهور. منها نشر أخبار مجهولة المصدر لا يمكن التأكد من صحتها، ومنها أخبار تعبر عن انحياز الصحيفة لأنها تنشر جزءاً وتخفى بقية الخبر، ومنها الانتقائية فى نشر الأخبار .. صحف لا تنشر الا الأخبار السلبية وكأنها العدو الذى يتربص، وصحف لا تنشر الا الأخبار الإيجابية وكأن مصادرها من الملائكة. وكل ما يفعلونه هو عين الصواب ومنها أيضاً أخبار وتحقيقات تتعارض مع قيم المجتمع ومبادئه الأخلاقية، ومنها صحف تتعامل مع الاشخاص والقيادات على حساب القضايا الأساسية ومنها عدم التوازن بين أدوار ووظائف الصحافة بالتركيز على السلبيات والمشاكل والكوارث وعدم الإشارة إلى الجهود المبذولة لمعلاجها، ومنها تحول الأخبار والموضوعات من الموضوعية ومراعاة الصالح العام إلى الدعاية لشخصيات معينة والترويج لأفكارها ومشروعاتها بشكل مبالغ فيه..
ولكن- مع ذلك- فان الصحافة المصرية فى عمومها تقوم بدور مهم جداً فى الاعلام والتنوير، ووجود أخطاء لا يبرر التحامل عليها أو وضعها جميعاً فى سلة واحدة وتوجيه الاتهامات اليها جميعاً بأنها المسئولة عن حالة القلق والانقسام المجتمع المصرى، لأنها تعكس ولا تصنع هذا القلق وهذا الانقسام، ويجب أن يكون الاهتمام موجهاً إلى الأصل وليس إلى الصورة ومع وجود عوامل ضعف فى أداء بعض الصحف وليس كل الصحف - فالصحافة المصرية فى العموم تقوم بدور فعال فى التنبيه إلى المشكلات وتقديم الحلول من الخبراء والمتخصصين، والأخطاء التى يتم التركيز عليها بأكثر من حجمها الحقيقى لا تطمس الدور الحيوى الذى تمارسه الصحافة، على الرغم من المشاكل المزمنة التى تعانى منها... والتى تحتاج إلى حديث آخر.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف