فلسفة التغيير والإصلاح الشامل
فى كل لقاء وكل اجتماع تتكرر المطـالبة بالتغيير والإصلاح الشامل، وهذه الأصوات المطـالبة بالتغيير والإصلاح تعبر فى الحقيقة عن الرأى العام السائد ولا تعبر عن نفسها فقط. وليس هناك خلاف على أن القيادة السياسية مؤمنة بضرورة التغيير والإصلاح، وبأن ذلك من ضرورات الحياة والتطور والتجدد فى الحياة السياسية والاجتماعية، ولكن المهم هو الاتفاق على تحديد فلسفة التغيير والإصلاح والأهداف المحددة لذلك، وهذه هى البداية الصحيحة التى لم نصل إلى الإجماع عليها، أو على الأقل لم يشعر الرأى العام بوجودها.
والغريب أن المجتمع المصرى يمر بعملية تغيير مستمرة للإصلاح السياسى والإصلاح الاجتماعى والإصلاح الاقتصادى، ولكن الرأى العام لا يشعر بذلك بدرجة كافية، ويشعر- بالعكس- أن عجلة التغيير والإصلاح بطيئة، بل إن البعض يرون أنها متوقفة، وهذه مشكلة حقيقية يجب الانتباه إليها والتفكير فى أسبابها والبحث عن كيفية الوصول للرأى العام لإقناعه بأننا نسير فعلا فى عملية التغيير والإصلاح دون توقف ودون تباطؤ. ونحن عادة نتصور أن الإعلام وحده يستطيع القيام بهذه المهمة، لكن هذا التصور غير صحيح، لأن الإعلام لا يستطيع إقناع الناس إلا بما يحدث فعلا وما يراه الناس بأعينهم فى واقع حياتهم. وعندما يحدث تغيير فى العقلية التى تسير عليها الحكومة وأجهزتها فسوف يشعر الناس بذلك فورا ويقدرون قيمته، وعندما يتحقق العمل الجاد لإحياء الشعور الوطنى الذى يثير الحماسة لدى الجموع التى سيطرت عليها مشاعر اللامبالاة زمنا طويلا، فسوف تسرى فى المجتمع روح جديدة، ويعمل الناس بحماسة للمشاركة فى تنفيذ المشروع الوطنى ويتقبلون التضحيات فى سبيل إنجازه، ما داموا واثقين من أن ثمار هذا المشروع ستعود إليهم ولن تعود إلى فئة محدودة. وإذا رأى الناس بعيونهم أن التغيير قد تحقق فى الأشخاص والأفكار وأسلوب العمل وطريقة اتخاذ القرارات فسوف يعملون كل ما هو مطلوب منهم بتلقائية ودون تردد، بدافع الثقة والمصداقية لديهم، ولا تستمد الثقة والمصداقية من السلطة ولكن تستمد من الاقتناع بالجدية.
والقيادة السياسية- لحسن الحظ- مدركة تماما لضرورات وأبعاد التغيير والإصلاح الشامل، وتتحرك على المسار الصحيح على مراحل، مراعية الظروف والاعتبارات والتعقيدات الداخلية والخارجية التى تدعو إلى الموازنة بين البدائل والخيارات ونتائجها، ولكن الحكومات المتتالية- السابقة والحالية- أسيرة شعارات قديمة، ومحاطة بضغوط من أصحاب المصالح وأصحاب المطامع، وترى أن التخلص من هذه الشعارات والإفلات من تلك الضغوط غير ممكن بقفزة واحدة، والتقدم لكى يكون آمنا من الأفضل أن يكون خطوة خطوة، وهذا - على أى حال- أفضل من الجمود والاستسلام للأمر الواقع.
لكن البعد الغائب لدى أصحاب الدعوة إلى التغيير بإيقاع أسرع هو أن التغيير والإصلاح لا يكفى أن يكون من جانب السلطة وحدها، ولكن لابد أن تتقدم العناصر المتحررة النظيفة المؤمنة بالتغيير والإصلاح والقادرة على المساهمة فيه، لابد أن تتجمع هذه العناصر الوطنية بصرف النظر عن الانتماء الحزبى، وتشارك بالفكر والعمل فى اتجاهين، الاتجاه الأول هو مواجهة أصحاب الدعوة إلى العودة إلى الماضى وتكرار ما كان فى زمن غير زماننا، وترشيد الرأى العام بأن ما كان كان، ولا يمكن عودة الماضى إلا إذا عادت الظروف والقوى والأحوال التى كانت سائدة فى الماضى، وهذا هو المستحيل، والاتجاه الثانى هو التحرك والمبادرة بالعمل وبالمشاركة بدلا من النواح والبكاء على الأحوال القائمة، وباب العمل والمشاركة مفتوح، ومجالات العمل السياسى من خلال الأحزاب مفتوحة، ومنابر الرأى مفتوحة لكل صاحب رأى، وحرية الرأى فى مصر حقيقة لا ينكرها أحد.
الفكرة أن الذين يقفون على جانب الطريق ويطالبون السائرين فى الطريق بالعمل والتغيير والإصلاح، عليهم أن ينزلوا إلى الطريق ويسيروا فى مقدمة السائرين، ولأن القول سهل، والنقد أسهل، والفكر النظرى مجاله واسع بغير حدود، بينما الفكر العملى له حدود، وحدوده هى الظروف والقدرة وحسابات تحدد الممكن والمستحيل.
وكما ضيع الناس فى أوربا فى عصور الظلام سنوات من عمرهم فى جدل عقيم حول الملائكة هل هم إناث أو ذكور، وكما يحلو للبعض أن يعيد ويزيد حول البحث عن أيهما أولا: البيضة أم الدجاجة، كذلك يحلو للبعض أن يجادل أيهما يحقق التغيير: تغيير الأشخاص أم تغيير الأفكار مع بقاء نفس الأشخاص، أى الضغط على أزرار فتتغير أفكار الأشخاص دون حاجة إلى تغييرهم، والمسألة بسيطة لأن تغيير الأفكار يستلزم تغيير العقول، وتغيير العقول يستلزم تغيير أصحاب العقول، أى تغيير الأشخاص الذين عاشوا وأنتجوا مرحلة معينة ليتولى أشخاص آخرون بأفكار أخرى لإنتاج مرحلة أخرى جديدة، ومع تغيير الأشخاص والأفكار لابد من اتفاق على برنامج واضح للإصلاح يقتنع به الناس أولا، ويكون جهاز الدولة قادرا على تنفيذه، ويحدد هذا البرنامج التصور العام لمستقبل البلد وكيف ستكون مصر بعد سنوات.. كيف نريد لها أن تكون.. وبناء على هذا التصور تتم إعادة بناء الجهاز التنفيذى بالشكل الذى يجعله قادرا على تحقيق هذا التصور.
لابد أن نضع فى اعتبارنا أن الشعور السائد فى الرأى العام هو الحقيقة، ولا يمكن العمل بعكس هذا الشعور السائد، والشعور السائد أن أداء الحكومة وإنجازها أبطأ مما تحتاج إليه الظروف الحالية، وأن الأفكار الجديدة والوجوه الجديدة أمامها من يعطل ظهورها ونموها، بينما تشتد الحاجة إلى أفكار وقيادات جديدة، لأن وجودها سوف يشيع الأمل فى المستقبل وخاصة بين الشباب، وهم الأغلبية فى المجتمع، وهم أصحاب السواعد التى تبنى وتتحمل أعباء العمل وضغوط الحياة، والشباب يشعر بأن العالم يتقدم بخطوات سريعة، بل بقفزات واسعة أقرب إلى الخيال، بينما إيقاع التقدم والإصلاح عندنا يسير بطيئا.
هذه هى القضية.. اتفاق عام على ضرورة التغيير والإصلاح.. واختلاف بين اتجاهين.. اتجاه يرى بقاء الأشخاص وهم سيغيرون أفكارهم ويجددونها، واتجاه يرى أن الفكر الجديد يستلزم عقولا جديدة وأشخاصا جديدة.. وقدرة المجتمع على إفراز قيادات جديدة هو الاختبار الحقيقى لهذا المجتمع.. اختبار يحدد هل هذا المجتمع يتمتع بالحيوية والتجدد.. هل هو ككل كائن حى قادر على أن يجدد خلاياه أو أن قدرته على تجديد خلاياه محدودة..
ومصر- والحمد لله - مجتمع حى، ملىء بالحيوية، مزدحم بالمواهب والخبرات وبالمؤهلين لتحمل المسئوليات، إذا أتيحت لهم الفرصة. *