أمريكا وحدها
طرحت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة فى حكومة كلينتون رؤيتها للاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية فى إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، فى ضوء تجربتها فى هذا المجال.
وتوقفت مادلين أولبرايت عند عبارتين رأت أن كلا منهما تمثل موقفا سياسيا ستكون له آثاره وتداعياته. العبارة الأولى للرئيس جورج دبليو بوش الذى قال بعد هجمات سبتمبر 2001 : (الآن أمام كل دولة، من دول العالم أن تحدد! إما أن تكون معنا وإما مع الإرهابيين). والعبارة الثانية للإمام مؤيد العبيدى رجل الدين السنى فى بغداد الذى قال: (فى العالم الآن قوتان. إحداهما أمريكا المستبدة الظـالمة، والثانية قوة مجاهدة لم تستيقظ بعد هى الإسلام).
وتقول مادلين أولبرايت بعد ذلك: إن أحداث 11 سبتمبر كانت بالنسبة للرئيس الأمريكى مفاجأة أدت به إلى استنتاج مروع بأن أمن أمريكا، بل إن بقاء أمريكا، فى خطر، وأدى هذا الاستنتاج إلى الانحراف عن التوجه السائد فى السياسة الخارجية الأمريكية، وظهر الانقلاب فى الإعلام بالحديث عن حق أمريكا فى العمل وحدها بعد أن كانت حريصة قبل ذلك على أن تعمل دائما مع حلفائها. وظهرت نظرية الحرب الوقائية، وأصبحت القوة وليست الدبلوماسية هى وسيلة أمريكا فى التعامل مع الدول، وأعادت الإدارة الأمريكية صياغة علاقاتها الخارجية. وظهر الخلاف بين سياسة بوش الأب الذى كان رئيسا للولايات المتحدة والذى أعلن بعد هجوم 11 سبتمبر: (إن هذا الهجوم يجب أن يمحو الفكرة السائدة لدى البعض بأن أمريكا تستطيع العمل بمفردها فى الحرب ضد الإرهاب أو فى أى عمل آخر ). أما بوش الابن فقد أعلن قبل الحرب على العراق: (عند نقطة ما ربما نجد أنفسنا وحدنا، ولن يضايقنى ذلك.. نحن أمريكا).
وهكذا لم تنجح الإدارة الأمريكية فى إقنـــاع العالم بمشاركتها فى هذه الحرب، وظهر الخلاف فى تحديد مــدى خطــورة هجمـات 11 سبتمبر.
فالإدارة الأمريكية رأت أن كل شىء فى العالم يجب أن يتغير بعد هذه الهجمات، ولا ترى دول العالم ذلك. بينما كان الأمر مختلفا فى الحرب فى أفغانستان، حيث أعلن حلف الناتو لأول مرة فى تاريخــه أن هذه الجريمة تمثل عدوانا على دول الحلف جميعها، ووجه الإدانة إلى حكومات العالم الإسلامى كلها، وبخاصة إيران والسلطة الفلسطينية، وسارع حلفاء أمريكا من كندا إلى اليابان واستراليا إلى مساعدتها والاشتراك فى الحرب فى أفغانستان ضد تنظيم القاعدة وحكومة طالبان. وتعاونت باكستان وحتى الصين وروسيا أيضا، وهكذا نجح الرئيس بوش فى تجميع القوى الدولية معه واشتراكها مع القوات الأمريكية إلى أن تم إسقاط نظام طالبان وتدمير معسكراته والاستيلاء على أسلحته وقتل وأسر أعداد كبيرة من قياداته، ولكن الإدارة الأمريكية زادت من تعقيد مهمتها بعد ذلك بدلا من البناء على هذه المكاسب.
***
وقد تحول الموقف الدولى ابتداء من خطاب الرئيس بوش عن حالة الاتحاد عام 2002 ، فقد ركز حديثه على ثلاث دول اعتبرها محور الشر بدلا من التركيز على معركته الأساسية فى أفغانستان واستكمال إعادة بنائها، وبعد ذلك لم يعد الرئيس بوش مهتما ببناء تحالف دولى ضد الإرهاب، بل أعلن عزمه على تأكيد قوة أمريكا العسكرية بعمل أحادى لكى تتأكد حقيقة أنه لا يوجد من يتحدى أمريكا أو يعارضها. بعد ذلك طلب بوش من الكونجرس تفويضه السلطة للعمل لاكتشاف استخدامات جديدة للأسلحة النووية، مما أدى إلى شعور العالم بأنه بذلك يزيل الموانع أمام أمريكا من اللجوء إلى استخدام أسلحة نووية بالرغم من التفوق العسكرى الكبير لأمريكا، الذى يجعلها لا تحتاج إلى استخدام أسلحة نووية، فضلا عما يؤدى إليه هذا الموقف من مخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل على أمن أمريكا.
وفى عام 2002 أيضا نشرت الإدارة الأمريكية استراتيجيتها للأمن القومى، واعتبرت أن الدعامة الأساسية للأمن القومى هى الحرب الاستباقية، وأدى ذلك إلى نشر المخاوف فى العالم.. وهل تريد أمريكا حقا أن يكون لكل دولة فى العالم الحق فى مهاجمة أية دولة أخرى إذا رأت أنها ربما تمثل تهديدا لها فى يوم من الأيام؟
وعندما حدد الرئيس بوش مهمة مطاردة عناصر القاعدة صورها على أن المقصود منها هو الإمساك بهذه العناصر وتقديمها إلى العدالة الأمريكية، مع أنه قال قبل ذلك إن تنظيم القاعدة يمثل تهديدا للعالم وليس لأمريكا وحدها.
أما فى عام 2003 فقد بدأت الإدارة الأمريكية حشد المساندة من دول العالم ولكن الحشد كان ضد العراق هذه المرة، وليس ضد القاعدة، وللإطاحة بصدام حسين بعد أن قامت بالربط بينه وبين القاعدة، وقالت الإدارة الأمريكية: إن صدام والقاعدة شىء واحد، وكلاهما تهديد للأمن القومى الأمريكى، وأعلنت أنها ستقضى على هذا التهديد بصرف النظر عن القانون الدولى، ودون مراعاة لشكوك الحلفاء، وغضب الأصدقاء. وقال الرئيس بوش: إن أمريكا ليس أمامها خيار سوى الحرب فى العراق لمنع أعدائها من الحصول على المزيد من الأسلحة ويصبحون أكثر قوة، وهكذا ذهبت أمريكا إلى الحرب على العراق بالرغم من أنها لم تحصل على تأييد فى مجلس الأمن. ولم يقف معها سوى أربعة أعضاء فقط.
***
وتقول مادلين أولبرايت: إن بعض المراقبين يرون أن سياسة الرئيس بوش ناجحة فى استخدامها للقوة ضد الذين يهددون أمن الشعب الأمريكى. وتتساءل: هل هذه السياسة نجحت فعلا فى حماية الأمريكيين بأكثر مما كانوا؟ وتجيب: إنها لم تحقق ذلك.
وتقول: إنه كان يكفى أن يكون الرد على هجمات سبتمبر فى أفغانستان وباشتراك حلف الناتو، وكان يكفى أن تنتشر القوات بعد الغزو حول أفغانستان وتبدأ أمريكا مع حلفائها فى إعادة بناء الدولة والمجتمع الأفغانى، وإنهاء الأعمال التى بدأت، ويستمر التركيز على محاربة القاعدة، وعدم التظاهر بأن الفشل فى القبض على أسامة بن لادن ليس أمرا مهما كما فعلت الإدارة الأمريكية.
أما بالنسبة لصدام فإن معلومات الاستخبارات عن أنشطته كان يمكن فهمها بشكل مختلف يؤدى إلى أن الحرب ضد العراق ليست ضرورية على المدى القصير لحماية الأمن الأمريكى كما قيل، وكان من الممكن تنفيذ سياسة احتواء للعراق مع الاستمرار فى مطاردة المجرمين الذين نفذوا العملية الإرهابية فى 11 سبتمبر وقتلوا الآلاف على أرض أمريكا. أما قرار بوش بتوسيع الحرب من القاعدة إلى العراق وتهديد آخرين بالقيام بعمل عسكرى ضدهم فقد أدى إلى تدهور التأييد لأمريكا فى أكثر من عشرين دولة من الدول المؤيدة لأمريكا مثل فرنسا وألمانيا والبرازيل ونيجيريا وتركيا وروسيا وإندونيسيا، ومعظم الدول الإسلامية، حيث أصبحت النظرة لأمريكا نظرة سلبية، وانخفض التأييد للحرب على الإرهاب بقيادة أمريكا. وساد فى معظم الدول الصديقة لأمريكا شعور بالخطر المحتمل من النزعة العسكرية الأمريكية، وهذا شىء لم يكن يخطر على البال أن يأتى يوم ويشعر بالخوف من أمريكا حتى الذين لا تفكر فى إيذائهم.
وتقول مادلين أولبرايت: إن الإطاحة بصدام حسين جعل العراق فى وضع أفضل، ولكن ذلك لم يكن لازما حتى تخصص له الولايات المتحدة عشرات المليارات، بدلا من حشد قوى متعددة الجنسيات والثقافات لمواجهة تنظيم القاعدة وغيرها من الجماعات الخطرة، وكانت مثل هذه المبادرة تحتاج إلى أقصى درجات التنسيق العالمى، وتوحيد القوى الدولية الدبلوماسية والاستخباراتية، والقانونية، وكان ذلك يتطلب من الإدارة الأمريكية إقامة علاقات قوية فى المناطق التى تنتشر فيها الأيديولوجيات الراديكالية، ويكون التأييد للغرب فيها ضئيلا، كما كانت تتطلب قيادة قوية من المسلمين المعتدلين لحماية عقيدتهم، ولكن حرب العراق والاحتلال الأمريكى لبغداد- وبغداد هى عاصمة الإسلام فى عهده الذهبى- جعلت الخيارات صعبة أمام المسلمين المعتدلين وغيرهم فى أنحاء العالم، لأن الرئيس بوش بعد أن كان يطلب تأييده فى غزو أفغانستان أصبح يطلب تأييدا لغزو دولة عربية، والسير معه وفقا لنظرية الحرب الوقائية، وهذا ما جعل المؤيدين لغزو أفغانستان يعارضون غزو العراق، حتى العراقيون الذين تقول الإدارة الأمريكية إنها حررتهم من حكم صدام حسين فإنهم يرفضون الذين حرروهم كما يرفضون صدام حسين. وليس غريبا أن يكون هذا الموقف هو السائد الآن فى العالم العربى، ولكن الغريب أن تنتشر هذه النزعة فى كثير من دول أوربا.
وتقول مادلين أولبرايت:إن الرئيس بوش عندما رشح نفسه للرئاسة تعهد بأن يكون موحدا للصفوف وليس مفرقا لها A uniter, not A divider،ولكنه بعد ذلك تسبب فى انشقاق وخلافات مع أقرب أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة حتى قبل هجمات 11 سبتمبر، وذلك عندما أعلن ازدراء المعاهدات الدولية التى وقعت عليها الولايات المتحدة مثل بروتوكول كيوتو الخاص بحماية البيئة، ثم بلغ الازدراء مداه للحلفاء وللشرعية الدولية خلال التمهيد لغزو العراق، ولم يخفف -من هذا الازدراء - لحلفائه وأصدقائه إلا بعد انتهاء الغزو. وحقيقة أن الخلافات بين أمريكا وحلفائها عبر الأطلنطى ليست شيئا جديدا، ولكن الجديد هو عدم الارتياح الأوروبى للمزاعم الأمريكية، وشكوك أمريكا من القرار الأوروبى، وهذا الشك المتبادل هو الذى هيأ الفرصة لوجود شق خطير وطويل المدى. ولقد حاول بعض المعلقين تفسير المعارضة الأوروبية للحرب على أنها مبنية على ولاء للمنظمات الدولية، أو الإحساس بالضعف النسبى، أو الغيرة من الولايات المتحـدة، ولكـن مثــل هـــذه التحليــلات تغفل الحقيقة، وهى أن الحجج الأمريكية لم تكن مقنعة. وأنا شخصيا شعرت بأن الحرب على العراق كانت مبررة بناء على رفض صدام حسين طوال عشر سنوات الإذعان لقرارات مجلس الأمن الخاصة بأسلحة الدمار الشامل، ولكن ادعاء الإدارة بأن صدام كان يمثل خطرا وشيكا كان ادعاء بغير أساس، كما كان ادعاء الإدارة بأن صدام له علاقة بتنظيم القاعدة هو الآخر ادعاء بغير أساس، وذلك ما جعل المعارضين للحرب يوجهون أسئلة لم تقدم الإدارة الأمريكية إجابات جيدة عنها، وكانت هذه الأسئلة تتعلق بالخطط الأمريكية لإعادة بناء العراق بعد الحرب، واحتمال أن يؤدى احتلال العراق بعد الحرب إلى جذب عناصر من المتطوعين للمقاومة من تنظيم القاعدة أو من غيرهم، وبالتالى فإن الخلافات كانت تدور حول الحكمة من الحرب، وهى- برغم كل شىء - كان لأمريكا فيها الخيار ولم تكن محتومة، ولكن واشنطن بدأتها فى استعراض للهيمنة.
***
ولم يكن القلق الأوروبى حول هذه الحرب لأسباب تافهة كما لم تكن الأسئلة الأوروبية أسئلة ليس لها جواب، ولكن الإدارة الأمريكية اختارت الرد عليها بمزاعم مبالغ فيها، وليس عليها أدلة إثبات، وقامت إدارة بوش بالإلحاح على فكرة الربط بين العراق وتنظيم القاعدة، والقول بأن معارضة الحرب على العراق تتساوى مع الجبن عن مواجهة أسامة بن لادن، وساهم هذا التكتيك المغلوط إلى انتشار شعور لدى الشعب الأمريكى بأن الفرنسيين والألمان ليسوا فقط السبب فى النزاع، ولكنهم خائنون. وكان من الممكن توجيه اللوم إليهم، لأن صبرهم الطويل على صدام حسين -الذى استمر عشر سنوات دون أن ينفذ قرارات مجلس الأمن- هو الذى أغراه بالأمل فى مقدرته على أن يحدث انشقاق فى مجلس الأمن بين الدول الكبرى ورفع العقوبات عنه دون التخلص من برامجه للتسلح. وكانت حجة الإدارة الأمريكية أنه ما دامت عمليات التفتيش عن طريق الأمم المتحدة تواجه عقبات فإن السبيل الوحيد هو استخدام القوة العسكرية لفرض تنفيذ قرارات مجلس الأمن ودعم مصداقية الأمم المتحدة والقانون الدولى، ولكن مع الأسف، فإن إصرار إدارة بوش كان واضحا لسد الطريق على مهمة فريق مفتشى الأمم المتحدة بقيادة هانز بليكس، وأعلنت الإدارة الأمريكية عن نظرية الحرب الوقائية باعتبارها البديل للقانون الدولى، وكانت النتيجة أن معظم دول العالم رأت أن الحرب ليست السبيل لتنفيذ القانون، ولكن الحرب كانت هى القانون الذى فرضته الولايات المتحدة وحدها.
***
ولم يكن من الضرورى أن تتم إدارة الحرب بالطريقة التى تمت بها. وكانت تمكن الاستفادة من تجربة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كانت فى ذلك الوقت فى ذروة قوتها أيضا، وواجهت كذلك مخاطر جديدة وغير مسبوقة، ومع ذلك جلست إدارة ترومان مع مجموعة من الدول أقل قوة وتشاورت معها فيما يجب أن تكون عليه قواعد اللعبة الدولية الجديدة. ولكن إدارة بوش بالعكس من ذلك، خلفت الانطباع بأنها لا تهتم بما يعتقده الآخرون، وكانت النتيجة أنها أغضبت العالم.
وتقول مادلين أولبرايت: إن الفرنسيين لم يساعدوا وأظهروا أن توحيد أوربا هدفه إيجاد قوة أو وزن دولى مضاد للقوة والوزن الأمريكى.. على أساس رؤية للعالم تقوم على الاختيار بين عالم أحادى القطب تنفرد فيه الولايات المتحدة كقوة مسيطرة لا يقوى أحد على كبح جماحها، وعالم متعدد الأقطاب تكون فيه القوة الأمريكية متوازنة مع قوى أخرى أهمها أوربا الموحدة، ولكن هذه الفكرة غير صحيحة - كما تقول مادلين أولبرايت- والقول بأن قوة الولايات المتحدة تعرض مصالح الديمقراطيات الأوروبية للخطر بدلا من تقويتها والمساعدة فى حمايتها.. هذه الفكرة هراء (!). وربما تؤذى القوة الأمريكية الغرور الفرنسى، كما تقول مادلين أولبرايت، ولكن هذه القوة الأمريكية هى التى ساعدت فرنسا على التحرر من احتلال جيوش هتلر، وإنقاذ ألمانيا من الحكم الدكتاتورى، وهزيمة الشيوعية، وتخليص البلقـان من السفاح سلوبودان ميلوسوفيتش.
ومع ذلك فإن مادلين أولبرايت تقول: إن الخلافات التى اندلعت بين الولايات المتحدة والكثيرين فى أوربا من الممكن، بل من الضرورى حصرها، وموقف أوربا الذى يتحدى الولايات المتحدة هو تعبير عن الرفض الفرنسى المبالغ فيه للقوة الأمريكية المفرطة وإصرارها على هذا الموقف، والحقيقة أن الولايات المتحدة لم تفقد الوسائل لحماية أمنها، والشعب الأمريكى والعقلاء فى العالم لن يسمحوا للإدارة الأمريكية بالذهاب بعيدا. ولكن التحدى أمام الولايات المتحدة هو إيجاد صيغة للدور الأوروبى تقبلها معظم دول أوربا وتحفظ لها كرامتها، وكخطوة نحو هذا الهدف يجب جذب حلف الأطلنطى للقيام بدور واسع فى أفغانستان، وإن كان ذلك لم يحدث إلا بعد 11 سبتمبر بعامين، ويجب أن يمتد دور حلف الأطلنطى إلى العراق حيث تحتاج القوات الأمريكية إلى تخفيف الضغوط الشديدة عليها، ويجب على الولايات المتحدة أيضا أن ترحب بحماسة بالجهود الأوربية لتطوير قوة مستقلة لرد الفعل السريع، تقوم بصفة خاصة بعمليات حفظ السلام والاستجابة للطوارئ الإنسانية، ولقد قام الألمان والأتراك خلال عام 2002 بمهام كبيرة فى أفغانستان يستحقون التهنئة عليها بصرف النظر عن قضايا خلافية أقل أهمية، وبذلك يمكن للأوربيين القيام بمهام لمساندة الولايات المتحدة، كذلك يجب إقناع الأوربيين، وليس إصدار الأوامر إليهم، لكى يتعاونوا مع الولايات المتحدة فى موقفها من برنامج إيران النووى، والأهم من كل ذلك فإن على الولايات المتحدة أن تتعامل مع الأوربيين باحترام على أنهم ناضجون، وإذا كانت لديهم تحفظات على السياسة الأمريكية أو خلافات معها فيجب على الولايات المتحدة أن تنظر إليها بجدية، وليس بتجاهلها واعتبارها علامات على العجز أو الخيانة. باختصار على الإدارة الأمريكية أن تتذكر أن هناك فرقا بين الحلفاء والأتباع والاختلاف بينهما كبير.
***
وتقول مادلين أولبرايت: إن أحد الأسباب التى تجعل إدارة بوش تشعر بعدم الحاجة إلى التشاور مع الآخرين هو درجة اليقين التى تشعر بها بصحة رؤيتها، وقد ادعى الرئيس بوش فى مارس 2003 أن الحرب فى العراق سوف تثبت أنها الخطوة الأولى نحو تغيير الشرق الأوسط بأكمله. وكان منطقه أن إظهار الحزم الأمريكى سوف يدخل الرعب فى نفوس الإرهابيين ومن يعملون على إيوائهم ورعايتهم، وسوف يقل التهديد الإرهابى على أمريكا والعالم عندما يتم نزع أسلحة صدام حسين وخلق عراق ديمقراطى، وتشمل رؤية الرئيس بوش أن وجود القوات الأمريكية فى العراق سيكون رسالة لأنظمة الحكم العربية غير الديمقراطية، ويقدم نموذجا للدولة الفلسطينية الجديدة المحتملة، وعندما تنقطـع المســـاعدات الماليـــة التى كـــان يقدمها النظـــام العــراقى لأســر (المفجرين المنتحرين) الفلسطينيين، فإن الإرهابيين المعادين لإسرائيل سيغلقون مصانع القنابل، وعندئذ يمكن البدء فى المفاوضات الجادة. وسيكون سقوط صدام حسين درسا مفيدا لكل من يعمل على انتشار أسلحة الدمار الشامل سواء فى كوريا الشمالية البعيدة، أو فى إيران القريبة.
تقول مادلين أولبرايت:إنه مهما كان الرأى حول إمكان تحقيق هذه الرؤية، فإنها رؤية حسنة النية، والذين يظنون أن حرب العراق كانت من أجل الاستيلاء على البترول مخطئون (!)، والحقيقة أنها كانت حربا من أجل الفوز بمكان فى التاريخ، وهى تستحق الاستمرار حتى النهاية، فلم يكن أحد يتوقع أن يتحقق النصر بهذه السهولة، وربما يوجه النقاد من أمثالى النقد إلى التخبط والانتكاسات التى حدثت، ولكن ذلك سوف يتوارى إذا تم النجاح فى خلق عراق ديمقراطى ومستقر استقرارا حقيقيا، وإذا تم القضاء على تنظيم القاعدة، وإذا تم القضاء على الإرهاب المعادى لإسرائيل، والقضاء على طموح إيران النووى، وظهور حكومات تمكن محاسبتها فى العالم العربى، وهذه هى مقاييس النجاح التى وضعتها إدارة بوش لنفسها عندما ذهبت للحرب فى العراق.
وتقول: إن الإدارة الأمريكية تقول إنها تحتاج إلى فترة معقولة لتحقيق أهدافها، ولكن الحكم على نجاحها سيتوقف على معيار يجب أن تلتزم به الولايات المتحدة.. معيار يتعلق بشرعية أو عدم شرعية استخدام الإرهاب كوسيلة لتحقيق التغيير السياسى (!) وبالنسبة للأمريكيين فإن الاختيار سهل، وقد قال الرئيس بوش: إما أن تكون مع الإرهاب أو ضده، ولكن هناك بعض المعتدلين لهم اعتقاد مختلف.. ولابد أن ندرك أن التاريخ يشير إلى اعتناق غير الأشرار لفكرة أن الشر ليس شرا، ولكنه شىء آخر، فالرومان رأوا عظمة روما فى نهب أثينا، والكاثوليك المتدينون رأوا أن نقاء العقيدة فى الظلم الأسبانى، ومؤسسو أمريكا رأوا أن تجارة العبيد ضرورة اقتصادية، وصرب البوسنة رأوا أن العدالة هى التطهير العرقى، بل حتى المتعاونون مع النازية كان معظمهم على يقين بأنهم يفعلون ما هو صواب، والآن ماذا يمكن أن يكون مطلبا أخلاقيا فى عصرنا أكثر من السلام؟. وهذا ما عبّر عنه الشاعر آرتشيبالد ماكليش فى سنة 1940 عندما كتب: (إن القتل ليس أخلاقيا، ولكنه يصبح كذلك عندما يُدفع الناس إلى الاعتقاد بأن القتل ليس شرا، وهذا لا يمكن أن يحققه إلا فساد العقل، ولا يكون فساد العقل ممكنا إلا عندما يصمت هؤلاء الذين يجب أن يكون صوتهم مسموعا وهم يدافعون عنه) والدرس الذى نحتاج إليه الآن هو: مادام أن الوهم يدعونا إلى الاعتقاد بأن الشر مبرر بطريقة ما بالدعاية، أو الجهل، أو المصلحة، أو الخوف - فإن من الصعب تبديد هذا الوهم، ولذلك يجب ألا نأخذ أمرا من الأمور على أنه بديهى ومسلّم به، ويجب أن نكون جادين فى تشكيل إجماع دولى على قضايانا.
تقول مادلين أولبرايت: لقد طرحت كثيرا- عندما كنت وزيرة للخارجية - مع القادة العرب ضرورة التكتل وراء القضاء على الإرهاب دون أعذار أو استثناءات، ولكن ردودهم نادرا ما كانت مريحة، وكان المتحاورون معى يدينون الإرهاب دون شروط ثم يتحدثون عن شرعية الصراع من أجل تحرير الأراضى العربية المحتلة، وبمعنى آخر، كان الإرهاب أمرا عاديا فى إسرائيل وضدها، ولا يزال رأى أغلبية العرب أن من حق الفلسطينيين أن يحاربوا الإسرائيليين بأية وسيلة يمتلكونهــا، أمــا عن مســألة تمويـل الإرهاب فقد كانت الإجابة التى أتلقاها غير متلائمــة مــع خطـورة الموضــوع، وعنــدما واجهت أحد القادة السعوديين بأمر المدفوعات لحمــاس قــال: إنهم يستحقون لأنهم حماس، بخلاف ياسر عرفات وحكومته، وهم يقدمون فعلا خدمات اجتماعية للشعب الفلسطينى، أما بالنسبة لأسر (المفجرين المنتحرين) فكان تبريرها دائما على أنها مساعدة إنسانية وليست مكافأة أو تشجيعا. أما توجه المحافظين العرب تجاه الإرهاب الذى تمارسه القاعدة فهو أمر آخر، لأن أسامة بن لادن هو الثعبان الذى تحول لكى يلدغ صاحبه، فتعليم الإسلام الوهابى فى مساجد السعودية، الذى يسانده كرم العائلة المالكة تفاعل مع العوامل الأخرى مثل العولمة، والبطالة المتزايدة، والتواجـد العسـكرى الأمريكى، مما أدى ذلك إلى نشأة مركز عالمى لنشر الكراهية (!) وما يزعج القادة السعوديين أن تلك الكراهية ليست موجهة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل وحدهما. والانفجارات التى وقعت فى الرياض دمرت آخر الأوهام السعودية المتبقية، ومنذ ذلك الوقت يلقى السعوديون القبض على المشتبه فيهم، ويطلقون النار على مئات من الراديكاليين، ويصدرون قرارات بوقف رجال الدين المتشددين، ويقولون إنهم يطبقون قواعد جديدة لمنع تدفق التبرعات للجماعات الإرهابية حول العالم، ولكن حدث فى الوقت نفسه أن فقد محرر أبرز صحيفة ليبرالية وظيفته لأنه يفترض وجود صلة بين الإرهاب وما يُدرس فى المساجد الراديكالية. وإذا كان العمل قد بدأ من أجل العقل الجماعى السعودى، فإنه يجب عمل ما هو أكثر من مجرد إدانة التطرف والإرهاب. يجب اقتلاع التطرف والإرهاب من جذورهما بعد انتشارهما.
وتقول: حتى لو نجح السعوديون فى اقتلاع جذور التطرف والإرهاب فسوف يستمر وجودهما فى أماكن أخرى. فالإمام العراقى مؤيد العبيدى الذى يرى أن فى العالم قوتين، إحداهما أمريكا المستبدة الظالمة، والثانية قوة مجاهدة لم تستيقظ بعد، هذا الإمام لم يساند الإرهاب صراحة فى خطابه، ولكنه استخدم نوعا من مصطلحات صدام الحضارات التى تجعل صمويل هنتنجتون يبدو ذا بصيرة (بنظريته عن صدام الحضارات وحتمية الصدام بين الغرب والإسلام) وفى نفس الوقت فإن الخيار الذى قدمه الرئيس بوش (معنا أو ضدنا) أعيدت صياغته بحيث يكون الإسلام هو الأعلى، ويكون الشر الأمريكى بديلا عن الشر الحقيقى وهو الإرهاب، وتظهر هذه المغالطة الصعوبة الشديدة التى ستضطر الولايات المتحدة لمواجهتها إلى تصنيف العراقيين على أساس رغبتهم فى التعاون صراحة مع الولايات المتحدة، ويحتاج العراقيون والعرب عموما إلى وقت لتحديد خياراتهم متحررين من القادة الفاشيين، على أن تكون خيارات العرب فى النهاية تتضمن التسامح، واستبعاد العنف، وتحقيق العدالة للمرأة، وأنا أعترف أن ذلك لن يكون سهلا فى التطبيق العملى، ولكن هناك أسباب للأمل.. صحيح أن الاستطلاعات تظهر كراهية عريضة الانتشار للسياسات الأمريكية، خاصة فى الشرق الأوسط، ولكن هذه الاستطلاعات تؤكد حماسة الشعوب العربية للقيم الأمريكية مثل حرية التعبير عن الرأى، والتعددية السياسية، والمساواة فى ظل القانون، وتكشف الاستطلاعات أن الأغلبية فى أماكن كثيرة منها الأردن، والكويت، والمغرب، تعتقد أن الديمقراطية وفقا للنموذج الغربى سوف تنجح فى دولهم.
***
وتقول: إن الديمقراطية إذا تم بناؤها من القاعدة إلى القمة، بخطوة واحدة فى كل مرة، فإن القادة الأمريكيين ستكون لديهم الفرصة للالتفاف حول الحكومات العربية لإيجاد القيم المشتركة مع الشارع العربى، وعلى سبيل المثال فإن تشجيع منافذ إعلامية جديدة أفضل من ضياع وقت طويل فى إدانة ما تقدمه قناة الجزيرة الفضائية مثلا. وبالرغم من أننى فخورة بالسياسة الخارجية لإدارة كلينتون، وأدرك أن الديمقراطية لا يمكن فرضها من الخارج، فإننى أشعر بالندم لأنى لم أفعل المزيد لدفع عملية التحرر فى العالم العربى. لقد ساندنا القادة الكويتيين فى مبادرتهم لإعطاء المرأة حق التصويت، وشجعنا على خلق هيئات نيابية فى البحرين والأردن، ولكننا لم نجعل لذلك الأولوية. وبالرغم مما تظهره الاستطلاعات من التحمس العربى للديمقراطية، فإن هذه الاستطلاعات كشفت عن أن الفلسطينيين معجبون بأسامة بن لادن أكثر من غيره، فإذا كان هذا حال الشارع العربى فمن الذى يريد إعطاء من لهم مثل هذه الآراء حق اختيار قادتهم؟. الإجابة: نحن! ويجب أن نفعل كل شىء ممكن لإعطائهم هذا الحق.
ولسنوات ظلت الشعوب العربية تتلقى رسالة مشوهة من واشنطن. بأن الولايات المتحدة تؤيد الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان فى كل مكان ماعدا الشرق الأوسط، وللجميع ماعدا العرب، وقد حان الوقت لمحو هذه الفكرة والحقيقة التى تكمن وراءها، وإن كانت الديمقراطية لن تقضى على الإرهاب فى العالم العربى، فإنها لن تغذيه كما يفعل الاستبداد، وإن جاذبية أسامة بن لادن أساسها أنه يمثل التحدى. بينما لا يقدم شيئا سوى الموت والدمار، والأغلبية المسلمة سوف ترفض ذلك إذا تم تقديم بدائل حقيقية لهم.
وتقول: إن إحلال الديمقراطية فى العراق هو أكثر جوانب الخداع فى مغامرة الإدارة الأمريكية فيه. صحيح أن خلق ديمقراطية عراقية مستقرة ومتوحدة سيكون إنجازا هائلا، وستكون له أصداء وتداعيات عربية، ولكن هل كان غزو العراق هو السبيل الوحيد للبدء فى بناء قوة دفع للديمقراطية فى العالم العربى؟ الإجابة سوف تحددها الحالة التى سيصل إليها العراق.. كيف سيكون العراق المنقسم؟ وكيف سيصبح الوضع الأمنى فيه؟ وبالتأكيد سوف يواجه الجنود الأمريكيون أوقاتا صعبة لبناء الديمقراطية فى العراق إذا أجبروا على البقاء وراء الجدران وداخل الدبابات، وسيفقد المسئولون الأمريكيون المصداقية عندما يستمرون فى الوعظ عن فضائل الحرية بينما هم يفرضون الرقابة على الإذاعات، ويأمرون بتفتيش البيوت، ويحظرون قيام أحزاب سياسية، ويرفضون بإصرار المطالب العراقية بمنح الشعب العراقى الحكم الذاتى الكامل. إن إدارة بوش عاقدة العزم على الاحتفاظ بالسلطة فى يدها للإشراف على كل جوانب تحول العراق بعد الحرب، وسوف يكشف التاريخ إن كان هذا القرار حكيما أم لا، ولكنى أتذكر فى هذا السياق قاعدة من (قواعد رامسفيلد) التى وضعها وزير الدفاع لتكون قواعد للسياسة الحكيمة، وهذه القاعدة تقول: (إن الدخول فى الأمور أسهل من الخروج منها).
***
وهناك اختبار ثان للإدارة الأمريكية لمدى نجاحها فى تحقيق أهدافها فى الشرق الأوسط، وهو إحلال الديمقراطية فى العالم العربى، والاختبار هذه المرة مع السلطة الفلسطينية، إن تعيين رئيس الوزراء ووزير المالية خطوة مهمة تجاه الديمقراطية والحكم السليم، وخلق الحرية السياسية أمر ضرورى لإفساح المجال أمام ظهور جيل جديد من القادة الفلسطينيين يتوافق مع الأساليب الديمقراطية، ولكن الديمقراطية إذا حكمت فإن من المستبعد اختيار حكومة فلسطينية راغبة فى صنع السلام بشروط تقبلها إسرائيل، أو على الأقل لن تظهر هذه الحكومة الآن، ولكن بعد سنوات عديدة، حيث كشفت آخر دراسة أن 80% من الفلسطينيين لا يعتقدون أنهم يستطيعون إدراك حقوقهم وهم يتعايشون مع دولة إسرائيلية، وإن الشك لدى الفلسطينيين له ما يبرره بالتأكيد ما دام الفلسطينيون يعتقدون أن حقوقهم تتضمن استرداد كل الأراضى التى أُخذت منهم أثناء حرب 1967 والسيادة الكاملة على الحرم الشريف، وحق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى بيوتهم قبل 1948. فإذا لم يتم تعديل هذه المطالب، أو تجنب الخوض فى هذه الموضوعات بطريقة ما، فإن عملية سلام الشرق الأوسط سوف تمتد إلى ما وراء الحدود التى يمكن تصورها فى خريطة الطريق (!)
وهكذا، فإن تحقيق التقدم يتطلب تفكيرا جديدا من الجانبين. يجب أن يساعد الإسرائيليون رئيس الوزراء الفلسطينى على النجاح بطريقة لم يفعلوها أبدا مع عرفات، وهذا يعنى أن العامل الأساسى هو أن يكون رئيس الوزراء الفلسطينى مسئولا أمام الفلسطينيين وليس أمام رئيس وزراء إسرائيل أو رئيس الولايات المتحدة. وإذا لم يتمكن نظام الحكم الفلسطينى الجديد من إظهار نتائج أكبر مما حققها عرفات فإن رئيس الوزراء الفلسطينى سيجد نفسه على هامش التاريخ. وفى الوقت نفسه فإن على الفلسطينيين أن يرفضوا الإرهاب، ليس لأن الولايات المتحدة والأطراف الخارجية الأخرى تريد ذلك منهم، ولكن لأن الإرهاب هو عدو الشعب الفلسطينى أكثر من إسرائيل (!) إنه مدمر للاقتصاد الفلسطينى، ولآمال الفلسطينيين فى استرداد الأراضى، ومدمر لروح الشعب أيضا. والإرهاب اختيار. وعندما تكون لدى الناس القدرة على الاختيار. فسوف تكون لديهم القدرة على التغيير، ولذلك يجب على إدارة بوش، وعلى الحكومات الأوربية، والعالم العربى، والمعتدلين الفلسطينيين أن يعملوا معا لخلق إجماع فلسطينى يشجب ويستبعد الإرهاب، لأنه إذا استمر تمجيد (القتلة) على أنهم شهداء، فلن يكون هناك سلام، ولن تكون هناك دولة فلسطينية. والإسرائيليون أيضا يجب أن يشعروا بالقلق من تأثير سياساتهم القائمة على الدفاع العدوانى عن النفس. وذات مرة قالت جولدا مائير عندما كانت رئيسة للوزراء فى إسرائيل إنها كانت تلوم العرب على قتل الإسرائيليين أقل مما تلومهم على جعل القتال أمرا ضروريا بالنسبة للإسرائيليين، لأن لإسرائيل الحق فى حماية نفسها من الإرهاب، ولها الحق أحيانا فى اتخاذ عمل وقائى، ولكنها يجب ألا تنسى أبدا أنها مقدر لها أن تعيش بجوار الفلسطينيين إلى الأبد وتشاركهم نفس الأرض ولا يوجد حل عسكرى حاسم.
***
وتحت عنوان (إعادة صياغة الاختيار) تقول مادلين أولبرايت: بعد 11 سبتمبر طالب الرئيس بوش العالم بأن يقف مع الولايات المتحدة ضد الإرهابيين الذين هاجموا أمريكا، ولكنه بعد ذلك غير نبرة حديثه إلى العالم وقام بتوسيع دائرة مطالبه. ولم يعد يطلب من العالم الانضمام إليه فى صراع مشترك، ولكنه كان يطلب من العالم أن يتبع الولايات المتحدة وهى تشن حربها الخاصة بها ضد التهديدات التى حددها. وقد كرر بوش أن هجمات 11 سبتمبر أثبتت أن المؤسسات والتحالفات وقواعد الماضى لم تعد ملائمة لحماية الشعب الأمريكى، وإن الإرهابيين لا يمكن ردعهم وهم طلقاء، وإذا توصلوا إلى أسلحة دمار شامل فسوف يؤدى ذلك إلى رعب لا يمكن وصفه. وهكذا حذر بوش من أن الولايات المتحدة ستعمل عندما تجد بالفعل أو بالإمكان أو الاحتمال صلة للإرهابيين بالتكنولوجيا الخطيرة، وأن الذين سيشاركون أمريكا فى حربها سيحصلون على مكافأة، أما الذين لا يشاركون فسوف يتم ازدراء موقفهم ولهم ما هو أسوأ من ذلك. وإننى فخورة بالرئيس بوش بسبب طموحه وقيامه بمجازفات سياسية لم يكن عليه القيام بها، ولا أشك فى إخلاصه، وأتفق معه فى أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تكون وديعة، وأشاركه رأيه فى عدم الاكتفاء بمعارضة الأعداء المعلنين، بل هزيمتهم، ولصالح الولايات المتحدة آمل أن تنجح سياساته، ولكنى أجد أنه وضع عوائق فى طريقه لم تكن ضرورية. فقد كانت هجمات 11 سبتمبر مأساوية وصدمة، ولكنها كانت أول مرة تدرك فيها الولايات المتحدة الخطر الشديد الذى ستواجهه إذا سمحت لأسلحة الدمار الشامل بالوصول إلى الأيدى الآثمة. والرئيس بيل كلينتون حذر مرارا من ذلك وكان من إنجازاته المبكرة إقناع أوكرانيا وكازاخستان وروسيا البيضاء بالتخلى عن أسلحتها النووية، وتعزيز برنامج التعاون لخفض التهديدات النووية، وأنفق الأموال الأمريكية لتأمين المواد النووية، والخبرة النووية فى الاتحاد السوفيتى السابق، وجعل كلينتون نفسه مدافعا عن أمريكا من أى خطر لهجوم بالأسلحة البيولوجية، وأعاد تنظيم مجلس الأمن القومى لتوسيع ميادين القتال ضد الإرهاب. وذلك قبل تفجير السفارتين الأمريكيتين فى كينيا وتنزانيا فى أغسطس 1998 الذى جعل لأسامة بن لادن شهرة على مستوى العالم. وعاما بعد عام كان كلينتون يذهب إلى الأمم المتحدة فى نيويورك للتأكيد على هدفين: أهمية وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، وضرورة اتخاذ الدول موقفا موحدا بعدم منح ملاجئ للإرهابيين أو تسهيل توصيل الأموال إليهم، ولكن كلينتون اختلف عن بوش فى أنه كان يؤمن بأن قدرة الولايات المتحدة على ضرب أعدائها سوف تكون أقوى إذا كان حلف الناتو قويا وموحدا، وإذا تم تعزيز الأمم المتحدة ووكالاتها مثل وكالة الطاقة الذرية، وإذا عملت أمريكا بالتشاور مع حلفائها وأصدقائها واحترامهم.. كان كلينتون يرى أن محاربة الإرهاب مشروع جماعى وليس عملا منفردا. وقد أظهر 11 سبتمبر أن ما كانت تفعله الولايات المتحدة لتحديد هوية القاعدة وهزيمتها لم يكن كافيا، ولكنه لم يضعف الثقة فى أن الأمريكيين يحتاجون بالضرورة إلى المساعدة والتعاون من الدول الأخرى لكى يحققوا الهزيمة لتنظيم القاعدة.
***
وقد اختارت إدارة بوش إدماج مشكلة القاعدة مع التحدى الخاص بوقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهما متداخلتان، ولكنهما ليستا متطابقتين من حيث القضايا العسكرية، والسياسية، والفنية التى يثيرها كل منهما، ولأن هزيمة القاعدة لن تنهى مشكلة انتشار أسلحة الدمار الشامل. وتنظيم القاعدة فى ذاته خطر حتى بدون أسلحة نووية وكيمائية وبيولوجية، ومن ناحية أخرى فإن الدافع للبرامج النووية لكوريا الشمالية وإيران هو الوطنية وليس الإرهاب، ويجب التعامل معهما على هذا الأساس. ولكن بالنسبة لإدارة بوش فإن 11 سبتمبر ينطبق عليه القول: (وجدتها!) وكانت فرصتها للجمع بين الإرهاب وأنظمة الحكم التى اعتبرتها شريرة لمحاربتها، وفقا للمبدأ الذى ابتدعته وهو (العمل الوقائى)، وهذا المبدأ أدى إلى انتشار الرعب والتمزق فى العالم، بينما يعتمد أمن أمريكا فى هذا الوقت على توحيد العالم معها. وأعتقد أن توجها مختلفا سيكون أجدى، بالتركيز على القاعدة، والتعامل فى نفس الوقت مع الشرق الأوسط، والعراق، وإيران، وكوريا الشمالية بقوة، ولكن باعتبارها قضايا منفصلة عن القاعدة، وأعتقد أن مثل هذا التوجه كان من الممكن أن يساعد بوش على صياغة خيار أوضح وأفضل فى موضوع الإرهاب يجذب الحلفاء فى أوربا، والأهم من ذلك يكسب جمهور الأغلبية الصامتة من المسلمين فى الشرق الأوسط وفى أنحاء العالم، وفى هذا السيناريو كانت جدية أمريكا فى التعامل مع هذه القضايا ستساندها جدية فى أفغانستان التى ستظل محور تركيز الجهود الأمريكية، وبدلاً من التباهى بالقوة الأمريكية كان يجب على الحكومة الأمريكية أن تؤكد القوة الجماعية لعالم متوحد ضد الإرهاب، وتكون إدانة الإرهاب مثل إدانة القتل الجماعى، والتفرقة العنصرية، والعبودية. وكان يجب أن تتجه الجهود الأمريكية إلى وقف تعليم الكراهية فى المدارس وتمجيد القتل وتكرار الأكاذيب عن الغرب المنتشرة فى معظم دول الشرق الأوسط وجنوب آسيا وذلك أكثر جدوى من الاكتفاء باعتقال المشتبه فى انتمائهم للقاعدة. وبمساندة أوربا الموحدة كان يجب على المسئولين الأمريكيين أن يدفعوا الانفتاح التدريجى للنظم العربية السياسية والاقتصادية نحو القيام بإجراءات للتغيير تجاه الديمقراطية التى تشير استطلاعات الرأى إلى أن معظم العرب يريدونها. وكان يجب على أمريكا أيضا أن تظهر احترامها لقيمة حياة كل إنسان بالتدخل لوقف القتل اليومى على الجانبين فى الشرق الأوسط الذى مزقه الصراع. ولكن الاختيارات المعقدة لإدارة بوش جعلت الاختيارات أمام الآخرين معقدة أيضا، ومزقت أوربا، وأفاد ذلك المتطرفين الذين لا يحبون شيئا أكثر من جعل صدام الحضارات هو الصراع المحدد لطبيعة عصرنا.
لقد تأخرت إدارة بوش فى تعديل مسارها. وقد أسقطت بالفعل بعض أوهامها المتفائلة بخصوص العراق، وتعهدت بتدخل الرئيس بوش فى الشرق الأوسط، وأصلحت جانبا من التصدع مع أوربا، وقللت مستوى تهنئة نفسها فى تصريحاتها الرسمية، وإذا اختفت نظرية العمل الوقائى من قاموس الأمن الأمريكى وأصبحت هذه النظرية للظروف الاحتياطية فقط فإن ذلك سيساعد الإدارة الأمريكية كثيرا، وسيكون مهما كذلك استكمال المهام فى أفغانستان والعراق قبل إعلان النصر مرة أخرى، ولتحقيق ذلك الهدف ربما يدرك المسئولون فى الإدارة أن المؤسسات الدولية ضرورية، وإن كانت غير قادرة على عمل كل ما هو مطلوب منها، فإنها تستطيع عمل شىء ما، وربما يتخلى القادة الحاليون عن ازدراء كل ما تم فى إدارة كلينتون ويفكرون فى نموذج كوسوفو حيث توفر الأمن فيها قوة حفظ السلام بقيادة حلف الناتو، وبمشاركة روسية، ومساهمة قوة شرطة مدنية جديدة، وهذا ما حقق الأمن لممثلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوربى ومنظمة الأمن والتعاون فى أوربا، الذين يعملون مع الأحزاب المحلية للإعداد لانتقال ديمقراطى، وقد أعطت هذه الصيغة لكل المشاركين فيها إحساسا بالمهمة الملقاة على عاتقه، ودعم ذلك النجاح الذى تحقق.
تقول مادلين أولبرايت: ليس من مصلحة أمريكا أن تعمل وحدها، وأن العمل مع الحلفاء أمر ضرورى، وتطوير المنظمات الدولية يتطلب الصبر ولكنه يعود بفوائد كبيرة فى التكاليف، وتوزيع الأعباء، وتعزيز الشرعية، ومشاركة أفكار وقدرات متنوعة، وبتعاون الجميع على تحقيق النجاح. وتكرر: إن الفكرة القائلة بأن الأمريكيين يعيشون فى خوف من أسامة بن لادن قد فشلت فى التأثير فى غالبية الناس فى العالم. لأن التحدى أمامهم هو البقاء أحياء وهم يواجهون الفقر والمجاعة والمرض كما فى أفريقيا، وهذا الخطر الذى يهدد بقاءهم يسبق لديهم خطر أسامة بن لادن، وهكذا فسوف يكون صوت أمريكا مسموعا أوضح وأعلى إذا مدت جسور التعاون والمساعدة بدلا من التوعد والتهديد، وإذا تحدثت إلى العالم عن اختيارات لتحسين حياة الشعوب.
***
هذه هى الرؤية التى قدمتها مادلين أولبرايت للسياسة الأمريكية فى عمومها وفى الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص. فى مجلة فورن افيرز عـدد سبتمبر- أكتوبر 2003 دون تدخل أو تعليق، فقط ننصح بقراءتها مرة أخرى على مهل لقراءة الكثير مما بين السطور، لأن الأفكار التى تلفها وزيرة الخارجية السابقة فى لفافات من السلوفان أهم وأخطر من الأفكار التى طرحتها صراحة وبوضوح.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف