هيكل: لست رجلا لكل العصور!
 سئل محمد حسنين هيكل عن دوره بعد عبد الناصر والسادات فقال : لست رجلا لكل العصور.
وكرر مرة أخرى إن التاريخ لا يعيد نفسه مرتين، وإذا عاد فإنه يكون فى المرة الأولى حقيقة وفى المرة الثانية ملهاة.
ولهذا كان قراره عندما أُخرج من الأهرام ألا يعود إليه مرة أخرى وألا يعود إلى منصب فى الصحافة المصرية أبـدا. وعندما أُبعد عن العمل السياسى قرر ألا يشارك فيه بعد ذلك أبدا. وأخيرا عندما بلغ من العمر ثمانين عاما فى يــوم 23 سبتمبر 2003 قـرر الاعتـزال، وقـدم طلب الاعتزال إلى قرائـه - وليس إلى غيرهم - وكتب مقالين بعنوان استئذان فى الانصراف: رجاء ودعاء.. وتقرير ختامى.
وعندما قرر الانصراف كان فى قمة تألقه بعد أن قدم أكثر من عشرين كتابا تُرجمت إلى 12 لغة، وليس فى العالم العربى كاتب قدم مثل هذه الثروة الفكرية وبمثل هذا المستـوى الراقـى فى الفكـر والمنهـج. ولذلك فهـو- دون منـازع - الكاتب الصحفى العربى الوحيد الذى وصل إلى العالمية بجهده وتفوقه.
وقائمة مؤلفاته الطويلة تشمل مجموعة كتب متخصصة فى التاريخ الحديث، مثل: الاستعمار لعبته الملك - أكتوبر73 السلاح والسياسة - الانفجار: حرب الثلاثين سـنة - خبايا السويس- الخليج العربى مكشـوف - الزلزال السوفيتى- زيارة جديدة للتـاريخ - سقوط نظام: لماذا كانت ثـورة 1952لازمة؟ - سنوات الغليـان - الطريق إلى رمضان- العروش والجيوش - قصة السويس - لمصر لا لعبد الناصر- ما الذى جرى فى سـوريا - مدافع آيـة الله- المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل.. إلخ.
وفى هذه الكتب أثبت هيكل أنه ليس فقط كاتبا صحفيا، ومفكرا سياسيا واستراتيجيا، ولكنه مؤرخ بالمعنى الدقيق الذى يجعله واحدا من أساتذة التاريخ الحديث. وليست هذه شهادتى له، ولكنها شهادة المؤرخين الكبار.
والدكتور يونان لبيب رزق من أكبر وأهم أساتذة التاريخ الحديث، كتب مقالا فى صحيفة السفير اللبنانية يوم 23 سبتمبر 2003 بعنوان: محمد حسنين هيكل زيارة جديدة للتاريخ. وقال فى مقاله إن هيكل قام بدور مهم فى خدمة الكتابة التاريخية، ولم يتعامل مع هذا النوع من الكتابة بمنطق الصحفى، أو بالمنطلق الأكاديمى الذى يغلب على كتابات المؤرخين الأكاديميين الذى يصطبغ بالجفاف، وهو ينكر أنه مؤرخ، ويتواضع فيذكر أنه ليس أكثر من قارئ للتاريخ، ويذكر أن كتابة التاريخ ليست صناعته ولا يدعيها، وأنه فقط يقدم قراءة للتاريخ، وأن هذا حقه وحق كل مهتم بالشئون العامة.. وهو- كما قال - وجد قراءة التاريخ صعبة بالنسبة له لأنه عاش وقائعه، وكان عليه أن يقرأ بأمانة، وأن يخضع للاختبار كثيرا مما كان يظن أنه يعلمه، وأن يطرح للمراجعة كثيرا مما كان يتوهم أنه يفهمه. ويحدد هيكل منهجه فى كتابة التاريخ بأنه منذ البداية يتخذ ما كان يتصور أن لديه علماً به كمجرد دليل يقوده إلى مواقع البحث والتفتيش حتى تكون قراءته للتاريخ مستوفية ومتوازنة. وفى بعض الأحيان وجد ما يريد حيث قدر، وفى أحيان أخرى اكتشف أن اتجاهه يحتاج إلى إعادة تصحيح وإعادة ضبط، وحتى يوم 23 يوليو الذى كان مشاركا فيه عاد إليه قارئا للتاريخ مرة أخرى وليس كاتبا له، ويقول أيضا إن رحلة التاريخ مثل أى رحلة غيرها. تبدأ من موقف معين وتمشى منه نحو تصور مفترض يصح أو يختلف، وتلك هى طبيعة أى مغامرة فى طلب المعرفة.
ومع هذا الإلحاح من هيكل على أنه ليس مؤرخا ولكنه قارئ للتاريخ فإن أستاذ التاريخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق يقول: إن ذلك إما من فرط التواضع، وإما من فرط الحساسية من أن يتصور المؤرخون الأكاديميون أنه يقتحم عليهم عالمهم، ويستدل على ذلك بمجموعة من الدلالات والشهادات:
- ففى مجال الدراسات الأكاديمية فى التاريخ الحديث فى رسائل الماجستير والدكتوراه أو الدراسات الجامعية التى يعدها أساتذة الجامعات فى موضوع أزمة الشرق الأوسط أو الصراع العربى الإسرائيلى، أصبح لازما الرجوع إلى العمل الموسوعى والتوثيقى الذى قدمه هيكل فى كتبه الأربعة عن حرب الثلاثين عاما.
- أما من الشهادات فلدينا ما كتبه الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاءالدين تعليقا على الجزء الأول من هذا العمل، فقد وصفه بقوله: أهم كتاب فى فن وعلم التاريخ قرأته فى اللغات العربية والأجنبية منذ سنوات طويلة، إنه الكتاب الذى يلغى سائر الكتب، أى يلغى كل ما كتب قبله عن هذا الموضوع، فالمؤلف توافرت له مجموعة من عوامل مهمة: إنه شخصيا كان فى قلب تلك الأحداث، وإنه يمتلك مجموعة من الوثائق الأصلية لهذه المرحلة. وإنه مد جهده واطلاعه إلى كل ما نشر من مؤلفات، وكل من على قيد الحياة من شخصيات، وكل ما يوجد من وثائق بريطانية وأمريكية بما فيها مصادر لم يسبقه إليها أحد، كالأوراق الخاصة ببعض الرؤساء الأمريكيين فى مكتباتهم التذكارية.. فهو قد استخدم كمية لا مثيل لها من الوثائق الثابتة على هذا الحدث.
فالكتاب يتكون من أكثر من 900 صفحة فيه 300 صفحة من الوثائق الكاملة مما لا أعرف لها نظيرا. الأمر الثانى: أنه لم يقف عند الحدود التقليدية التى وقفت عندها كل المؤلفات عن (حرب السويس) ولكنه وسع دائرة العدسة بحيث شملت كل جذور الصراعات الدولية والإقليمية التى ما كانت حرب السويس إلا نقطة انفجارها بعد تفاعلات بالغة التعقيد. فالكتاب ليس عن حرب السويس ولكنه بدرجة كبيرة عن تاريخ المنطقة، وتاريخ الصراع الدولى فى تلك الحقبة من الزمن التى تغيرت فيها موازين قوى العالم كله، غروب قوى وشروق غيرها وصعود غيرها، وخريطة المصالح الكبرى الجديدة التى لعبت الدور الأول فى أقدار المنطقة منذ سنة 1952.
الأمر الثالث: أن حسنين هيكل- وقد حشد كل ما سبق، وكانت لديه ثقافة قارئ التاريخ ودارسه وجاذبية الكاتب الصحفى فى العرض- رسم هذا الكم الهائل من المعلومات والتحليلات، ورد الأحداث إلى أصولها، والوقائع إلى أسبابها، فى نسيج جميل كنسيج القطعة النادرة من السجاد العجمى السنتيمتر الواحد منه يساوى عقده، ولكنها تبدو للعين صورة متكاملة خلابة.. ولا نظن أن كثيرين يمكن أن يجادلوا فى قيمة ما كان يكتبه الأستاذ أحمد بهاء الدين، فقد كان الرجل موضوعيا إلى أبعد الحدود.
***
- الشهادة الأخرى عن نفس العمل جاءت فى كتاب تلقاه هيكل من المؤرخ البريطانى السير هنرى رانسيمان أستاذ كرسى التاريخ فى جامعة كمبردج جاء فيه قوله: (هناك قول شائع لعلك تذكره، يقول إن التاريخ له آذان، ولكن ليس له عيون، بمعنى أننا نسمع روايات عما جرى من وقائع منقولة لنا بالسماع والتواتر عن هذا أو ذاك من الناس، ومعظمها مكتوب بأثر رجعى يخلط الوهم بالحقيقة إلى درجة تتركنا مع نوع من الفولكلور الأسطورى يعذبنا فرزه كثيرا. ولقد كان ما أثار اهتمامى فى تجربتك أن التاريخ عندك له آذان وله أيضا عيون، وهذه تجربة أتمنى لو أناقشها معك إذا خطر لك يوما أن تعود إلى أكسفورد) .
وبمنهج الأستاذ الأكاديمى يقسِّم الدكتور يونان لبيب رزق المرحلة الأولى: هيكل صحفيا- وهى مرحلة غلبت عليها الصحافة سواء قبل أن يكون رئيسا لتحرير الأهرام (1954-1957) أو بعدها، وفى تلك المرحلة كان هيكل صحفيا له حس تاريخى، وهذا أمر يتوافر فى عدد من الصحفيين المثقفين يأتى فى طليعتهم الصحفى الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، وقد بدأ هذا الحس التاريخى فى مقال هيكل الأسبوعى فى الأهرام (بصراحة) الذى واظب على كتابته بشكل منتظم فى فترة رئاسته لتحرير الأهرام وأكسبه شهرة واسعة، ومنذ كان مخبرا صحفيا عكف على جمع تحقيقاته فى كتاب أشهرها عن إيران عام 1950 حين احتدم الصراع بين الحركة الوطنية ويمثلها محمد مصدق وبين محاولات الهيمنة الاستعمارية التى اتخذت من الشاه محمد رضا بهلوى حصان طروادة الذى اختفت بداخله. الكتاب اسمه (إيران فوق بركان).
وكان من الطبيعى أن تكتسب كتابات هيكل شهرة كبيرة وهو فى الأهرام وأقرب المقربين للرئيس جمال عبد الناصر، الأمر الذى فتح له منافذ المعرفة من أوسع أبوابها، غير أن نشاطه فى التأليف زاد كثيرا بعد وفاة عبد الناصر، ثم تضاعف بعد خروجه من الأهرام، وانصرافه عن العمل الإدارى فى إدارة مؤسسة كبيرة كالأهرام، وابتعاده عن دائرة العمل السياسى بعد اختلافه مع الرئيس أنور السادات، مما ساعده على التفرغ لإصدار المؤلفات التى اكتسبت شهرة واسعة، وكان أكثرها ما كتبه فى البداية نابعا من مشاهداته وتجاربه قبل أن يترك العمل فى الأهرام.
***
وفى رأى الدكتور يونان لبيب رزق أن هيكل المؤرخ قد أفصح عن نفسه فى عملين كبيرين، الثلاثية التى لا تقل أهمية عن ثلاثية نجيب محفوظ فى الرواية والتى صدرت فى ثلاثة أقسام وأربعة أجزاء، الأول (ملفات السويس حرب الثلاثين سنة) والثانى فى جزءين أولهما (سنوات الغليان) والثانى (الانفجار). والأخير (أكتوبر 73 السلاح والسياسة). وقد أحدث صدور هذه الثلاثية رد فعل قويا فى الأوساط الأكاديمية.
العمل الثانى: (سقوط نظام : لماذا كانت ثورة 1952 لازمة؟ ) وهو- فى تقدير الدكتور يونان لبيب رزق- من أهم الأعمال التى كتبت عن تاريخ مصر خلال السنوات العشر السابقة على قيام الثورة وعلى وجـه التحـديد بـدءا من حـادث 4 فبراير 1942 إلى 23 يوليو 1952 ، وقد صدر أولا على شكل دراسات منفصلة فى مجلة (وجهات نظر) الشهرية، ثم جمعها فى هذا المجلد، وإن كان مذاقها فى الكتاب مختلفاً عن مذاقها فى المجلة.
ويقول الدكتور يونان لبيب رزق: إنه من العسير وضع هذه الأعمال موضع النقد التاريخى غير أنه يمكن إبداء مجموعة من الملاحظات الأساسية عليها:
الملاحظة الأولى : أنها أعمال من الوزن الثقيل. فالكتاب الأول من الثلاثية تجاوز 900 صفحة، بينما تجاوز الكتاب الثانى بجزءيه ألفى صفحة، والأخير اقترب من 900 صفحة، أى أن العمل بمجمل أجزائه قارب أربعة آلاف صفحة بما حولها من أسفار. أما الكتاب الثانى (سقوط نظام) فقد زاد على 600 صفحة. ولا نعرف فى الدراسات التاريخية أعمالا بهذا الحجم سوى بعض الرسائل العلمية،وإن كان الفارق كبيرا بين أعمال تجريبية مثل رسائل الماجستير والدكتوراه التى يعزى تضخمها لعدم قدرة أصحابها على الانتقاء، وبين أعمال هيكل التى يصعب على القارئ أن يتجاوز سطرا منها، وليس فقط بحكم الجاذبية التى اشتهر بها أسلوبه، ولكن أيضا بحكم التماسك بين سائر الأفكار التى يضمها العمل، حتى أنه يصعب أن تقفز من صفحة إلى صفحة أخرى دون الانتهاء منها، فكتب هيكل غير قابلة (للتقليب) رغم ضخامتها. وذلك لحرص هيكل المؤرخ على أن يوثق كتاباته على نحو غير مألوف، فهو يحشد الأعمال التوثيقية فى المتن، ويفرد أقساما كبيرة كملاحق وثائقية بلغت فى كتابه الأول من الثلاثية حوالى 300 صفحة، أى ثلث الكتاب تقريبا، ونحو 400 صفحة فى الكتاب الثانى بجزءيه، ونحو 150 صفحة فى الكتاب الثالث. وذلك من الأمور غير المعتادة فى الكتابات التاريخية. فالملاحق عادة تتضمن (عينات) من الوثائق وليس النصوص. وهذا يجعل من الكتاب مرجعا وثائقيا فوق كونه مرجعا تاريخيا. ولعله أراد بذلك أن يؤكد على تمكنه من المادة التاريخية وهو ما لا يمارى فيه أحد.
الملاحظة الثانية: إن هيكل المؤرخ لم يستطع أن يتخلص من هيكل الصحفى على الأقل فيما يتصل بالعناوين التى اختارها لكتبه وهى عناوين ذات جاذبية خاصة أكثر منها عناوين ذات دلالة على المضمون. مثل: 7 رصاصات وحرب. ملك تحت الحصار. الثورة تدق الباب. الساعة تدق منتصف الليل. ليال طوال.
الملاحظة الثالثة : إن هيكل لم يتمكن من الاختفاء تماما كما يفعل المؤرخون المحترفون، فقد كان يظهر بعض الأحيان بين السطور ويظهر فى أحيان أخرى عليها، وقد لازمته عادة تسجيل كل شىء حتى أنه كان بمجرد أن تبدأ مكالمة بينه وبين الرئيس عبد الناصر على الخط الساخن حتى يمسك القلم ليسجل مضمون المكالمة إن لم يكن نصها، الأمر الذى أتاح له كما هائلا من المعلومات استخدمه بعد ذلك فى كتاباته التاريخية، وهو ما لا يتوافر لسوء الحظ فى المظان الرسمية.
الملاحظة الرابعة: إن هيكل نجح فى الحصول على المادة العلمية التى قد لا تتاح لباحث عادى مهما بلغ شأنه، ففضلا عن المصادر التقليدية فى دار الوثائق البريطانية، أو فى المكتبة الأهلية الفرنسية، أو مكتبة الكونجرس، فقد أطل على ميادين قلما تتاح لأحد، ويمكن القول بأنه كان منذ وقت طويل يعد نفسه لهذا الدور، ولعل قصته مع حسن يوسف (باشا) وكيل الديوان الملكى السابق (1942-1952) الذى عينه هيكل رئيسا لوحدة التاريخ فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام تدل على ذلك. صحيح أن الرجل أدى خدمة للمركز من خلال الوثائق البريطانية التى كان يذهب بين الحين والحين لاستجلابها من دار الوثائق العامة فى لندن (والتى استفاد منها الدكتور يونان شخصيا فى كتابه عن تاريخ الوزارات المصرية (1876-1953) وفى العمل الكبير الذى أشرف على إعداده الأستاذ الكبير أحمد عزت عبدالكريم الذى صدر عام 1969 بعنوان (50 سنة على ثورة 1919).. كل هذا صحيح، ولكن بالإضافة إلى ذلك فإن هيكل جعل الرجل يدلى بشهادة مسجلة عن فترة وجوده فى قصر عابدين، وقد أشار هيكل إلى ذلك فى أكثر من موقع.. وكذلك فقد أتيح لهيكل المؤرخ أن يطلع على الوثائق المصرية المودعة فى رئاسة مجلس الوزراء واستفاد منها استفادة واسعة فى كتاب (سقوط عصر) وهو ما لا يتاح بنفس الدرجة للباحثين الأكاديميين لسوء الحظ.
الملاحظـة الخامسة: إن هيكل نجح فى الفصل بصرامة بين الموضوع والذات، وكان مدركا طول الوقت أن قربه من الأحداث سواء خلال عهد عبد الناصر أو قبله أو بعده يمكن أن يشكل قيدا على رؤيته الموضوعية، الأمر الذى دفعه إلى أن يفرد مساحات قليلة لدوره السياسى كلما سار قدما فى كتاباته التاريخية، على عكس الحال فى كتاباته السابقة على الثلاثية وعلى (سقوط نظـام) حين كان موجودا فى كل صفحة.
كان هيكل واعيا بأهمية الالتزام بالموضوعية.
الملاحظة السادسة:مما يضع هيكل فى موضع التميز عن المؤرخين المحترفين قدرته على إضفاء اللمسة الإنسانية على الحدث التاريخى، وقد مكنه من ذلك ماضيه الصحفى، وفى كثير من الأحوال يشعر القارئ كأنه داخل الحدث بحكم اهتمام هيكل بالتفاصيل الإنسانية الصغيرة، وهذا الأسلوب من أهم أسباب الإقبال على قراءة أعماله التاريخية ، على عكس أعمال الكثيرين من المحترفين أو الهواة الذين انصرفت كتاباتهم للأحداث الكبيرة، وجعلوا من قراءة التاريخ عملا يتسم بالمعاناة.
الملاحظة السابعة : إن هيكل لم يخضع لبعض الصور الرائجة لعدد من الشخصيات التاريخية، فقد كان موضوعيا لأقصى حد فى التعامل مع شخصية الملك فاروق، ولم يمض فى الطريق الذى رسمه الكثيرون لهدف الشخصية بعد أن أطاحت به الثورة، صورة الملك العربيد المستهتر، ورسم صورة جديدة لشخصية فاروق من خلال الوثائق حتى أنه خصص موضوعاً فى الفصل الذى جاء بعنوان (الساعة تدق منتصف الليل) فى كتاب (سقوط نظام) وأسماه (فاروق لم يكن عبيطا).
الملاحظة الثامنة: أن هيكل نجح فى استخدام أدوات المؤرخين المحترفين من حيث القدرة على (ضبط النص)، وكان حريصا إلى حد المبالغة أحيانا فى تقديم النص باللغة الإنجليزية جنبا إلى جنب مع الترجمة العربية، وقد زاد هيكل فى ذلك فى كتابه (سقوط نظام) فلم يكد يخلو موضوع من هذا الكتاب من السعى لضبط عبارة، أو كلمة صدرت من هنا أو هناك خاصة من المصادر الأمريكية والبريطانية، فكان يأتى بالترجمة العربية ويضع إلى جانبها الأصل الإنجليزى.
الملاحظة التاسعة والأخيرة: أن هيكل نجح فى توثيق بعض الوقائع التاريخية التى ظلت لفترة قصيرة لا تزيد على كونها (إشاعات) منها انهماك وزير الداخلية وقت كانت القاهرة تحترق فى صفقة شراء عمارة عريضة فى شارع قصر النيل، ويقول الدكتور يونان: ولا ندرى من أين أتى بأوراق توثيق هذه الصفقة؟ ومنها أيضا قضية الرشوة التى دفعها أحمد عبود باشا (مليون فرنك سويسرى بما يساوى وقتها عام 1952 مليون جنيه مصرى) لقصر عابدين للتخلص من حكومة نجيب الهلالى الأولى، والتى فسرت أهم الأسباب وراء تعاقب الوزارات على هذا النحو المثير خلال الشهور الستة بين حريق القاهرة فى 26 يناير وقيام الثورة فى 23 يوليو.
كل ذلك قاله الدكتور يونان لبيب رزق ولم أجد شهادة أفضل من شهادته بحكم نزاهته ومكانته العلمية، وهو يزن كل كلمة ولا يجامل فى الحق كعهده دائما، ثم إنه لا يريد من هيكل شيئا، ولا يملك هيكل شيئا ليعطيه بعد أن انصرف.. ولكن تبقى كلمة الحق التى ختم بها الدكتور يونان دراسته بقوله: لا نجد مندوحة من إدراج اسم محمد حسنين هيكل على رأس قائمة مؤرخى هذا العصر على الرغم مما يمكن أن يؤدى إليه هذا القول من تذمر بعض المحترفين بل سخطهم، مما أعتقد أنه سوف ينصب على رأسى إن عاجلا أو آجلا، ولكنها أمانة الكلمة ولا نملك سوى ترديد العبارة التى استخدمها هيكل عنوانا لكتابه (لمصر لا لعبد الناصر) فنقول: للتاريخ وليس لهيكل!
***
وهيكل فعل دائما ما لم يفعله غيره. وفكر كما لم يفكر غيره. وكتب كما لم يكتب غيره. وحتى عندما قرر التقاعد بمناسبة بلوغه سن الثمانين لم يشأ أن ينسحب ويتوارى، أو يكتفى بخبر فى صحيفة، ولكنه أراد أن يقدم فى مقالين ما يشبه التقرير الختامى عن حياته وأعماله بما فيها أيام حلوة وأيام مرة، ولم يشأ أن يقول: إنه قرر الاعتزال، أو التوقف عن التفكير والكتابة، لأنه يعرف أنه لن يستطيع ذلك حتى لو أراد، فهو مفكر وكاتب ومكتوب عليه أن يظل كذلك إلى آخر العمر. ولذلك اختار تعبير (الانصراف). وحين وجد ردود الفعل الغاضبة من انصرافه فى وقت لابد أن يكون فيه حاضرا، ختم مقاله الثانى فقال: إن بعض القريبين يروننى بينهم كل يوم وظنهم أن لدى الكفاية من صلاحية البدن والفكر تكفل الاستمرار سنوات قادمة يعلمها الله، وكان ردى أن تلك بشارة خير لكن صلب الموضوع أنه لا يحق لأحد تجاهل المؤشرات التى تقول بها قواعد الحساب وأحكام الطبيعة، ولا أرى بأسا فى الانتقال من ومض الضوء إلى ظل الغروب (وليس عتمة الليل)، ومن متن الحياة العامة إلى هامشها (وليس الفراغ بعد الهامش).. ومن صدق تكريم الحياة ووجوب احترامها أن الناس لا يصح لهم أن يتسمروا حيث هم حتى آخر قطرة زيت فى المشكاة، وإنما الأفضل أن تظل لديهم بقايا همة تسمح لهم- بعيدا عن الزحام- بالنظر إلى حركة التقدم الإنسانى العظيمة، ومتابعة حيوية التاريخ الهائلة قادرين على ذلك بأشواق تيسرها بقية من عافية وعقل، تحفظ لهم صلة ممكنة بعصور مذهلة (ومتوحشة)، تقوم الآن فعلا على تغيير الدنيا شكلا وموضوعا.
ويضيف فى النهاية: إن مساحة البعد تمنح صاحبها فرصة أوسع للتفكير والتأمل، والنظر إلى الوراء فى أناة وروية، والنظر إلى الأمام بعقل وقلب ما زال فيهما حس ونبض، خصوصا من رجل كان له حظ موفور مع الدنيا والناس، وذلك فى حد ذاته يكفى وزيادة لمدد من الطاقة له سحر التجدد ولمسة من الحيوية - وربما الشباب - حتى عند الثمانين.
وإن كان قد بدأ مقاله الأول بأنه كان يرد على باله منذ سنوات أن الوقت يقترب من لحظة يمكن فيها لمحارب قديم أن يستأذن فى الانصراف، وأن هذه اللحظة حل موعدها بالنسبة له.. وإنه فى حالتى تواصل حساب زمن العمل دون انقطاع قرابة اثنتين وستين سنة، لأن تجربته بدأت بالتحديد يوم 8 فبراير 1942، وقال إن من الصواب أن يقر كل إنسان بأن أية حياة- عمرا وعملا- لها فترة صلاحية بدنية وعقلية، ومن اللائق أن يجىء مثل هذا الإقرار قبولا ورضا وليس إكراها وقسرا. وقال أيضا إنه يفضل أن يتساءل الناس (لماذا يستأذن هذا الرجل فى الانصراف متعجلا؟) بدلا من أن يكون سؤالهم (لماذا يتلكأ هذا الرجل متثاقلا؟).
***
وهيكل فكر فى الانصراف قبل ذلك أكثر من مرة، كان أولها عقب وفاة عبد الناصر ويقول إنه لمح نذير احتكاك قادم حتى وإن حاول البعض تفاديه، وفى أجواء صراع على السلطة يكون الاستقطاب حادا وعنيفا، يفرض إما انحيازا غير مقنع إلى طرف، وإما عداء لا مبرر له مع طرف آخر، وعلى ذلك كان أمامه أحد موقفين: إما الانصراف فور تشييع الراحل الكبير إلى مرقده الأخير، وإما الانسياق إلى صراع لا يريده، وبوسائل لا يملكها ولا يريد أن يملكها. وهكذا قدم استقالته إلى السادات من منصب وزير الإرشاد، لكن السادات اشترط عليه البقاء فى مجلس الوزراء إلى ما بعد الاستفتاء على رئاسته حتى لا يقول الناس (إن أقرب أصدقاء جمال عبد الناصر لم يطق الصبر عليه يوما). وكان هيكل وقتها فى السابعة والأربعين.
وطوال أيام حرب أكتوبر 1973 كان هيكل مع الرئيس السادات كل مساء وحتى قرب منتصف الليل. وشارك فى التخطيط الإعلامى والتحضير السياسى للحرب، وعهد إليه السادات بكتابة التوجيه الاستراتيجى الصادر عنه بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى القائد العام، وكتب الخطاب الذى ألقاه السادات فى مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر 1973. إلى أن ظهر الخلاف بينهما يوم 20 يناير 1974 فى موضوع قبول قرار مجلس الأمن رقم 338 وكانت له تحفظات عليه أبداها فى حضور المهندس سيد مرعى والسيد حافظ إسماعيل والدكتور أشرف مروان. وطرح هيكل تعديلات على نص القرار وامتد الخلاف، وعندما وصل هنرى كيسنجر إلى القاهـرة أول مــرة يوم 7 نوفمبر 1973 طلب أن يقابل هيكل فحاول أن يعتذر بواسطة السفير أشرف غربال وكان وقتها المستشار الصحفى لرئيس الجمهورية، بعد أن قرأ نص مشروع النقاط التى عرضها كيسنجر على الرئيس السادات ونالت موافقته فى لقائهما الأول. لكن الرئيس السادات كان قاطعا فى ضرورة مقابلته وفعلا قابل كيسنجر واستمع منه إلى مشروعه لحل الصراع العربى الإسرائيلى خطوة خطوة فى كل بلد، وفى البلاد العربية بلدا بعد بلد، وأية مفاوضات تجرى تحت إشراف أمريكى لا دور فيها للاتحاد السوفيتى ولا أوربا إلا عندما يحل دور المراسم. وكان رأى هيكل أنه يصعب الاعتماد على كيسنجر لأنه بالضرورة منحاز، وانحيازه طائفى وفكرى وسياسى محكوم بصراع الحرب الباردة وليس بسلام عادل فى صراع الشرق الأوسط. وكان رد الرئيس السادات أن كيسنجر هو الرجل الوحيد الذى يستطيع أن ينجز المهمة، فهو الساحر الذى أنهى حرب فيتنام وفتح باب الصين، والذى لا يتفاوض حتى مع الاتحاد السوفيتى إلا مع الزعيم ليونيد بريجنيف ولا أحد غيره، ثم كون كيسنجر يهوديا فهذا يؤهله للضغط على إسرائيل إذا اقتنع.. يقول هيكل: بعد هذا الحوار خرجت من قصر الطاهرة شاعرا أنها نهاية النهاية وعلىّ أن أحدد موقفى، فكتبت مجموعة مقالات كنت أعرف مسبقا أنها لن ترضيه، وكانت بالفعل مفترق طرق لا دخل فيه لعامل ذاتى، لأن الرجل على المستوى الإنسانى كان شخصية جذّابة ومثيرة. وموضوع الخلاف بيننا صدر عن رؤى مغايرة وأحيانا متناقضة.
وقد انكشف بعد ذلك الدور الذى قام به كيسنجر فى كتابه الأخير الذى سجل فيه مكالماته التليفونية ومنها مكالمته مع وزير الدفاع الأمريكى جيمس شيلزنجر فى الساعات الأولى التى تأكد فيها نجاح الهجوم المصرى والسورى يوم 6 أكتوبر 1973 بأكثر مما كان متصوراً أو متوقعا أو محسوبا وكانت المكالمة المسجّلة كما يلى بالنص:
الساعة 1.30 بعد الظهر- الأحد 7 أكتوبر 1973 صفحة 95.
كيسنجر: لقد كنت على اتصال بالرئيس طول الوقت لأننا تلقينا طلبات عاجلة من الإسرائيليين تطلب ذخائر ومعدات عسكرية كثيرة منها 40 طائرة فانتوم. وأعرف أن ذلك صعب فى هذه اللحظة - لكن الرأى أن نساعدهم بكل وسيلة على استيعاب الهجوم عليهم والرد المضاد حتى يستعيدوا زمام المبادرة ويعطونا الفرصة لعمل سياسى لصالحهم.
شيلزنجر: هنرى.. إنهم مهتمون جدا على الفور بصواريخ (سايد ويندر).
كيسنجر: هل ترى أن وزارة الدفاع تستطيع أن تتولى هذا الأمر بسرعة دون أن يتسرب شىء؟
شيلزنجر: أظن أننا نستطيع.
كيسنجر: لقد فعلناها سنة 1967.
ثم يعود الحديث على صفحة 91 بالمحادثة الآتية:
يوم 7 أكتوبر الساعة 3.45 بعد الظهر.
كيسنجر: تكلمت مع الرئيس الآن (صدمة الهجوم المصرى السورى) عن ضرورة إمداد إسرائيل بكل ما تحتاج إليه أيا كان بدون أن يكشف أحد حقيقة ما نقوم به.
شيلزنجر: لا أستطيع أن أضمن ذلك فى الظروف الراهنة لأن الجميع منتبهون.
كيسنجر: ولكننا فعلنا ذلك سنة 67 ولم يستطع أحد أن يكشف السر حتى الآن، وعلى فرض أنهم عرفوا فذلك لا يهم لأن إسرائيل فى خطر.
شـيلزنجـر: هـل أنت مستعد لاستعمـال حـامـلات الطــائرات؟
كيسنجر: ليس هذه الساعة، ولكن مجموعة الحاملات لديها الأمر بأن تتحرك نحو شرق البحر الأبيض.
يقول هيكل: لقد رفعت صوتى، وتركت موقعى فى الأهرام دون أن يخطر ببالى هاجس الانصراف من الساحة، بل على العكس وجدت نفسى أواصل الكتابة خارج مصر فى مواجهة حسبتها قدرا مقدورا وكنت أقدر أننى سوف أتعرض لحملات جامحة.. واكتفيت بأن قلت كلمتى ومشيت، وخطاى على الأرض، لا فضاء النسر، ولا قفص الببغاء! وكانت تلك مرحلة أخرى من العمر، وكنت وقتها فى الخمسين..
***
يقول هيكل: عندما أُعلنت القوانين الاشتراكية وضمنها ربط الحد الأعلى للمرتبات بخمسة آلاف جنيه سنويا نقص مرتبى ألف جنيه فى السنة، وذابت تلك النسبة المقررة لى فى أرباح الأهرام وكانت قد بدأت تعطـى مما دعانى إلى توظيف حصتى منها فى شراء مجموعة أسهم فى الشركة المالكة للأهرام، لكن قانون تنظيم الصحافة جعل من هذه الأسهم صكوكا تذكارية.
كان صافى المرتب الشهرى الذى يحصل عليه هيكل من الأهرام بعد خدمة زادت على 17 سنة 286 جنيها و450 مليما. وكان مقاله الأسبوعى (بصراحة) ينشر فى الخارج عن طريق وكالة أنباء الشرق الأوسط مقابل 20% من الحقوق المالية. وبعد أن ترك الأهرام ظل مرتبه يحول لحسابه فى البنك الأهلى لأكثر من سنة، ثم توقف التحويل حين أحيل إلى التقاعد فى يونيو 1975 بقرار من الرئيس السادات بعد أن نفد صبره. واعتبر مرتب تلك السنة مكافأة لنهاية الخدمة.
***
يقول هيكل: هكذا مع أوائل السبعينات، وعند منتصف العمر وجدت نفسى أمام ضرورة الاختيار من جديد وكأنها نقطة الصفر أعود إليها فى قرار عملى ومستقبلى. كان مستحيلا بعد ما جرى أن أجد عملا أو مستقبلا فى مؤسسات الصحافة المصرية، ولا كنت أريد.. وكان صعبا علىّ أن أقبل عرضا خارج مصر يجىء من العالم العربى. وقد تلقيت بالفعل عروضا محددة، أولها من دولة خليجية كريمة سألتنى إذا كنت مستعدا لقبول منصب مستشار (فوق العادة) للأمير، وشكرت عارفا بالجميل.
وكان الثانى من مجلس قيادة الثورة الليبية حمله إلىّ أحد أعضائه البارزين (الرائد عبدالسلام جلود نائب رئيسها وقتها) والاقتراح أن أقوم على إنشاء مشروع صحفى كبير فى بيروت يتوافر له كل ما أطلبه من موارد، وأديره بأقصى قدر أتمناه من الحرية.. ومرة أخرى شكرت عارفا بالجميل.
فى هذا الوقت كانت دور النشر فى لندن وباريس ونيويورك وطوكيو وبرلين وغيرها تطلب من هيكل أن يكتب عن الشرق الأوسط، ودعاه اللورد مايكل هارتويل صاحب دار التلجراف البريطانية، والسير دنيس هاملتون رئيس مجلس إدارة التيمس وكلاهما صديق قديم لنشر فصول كتابه الأول فى صحفهما، أما الكتاب فقد وصل إلى مدير النشر فى مؤسسة كولينز، فعرض على أستاذ متخصص فى الشرق الأوسط من جامعة اكسفورد لمراجعته، كما عرض على سفير سابق خدم فى المنطقة ليراجع السرد ويستوثق من الوقائع- مع اعتبار اختلاف المواقف. وعرض أيضا على قارئ عادى تقاس عليه ما يسمونه جاذبية القراءة، لأن الكتاب فى النهاية عرض وطلب. ورصدت دار كولينز خمسة ملايين جنيه استرلينى لنشر الكتاب وضمنها حملة إعلانية تكلفت نصف مليون جنيه استرلينى. وحضر هيكل معرض فرانكفورت وتحدث مرات أمام مئات من الناشرين، وشارك فى مناقشات واسعة، وبعد يومين عرف أن أكبر دور النشر فى العالم تسابقت على حقوق الكتاب (فلاماريون فى فرنسا- ومولدن فى ألمانيا - وأساهى فى اليابان - إلى جانب كولينز فى لندن ونيويورك).
وحصل هيكل - عن هذا الكتاب - على مائة ألف جنيه استرلينى حولها إلى الفرع الرئيس للبنك الأهلى بالقاهرة من حساب مقدم العقود. وطبقا لقواعد النقد الأجنبى فى ذلك الوقت تم تحويل الجنيه الاسترلينى إلى الجنيه المصرى بسعر سبعة وتسعين قرشا ونصف قرش مصرى.
يقول هيكل: هكذا.. فى اللحظة التى وقع فيها الحظر على ما أكتب هنا، سقطت الحواجز أمامى هناك (أحد عشر كتابا لكبريات دور النشر الدولى، وأكثر من أربعمائة مقال وتحقيق وتقرير إخبارى احتل بعضها الصفحة الأولى فى جرائد بوزن الصنداى تيمس، والتيمس، والصنداى تلجراف).
وكانت تلك حقبة حافلة غطت بقية السبعينات ومطلع الثمانينات ومعظم التسعينات.
***
ثم تعرض هيكل لأزمة الإحالة إلى المدعى الاشتراكى والمنع من السفر. ثم تعرض للسجن فى سبتمبر 1981. وبعد خروجه من السجن عاوده هاجس الاستئذان فى الانصراف مرة أخرى فقد كان بالعمر قريبا من سن الستين.
يقول هيكل: ثم لاحت لى بادرة للكتابة فى مصر، ومن باب أداء الحق لأصحابه فقد كان الأستاذ مكرم محمد أحمد أول من بادر إلى محاولة لفتح باب نوع من العودة أمامى، وبالفعل كتبت لمجلة المصور مجموعة من ست مقالات عرضت فيها تصورى للممكن والمطلوب فى مرحلة مستجدة، وطلبت من الأستاذ مكرم- عارفا طبيعته ودقته - مقدّرا لالتزامه المهنى- ألا ينفرد بقرار ورجوته - ملحا وملخصا - أن يراجع قبل النشر، وحدث بعد أسبوعين أن مجموعة المقالات الست التى كتبتها للمصور عادت إلىّ يحملها الدكتور أسامة الباز مصحوبة برسالة شفوية رقيقة تقبلتها برضا واحترام. وملخص الرسالة أن ما كتبته فى المقالات الستة يسبب إحراجاً فى الوقت الحاضر ثم إن الأمر متروك لى. وكان ردى دون تحفظ أننى آخر من يخطر له إحراج نظام لا يزال يحاول- أوائل سنة 1983- تثبيت أوضاعه، واستجماع خطوطه للقيام على مسئولية الوطن فى ظرف دام ومحتقن- وأزحت المقالات الستة جانبا لم أنشرها لا فى مصر ولا فى خارجها- حتى بعد مرور عشرين سنة!
***
ويقول هيكل: إن الأستاذ إبراهيم سعده زاره بعد سنوات طالبا منه أن يكتب فى أخبار اليوم، وكتب مقالين لمس بعدهما ما جرى وخاف على رئيس تحرير أخبار اليوم فأعفاه من نشر المقال الثالث.
ويقول: وأخيرا توصل الأخ والصديق الأستاذ إبراهيم نافع- بهدوء وصبر- إلى الصيغة الموفقة، فقد تفاوض مباشرة مع دور النشر التى تصدر عنها كتبى فى لندن، وحصل على حقوق الطبعة العربية الأولى لستة كتب توالى ظهورها عن الأهرام.. ومشت عقارب الساعة حتى وصلت إلى دار الشروق تتحمل مسئولية ما أكتب وتضعه بانتظام بين أغلفة كتب تصل إلى قارئها كما يصح أن يصل الكتاب. إلى جانب محاضرة سنوية فى منتدى عام مثل معرض الكتاب السنوى، أو جامعة القاهرة، أو الجامعة الأمريكية. لكن العوائق راحت تظهر على الطرقات واحدا بعد واحد.
***
وفى سبتمبر 1999 اكتشف ابنه الدكتور على الأستاذ بكلية الطب وجودا لخلايا سرطانية، وأظهرت الأشعة وجود بؤرة خطيرة أخرى. وهكذا وجد نفسه فى الولايات المتحدة لإجراء جراحة دقيقة فى الكلى لاستئصال الورم.
وكان هيكل وقتها فى الخامسة والسبعين.. ويقول: عقب تلك التجربة عاودنى هاجس الاستئذان فى الانصراف ولكنى اعتبرته فى تلك الظروف تنكرا، وربما جحودا.
فى أواخر عام 2000غاب هيكل عن مصر وقت إجراء الجراحة أكثر من شهر، ثم عاد، وبعد سنة غاب مرة أخرى للعلاج بالإشعاع فى أمريكا قرابة شهرين، وبعد عودته لاحظ اختفاء بعـض أوراقه ومحفوظـاته فى مصر، وكان من بين ما اختفى عشرات من كتبه، ويقول: كان فى استطـاعتى أن أفهم لماذا تمتد يد إلى الأوراق والملفات، إلا أن اختفاء الكتب حيرنى. وأزعجنى الموضوع فى مجمله، ومع أنه لم يكن فى هذه الأوراق والمحفوظـات والكتب شىء فريد أو خطير. فإن ما حدث كان غليظـا، ودعا هيكل اثنين من خبراء الأمن المصريين لبحث الأمر، ووصل من البحث معهما إلى أن الواقعة ليست جنائية، وإنما شىء آخر لا يجدى معه ضيق الصدر أو نفاد الصبر، ومجال الظنون فيه واسع خصوصا والتجربة السياسية التى عاشها لا تزال تهم كثيرين فى العالم الخارجى كما فى الإقليم- أو ربما!
ويقول هيكل: إنه بعد مفاجأة أحداث 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة وما سبقها منذ استولت المجموعة الإمبراطورية الجديدة على سلطة القرار فى البيت الأبيض، أحس أن الحاجة إلى الاستئذان فى البقاء أشد من خاطر الاستئذان فى الانصراف، وأن المشاركة فى رؤية مشتركة للمستقبل أولى وأحق. وحاول المشاركة من خلال مجلة (وجهات نظر) وكانت مقالاته فيها تنشر فى نفس الوقت فى عدد من صحف العالم العربى.
ووافق على الظهور على شاشة قناة دريم التليفزيونية المصرية، فى محاولة لاستثارة حوار فى مصر والأمة العربية قد يساعد على تخفيف الشعور بالإحباط والركود والعجز. ووجه إلى نفسه السؤال الذى أجراه شكسبير على لسان أحد أبطاله: (إذا لم أتكلم أنا.. فمن؟ وإذا لم أتكلم الآن.. فمتى؟) وكان الاعتراض على الحوار واردا فى المناخ السائد، وبالتالى فإنه عندما وقع لم يكن مفاجأة، لكن الأسلوب الذى تم به الاعتراض كان داعيا للاستغراب. ويقول: إننى لم أدفع ضريبة ما قلت بما يحتمله من صواب أو خطأ، وإنما دفع غيرى، وجاء الدفع فى موضع الوجع (ومرة أخرى لا أزيد)!
ووجهت إليه دعوات لنقل الحوار إلى خارج مصر، ولكنه رفض مناقشة قضايا مصرية خارج مصر.
ويقول بعد ذلك: إنه تحدث فى الأمر مع الأقربين، فكان رأى زوجته التى يقول عنها إنها حبيبة القلب والعقل ونور الطريق والضمير أن الاستئذان فى الانصراف مفهوم ومعقول، لكنه قرار مرة واحدة، وذلك يدعو إلى إطالة التفكير. وكان هناك رأى آخر: عزيز وغال لماذا الاستئذان وهو يستطيع أن يتوقف حين يشاء، وكان جوابه أن أى شخص يعطيه الناس مساحة من وقتهم فهو مدين لهم بقيمتها، وبالتالى فإن عليه واجب الاستئذان. وأخيرا كان هناك رأى يخشى أن التوقف عن العمل هو فى العادة بداية عزوف عن الحياة. وشرح لأصحاب هذا الرأى أنه لا يعتزم الاختفاء، بمعنى أنه قرر الابتعاد وليس الغياب، فما يزال لديه ما يريد أداءه ضمن جدول أعمال يكفيه، حتى وإن ظهر على شكل ملفات خام أصلية. وأنه قد يفكر فيما هو معروض عليه كحلقات تليفزيونية مصورة موثقة يتحدث فيها، وفى الإطار وثائق أصلية تعزز ما أقول. أى أنه لا يزال جهد الدارس الممارس ولكن من ركن ناء بعيد.
هكذا اتصل هيكل بناشر كتبه فى لندن ونيويورك يعتذر عن عدم إعداد الكتاب الثالث الذى اتفق عليه مبدئيا. تكملة لكتابيه (أوهام القوة والنصر)، و(المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل)، وقد ظهرا منذ سنوات، وكان الباقى هو كتاب عن الإسلام السياسى..كما اتصل هيكل أيضا بعدد من الصحف الأوربية بينها الجارديان البريطانية، ويميورى اليابانية يعتذر عن عدم الاستمرار فى كتابة المقال الذى كان يكتبه لهما مقالا منتظما، وكانت هذه المقالات تنشر فى ثلاثة آلاف صحيفة فى شرق آسيا وغرب أمريكا. وأخيرا اعتذر عن عدم إلقاء محاضرتين كان قد قبل الدعوة إليهما مبدئيا واحدة فى الجامعة الأمريكية، والثانية فى مركز الدراسات الفلسطينية فى بيروت.
وكان لهذين المقالين أصداء واسعة، فقد كتب كثيرون اعتراضا على هذا الانصراف، بينما هو قادر على مواصلة العطاء، وإن كان يواجه عقبات، فقد كان مسـار حيـاته كلها مليئـا بالعقبـات ولـم تدعـه إلى الانصـراف.
***
والآن، قد يكون الوقت مبكرا لنسأل: ماذا يتبقى من هيكل؟
ومع ذلك فإن ما سيبقى منه كثير. سيبقى منه النموذج لصحفى أرسى للمهنة مبادئ أخلاقية وقيما فى التعامل وتناول الأشخاص والقضايا دون إسفاف أو ابتزاز، ويبقى منه أنه جعل مهنة الصحافة مهنة لها احترامها فى المجتمع، وجعل للصحفى مكانة لم تكن له من قبل، ولم يكن ذلك سهلا، فكم من بين الصحفيين من كان همه استغلال القلم لتحقيق مآرب شخصية، وكم منهم من استغل موقعه ليعمل وسيطا أو سمسارا فى عقد صفقات أو إبرام عقود، وكم منهم من ساند وأعطى صورة براقة لأصحاب شركات توظيف الأموال وكانوا على كشوف البركة، وكم منهم من حقق ثروات تفوق الخيال دون أن يقولوا من أين لهم هــذا. أما هيكل فقد تكاثر عليه الباحثون عن ثغرة لاصطياده، وبعد أن فتشوا فى أوراقه، وبحثوا فى علاقاته واتصالاته لم يجدوا تصرفا واحدا يمس الذمة أو يخدش الكرامة أو الضمير.
ويبقى منه النهج والأسلوب. أسلوب الحياة وأسلوب الكتابة.
أما أسلوب حياته فهو درس لكل من يريد أن يحقق نجاحا حقيقيا، وخلاصة الدرس أن النجاح ليس صدفة أو ضربة حظ، ولكنه عمل ومجهود ودراسة وتفوق وسهر وأخذ الأمور بجدية وتفرغ فيما يشبه الانقطاع للعمل.. ولعلنا نلاحظ أن هيكل لم يتقدم فى عمله لأنه قريب أو نسيب أو صديق، ولكنه تقدم لأنه كان الأكفأ والأكثر موهبة، ونلاحظ أيضا أن هيكل- ليس مثل البعض - بالونة من صنع الدعايات والعلاقات العامة، ولكنه رجل يقدم نفسه مستندا على عمله وليس على أى شىء آخر.
وسيبقى منه دراساته عن فترة من أهم فترات التاريخ الحديث، وحرص على توثيق كل ما يقوله بالوثائق الأصلية، ولم يلق الكلام والإحكام جزافا كما يفعل البعض.
وسيبقى موقفه القوى فى رفض دعوة الدكتور سعد الدين إبراهيم لاعتبار أقباط مصر أقلية وبحث شئونهم بهذا الاعتبار فى مؤتمر دعا إليه عن حقوق الأقليات فى الوطن العربى والشرق الأوسط، وكتب مقالا كان له تأثير كبير فى مصر وخارجها بعنوان (أقباط مصر ليسوا أقلية وإنما جزء من الكتلة الإنسانية الحضارية للشعب المصرى) نشره الأهرام يوم 22 إبريل 1994 وقال فيه: إن أقباط مصر ليسوا أقلية ضمن أقليات العالم العربى والشرق الأوسط، لا بالمعنى العرقى مثل الأكراد فى العراق والبربر فى المغرب العربى، ولا بالمعنى الطائفى مثل الدروز أو الأرمن فى إسرائيل أو لبنان، ولا بالمعنى الدينى وحده، وذلك سر الخصوصية المصرية طوال التجربة الإنسانية فى هذا الوطن، كما أنه سر وحدة وتماسك الكتلة الحضارية للشعب المصرى، ولعل هذه الكتلة الحضارية هى القصد المقصود فى التعبير المأثور عن اللورد كرومر المعتمد البريطانى فى مطلع القرن العشرين، وهو صاحب سياسة فرق تسد، الذى لم يتمالك نفسه عند انتهاء خدمته وسفره معزولا من أن يقول: (لم أجد فارقا بين مسلم وقبطى فى مصر غير أن أحدهما يصلى فى مسجد والثانى يصلى فى كنيسة) ثم يجىء بعضنا عند مداخل القرن الحادى والعشرين ليرسم خطا فاصلا نتراجع وراءه مائة عام.. مئات الأعوام؟!
وقد نبه هيكل فى هذا المقال إلى كثرة المبالغ المرصودة لأغراض البحوث الاجتماعية والسياسية فى مصر والتى تزيد على مائة مليون دولار سنويا معظمها تقدمه هيئات أجنبية. والمشكلة أننا لا نعرف يقينا من الممولون، فنحن نقرأ أسماء هيئات دولية، لكن الأسماء - كما تعلمنا التجارب- لا تدل بالضرورة على المسميات، ثم إننا لا نعرف أين تبدأ المقاصد وأين تنتهى النتائج، وما نراه هو مجموعات فرق بحث تمسح البلاد بالطول والعرض والعمق، ثم تطالعنا أوراق لا تبدو مساوية للجهد، ثم تنزل أستار النسيان تدريجيا على كل شىء.. ونحن حقيقة فى عصر المعرفة، ويجب ألا نحجب شيئا، ولكن هناك فرق بين المعرفة والاستباحة.. والتاريخ ليس مؤامرة ولكن المؤامرة قد توجد فى التاريخ.. وهذا البلد مستهدف، ونحن نرى كيف تجرى الحرب على هذا البلد اقتصادية وسياسية ونفسية وعسكرية عند اللزوم.
وأخيرا سيبقى من هيكل أنه أخلص لبلده، ولم يساوم على هذا الإخلاص، ولم يعرض قلمه للبيع أو للإيجار، ولم يلتمس الرضا على حساب ما يعتقد أنه الصواب.
وستبقى منه قيمة الوفاء لرجل أحبه واقتنع بفكره وشاركه فى انتصاره وانكساره، ولم يغير جلده ويتنكر للسابق زلفى للاحق كما فعل البعض، وسيبقى منه ما أضافه إلى الأهرام وجعل منها مؤسسة بمعنى الكلمة وصحيفة هى واحدة بين أكبر عشر صحف فى العالم.
وسيبقى منه حبه الذى لا شك فيه لبلده. وفى ذلك يقول: إن أى إنسان لا يحتاج إلى أن يتحدث عن حبه لوطنه. حب الإنسان لوطنه من كيانه ووجوده. ولست متحمسا لنوع الوطنية المسطحة التى نسمعها عن حب مصر والولاء لمصر والوفاء لمصر إلى آخره، هذه كلها أعراض أزمة وليست دلائل حب.. حب الوطن ليس بالكلام، ولكن بالعمل للناس فى هذا الوطن. الشعب هو التجسيد الحى للوطن وللأرض وللتراث وللتاريخ. أن يحب إنسان وطنه معناه أن يلتزم بقضايا الناس وبحياتهم ومستقبلهم. هناك خلط شديد يجعل الوطنية نوعا من الهستيريا.. والوطنية ليست حلقة زار..
وأخيرا فإن هيكل عاش وفقا لمبادئه وقناعاته.. وكتب ما يعتقد أنه صواب.. ومع نموه الفكرى والسياسى عاش مراحل تطورت فيها أفكاره ومواقفه لكنه لم يغير مبادئه.
وفى الختام يقول: لقد تمثلت دائما بنصيحة الفيلسوف القديم: ( قل كلمتك وامش).. وقد قلت كلمتى ومشيت، ولم أسمح لنفسى أن أتلكأ على باب، أو أقف فى انتظـار دقة جرس.
.. .. ..
.. .. ..
فى هذه الحلقات حاولت أن أقدم صورة لحياة وأعمال وفكر محمد حسنين هيكل وهى حياة مليئة بالانتصارات والانكسارات وتعكس حقائق مهمة عن الحياة السياسية فى مصر.. وهذه هى الحلقة الأخيرة وإن كان الحديث عن هيكل يحتمل المزيد.. وأرجو أن أجد فرصة فيما بعد لاستكماله
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف