هيكل: من السجن إلى العالمية
بعد تسعين يوما قضاها هيكل فى السجن حدث ما لم يكن فى الحسبان، وكما تم القبض عليه فجأة تم الإفراج عنه فجأة.
كان الرئيس حسنى مبارك قد تولى السلطة، وبعد أيام من بدء ولايته، وبالتحديد فى يوم 25 نوفمبر 1981 أصدر قراراً بالإفراج عن 31 شخصية سياسية من المسجونين طبقاً لقرارات سبتمبر على أن تتم تصفية مواقف الباقين وفقاً لما تسفر عنه التحقيقات معهم.
وكان من بين من شملهم قرار الإفراج: محمد حسنين هيكل، وفؤاد سراج الدين (باشا)، ود. حلمى مراد، وإبراهيم طلعت، وحامد الأزهرى، ومحمد فهيم أمين، وفتحى رضوان، والشيخ مصطفى عاصى، وأحمد فرغلى، وسامح عاشور، ود. ميلاد حنا، وإبراهيم يونس، وحامد زيدان، وعبد العزيز الشوربجى، وصافيناز كاظم، ومحمد عيد، وجمال عبد الملاك، وقبارى عبدالله، وفريد عبد الكريم، ود. نوال السعداوى، وعبدالفتاح حسن (باشا)، ومحمد فائق.. وكلهم شخصيات سياسية معروفة ولهم تاريخ فى الحياة السياسية المصرية.
واستند قرار رفع التحفظ إلى أنه يأتى فى إطار توحيد الصف، وتعبئة وحشد الجهد القومى وراء القيادة الجديدة، ولفتح صفحة جديدة فى التعامل السياسى مع العناصر المتحفظ عليها، مع الإبقاء على القضايا والتحقيقات بما توافر فيها من دلائل دون حفظها.
وكان هذا القرار مفاجأة أحدثت دوياً كبيراً داخل مصر وخارجها. ولم يكن القرار وحده هو المفاجأة، ولكن كان لقاء رئيس الجمهورية بهؤلاء المسجونين قبل ذهابهم إلى بيوتهم هو المفاجأة الأكبر.. وكان لقاء الرئيس بهم ودياً ولم يتضمن كلمة عتاب واحدة.. وكانت هذه مفاجأة أخرى.
فى هذا اليوم كان هيكل فى مستشفى قصر العينى تحت الحراسة يعالج من مرض فى الكلى، وكان فؤاد سراج الدين وعبدالعزيز الشوربجى نقيب المحامين الشهير أيضاً فى قصر العينى للعلاج، وتوفى الأستاذ عبدالعزيز الشوربجى بعد ذلك بفترة قصيرة وسار فى جنازته مندوب عن رئيس الجمهورية.
نزل هيكل من المستشفى فى حراسة الشرطة دون أن يعرف إلى أين سيذهبون به، ركب سيارة الشرطة دون أن يسأل، لأنه يعلم أنه لن يتلقى جواباً، وانطلقت به السيارة ليجد نفسه داخل القصر الجمهورى، ثم يلتقى بزملاء السجن، ويتجهون جميعاً إلى الصالون الرئيسى حيث وقف الرئيس مبارك يستقبلهم ويصافحهم واحداً واحداً.
يقول هيكل: إن ما فعله حسنى مبارك معنا لم يحدث من قبل، وبعد المقابلة مع الرئيس مبارك سألت واحداً من الياوران فى الرئاسة: وبعدين.. حنعمل إيه بعد كده؟ فقال لى: خلاص.. روح بيتك! قلت: طيب.. أروح إزاى؟ لأننا جئنا بسيارات البوليس. فتحى رضوان قال: سأذهب إلى بيتى سيراً على الإقدام. وطلبنا أن نذهب إلى قصر العينى بسيارة البوليس أولاً لنأخذ متعلقاتنا قبل أن نعود إلى بيوتنا. لكن فؤاد سراج الدين قال: إنه ليس متعجلاً الخروج، وسيذهب إلى قصر العينى ويتناول غداء المستشفى وينام ثم يعود إلى بيته فى الساعة الخامسة بعد الظهر. عبد الفتاح حسن وجد سيارة البوليس (البوكس) قد تعطلت فراح يبحث عن تاكسى.. كان المنظر مضحكا.. أن نذهب إلى القصر الجمهورى ثم نطلب العودة بسيارات البوليس.. أين يحدث هذا لو قارنت بين ظروف القبض علينا وظروف الإفراج؟
***
يقول هيكل: فى السجن لم نكن نشاهد التليفزيون ولانسمع الراديو ولا نقرأ الجرائد. وفى اليوم الذى عرفت فيه أن الرئيس السادات حدث له ما حدث سألنا إذا كان من الممكن أن نسمع راديو وقلنا إن الأمر يتعلق ببلدنا.. ولكن لم يُسمح لنا بذلك. وذهبت إلى ضابط السجن، وكان رجلاً ظريفاً، وقلت له: أنت شاهدت التليفزيون؟ قال: آه. قلت له: جاوبنى على سؤال واحد: الرئيس حسنى مبارك لابس إيه فى الجنازة؟ ودهش الرجل من سؤالى وقال: لابس بدلة كحلى وكرافتة سودة. وذهبت إلى زملائى فى السجن وقلت لهم: أنا متفائل لأن الرئيس ظهر ببدلة.. إذن نحن أمام رجل لا يريد أن يتظاهر بشىء.. أنا كنت خايف يلبس التشريفة العسكرية المشهورة!
وبعد لقاء الرئيس مبارك معنا فى القصر الجمهورى سألنى مراسل الجارديان البريطانية: ألا ترى أن ذهابكم إلى القصر الجمهورى بهذا الشكل فيه عنصر مسرحى؟ وأجبته: لا أتصور ذلك لسبب واحد أنه يدل على ذكاء سياسى فوق صدق النوايا، لأن الرئيس السادات حاول إبعادنا بالقوة، لكن الرئيس مبارك نزع سلاحنا باللطف والحوار وإقدامه على فتح صفحة جديدة، هل تعرف ماذا يعنى هذا اللقاء فى القصر الجمهورى بالنسبة لى، إن فيه شجاعة أدبية، وفيه أيضاً ذكاء سياسى.
***
خرج هيكل إلى بيته فى الجيزة، لكنه بعد قليل اكتشف أن البيت لا يصلح لاستقبال عشرات الصحفيين وممثلى وكالات الأنباء وشبكات التليفزيون الذين توافدوا عليه دون استئذان، فانتقل من بيته إلى فندق الميريديان، وقالت الصحف العالمية إن الجناح رقم (827) فى الفندق الذى يسكنه هيكل تحول إلى مزار إعلامى. كان بيته يجرى دهانه، ويبدو أن زوجته أرادت الاحتفال بعودته إلى البيت فرأت أن تستأنف تجديد البيت، وكان العمل قد بدأ عقب عودته من باريس وتوقف عندما تم القبض عليه، وذهبت زوجته للإقامة فى بيت ابنه على، فلما أفرج عنه قالت إن بيت على لايسع كل هؤلاء الزوار والصحفيين واقترحت الإقامة فى فندق إلى أن ينتهى إعداد البيت.
خرج هيكل من السجن ليقرأ ما كتب عنه فى الصحف المصرية والعالمية، ولم يستطع أن يتحكم فى مشاعر الألم مما كتبه بعض أصدقائه، وزملائه وتلاميذه عنه بعد القبض عليه. وظلت هذه المشاعر تصاحبه سنوات حتى أنه قال فى حواره مع مفيد فوزى فى صباح الخير 14 يناير 1982: للأسف.. أنا مجروح من المهنة.. صحافة العالم كله وقفت معى، وأنا أعتقد أنى أديت دورى المهنى، وأديت دورى لزملائى. ورصيدى - بدون تشويه - يثبت قدر وحجم العطاء المهنى، وأنا قابل للحساب عن كل ما كتبت وكل موقف اتخذته، وعندما أنظر إلى الوراء لا أشعر بما يثقل ضميرى.. لقد كتبوا عنى الكثير.. فهل قرأت لى ردا؟ أنا لم، ولن أرد، ولن أدخل فى حوار مع أحد. أنا أعرف قيمة نفسى، ولا أغفل قيمة الآخرين ولا أقلل من قيمتهم. ولكن حين خرجت من السجن جمعوا لى ما كتب عنى فى الصحافة المصرية فوضعته فى ملف مكتوب عليه (قراءات مؤجلة) وبعد ذلك قرأتها فاكتشفت أن صحافة العالم وقفت معى فيما عدا الصحافة المصرية. ثم بدأت أسمع أعذارا.. من يقول: كان مضغوطا علينا، وكنا مضطرين.. وأنت عارف الظروف.. وسامحنا. وقفلت هذه الصفحة عملاً بمبدأ (اعط العذر للطبيعة البشرية). وما يفزعنى فى الصحافة المصرية (التسطيح) فهى تكتب كتابة إنشائية، لقد كنا فى أوائل القرن العشرين نناقش قضايا فى الدين، والديمقراطية، والعلمانية، لا يجرؤ أحد على مناقشتها الآن.. وكان النقاش حراً، وجريئاً، وأكثر حرارة.
وفى رسالة منه إلى مكرم محمد أحمد نُشِرت فى مجلة المصور يوم 19 مارس 1982 قال: لقد نسب إلى أننى خلال حديث أدليت به لصحيفة (الصنداى تايمز) تعرضت لعملية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات وأضفيت على الذين قاموا بها صفة البطولة من عندى، واستنكرت أن يلحق بهم أى عقاب من جراء اغتيالهم له، ولم يكن ذلك تعبيراً أميناً ولا صادقاً عما قلت- وهو منشور ومطبوع- مع ملاحظة أن ما قلته كان حديثاً دائرا بينى وبين الصحفى البريطانى الشهير (سيمون ونشستر)، ولم يكن مقالاً بقلمى كتبته بوزن كل عبارة، ومراجعة كل كلمة حتى أتحمل المسئولية الكاملة عنه، ومعروف الفارق بين الحديث الصحفى والمقال، أولهما قيـاسه بالروح والمعنى، والثانى حساب بالنص والحرف، ومع ذلك فأنا قابل وراض عن كل ما نسب إلىَّ فى هذا الحديث شريطة أن يؤخذ كله بغير أن يكون هناك انتقاء لعبارة خارج سياقها، أو لكلمة يجرى تأويلها على هوى أصحاب التأويل.
وقال أيضاً فى هذه الرسالة: إننى لا أحبذ العنف السياسى،ولا أقره، ولا أدعو إليه تحت أى عذر من الأعذار أو أية تعلة بالظروف والأوضاع، وفى نفس الوقت فإن ظاهرة الاغتيال السياسى ليست ظاهرة قديمة فقط، وليست ظاهرة عالمية فقط، وإنما هى أيضاً معاصرة، اهتم بها العلم الحديث، وأتى بها من عوالم الهوس والجنون حيث كان الناس يضعونها، إلى مجالات الفحص والبحث الدقيق، لأنها أخطر من أن تترك للممرضين فى مستشفيات الأمراض العقلية، وقصارى ما نستطيع أن نفعله حيال الاغتيال السياسى أن نفهم بحدسنا دوافع أصحابه. لكننا لا نستطيع بعقولنا إلا أن نرفض منطقه، وإلا أن نترك القانون الذى يحكم أى مجتمع يأخذ مجراه، ويفرض أحكامه إلى آخر الحدود.
إننى من موقف مبدئى أولاً: لا أحبذ، ولا أقر، ولا أدعو إلى الاغتيال السياسى لأى سبب أو تحت أى ظرف. ثانياً: إننى لا أتصور أن هناك حكماً فى قضية الاغتيال السياسى غير حكم القانون وحده وإلى آخر الحدود. ثالثاً: إن ذلك ليس حق المجتمع والقانون فقط، بل إنه حق صاحب الفعل ذاته، وإلا تحولت الفكرة واليقين فى دوافعه- مع خطأ التعبير عنهما- إلى جريمة قتل عادية. وأمامى حديث الصنداى تايمز، ولا أجد فيه عبارة واحدة أو كلمة واحدة تسىء إلى مصر أو تسىء إلى شعبها. بالعكس.. كل عبارة، وكل كلمة، فى كل ما أدليت به من أحاديث - خلال ثلاثة أسابيع قضيتها فى لندن فى مباحثات مع مجموعة الناشرين التى تنشر كتبى فى العالم - معبأة على الآخر إيمانا بمصر وولاء لشعبها وقضاياه. ولا أستطيع أن أمنع نفسى من الدهشة أن تبلغ الجرأة بالبعض إلى هذا الحد الذى يجرى فيه تحويل الحق إلى باطل بنقطة حبر.
وكان هيكل قد تعرض لحملة جديدة فى الصحافة المصرية، وأصبح هدفا لمزايدات المزايدين الذين تصوروا أنهم باصطياد كلمة أو عبارة من أحاديثه يمكن أن ينالوا الرضا.
***
كان هيكل قد خرج من السجن وهو يشعر بالامتنان للرئيس مبارك. فقد اجتمع مبارك مع المفرج عنهم لمدة ساعة وربع الساعة وشرح لهم الظروف التى كانت تمر بها البلاد، والمخاطر التى أحاطت بها، وطالبهم بوحدة الصف، والعمل على بدء مرحلة جديدة من العمل فى سبيل مصر. وبعد هذا الاجتماع أعلن النائب الأول لرئيس الوزراء - الدكتور فؤاد محيى الدين - أن من حق الذين رفع التحفظ عنهم ممارسة حياتهم، والعودة إلى وظائفهم وأعمالهم كما كانوا، ومزاولة أى نشاط سياسى، وقال: إن بقية المعتقلين الذين لم يفرج عنهم وبقوا فى السجن فسوف يفرج عن كل من يثبت أنه ليس عليه اتهام. وقال أيضا: إن الرئيس مبارك أصدر قرار الإفراج انطلاقا من فهمه للممارسة الديمقراطية السليمة، وتقديره بأن هذه المجموعة سوف تبدأ صفحة جديدة فى العمل السياسى.
وفى هذا اللقاء قال الرئيس مبارك: إنه ثبت للمدعى الاشتراكى بعد التحقيق أن هذه المجموعة لا علاقة لها بالتطرف. أما هيكل فقد قال للرئيس فى هذا اللقاء: إننى أعتقد أنها المرة الأولى التى يستقبل فيها رئيس الجمهورية السياسيين المتحفظ عليهم ويتحدث معهم، وأننى أعتبر هذا فى حد ذاته شيئا عظيما للغاية، خاصة أن قرار رفع التحفظ جاء خاليا من أى شروط، وما سمعته من الرئيس مبارك يدعو للثقة، ويجب على كل وطنى أن يساعد الرئيس فى إعادة هذه الصفحة الجديدة.
***
فى نفس يوم الإفراج عن هذه المجموعة أصدر المدعى الاشتراكى قرارا بإحالة محمد عبد السلام الزيات (الذى كان نائبا لرئيس الوزراء) و21 آخرين إلى نيابة أمـن الدولة العليـا بتهمة التخــابر. وضمت هــذه القـائمة: لطفى الخولى، وحسين عبدالرازق، وعبد العظيم المغربى، وفريدة النقاش، وكمال أحمد، وصبرى مبدى، ود. عصمت سيف الدولة، وأبو العز الحريرى، وحلمى الشعراوى، ود.لطيفـة الزيــات، ود. إسـماعيل صبـرى عبدالله (وزير التخطيط السابق)، ود. محمود القاضى، ود. عواطف عبد الرحمن، ود. خليل حسن خليل، وفاروق ثابت، ود. محمـد عطيـة الإبـراشى، ومحمـد عـودة، ود. رشـدى سعيد، ود.فؤاد مرسى، ود. محمد خلف الله، وأمينة راشد.
وفى اليوم التالى كان خبر رفع التحفظ عن هيكل ومجموعته يملأ الصفحة الأولى فى كل الصحف المصرية والعربية والعالمية. وفى الأهرام جاء تحت عنوان (كلمة للأهرام) ما يلى:
إن التاريخ سوف يذكر الخامس والعشرين من نوفمبر 1981 بوصفه اليوم الذى شهد ميلاد حدث سياسى خطير أعطى انطباعا للعالم بأن مصر بخير، وأن الديمقراطية فى مصر هى حق وصدق، وأنه- على حد قول الرئيس مبارك للذين أفرج عنهم بالأمس- لن يكون هناك باب مغلق، أو حجْر على أصحاب الرأى والمفكرين.
ومن المؤكد أن قرار الإفراج عن المعتقلين السياسيين قد أشاع جوا من الارتياح بين كل أفراد الشعب المصرى، فكل قرار يتحدث عن الحرية هو قرار الشعب أولا قبل أن يكون قرار القيادة السياسية. ولأن هناك مساحة واسعة بين هؤلاء وبين الذين باعوا أنفسهم للشيطان والفتنة، أو هؤلاء الذين استخدموا ديمقراطية القنابل والرشاشات، ولأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث والقديم يستقبل رئيس دولة السياسيين المتحفظ عليهم الخارجين من السجن رأسا ويكون فى استقبالهم بنفسه، وبروح الود، وبالحوار الديمقراطى. مباركة مصر بقرار الحرية الذى طوق عنق كل مصرى، فإن مصر للجميع، وبالجميع تحيا وتعيش.
***
وفعلا كان هذا اللقاء حدثا غير مسبوق، ولا يخطر على البال. وما حدث يصلح مشهدا فى فيلم مثير. ففى الساعة الثانية عشرة وصلت إلى القصر الجمهورى سيارة 128 بيضاء نزل من مقعدها الأمامى إلى جانب السائق نقيب المحامين السابق الأستاذ عبدالعزيز الشوربجى يسنده أحد مرافقيه، وكان باديا تدهور حالته الصحية حتى أنه لم يستطع السير وحده، وكان قادما من قصر العينى حيث كان يخضع للعلاج.. وكان يتحرك بصعوبة بالغة متوكأ على عصا فى يده ومستندا على ذراع مرافق، وذقنه غير حليقة، ثم وصلت بعد قليل سيارة فيها نوال السعداوى وصافيناز كاظم، وبعد ذلك وصلت سيارة ميكروباص بيضاء اللون تحمل عددا من المتحفظ عليهم، وبعدها جاءت سيارة تحمل محمد حسنين هيكل، وفؤاد سراج الدين، وفتحى رضوان، وإبراهيم طلعت، وعبد الفتاح حسن، وإبراهيم يونس، ود. محمد حلمى مراد.. وهكذا توافد الجميع إلى أن اكتمل عددهم.. وتجمعوا فى قاعة الاجتماعات فى القصر الجمهورى ثم انتقلوا إلى الصالون الرئيسى ليصافحوا الرئيس مبارك.
قال الرئيس مبارك وهو يصافح الأستاذ عبد العزيز الشوربجى:
أهلا أستاذ شوربجى.. إزى صحتك.. ألف سلامة.
وقال الرئيس لهيكل: إزيك يا هيكل.. زى ما انت لم تتغير.. أذكر آخر مرة قابلتك فيها كان عند الفريق صادق وزير الحربية الأسبق.
وقال لمحمد فائق:
تمام.. انت ما تغيرتش من ساعة ما كنا مع بعض فى حلوان. (وكان محمد فائق ضابطا بسلاح المدفعية بينما كان حسنى مبارك وقتها طيارا بالسلاح الجوى).
وهكذا كان جو اللقاء وديا للغاية.. وخرج الجميع مبتسمين.. ومتحمسين حتى أن هيكل قال للصحفيين الذين تجمعوا حوله على باب الخروج:
سأؤيد الرئيس مبارك بكل قواى.. إنه يفتح صفحة جديدة ستكون مشرفة جدا.
وسأل الصحفيون هيكل إلى أين سيذهب؟ فقال لهم بانفعال:
أعتقد أننى أستطيع أن أذهب إلى حيث أريد.. أنا حر اليوم.
وسأل صحفى أجنبى هيكل:
- هل صحيح أنك ستتولى منصبا رسميا؟
فأجاب على الفور:
- لا.. لا.. أنا صحفى.. وسأبقى صحفيا.
وسئل:
- هل عوملت معاملة حسنة فى السجن؟
فقال:
- لن أتحدث عن ذلك.
ثم قال للصحفيين:
لقد أكدت لى طريقة حديث الرئيس ما سبق أن قلته لزملائى فى السجن بعد أن سمح لنا بالاستماع إلى كلمته فى البرلمان، فقد قلت: إن هذا الرجل ولد مرتين من خلال عاصفتين من الدماء. كانت الأولى هى ملحمة أكتوبر العظيمة.. والثانية كانت حادث الاغتيال المأساوى. ونحن اليوم نواجه رجلا جديدا. فعندما يقوم رئيس دولة بمواجهة المتحفظ عليهم سياسيا، فإن ذلك يقتضى شجاعة أدبية كبيرة.. وأكرر: هذه حالة نادرة فى العالم الثالث وحتى فى العالم الأول خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار الصورة التى نقلت إليه عنا سواء كانت خطأ أم صوابا.
وعاش هيكل أياما تحت حصار الصحافة وشبكات التليفزيون العالمية.
وفى يوم 28 نوفمبر كانت مقالة الأستاذ إبراهيم نافع بعنوان:
(وجاءت لحظة مواجهة الحقيقة- أثر قرار مبارك بالإفراج عن السياسيين على الصورة المشوهة لمصر فى الخارج). وتحدث المقال عن الصورة المشوشة والمهزوزة عن مصر فى الخارج بسبب قرارات الاعتقال، وكيف أن قرار الإفراج عن السياسيين سيؤدى إلى تحسين صورة مصر، وهناك فرق بين هؤلاء السياسيين الذى أرادوا استخدام حق الكلمة والديمقراطية، وبين الذين استغلوا المناخ نفسه لاستخدام ديمقراطية القنابل والرشاشات.
***
ماذا فعل هيكل بعد ذلك؟
انطلق إلى العالمية.
تفرغ لتأليف عدد من الكتب تحول بها من صحفى إلى مؤرخ كبير وصدرت كتبه بأكثر من سبع عشرة لغة. وظل يدلى بأحاديث للصحافة العالمية والعربية والمصرية ولشبكات التليفزيون، واستجاب لدعوة عدد من الجهات لها مكانة خاصة فى مصر وخارجها لإلقاء محاضرات كان لكل محاضرة منها أصداء وكان لبعضها إثارة ضجة، وأدلى بحديث مشهور لمجلس تحرير صحيفة أخبار اليوم نشرته على ثلاث حلقات، وشارك فى ندوات.. باختصار ظل هيكل مشغولا، ويشغل الناس طول الوقت.
وكان يتقاضى خمسة آلاف جنيه فى السنة من الأهرام حيث كان رئيسا لمجلس الإدارة ورئيسا للتحرير وكاتب المقال الأسبوعى الشهير (بصراحة) وبعد أن ترك الأهرام حصل من صحيفة الصنداى تلجراف على مائة ألف جنيه استرلينى عن حقوق نشر كتابه الأول (وثائق القاهرة)، وباعت الصنداى تلجراف حقوق النشر بعد ذلك إلى واحد وعشرين ناشرا فى العالم وربحت ثلاثمائة ألف جنيه استرلينى فوق ما دفعته وذلك طبقا لحساباتها الرسمية. ونشرت الصنداى تلجراف هذا الكتاب فى حلقات امتدت ثمانية أسابيع كاملة. وكان كتابه الثانى بعنوان (الطريق إلى رمضان) ونشرته دار (كولينز) البريطانية، كما اشترت صحيفة (التيمس) حق النشر الصحفى من كولينز، وصدر هذا الكتاب فى اثنتين وعشرين لغة. ونفس الشىء حدث لكتابه الثالث (أبو الهول والقوميسير) وهكذا إلى أن أصدر كتابه الخامس عن الثورة الإسلامية فى إيران فبدأت صحيفة الصنداى تايمس نشره موضوعا رئيسيا فى صفحتها الأولى، ثم تلتها صحيفة (التيمس) فخصصت للكتاب صفحة كاملة يوميا لمدة أسبوع كامل، ثم صدر الكتاب فى ثلاث وثلاثين لغة.
يقول هيكل: لم أكتب هذا الكتاب من منازلهم أو من مكاتبهم كما يقولون، وإنما بدأت مع آية الله الخمينى من باريس، وتبعته إلى طهران، وعشت معه فى (قم)، وكنت الضيف الوحيد الذى دعاه الطلبة الإيرانيون الذين احتجزوا الرهائن فى السفارة الأمريكية إلى زيارتهم فى معقلهم، وقضيت أياماً أقلب فى وثائق وزارة الخارجية الإيرانية والقصر الإمبراطورى (نيافاران)، وأقابل كل من أردت مقابلتهم من تبريز إلى أصفهان، ومن قم إلى طهران. وكان أن اتصل بى وزير الخارجية الأمريكية وقتها (سايروس فانس) يسألنى إن كنت مستعداً أن أتوسط فى قضية الرهائن، ودعانى إلى مقابلته فى واشنطن لبحث المسألة، ولم تكن ارتباطاتى المسبقة تسمح لى بالذهاب إلى واشنطن يومها، فأرسل لى مساعده لشئون الشرق الأوسط (هارولد سوندرز) يقابلنى فى لندن ثم يعود إلى مقابلتى بعد ذلك فى قلعة (بلريف) بجوار جنيف، حيث كنت أنزل لبضعة أيام ضيفا على الأمير صدر الدين أغاخان. وقد تسبب توسطى فى قضية الرهائن فى أزمة انتظرتنى فى مصر عندما عدت إليها. كان الرئيس السادات - يرحمه الله - متضايقاً، وقال للسفير الأمريكى فى مصر: هل لم تجد واشنطن بين الأربعين مليون مصرى أحدا توسطه فى مشكلة الرهائن غيره؟. ورد السفير الأمريكى قائلاً: من سوء الحظ أنه كان الوحيد بين الأربعين مليون الذى يعرف الخمينى. والغريب أن موضوع توسطى فى مشكلة الرهائن كان موضوع حملة علىَّ فى مصر.
ويقول: ثم جاء كتابى السادس للسوق الدولية وهو (خريف الغضب)، ثم الكتاب السابع عن حرب الثلاثين سنة، وقد وقعت عقده مع دار (أندريه دويتش) ولم أكن قد كتبت حرفا واحدا فيه.. وهكذا توالت بقية الكتب.
***
وفى الجزء الثالث من حواره مع مجلس تحرير أخبار اليوم الذى نشر يوم 18 يناير 1986 نشر صورة من صفحة 112 من كتاب أشهر مؤلف استراتيجى إسرائيلى هو آموس برلموتر، والكتاب بعنوان (السياسة والعسكريون فى إسرائيل 1976-1977) وفى هذه الصفحة يقول المؤلف الإسرائيلى: (.. لكـن هيكل برفضه قبول دور التابع الذى أراده كيسنجر له فُصل من منصبه كرئيس لتحرير الأهرام).
***
وفى ديسمبر 1987 دعاه الدكتور على الدين هلال رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى ذلك الوقت لإلقاء محاضرة فى الكلية، فاختار أن يكون عنوانها (هواجس مستقبلية). ووضع أمام المثقفين مسئوليات كما يلى:
1 - ضرورة استجلاء الحقيقة بيقين حتى تعرف الأمة أنها ليست مهزومة.
2 - إعادة ترتيب العقل المصرى لأن الأمور تداخلت وتداخل مع العقل مالا ينتمى إلى العقل.
3 - وضع جدول أوليات للعمل العربى والقومى لأن الأمور اختلطت. صحيح أن البعض يمكن أن يقول: إن هذا عمل الحكومة والأحزاب، لكن الحكومات تجلس وتنتظر أن ينتهى النهار ويجىء الليل ويطلع الفجر والأمور سليمة. والأحزاب كلها أسيرة الماضى، وكل منها يريد استعادة حقبة معينة من الماضى، وهذا مستحيل طبعا.
4 - مطلوب من النخبة المفكرة وضع خريطة تحدد المتغيرات التى حدثت فى مصر والأمة العربية، وأنا أزعم أنه حدثت فى هذا البلد متغيرات لا حدود لها على خريطتها الاجتماعية، وخريطتها السكانية، وخريطتها الاقتصادية، وحتى رؤية هذا البلد لنفسه ورؤيته للعالم الخارجى.. حدثت متغيرات كثيرة جدا ونحن لا ندرى بها، وقد يدهشنا لو حاولنا أن نضع خريطة للتركيب الطبقى.
5 - علينا أن نتصور شكلاً مختلفاً للعلاقات العربية، وإذا أردنا أن نتحدث عن الماضى ونعيش أسراره قد يتصور أن مصر هى مصر الخمسينات وهذا ليس صحيحا. أو أن العالم العربى هو عالم الستينات، وهذا أيضا ليس صحيحاً، فقد حدثت اختلافات كبيرة جداً، وتغيرات كبيرة جداً، ولهذا يجب على طلائع الأمة المفكرة أن تحاول أن تستكشف ما هو ممكن وما هو متاح.
6 - وهناك مهمة هامة جدا، هى علاقتنا مع العالم الخارجى.
7 - آن الأوان أن نصل إلى نوع من التراضى العام فى قضايا أصبح محتماً الآن أن نبت فيها أو أن نتركها، فلا يعقل أن نتحدث حتى الآن عن دور المرأة فى المجتمع، ولا يعقل أن نتحدث حتى هذه اللحظة عن قضايا كبيرة وكأنها أشياء منفصلة ولا نجد أحداً يربطها ويخرج منها ما يمكن أن نطلق عليه (التراضى العام). وعلينا فى مراكز البحوث وغيرها أن نقوم بالدور الذى تقوم به الفلسفة، فنحن الآن فيما أتصور فى حالة سفسطة، وعلينا أن نحول هذه السفسطة إلى فلسفة، نحاول أن نستخلص قوانين للحقائق، فإذا استخلصتها نقلتها إلى مجال العلوم وخرجنا من مجال الفلسفة. وآن الأوان أن نخرج بأشياء لا نختلف عليها.
8 - على المثقفين مهمة تبصير الأمة وصانعى القرار بما تدل عليه الجمل والألفاظ، فالناس كلها تتعجب الآن كيف أننا لا نعرف مدلولات لكل ما نستعمله من ألفاظ فى العالم العربى.
9 - وهناك مهمة التصدى لرد النظرة التشاؤمية عن نظام عربى توافرت له الشروط لقيام نظام. وهو نظام فى أزمة لأسباب نراها ونستطيع تشخيصها.
10 - المهمة الأخيرة هى أن تعدد مراكز البحث لشئون المستقبل الاجتماعى والاستراتيجى والسياسى ظاهرة تدعو للإشادة بها، لكن كل هذه المراكز مطالبة بتوحيد جهودها وتوجهاتها ونشاطاتها وإلا تحولت إلى طواحين كلام. وتوحيد الجهود يعنى أولا توفير الموارد المادية والعلمية والإنسانية والبشرية، لأنه لا يوجد ما نتركه للضياع، خصوصاً ونحن نعلم أن هناك محاولات للاختراق، ومحاولات للهدم المنظم للكفاءات، وهناك محاولات للتسلل!
***
من الصعب حصر مقالات هيكل، فعددها بالآلاف.. ومحاضراته وندواته ولقاءاته الصحفية يصعب حصرها أيضا.. ولكن يكفى أن نتوقف عند بعض الموضوعات الجوهرية التى تناولها فى هذه المرحلة..
ففى أكتوبر 1994 قدم ورقة لتكون بداية حوار فى المؤتمر الثلاثين لجماعة خريجى معهد الإدارة العليا كانت بعنوان (مصر والقرن الواحد والعشرون) قال فيها إن الإدارة السياسية تتطلب أن يكون هناك هدف (أو أهداف) موضع إجماع أو أغلبية وطنية مقتنعة به ومستعدة للعمل والبذل من أجله. وأن يكون هذا الهدف واضحاً ومحدداً لأنه ليس أخطر فى السياسة من الرؤى الغائمة. وأن تكون لهذا الهدف إمكانية فعلية مضمونة تسمح بتحقيقه، فلا فائدة فى هدف إذا كانت الوسائل والأدوات الضرورية لتحقيقه ليست موجودة أو محتملة. وأن تكون لهذا الهدف مشروعية تجعله مقبولا ليس فقط من أصحابه، إنما من غيرهم، والمشروعية ليست مشروعية القوانين والأعراف فقط، وإنما أيضا مشروعية العصر وقيمه وموازينه. وأن تتكفل الحياة السياسية بأن تعطى لإدارتها أصلح وأنضج العناصر المهيأة لتحمل المسئولية تحفظ للهـدف حداً مأموناً من فرص النجاح، وأخيراً أن تقدر الحياة السياسية على أن تعطى لقوى الأمة حقها فى الرقابة على إدارة العملية السياسية فى مجملها وأن تكون الرقابة من مدخل الاهتمام والمناقشة والمتابعة أكثر من مدخل التحقيق والتفتيش والعقاب.
وبالنسبة لمصر فإنها لا تستطيع أن تفلت من قوة الضغط والجذب الآسيوية المتمثلة فى الأمن، والدين، واللغة، وكلها فى الشرق، ولا تستطيع أن تفلت من الرباط الأفريقى بالدور الذى يلعبه النيل فى حياتها، ثم إن وجودها على شاطئ البحر الأبيض هاجس يشغلها باستمرار من الشمال والغرب. وهذه هى الرواسى التى لا يمكن التخلى عنها أو الإفلات منها.
وتظهر الولايات المتحدة كقوة سادت القرن العشرين وتبدو كذلك فى القرن الواحد والعشرين، ولكن الولايات المتحدة تبدو مرتبكة، عصبية فى تصرفاتها رغم قوتها. فقد خرجت من الحرب الباردة منهكة. وهى الآن أكبر مدين فى العالم وحجم ديونها الداخلية والخارجية يتصاعد بسرعة خرافية من 850 مليار دولار فى أوائل الثمانينات إلى 4 تريليونات دولار فى أوائل التسعينات، وتقديرات صندوق النقد الدولى أن حجم الدين الأمريكى واصل سنة 2010 إلى درجة أن فوائده وحدها سوف تزيد على حجم الناتج الإجمالى الأمريكى فى تلك السنة!
والإنتاج العسكرى أصبح يمثل مساحة تزيد عما هو ضرورى على خريطة الإنتاج الأمريكى فى إجماله، وحدث التوسع فى الإنتاج العسكرى على حساب احتياجات أخرى فى مجالات البنية التحتية والإحلال والتجديد فى وسائل الإنتاج المدنى والخدمات وبينها التعليم والصحة. والمشكلة أن انتهاء عصر الحروب العظمى مع هذا الكم الهائل من السلاح بغير استخدام، والفائض الجاهز للتصدير عبء على الأسواق، والمشترون التقليديون الذين تعودوا على أن يأخذوا من الولايات المتحدة كل ما تعرضه- والعرب أولهم- لم يعد فى أيديهم كثير يدفعونه لشراء السلاح الأمريكى. والماثل أمامنا أن مستوى التعليم الأمريكى نزل من المركز الأول إلى المركز العالمى السابع. والولايات المتحدة تتحول تدريجيا إلى مجموعات كتل إنسانية. كتل زنجية، وكتل هندية، وكتل لاتينية، وكتل آسيوية، وكتل أوربية، واستتبع ذلك إحياء ثقافات ولغات وممارسات جعلت ذلك البلد- القارة مهددا بانقسامات مما دعا مؤرخا ممتازا مثل (آرثر شليزنجر) إلى إصدار كتابه (الولايات الأمريكية غير المتحدة). ومن المفارقات أن الصفوة الحاكمة فى أقوى بلد فى العالم مشغولة بأبحاث أثبتت أن متوسط الذكاء العام للفرد الأمريكى انخفض بمعدل 8% عما كان عليه منذ عشرين سنة طبقا لقياسات علمية. وهبط متوسط دخل الفرد فى أمريكا فى العشرين سنة الأخيرة من 28 ألف دولار للفرد فى السنة إلى 21 ألفا، وفى نفس الوقت فإن تركيز الفقر فى مقابل تركيز الغنى أصبح حادا، وهناك 30 مليون أمريكى يعيشون على حد الفقر وتحته، و21 مليون أمريكى أميون، وقد يكون من الصعب على البعض أن يصدق ذلك. وقد تزايد نفوذ جماعات الضغط.
وهناك ألفا شركة تملك أو تسيطر على نصف الإنتاج العالمى بالضبط، وهذه القوة الجبارة لا تحصر همها فى شئون الاقتصاد ولكنها تؤثر فى شئون السياسة أيضا.
والعالم الآن منقسم.. ناس يقدرون.. وناس يحاولون.. وناس يبدو أنهم لا يقدرون ولا يحاولون، وبعضهم يأمل أن ينقذه أحد لأنه لا يستطيع أن يخدم أو يفيد.. وناس سوف يغرقون لأنهم لا يقدرون ولا يحاولون.
***
يقول هيكل: إن الولايات المتحدة لن تقبل ببساطة أن تصل إلى سنة 2010 لتجد أن فوائد ديونها تستغرق كامل دخلها القومى، ولابد لها أن تحاول بكل وسيلة ألا تصل إلى هذا المأزق مهما كان الثمن. ولهذا فإنها تدخل فى حرب اقتصادية مع اليابان وإلى حد ما مع أوربا الغربية وألمانيا فى طليعتها، وتحاول إغراء غرب أوربا بتحمل تكاليف ضبط مشاكل شرق أوربا، وتعوق إمكانية أى لقاء استراتيجى بين اليابان والصين، وتمارس ضغوطا عنيفة على الدول العربية لكى تقبل بسلام أمر واقع مع إسرائيل تظن أنه يكفل أمن الشرق الأوسط ويؤكد سيطرة أمريكية لا تنازع على مواقعه وموارده.
وانتهى هيكل من هذا التحليل- فى عام 1994 - إلى أن أمريكا سوف تلجأ إلى العنف للتشبث بالبقاء على القمة.
ووصل إلى أن العالم انقسم إلى أغنياء وفقراء. وترسخ بين الاثنين نوع من الخوف والكراهية، وتحولت التطلعات المشروعة للفقراء إلى عداء يوشك أن يستحكم بعد أن أصبح لدى الفقراء فكرة عن مستوى معيشة الأغنياء. وبعد أن تراجع الفقراء عن حلم التنمية إلى الدين حماية وحصنا، وتفجرت المواريث القديمة، والتحيزات الثقافية الكامنة، فأصبحت أوربا تتحدث مهتاجة عن خطر الإسلام الزاحف، أضيف إلى ذلك شعور الفقراء بالخيانة، لأن الصفوة الغنية منهم انفصلت طبقيا وانضمت إلى أغنياء العالم متواطئة معهم ضد الفقراء من شعوبهم، والنظام البنكى العالمى تدور فيه الآن (1994) 430 مليار دولار تقريبا من أموال مواطنين سعوديين لا تشمل الملكية العقارية أو الزراعية، و112 مليار دولار تقريبا من أموال مواطنين مصريين، و74 مليار دولار تقريبا من أموال مواطنين جزائريين، و65 مليار دولار تقريبا من أموال مواطنين سوريين، وغير هؤلاء كثيرون، أما الدول التى ينتمى إليها أصحاب هذه الثروات فهى غارقة فى الديون حتى تلك التى كانت تعتبر من أغنى الأغنياء.
إن العالم يشهد ثورة تمكن تسميتها (ثورة الثراء) وهى ثورة تفرعت عن الثورة الإلكترونية بدأت ببطاقات الائتمان التى شجعت على الاستهلاك، واتساع نطاق بورصات العالم تعمل 24 ساعة كل يوم فى ملايين من الأسهم والسندات والمضاربة على العملات والعقود الآجلة لسلع غير موجودة، وهذه العملية حجمها تريليون دولار كل يوم، وهى تأخذ وتعطى كميات هائلة من الثروات بنبضات إلكترونية خاطفة، وأدى ذلك إلى طلب الثراء السريع مما يشكل حالة قرصنة على مستوى العالم.. بينما فقراء العالم يعيشون فى حالة دوار بعد أن تبخرت ثورة التطلعات التى رافقت ثورة التحرر الوطنى، وعادت السيطرة ممثلة فى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، وأصبحت دبلوماسية كل منها بديلا عن دبلوماسية البوارج التى كانت فى القرن التاسع عشر كما قال الاقتصادى البريطانى الشهير (آلان والترز) الذى كان مستشارا لمارجريت تاتشر عندما كانت رئيسة وزراء بريطانيا. والأغنياء اليوم يملكون فرض الشروط على الفقراء فى ميادين التنمية وبعد البنك الدولى وصندوق النقد الدولى أضيفت منظمة التجارة العالمية التى ستجهض آمال التقدم لدى الفقراء، وتزيد الفجوة بينهم وبين الأغنياء.
***
بعد هذه الرؤية الاستراتيجية من منظور واسع، ماذا عن العالم العربى؟.
يلخص هيكل رؤيته للعالم العربى فى نقاط:
1 - إن العالم العربى أوقع نفسه فى شراك نصبها له الآخرون ونصبها لنفسه دون وعى. تناقض بين الدين والعلم. تناقض بين العروبة والإسلام. تناقض بين الوطنية والقومية. تناقض بين الأصالة والحداثة. تناقض بين الحاضر والماضى، ووصل التناقض إلى حد أن الأمة أصبحت مولعة بالبحث عما يفرقها أكثر من بحثها عما يجمعها. فهناك معركة لا لزوم لها بين العلمانية والأصولية، ومعركة بين القطاع الخاص والقطاع العام، ومعركة بين القبائل والمدن، وتحولت السياسة إلى عداوات بين المراحل التاريخية وقياداتها المختلفة.
2 - إن العالم العربى بدد ثروة من أكبر الثروات التى أتيحت فى التاريخ لأمة أو حتى لامبراطورية. وعلى سبيل المثال فإن دخل البترول فى الربع الأخير من القرن العشرين يقدر بأربعة تريليونات دولار.
3 - إن العالم العربى فقد الإحساس بهويته وتملكته نزعات القبائل المتحاربة. ونتيجة لذلك ضاع منه الهدف المشترك.
4 - وهناك أزمة شرعية، فمعظم الأنظمة تحكم بقوة الأمر الواقع.
5 - وهناك أزمة خلافة.
6 - إن العالم العربى يعيش فى أسر أكبر حشد من القوانين تعرفه أية منطقة غيره.
7 - والعالم العربى يتصور أنه مقبل على عصر من السلام مع إسرائيل فى ظل امتلاك إسرائيل لسلاح نووى. وإسرائيل تغير دورها، بعد أن كانت تقوم بدور الضامن للمصالح الإمبراطورية البريطانية، أصبحت الضامن للمصالح الأمريكية، والآن تقدم نفسها على أنها الضامن للعالم ضد خطر الإسلام الإرهابى كما يدعون. وفى اجتماع المجلس الأوربى فى أسبانيا أواخر سبتمبر 1994 قال وزير خارجية إسرائيل إن على الغرب أن يقف وراء إسرائيل باعتبارها الحاجز للإسلام، والواقى لأوربا ضد زحفه وعدوانه.
وأخيرا- هناك خريطة سياسية واقتصادية تُرسم من جديد للمنطقة أهم وأخطر من خريطة سايكس- بيكو القديمة. وما يجب أن نتحسب له هو أن الأمة تساق سوقا إلى طرق تجهلها، والغريب أنها تمشى فى هذه الطرق بهمة وكأنها تحاول استباق الزمن. وهناك اختراق خارجى للعالم العربى فى كل الاتجاهات من داخل كل دولة عربية، ومن دول كثيرة فى الخارج.. وهو اختراق مالى.. واقتصادى.. وسياسى.. وأمنى.. وإعلامى.. وثقافى. والمحزن أن زمام المبادرة الإعلامية والثقافية فى العالم العربى انتقل من أكثر المراكز استنارة وتقدما إلى أكثرها تخلفا وبالذات فى مجال حرية تداول المعلومات وأهلية الريادة الثقافية. والعالم العربى يعيش فى حالة تعتيم فى المعلومات ومن المفارقات أن القنوات الفضائية تعرض الكثير عما يجرى فى الدنيا لكن لا تعطى شيئا عما يجرى فى أرضها.
***
وبعد هذا التحليل الاستراتيجى لأوضاع العالم العربى فى نظر هيكل ماذا عن مصر؟.
إنه يرى أن تفوق إسرائيل وتنافر العرب وضعفهم قد يفتح الباب لقوة التأثير الإسرائيلى لتمارس دور ضابط التفاعلات والحكم فى العلاقات. وأن نصائح الصندوق والبنك الدوليين وشروط الجات لن تكون كافية لتكوين رأس المال المطلوب لشراكة القرن الواحد والعشرين، كذلك لا يكفى الضياع فى أمور لا توصل إلى تقدم حقيقى، ولا بد أن نطبق مبادئ علم الإدارة: هدف واضح محدد. ومشروعية لهذا الهدف. وأصلح العناصر للحياة السياسية، وحق الشعب فى الرقابة على العملية السياسية بمجملها.
والأمل فى أن تنمو طبقة متوسطة عريضة تعطى للمجتمع التوازن وترسى قيمة العمل فوق قيمة المغامرة، وتمارس دورا فى العملية السياسية وتشارك فى عملية التغيير الآمن. وفى مصر رصيد هائل من الكفاءات والخبرات قادرعلى تحمل مسئولية نقلة حضارية، وهناك حالة قلق تدعو قوى كثيرة إلى عدم الرضا عما ترى وتحفزها إلى أن تفتش عن خيارات بديلة لمستقبل أفضل.
هذا نموذج للمحاضرات العديدة التى ألقاها هيكل فى السنوات التى أعقبت خروجه من السجن، وكلها تطرح رؤى استراتيجية ومستقبلية، تتفق أو تختلف معها، ولكن لا تستطيع أن تتخلص من تأثيرها عليك.. لأنها تحفزك على التفكير.. وهذا هو الدور الذى اختاره هيكل لنفسه فى السنوات الأخيرة.. أن يحفز قراءه وسامعيه على التفكير.. وهذا بالضبط ما يحتاج إليه المصريون والعرب فى هذه المرحلة، أن يجتهدوا.. ويشعروا بالمسئولية.. ويفكروا..
***
وفى يناير 1995 كان هيكل على موعد مع رواد معرض الكتاب وتحدث فى جمع كبير بصراحة وقال: إن سنة 1995 فى تقديره قد تكون هى الباب إلى القرن الحادى والعشرين الذى تنبئ مقدماته بما يستحيل على أحد تصوره.
وقال فى حديثه: إن المؤشرات الطبقية الجديدة فى مصر، كما جاء فى تقرير وضعته مجموعة بحث دولية شارك فيها خبراء من بلدان مختلفة بينهم واحد من إسرائيل تشير إلى ما يلى:
* فى مصر 100 فرد تتراوح ثروة كل منهم ما بين 80 إلى 100 مليون دولار.
* 150 فردا تتراوح ثروة كل منهم ما بين 50 إلى 80 مليون دولار.
* 350 فردا تتراوح ثروة كل منهم ما بين 15 إلى 30 مليون دولار.
* 2800 فرد تتراوح ثروة كل منهم ما بين 10 إلى 15 مليون دولار.
* 70 ألف فرد تتراوح ثروة كل منهم ما بين 5 إلى 10 ملايين دولار.
والأرقام الخمسة الأولى تدل على أن هناك ألف فرد استطاعوا فى عشرين عاما أن يصبحوا أصحاب ثروات لا تتناسب مع الحقائق الاقتصادية أو الحقائق الاجتماعية السائدة فى البلد، وقد جاءت هذه الثروات فى معظمها من عمليات تقسيم وبيع الأراضى والعقارات وما يتصل بها من التوكيلات التجارية واحتكار بعض السلع كالأسمنت والحديد والسكر واللحوم، ولقد كنا نقبل- ونسعد ونبارك- لو أن هذه الثروات تراكمت نتيجة لعملية الإنتاج بالمنطق الرأسمالى السليم القائم على الاستثمار وقبول المخاطرة، وعلى احترام القوانين والتزام ضوابطها، ودفع الضرائب والرضا بتكاليفها، لكن الواقع فى معظم الأحيان وباستثناء لا تزيد نسبته على عشرة فى المائة، لم يكن الأمر هو الاستثمار، وإنما الاستغلال ونفوذه، ولم يكن القانون وضوابطه، وإنما الدوران حوله والاستهتار به، ولم تكن الضرائب العادلة فى تكاليفها، وإنما الضرائب على أضعف الطبقات قدرة على أدائها وأقلها فرصة فى الهرب أو التهرب منها.. ومن المفارقات أن مصر موضوعة فى قوائم الدول الفقيرة وتستورد أكبر نسبة من سيارات المرسيدس فى العالم بالقياس إلى عدد سكانها، وذلك طبقا للبيان السنوى (سنة 1993) لشركة مرسيدس بنز.
وقال هيكل: إن هذه الأوضاع أدت إلى التأثير على الطبقة المتوسطة وهى مستودع الحيوية الاجتماعية، لكنها أصبحت مضغوطة ومحاصرة، وأدى ذلك إلى تباطؤ فى دوافع الحركة والنهوض لدى هذه الطبقة، وفى وقت من الأوقات كان المخرج سباقا متسارعا للهجرة نحو النفط، فتأثرت أنماط السلوك، وتأثرت القيم والثقافة ومعايير الجمال، وحتى الإنتاج الفنى أصبح يعرض نفسه سلعة فى أسواق النفط، وينتج على هوى المشترين، مع أن بلاد النفط فيها أفضل العناصر فكرا وثقافة والتزاما، لكننا اخترنا الجانب الآخر..
***
وقال هيكل فى هذا الحديث الذى نشرته كل الصحف تقريبا: إن المخرج يتلخص فى: أن تحرص الكتلة الوطنية فى مصر- سواء بين المجتمع وطبقاته أو بين المجتمع والسلطة - على ألا تترك الشرخ يتحول إلى كسر، فالأوضاع الدولية لا يهمها أن تنفرط مجتمعات بأكملها فى العالم الثالث أو تتماسك، وإنما أصحاب كل مجتمع هم الذين يعنيهم أمره وتهمهم سلامته.
وقال هيكل:إن النظام القائم بالحكم فى مصر ليس له بديل مقبول، وبالتالى فإن مساعدته بكل الوسائل ضرورة من ضرورات السلامة، وربما أضفت أننى على خلاف معه فى عديد من وجهات النظر، ولكن يمكن التفرقة بين الأمر الواقع وبين المثال المرتجى.
وقال: إن فى علم إدارة الأزمات نظرية ترى أنه إذا لم تجد الأزمات إدارة تخطط وتنظم لحلها فإنها سوف تجد لنفسها حلا بغير تخطيط وبغير تنظيم تنكسر به العقد المستعصية.
وقال:إن الرئيس حسنى مبارك يظل فى حسبانى رجلا تلقى الظروف عليه هذه المسئولية، واعتقادى أنه قادر عليها، ويتطلب ذلك إعادة تنظيم الدولة، وفى مقدمتها رئاسة الجمهورية حتى يستطيع مكتبه ومعاونوه المختارون أن يؤدوا مهام حيوية فى المرحلة القادمة، ورئاسة الجمهورية لا تحتاج إلى بيروقراطية ثقيلة بجوار الرئيس، لكنها فى حاجة إلى مجموعة عالية الكفاءة شديدة اليقظة، قادرة على المتابعة والاستجابة بسرعة، مستعدة لالتقاط الأفكار، وإنشاء المبادرات وتصور السياسات وبدائلها ووضعها باستمرار تحت عناية الرئيس.
وقال: إن هناك حاجة ماسة إلى عقد اجتماعى جديد على ألا يكون موضوع إنشاء عن حقوق المواطنين وواجباتهم، وإنما يكون مؤشرا إلى ترتيبات ممكنة تكفل السلامة الاجتماعية، وهناك حاجة ماسة إلى إصلاح سياسى دستوى ينظم هذا العقد الاجتماعى الجديد، ويؤكد ترتيباته بحيث يكون هذا العقد الاجتماعى محترما وملزما، وربما يكون مناسبا أن تتضمن التعديلات السياسية المقترحة شيئا عن منصب نائب الرئيس، وفى مصر نخبة من أفضل وأكفأ الناس، نرى كثيرين منهم يصابون بالصدأ وببرودة الحماس.
وختم حديثه بقوله: إننى أوجه الشكر للذين دعونى فإنهم سوف يدفعون جزءا من حساب هذه الدعوة على الأقل.
ولم يكن هناك حساب..
وقال هيكل فى أحاديثه وكتاباته ومقالاته ما يريد..
***
وفـى عـام 1999 اجتمعت فـى بيـروت لجنة تحكيم جائزة جمال عبد الناصر التقديرية برئاسة رئيس وزراء لبنان فى ذلك الوقت الدكتور سليم الحص وقررت بإجماع الآراء اختيار هيكل لنيل الجائزة فى دورتها الأولى، وأعلن ذلك فى مؤتمر صحفى يوم 22 فبراير 1999 يوم ذكرى قيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا، وتم تسليم الجائزة يوم 26 يوليو 1999 يوم ذكرى تأميم قناة السويس.
وفى رد هيكل على دعوته للحضور إلى بيروت لتكريمه، قال: إن لدى موقفا معروفا ومعلنا بشأن قبول الأوسمة والنياشين والجوائز أيضا، وذلك عن اعتقاد بأنه فى مثل ظروفنا العربية الراهنة، وما يعتريها من ملابسات فإنه يحسن ترك حساب أى رجل عام لأجيال قادمة لديها الفرصة أن تدرس وتفحص.. ومع ذلك فإن لدى ضعفا- لا أعتذر عنه- فى حالة جائزة جمال عبد الناصر بالتحديد لأنها تجىء إلىَّ بنداء لا أملك إزاءه غير أن أصغى باحترام ثم ألبى.. وارجوكم إعفائى من قبول التقدير المادى المصاحب للجائزة وأكون سعيدا إذا تفضلتم بإعادة هذا المبلغ إلى أرصدة مؤسسة الجائزة يساعد على خدمة هدف من أهدافها.
وتجمعت بيروت بمثقفيها ورجال السياسة والعلوم فى حفل تكريم هيكل، وألقى رئيس الوزراء سليم الحص كلمة بدأها بقوله: إن هذا اللقاء يلامس المجد من طرفيه: جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل وقال: إن هيكل قد بنى لنفسه عالما خاصا وأصبح (مؤسسة) بحد ذاته، وأن كتاباته هى مساهمة وطنية فى صد الغارات العدوانية الشرسة على ذاكرة الوطن العربى، حيث كل سلاح مباح، وكل شىء يستباح، والأوطان والأمم مثل الأفراد تصاب بالجرح فتشفى، وتصاب بالصدمة فتفيق، وتصاب بخسارة المال فتعوض، لكن فقدان الذاكرة التاريخية كارثة بلا حدود، لأنه يودى بكل شىء بما فى ذلك التاريخ والمستقبل، لذلك فإن محاولة استعادة الوقائع التى كانت دافعا وراء المجلدات الضخمة التى أصدرها الأستاذ هيكل هى من ناحية منها محاولة لاستعادة الذاكرة الوطنية، فضلا عن أن العصر كله هو عصر الذاكرة الواعية.. عصر المعلومات، ولذلك تجىء المعلومات فى كتاباته أكثر من الآراء، لأنه ينتمى إلى مدرسة تعتقد أن صميم حرية الصحافة هو ضمان تدفق المعلومات، وفى الحقيقة فإن علاقة كتاباته بالتاريخ تقتضى وقفة خاصة.
وكتابات هيكل ليست قصة تروى عن الماضى، وإنما هى مجال من مجالات صنع المستقبل، وهذا هو أهم الفوارق بين الأستاذ هيكل وكثير من الكتاب والصحفيين.
هذا بعض ما قاله رئيس الوزراء اللبنانى.
أما هيكل فقد ألقى محاضرة نشرتها جميع الصحف كان عنوانها (حرب من نوع جديد) قال فيها: إننا أمام حرب لها هدف مزدوج، من ناحية حصار تجربة سابقة وتصفية آثارها إلى درجة محوها أو تحويلها فى الذاكرة من حلم إلى كابوس، ومن ناحية أخرى بناء تحصينات تحجز المشروع القومى العربى عن إمكانية تجديد نفسه والتلاؤم مع مستقبل من حق الأمة أن تتطلع إليه.. وفى هذه الحرب لم يعد التفاوض تحت بند أن يعترف العرب بحق إسرائيل فى الوجود، وإنما تحت بند أن تعترف إسرائيل بحق العرب فى الوجود، ولم يعد التفاوض تحت بند استعادة أرض فلسطينية، وإنما تحت بند استكمال أرض إسرائيل، ولم يعد تحت بند منع الأسلحة الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، ولكن تحت بند منعها فى العالم العربى وحده، ولكن المطلوب لم يتحقق وإرادة الأمة تتنفس بدليل أن شعوب الأمة تقاوم محاولات تطويع إرادتها بما فى ذلك تطبيع لا تقبله مع إسرائيل.
وقال فى ختام حديثه: برغم ما يقوله البعض عن المستجدات وموت فكرة السيادة، وفكرة الحدود، وفكرة الدولة، وفكرة السياسة، وفكرة الحرب.. بل وموت فكرة الأمة من الأصل والأساس - فى زمان العوملة - فإنهم على الناحية الأخرى مازال همهم السيادة والحدود والدولة والسياسة والأمة، وهم الأقرب بالماضى اليهودى إلى روح العولمة، والأقرب بالحاضر الإسرائيلى إلى وسائل هذه العولمة، واعتقادهم أن المشروع الصهيونى للدولة طليعة وقاعدة لمشروع قومى ليهود العالم فى شتات بينه وبين بعضه مسافات، ومع أن الجامع لهذا الشتات دينى ولحقت به على مر القرون حواشى وذيول من الخرافة، فإن المشروع الصهيونى يحاول أن يصنع من الشتات سبيكة أمة واحدة نصفها فى وطنها والنصف الآخر من سفر مؤقت خارجها وحقه فى العودة مكفول بالقانون. وكانت الذاكرة أهم سلاح لديهم، وقد وصلوا إلى حد تحويل الأساطير إلى تاريخ وتحويل إدعاء التاريخ إلى استراتيجية، وتحويل الاستراتيجية إلى سياسة تصطنع حقائقها وتفرض نفسها بأسلحة القتل، وليس بأجنحة الحمام.
وكانت رؤيته - ومازالت - أن الأمة العربية مازالت لديها القدرة وإذا توافرت لها الإرادة فإنها تقدر على حماية نفسها وتحقيق حلمها.
الخلاصة أن هيكل الذى بدأ صحفيا، وأصبح سياسيا، ثم استراتيجيا، وصل إلى مرحلة أصبح فيها مؤرخا.. ونال التكريم على هذه المراحل جميعا.