هيكل.. من قصر عابدين إلى سجن طرة!
عندما أصدر الرئيس السادات قراره بإبعاد هيكل من الأهرام فى أول فبراير 1974 تضمن القرار تعيينه مستشارا لرئيس الجمهورية، وتم إعداد جناح له فى قصر عابدين، وطلبوا منه أن يختار سكرتاريته وانتداب من يختاره من الأهرام أو من غيره.. ورفض هيكل الذهاب إلى عابدين.
وفى 10 إبريل 1975 دعاه الرئيس السادات إلى العشاء معه فى استراحة القناطر وعرض عليه منصب نائب رئيس الوزراء فى وزارة ممدوح سالم، واعتذر أيضا ثم دعاه ممدوح سالم فى اليوم التالى لإقناعه بقبول المنصب على أن يتصرف كما يشاء فى ترتيب الصحافة والإعلام.. وظل هيكل على إصراره بالرفض.
وهكذا رفض هيكل أن يدخل قصر عابدين، ورفض أن يدخل مجلس الوزراء.. لكنه بعد ذلك دخل سجن طرة.!
واحتفل هيكل بعيد ميلاده السادس والخمسين يوم 23 سبتمبر 1981 وهو فى زنزانة من ملحق سجن طرة!
كان هيكل فى رحلة فى الخارج، وعاد من باريس فى أواخر أغسطس، وكان يعرف مما يتابعه فى الصحف أن السادات يستعد للانقضاض على كل معارضيه. يقول: كنت أعلم أنه عندما يقع ذلك فإن شيئا منه سوف يصيبنى شخصيا. وقدّرت احتمال أن يأمر بإخراجى من نقابة الصحفيين ويتصور بذلك أنه يمنعنى من ممارسة المهنة، ولكن لم يخطر ببالى أنه يمكن أن يعتقلنى أو يعتقل آخرين فى مثل ظروفى فى صدد حملة يوجهها إلى الفتنة الطائفية. وكان يصف معارضيه من السياسيين والمثقفين والمفكرين بأنهم (حفنة من الأراذل).
وبعد عودة هيكل من الخارج وجد أن مسكنه لم يكن جاهزا، لأنه انتهز فترة السفر لإعادة دهانه، فأقام يومين مع أسرته فى فندق هيلتون، ثم ترك زوجته السيدة هدايت تيمور مع ابنه - المتزوج حديثا وقتها - وذهب مع ابنيه الآخرين إلى الإسكندرية. وفى شقته بالإسكندرية دق الباب فجر 3 سبتمبر وهم نيام، فقام ابنه إلى الباب ليجد اثنين من ضباط مباحث أمن الدولة يطلبان منه فتح الباب، ولما رجاهما الانتظار إلى الصباح قالا: إنهما يرجوان ألا يضطرهما إلى كسر الباب.
يقول هيكل: وجاء ابنى لإيقاظى من النوم، فذهبت وفتحت باب الشقة لهما ودعوتهما للدخول. وقالا لى على الفور: إننى مطلوب لمباحث أمن الدولة. ونظرت إلى ساعتى، وكانت الساعة الثانية والثلث صباحا. فقلت لهما: إننى أنا الذى وضعت عبارة زوار الفجر فى مقالاتى فى الأهرام، وانتقدت بها بعض تجاوزات الأمن فى وقت الرئيس عبدالناصر، فكيف يحدث ذلك فى عصر الديمقراطية. وكان كلا الضابطين- والحق يقال - مهذبا فى تصرفاته.. قالا: إنهما فى شدة الأسف، ولكنهما مكلفان بأمر يتحتم عليهما تنفيذه. سألتهما إن كان غيابى سيطول وبالتالى إذا كان من المستحسن أن آخذ حقيبة بما أحتاج إليه من ملابس أو أدوية، وكان ردهما بأن لدى عشر دقائق أحزم فيها حقيبتى.
وسألت ما إذا كان على أن أحزم حقيبة كبيرة لغياب طويل، فكان ردهما: ليس أكثر من يوم أو يومين. وسألتهما ما إذا كنا سنذهب إلى القاهرة وإذا كان ذلك فهل نذهب فى سيارتى، وكان ردهما بالنفى، ثم أضافا أن هناك ترتيبات لكل شىء.
يقول هيكل: وحزمت حقائبى، وشددت على يد ابنى، ولم أشأ إيقاظ أصغر أبنائى حتى لا يتأثر بما يراه، وخرجت من باب الشقة دون أن أُقبّل ابنى الذى كان فى وداعى، لأنى أردت أن يكون الوداع خاليا من أية انفعالات عاطفية يمكن أن تفسر على أنها مظهر ضعف.
***
وعندما خرجت من باب الشقة راعنى ما رأيت. فعلى الردهة خارج الباب كانت هناك مجموعة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة، وكان هناك أحد الضباط يمسك بجهاز لاسلكى يبلّغ فيه أولا بأول تفاصيل عملية الاعتقال. والتفت فوجدت المصعد جاهزا فى الدور السابع حيث شقتى، وفى داخله أحد الضباط مسلح بمدفع أتوماتيكى، ثم رأيت أثناء هبوط المصعد أن كل أدوار العمارة التى أسكن فيها محتلة بالجنود، وأصداء أجهزة اللاسلكى التى يحملها بعضهم تصدر أصواتا موحشة فى ظلام الليل وسكونه، وعندما نزلنا إلى مدخل العمارة كان المدخل محتلا بقوة مسلحة كبيرة وسمعت أحد الضباط يهمس فى جهازه اللاسلكى بأن العملية رقم (9) قد نُفذت. وتساءلت باسما: إذن فأنا العملية رقم (9). ولم أتلق جوابا، لكنه كان واضحا أن ذلك كان رقم عملية القبض علىَّ. ووجدت المدخل نفسه محتلا من باب المصعد إلى باب العمارة. وخرجت إلى الشارع وهو شارع صغير يمتد متعامدا على طريق الكورنيش ويؤدى إليه، وجدت إحدى سيارات اللورى محملة بجنود الأمن المركزى تقفل جانب الطريق المؤدى إلى الكورنيش، وسيارة أخرى تقفل جانبه الآخر، وكانت الأضواء الملونة فوق السيارات حمراء وزرقاء، وبعض الأضواء ثابت وبعضها الآخر لا يكف عن الدوران. وكانت المحركات كلها دائرة وأجهزة اللاسلكى مفتوحة والإشارات حول تنفيذ العملية تتردد بين القيادة والقوة المحيطة بى، وكان المشهد يكاد يكون سينمائيا. والتفت إلى الضابط الذى كان بجانبى وقلت له: كأننا فى مشهد من فيلم (زد) - مشيرا إلى الفيلم الشهير- ولم يظهر لإشارتى صدى، فمشيت صامتا إلى سيارة صغيرة دعانى الضابط إلى الركوب فيها معه كبادرة ود من جانبه.
وبدأ الموكب المسلح يسرى فى ظلام الليل على الكورنيش، وسألت الضابط ما إذا كان هناك داع لهذه القوة كلها لتنفيذ اعتقالى؟ فلم يقل شيئا، فاستطردت: فى حالتى كانت تكفى إشارة تليفونية تطلب إلىَّ الحضور إلى مباحث أمن الدولة، وكنت بالتأكيد سوف ألبى حتى لو جاءتنى الإشارة وأنا فى سفر عمل فى الخارج. ومرة أخرى لم يقل الضابط شيئا. وساد الصمت لبضع دقائق، وسألته: إلى أين نحن ذاهبون؟ وحينئذ كان لديه ما يقوله، وقد قال برقة شديدة: انتظر وسوف ترى بنفسك كل شىء حينما تصل إلى مركز قيادة العملية فى الإسكندرية.
وحاول الضابط أن يفتح بابا للحديث، فراح يتذكر كم كان يقرأ مقالاتى فى الأهرام باهتمام، ثم سألنى ما إذا كانت هذه أول مرة أُعتقل فيها؟ وكان ردى بالإيجاب. وكان تعليقه: إن الظروف تتغير.
***
ووصل موكبنا أخيرا إلى مبنى ضخم عرفت فيما بعد أنه مقر مديرية الأمن بالإسكندرية، وكان هناك مئات من جنود البوليس يحيطون بعشرات من السيارات تحمل غيرى من المعتقلين، وبدا لى أن مواكب بعد مواكب من سيارات المعتقلين تقوم من هناك محاطة بالحراسة متجهة بأقصى سرعة إلى القاهرة، وكانت الصفارات والأضواء الملونة تفتح الطريق لكل موكب من هذه المواكب.. ونزلت من السيارة محاطا بالحراسة. والتفت حولى فإذا خليط من المعتقلين: شباب وشيوخ، مشايخ وقسس، ولمحت الدكتور محمود القاضى فلوحت له مشجعا، فقال الدكتور القاضى: سوف نتقابل بالتأكيد. وانطلق موكبه مع من كانوا معه، وسألنى الضابط الذى كان لا يزال بجانبى: أظنك عرفت الآن ما هو الموضوع وأين نحن؟ ثم سألنى ما إذا كان يستطيع أن يقدم لى أية خدمة، ورجوته إذا كان فى استطاعته أن يتصل بابنى تليفونيا ليبلغه أننى ذاهب إلى القاهرة، فقال إنه سيفعل بكل سرور، وسألنى عن رقم تليفونى وأعطيته له قائلاً: أظن أن مباحث أمن الدولة - لابد - تعرف رقم تليفونى! فقال إنه سيتصل، ويبدو أنه لم يتمكن من ذلك.
وبدأ إعداد القافلة التى تقرر أن أكون ضمنها فى الرحلة إلى القاهرة، كانت سيارة (بيجو) من سيارات البوليس المصفحة العتيقة، ووجدت معى الأستاذ إبراهيم طلعت وهو نائب وفدى سابق وأديب وشاعر، والأستاذ عادل عيد وهو قاض سابق وكان أحد النواب المستقلين. والأستاذ أبو العز الحريرى وهو أيضا نائب سابق. وبدأ موكبنا يتقدم على الطريق الزراعى فى اتجاه القاهرة. كانت الرحلة إلى القاهرة هى الشىء المخيف فى العملية كلها، فقد كان جندى البوليس المكلف بقيادة السيارة نصف نائم، وكانت السيارة تتأرجح تحت قيادته وتوشك فى بعض الأحيان أن تصطدم بسيارة الحراسة أمامنا، أو بالموتوسيكلات المحيطة بها من كل جانب. وسألت عما إذا كان يمكن أن يقود السيارة غيره، فلم يلتفت أحد لاقتراحى، وكانت السيارة محملة بأكثر من طاقتها العادية بالمعتقلين والضباط والجنود والمخبرين، ولم يكن هناك مفر من الاستسلام للأمر الواقع، فرحنا نتحدث عما يجرى غير عابئين بأن كل كلمة نقولها مسموعة من هؤلاء المحيطين بنا.
وسألنى الأستاذ إبراهيم طلعت عن تقديرى للموقف، فكان ردى أن العملية كما أراها تكشف حالة انفلات أعصاب، ورحنا نخمن فيما بيننا عن الوجهة التى يمكن أن يذهبوا بنا إليها، ولم نستطع أن نصل إلى ظن أكيد، وطلبنا فتح الراديو ربما نسمع شيئا يلقى الضوء على مصيرنا. وفتحوا لنا جهاز الراديو فعلا، ولكن على محطة القرآن الكريم التى كانت على وشك أن تفرغ من إذاعة صلاة الفجر.
***
ولم تخل الرحلة من مواقف طريفة، فقد صاح الأستاذ إبراهيم طلعت فجأة أنه لابد من إيقاف الموكب لأنه يريد أن ينزل لحظة من السيارة لقضاء الحاجة، وحين بدا له أن الاستجابة لطلبه ليست كافية صاح مرة أخرى يقول: إننى أعانى من مشكلة بروستاتا، وإذا لم أنزل من السيارة لحظة فإنى قد أموت وعليكم أن تتحملوا مسئولية موتى. وتوقف الموكب قرب أحد الحقول على الطريق الزراعى، ونزل الأستاذ إبراهيم طلعت لما يريد، ثم استأنف الموكب تقدمه، وكان الصبح على وشك أن يطلع.
ووصلنا القاهرة حوالى الساعة السابعة، وسألنا ما إذا كان فى استطاعتنا أن نشترى بعض الصحف، ورُفض طلبنا، وتنبأ الأستاذ إبراهيم طلعت أننا ذاهبون إلى نيابة أمن الدولة، لكن موكبنا تجاوز الطريق المؤدى إليها. ومرة أخرى تنبأ الأستاذ إبراهيم طلعت بأننا قد نكون فى الطريق إلى سجن القلعة، لكننا مرة أخرى تجاوزنا الطريق المؤدى إليه. وحين دخلنا كورنيش المعادى بدا واضحا أننا فى الطريق إلى منطقة سجون طرة. واستقر بنا المطاف أخيراً أمام سجن من سجون طرة. كان سجنا جديدا، ويبدو أنه - رغم سوء أحواله - بُنى بمعونة أمريكية- وكان البحث لا يزال جاريا عن اسم له. وكان الاسم المقترح له فى ذلك الوقت اسم (سجن السلام).
***
يقول هيكل: عندما وصلت إلى السجن رأيت فى ساحة الاستقبال الخارجية له تجمعا من مشاهير السياسيين مثل الأساتذة: فؤاد سراج الدين، وعبد الفتاح حسن، وفتحى رضوان، ومحمد فائق، والمهندس عبد العظيم أبو العطا، والدكتور محمد عبد السلام الزيات، ووجدت معظم قيادات الأحزاب مثل الدكتور حلمى مراد نائب رئيس حزب العمل، وحامد زيدان رئيس تحرير جريدة الحزب، ومحمد أبو الفضل الجيزاوى، وإبراهيم يونس وهما من أقطاب حزب العمل، وكان هناك أيضا نصف أعضاء اللجنة المركزية لحزب التجمع منهم الدكتور فؤاد مرسى، والدكتور إسماعيل صبرى عبد الله، وفريد عبدالكريم، وصبرى مبدى، والدكتور على النويجى، وعبد العظيم المغربى، ومحمد خليل، والشيخ مصطفى عاصى، وكانت هناك أيضا مجموعة النواب المستقلين يتقدمهم الدكتور محمود القاضى، وعادل عيد، وكمال أحمد، وأحمد فرغلى، الذين تم إسقاط عضوية مجلس الشعب عنهم.
وكان هناك أيضا معظم أعضاء مجلس نقابة المحامين يتقدمهم محمد فهيم، وعبد العزيز محمد، ومحمد عيد. وكان فى مقدمة هؤلاء نقيب المحامين عبدالعزيز الشوربجى.
وكان هناك أيضا أساتذة جامعات بارزين من أمثال الدكتور ميلاد حنا، والدكتور كمال الإبراشى، والدكتور عبد المحسن حمودة، وغيرهم. كما كان هناك عدد من المثقفين البارزين من أمثال: الدكتور عصمت سيف الدولة، وصلاح عيسى، وحسين عبد الرازق، وصابر بسيونى، ومحمود زينهم، وحمدين صباحى، وكمال عيطة، وعدد من الشخصيات الدينية من أمثال: الأستاذ عمر التلمسانى، والشيخ المحلاوى، والشيخ كشك، والشيخ عيد. وترامت إلينا الأنباء- ونحن فى ساحة الاستقبال- عن اعتقال قيادات نسائية عرفنا بينهن الدكتورة نوال السعداوى، والدكتورة لطيفة الزيات.
وفى سجن أبو زعبل كان هناك الشخصيات القبطية البارزة، وفيهم بعض الأساقفة والمطارنة والقسس والرُهبان.
يقول هيكل كنت متوقعا الاعتقال خاصة فى الأيام التى كان هجوم الرئيس السادات زائدا تجاهى. وقلت لزوجتى عندما تحريت المسائل إنه ليس لى سوى طلب واحد منها إذا ما اعتقلت- وقد رأيت بنفسى ما يحدث للزوجة بعد رحيل الزوج وما تواجهه من مشاكل لا حدود لها- قلت لها: ألا تطلب من أى كائن من كان طلبا يخصنى، أو يخصها هى، أو يخص أبناءنا، وألا تحدث سوى شخصين فقط هما الدكتور محمود فوزى كصديق إذا أرادت الاستعانة بنصيحته وأخذ رأيه فى تصرف ما إذا واجهتها مشكلة. والشخص الثانى هو الأستاذ ممتاز نصار المحامى، ومن سوء الحظ أنه حين جرى اعتقالى كان الدكتور محمود فوزى قد رحل عن عالمنا.
***
وبعد اعتقالى اتصل أحمد ابنى بوالدته وأبلغها بتفاصيل ما حدث، وبعد ذلك أرسل لها الرئيس السادات صديقنا سيد مرعى ليسألها إذا كانت تريد شيئا فأجابت بأنها لا تبغى سوى التأكد من أننى أعامل معاملة طيبة، ولم يقل لها أحد أين مكانى. وبعض الأصدقاء فى الخارج سألوها أن تأذن لهم بالقيام بحملة من أجلى لكن رأيها كان أن مثل هذا التصرف تجاهى قد يفسر على سبيل الخطأ. ولم تزرنى زوجتى فى السجن سوى مرة واحدة بعد شهرين من الاعتقال.. أحضر لها ممتاز نصار إذناً من المدعى الاشتراكى فجاءت لزيارتى مع أبنائى بحضور ثلاثة من الضباط أحدهم من السجن واثنان من المباحث. وفى اللحظة التى كنت أهبط فيها من الزنازين على السلم الحديد متجها إلى البوابة الحديدية التى تفصل بين العنابر وحجرة المأمور كانت هى والأولاد يدخلون من باب السجن، فتلاقت خطانا أمام باب الحجرة لنجلس بداخلها نصف ساعة التى سُمح لنا بها.. وكان استيعاب الموقف بهدوئه الظاهرى وكأننا اتفقنا عليه مسبقا، وتماسكت هى لتبدو مسيطرة على أعصابها، رغم ما أعلمه بما يجيش به تدفق عواطفها.. لقد شاهدت إلى جانبى الكثير مما حدا بى يوما إلى التفكير فى كتابة يوميات.
يقول هيكل: وأعترف بأننى بدأت أفكر فى كتابة كتاب (خريف الغضب) منذ اللحظة الأولى لاعتقالى فى 3 سبتمبر 1981 حين التفت حولى ورأيت فى السجن كل هؤلاء الذين يمثلون الرموز الحية لأهم القيادات السياسية والفكرية المؤثرة فى مصر.. كنت مقتنعا - بشكل شبه وجدانى- بأننى أعيش فى دراما سوف تصل إلى نهايتها فى يوم من الأيام وبشكل من الأشكال، وأننى كصحفى قد أكون مطالبا بأن أروى قصتها قبل غيرى. وأثناء شهور السجن تحدثت مطولا إلى آخرين عما يحدث، ولم يكن هناك ما يمكن عمله غير الحديث مع هؤلاء الذين كانوا فى زنزانتى، ومع غيرهم حينما سمح لنا بالتجول بعض الوقت فى فناء السجن. وكان منهم وزراء سابقون (وكان فى ملحق مزرعة طرة عدد من الشخصيات تكفى لتشكيل مجلسين أو ثلاثة مجالس من الوزراء) ومع اقتصاديين بارزين، وزعماء نقابيين، وأساتذة جامعات، ومشايخ، وشباب من الأصوليين الإسلاميين، ومع عدد من رجال الدين المسيحى، وبفضل المناقشات معهم ومع الدكتور ميلاد حنا، والدكتور مراد وهبه، أتيح لى أن أتعرف عن قرب على تراث الكنيسة القبطية المصرية.
***
يقول هيكل: وكنت قد تصورت أننا سوف نسجن كمعتقلين سياسيين، وهم يلاقون فى السجن معاملة خاصة من حيث كان يسمح لهم بالكتب والورق والأقلام، ولذلك جئت فى حقيبتى ببعض الكتب ودفاتر للمذكرات وأقلام، واكتشفت فور وصولنا إلى السجن بمصادرة كل ما كان معى ومع غيرى من الكتب والأوراق والأقلام والأدوية والمحافظ والنقود والملابس، وسمح لكل منا بغيار داخلى واحد، ومنشفة، وفرشة أسنان دون معجون أسنان، وقيل إن معجون الأسنان يجب أن يوافق أطباء السجن على دخوله معنا باعتباره نوعا من الأدوية فى تقديرهم. كما قيل لنا: إن أطباء السجن سوف يقررون فى اليوم التالى ما يلزم أى واحد منا من الأدوية بما فيها معجون الأسنان.
واقتادنى بعض الحراس إلى الزنزانة رقم (14) وكنت وحدى فيها، كانت زنزانة صغيرة عليها باب من الحديد فى أعلاه قضبان تصل منها أصوات الضجة الجارية فى السجن.. صليل قضبان حديدية، وصيحات مساجين، ووقع أقدام حراس، وقعقعة سلاح، وكانت هناك عشر مراتب من المطاط ملقاة داخلها وعشر بطاطين تفوح منها رائحة الـ (د. د. ت) وكانت هناك حفرة فى ركن من الزنزانة تمثل دور الحمام فيها، وفى ركن آخر كانت هناك مجموعة من الأوانى المصنوعة من الصاج.
وتمددت على إحدى المراتب أفكر فى كل ما جرى، ومضت ساعة أو أكثر قليلا، وسمعت صليل الباب الحديدى ومفتاح يدور فيه، ثم انفتح الباب عن جاويش يتبعه اثنان من الجنود، أحدهما يحمل صفيحة علاها الصدأ، وآخر يحمل صفيحة أخرى ملأى بأرغفة الخبز، وتغطى الاثنين سحابة من الذباب. وسألنى الجاويش بحزم: أين قروانتك؟ وقلت له: ليس عندى قروانة. وأشار بيده إلى كومة الأوانى المصنوعة من الصاج وقال لى: هذه هى القروانات ولك واحدة فيها. وسألته عما يريده بالضبط وكان رده: أريد أن أعطيك طعام اليوم.
كان واضحا أنه يريد أن يعطينى بعضا من العسل الأسود فى القروانة ورغيفين من الخبز، واعتذرت له شاكرا. ومع أننى قد بدأت أشعر بالجوع، فقد كان منظر المعروض علىّ من الطعام كافيا لصد أية شهية. وقال الجاويش إننى إذا رفضت استلام طعامى فسوف يخطر ضابط السجن بامتناعى. وقلت له: أنت حر فى إخطار من تشاء.
بعد دقائق جاء أحد ضباط السجن يسألنى: لماذا لم تتسلم طعامك وليس هناك غيره طوال اليوم؟
وأضاف متلطفا: إننى أعلم أن هذه أول مرة لك فى السجن، ولكنك سوف تتعود.
وقفزت إلى موضـوع آخـر، فقد سألته: ما إذا كان سجنى سيكون انفراديا لأنى ما زلت وحدى فى الزنزانة؛ وكان رده بالنفى. وزاد تلطفه معى حين قال: الحقيقة أننا كنا نريد أن نجد لك رفاقا يناسبونك. وسألته: أين الذين جاءوا معى من الإسكندرية؟ قال: إن معظمهم فى الزنزانة رقم 13 ولكنها امتلأت عن آخرها. وأضاف إنه سوف يحاول أن يجد لى رفاقا يناسبوننى. وغاب نصف ساعة ثم عاد ومعه الأستاذ إبراهيم طلعت والأستاذ كمال أحمد وهو من القيادات الناصرية الشابة، وقال لى إن الاثنين تطوعا لكى يسكنا معى فى نفس الزنزانة. ثم قال إن هناك بعض الشباب المتدينين عرفوا أننى معهم فى نفس السجن وطلبوا الإقامة معى لكى يناقشونى فى بعض آرائى ولكنه أمهلهم لحين استئذانى فى أمرهم. وشكرته ورجوته أن يأتى بمن يريد. وجاءوا وكان بينهم أحد زعماء الطلبة المتدينين فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة واسمه أكمل.
وبدأ نوع من الحياة يدب فى الزنزانة بعد ساعات من الوحدة.
***
ومضت ساعات ثم فتح باب الزنزانة بعد الظهر، ودخل أحد الضباط يطلبنى للخروج معه، وتفاءل الأستاذ إبراهيم طلعت بأسرع مما ينبغى وقال: هو الإفراج بالتأكيد.. ولابد أنهم أحسوا بضغوط دولية بشأنك فقرروا الإفراج عنك فورا. وقلت له فى محاولة لتهدئة تفاؤله: لا تسرف فى حسن الظن. إن من قرروا اعتقالى لابد أنهم حسبوا مسبقا ما يمكن أن يثيره القبض علىّ من ردود فعل فى الداخل أو فى الخارج. وما داموا قد أقدموا على هذه الخطوة فليس من السهل عليهم أن يعودوا عنها ببساطة.
وحملت أمتعتى- الغيار الداخلى والمنشفة وفرشة الأسنان - وتبعت الضابط، وعند غرفة مدير السجن وجدت فى انتظارى ضابطا برتبة لواء ومعه ثلاثة من العمداء كانوا فى انتظارى. وظهر أن الموضوع يتصل بطلب تفتيش شقتى ومكتبى وبيتى الصغير فى الريف.
وبدأت مسيرتنا فى موكب مسلح جديد فى اتجاه بيتى ومكتبى فى الجيزة. وبعد أن تم التفتيش وصادروا بعض ما عثروا عليه من أوراق، سألتهم مشيرا إلى بُعد المسافة ومشقة الطريق إلى بيتى فى الريف، إن كان ممكنا تأجيل ذلك إلى الغد لأنى متعب - لكن الأوامر كانت صارمة، كما أن الإشارات المتبادلة بين السيارة التى كنت فيها وبين قيادتها فى مكان ما كانت تصر على إتمام العملية رقم (5). وكان اللواء المسئول عن هذه العملية غير قادر على أن يجد لنفسه حيلة فى هذه الأوامر الصارمة. ومرة أخرى أبديت نوعا من الاحتجاج. وقلت: لم يكن هناك داع لهذه الحملات المسلحة كلها. لقد كان جندى واحد يكفى لتفتيش شقتى ومكتبى بدلا من وضعهما تحت احتلال عسكرى كامل كما حدث. وبدلاً من الذهاب إليهما بموكب مسلح على هذا النحو.
وسـألت الضــابط المكلـف بالعمليـة: مـا هـو الـذى تبحثـون عنـه بالضبـط؟
وكان رده: أوراقك السياسية.
وقلت له: إن الكل بما فيهم الرئيس السادات يعرفون أننى منذ زمن طويل نقلت أوراقى السياسية التى أخشى عليها إلى خارج مصر.
وأضفت: إذا كنتم تريدون أوراقى السياسية فلماذا لا تعيدون إلىَّ جواز سفرى الذى صادرتموه من أحد أدراج مكتبى أثناء التفتيش، ثم نسافر معا إلى الخارج لنعود بهذه الأوراق؟
ولم يعلق بشىء!
كـان قـد صادر أيضا بعض المراجع الإسلامية التـى كنت أسـتعين بهـا أثنــاء عمـلى فى كتــابى عـن الثـورة الإيرانية.
وقلت: أرجو ألا يكون بين التهم الموجهة إلىّ تهمة انتمائى إلى الجماعات الإسلامية؟!
***
كان بين الأوراق التى صادروها أيضا من شقتى مذكرة برأى حزب الوفد الجديد فى اتفاقيات كامب ديفيد، وكان مرفقا بها بطاقة باسم الأستاذ فؤاد سراج الدين وأضاف إليها عبارة (مع تحياتى). وكنت قد التقيت بالأستاذ فؤاد سراج الدين فى جنازة إحدى قريباته، وسألنى أثناء موكب الجنازة ما إذا كنت قرأت بيان حزب الوفد الجديد عن اتفاقيات كامب ديفيد، وأجبته بالنفى، فأرسلها إلىَّ فى اليوم التالى مشفوعة ببطاقة منه. والآن كان الضابط المكلف بالتفتيش يريد مصادرة المذكرة. وبالطبع لم يكن أمامى ما أفعله إلا أن أتركه يصادرها، لكننى حاولت أن أرفع بطاقة فؤاد سراج الدين المرفقة بها، ومنعنى من ذلك قائلاً: إن البطاقة أهم من المذكرة نفسها!
وعندما وصلنا إلى بيتى الريفى كانت قد سبقتنا إليه لوارى من محافظة الجيزة التى تتبعها الناحية التى يقع فيها.. وكان أكثر ما أسفت له حين وصلنا ساحة البيت أن لوارى البوليس داست بعض أحواض الزهور المحيطة به. وبدا اهتمامى بالزهور فى تلك الظروف مدعاة للاستغراب! وشغل أحد الضباط المرافقين نفسه بإصدار الأوامر إلى جنوده الذين انتشروا تحت أشجار المانجو يأكلون ثمارها بأن يكفوا عما يفعلون، ورجوته أن يتركهم يأكلون كما شاءوا شريطة أن يبتعدوا عن أحواض الزهور. وفى بيتى فى الريف- وبينما ضباط القوة منهمكون فى عملية التفتيش- عاد إلى الإحساس طاغيا بالجوع، واستأذنت ضباط الحملة ما إذا كان فى استطاعتى أن أطلب طعاما، وأذنوا، وجاءنى طبق من البيض المقلى فاستأذنت مرة أخرى أن أستبدله لأن كثرة السمن يمكن أن تحرك كل مشاكل المرارة والكلى التى أعانى منها وقد يكون البيض المسلوق أفضل. وجاءنى الإذن بالموافقة، لكن التفتيش كان قد تم، وصادروا ما أرادوا مصادرته وبينه بعض كتب كارل ماركس. وقلت للمرة الثانية ضاحكا: يبدو أننى هناك فى شقتى كنت متهما بالتطرف الدينى، والآن فإننى على وشك أن أتهم بالشيوعية، ولم أسمع ردا. واستأذنت ما إذا كنت أستطيع أن أحمل البيض المسلوق وبعض أرغفة الخبز- التى جاءنى بها خفير البيت- معى لكى آكلها فى السجن ما دام التفتيش قد انتهى.
وبدأنا رحلة العودة إلى طرة، فوصلنا إلى هناك قبل منتصف الليل بقليل. كنت منهكا من التعب. ولكننى كنت مصمما على عدم التبرم أو الشكوى مهما كانت الأسباب، فلقد أحسست أن خيطا رفيعا يفصل بين إبداء الشكوى وإبداء الضعف. وهكذا فإننى فى الأيام الخمسة الأولى للسجن لم أتناول طعاما غير خمسة بيضات مسلوقة وخمس أرغفة عدت بها من بيتى الريفى. والغريب أنها اتسعت لاستضافة رفاقى فى الزنزانة أيضا!
***
والحقيقة أن أكثر ما ساعدنى فى التجربة الجديدة على كل شىء هو شعور أحسست به منذ اللحظة الأولى للقبض علىَّ، وهو شعور الصحفى أولا وأخيرا. لقد وجدت هذا الشعور يعطينى نوعا من الانسلاخ عن الواقع. أحسست أننى مراقب، يتابع الأحداث أكثر مما هو ضحية من ضحاياها. وكنت شديد الثقة- حتى فى تلك اللحظات الأولى - بأننى سأكتب فى يوم من الأيام قصة كل ما جرى. وهكذا فإن الأسير تراجع ليفسح المجال للصحفى كى يتابع ويراقب ويتأمل ويربط أطراف الدراما التاريخية التى تتحرك حوله بصرف النظر عن أنه هو نفسه جزء منها. وكان بعض رفاقى يدهشون من برودة أعصابى فى مواجهة ظروف أقل ما يقال فيها إنها كانت مزعجة. ولم يتنبه أحد بالقدر الكافى إلى عملية الانسلاخ التى جرت بين الأسير وبين الصحفى. وهكذا رحت ساعة بعد ساعة أتأمل الحياة من حولى، وأتابع حركتها دقيقة بعد دقيقة.
وبقينا داخل الزنزانات لا نبارحها لمدة أحد عشر يوما. ولم تكن لدى أية معلومات من أى نوع عما جرى فى الخارج. ولم يكن هناك مجال وسط تكدسنا البشرى داخل الزنزانات للقيام بأية حركة طبيعية، وقد حاولت أن أعوض نقص الحركة عن طريق القيام بتمارين رياضية واقفا فى مكانى من الزنزانة.. ولم يكن مسموحا بالقهوة أو بالشاى.
وكانت المياه المتاحة لنا محدودة.. وحاول أحد شبان الجماعات الإسلامية معنا أن يعلمنى كيف أستطيع أن أستحم بكوب ماء لا أكثر! وكنا ننام على الأرض.. كل واحد منا فوق مرتبته المصنوعة من المطاط. وكانت المراتب متلاصقة تغطى أرضية الزنزانة تماما. وكانت قضبان الزنزانة على الجزء العلوى من بابها الحديدى مفتوحة للغارات من الذباب بالنهار والناموس ليلا. وكنت أقول لرفاقى ضاحكا: أسراب القاذفات تغير علينا نهارا، وأسراب المقاتلات تغير علينا ليلا.
وبعد أربعة أيام جاءت مجموعات من الأطباء وصرحت لنا ببعض ما كنا نحتاج إليه من أدوية شريطة أن نثبت أن حاجتنا ماسة إليه.
وبعد 55 يوما من انقطاع كامل عن العالم، سمح لنا بأن نتلقى سلال غداء، كان يصل عندنا فى ملحق سجن طرة 33 سلة، وسلة غدائى كانت تزينها وردة حمراء تذكرنى بورد مكتبى الذى هو أول ما أطالعه كل صباح. هذه الوردة من زوجتى. وكان لها معنى عطرى عندى.
وفى الفترة الأخيرة نقل هيكل إلى قصر العينى للعلاج من آلام الكلى التى ازدادت بعد سنوات واضطرته إلى إجراء جراحة دقيقة فى الولايات المتحدة لاستئصال بؤر سرطانية فى الكلى.
***
ولم يكن فى استطاعتنا فى السجن أن نعرف ما الذى قاله السادات فى خطابه أمام مجلس الشعب يوم 5 سبتمبر.. وفيما بعد عرفنا أنه قال: إن هذه الإجراءات التى قام بها ضرورية (لأن عناصر معينة كانت تهدد وحدة وأمن البلاد). كذلك لم نعرف ونحن فى السجن بأصداء ما حدث فى مصر أو فى العالم العربى أو فى العالم الخارجى. ولم نسمع كذلك بخروج وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية الأستاذ منصور حسن الذى ظل بعيدا عن كل إجراءات العملية برغم موقعه الرسمى، وكان يرى أن الخلط بين السياسيين والجماعات الدينية فى عملية اعتقال واحدة يفتح جبهة واسعة ويؤدى إلى تناقضات فى تطبيق إجراءات الاعتقال. ففى حين أن الشدة قد تكون مفهومة مع الجماعات الدينية، فإن نفس هذه الشدة سوف يصعب تبريرها بالنسبة للسياسيين. وكان رأى السادات أن منصور حسن لا يفهم حقائق الموقف. وعلى أية حال فقد رأى منصور حسن صعوبة بقائه فى مجلس الوزراء، واقترح أن يصبح وكيلا لمجلس الشعب خصوصا أن المجلس سوف تكون أمامه فترة حافلة من النشاط.
***
وفـى خطـابه أمـام مجلس الشعب استند الســادات فى إجــراءاته على المـادة (74) من الدستور التى كانت منقولة من المادة (16) من دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة. وكانت هذه المادة تعطى الرئيس عند قيام حالة الطوارئ سلطة تعطيل كل الضمانات الدستورية واتخاذ أى إجراءات يراها مناسبة لمواجهة حالة الطوارىء المفاجئة. وكان ذلك فى دستور ديجول، ومع ذلك فقد استعمل هذه المادة مرة واحدة ولمدة 24 ساعة خلال مظاهرات صيف 1968. وقد أنهى العمل بها فور عودته من لقاء سريع عقده مع قيادة الجيش الفرنسى فى ألمانيا. وعندما طبق السادات هذه المادة المنقولة من دستور ديجول، لم تكن مصر فى حالة طوارىء مفاجئة. ولـم يكن السـادات قـد اكتفـى باعتقــال ثـلاثة آلاف شخص صباح يوم 3 سبتمبر فقط، وإنما كان قد أجرى عملية (تطهير) بين أساتذة الجامعات، وبين الصحفيين، وحدد إقامة بابا الأقباط فى دير الأنبا بشوى ونقل سلطته إلى لجنة معينة بقرار منه.
ولعل السادات أدرك أنه رغم التصفيق الذى سمعه فى البرلمان فإن الجماهير فى مصر والعالم العربى والخارج لم تكن مقتنعة بما ساقه من مبررات لإجراءاته، فقرر أن يعقد مؤتمراً صحفيا يشرح فيه دواعى ما فعله لممثلى الصحافة المحلية والأجنبية. وعقد المؤتمر يوم 7 سبتمبر فى بيته فى ميت أبو الكوم التى كان قد ذهب إليها ليستجم بعد هذه الإجراءات الواسعة. وحضر المؤتمر عدد من الصحفيين الأجانب. ومن سوء الحظ أن السؤال الأول فى المؤتمر كان عنى. واستشاط السادات غضبا. ولم تكن بداية سهلة. لكن السؤال الثانى جاء ليحدث انفجارا مـدويا. كـان السؤال الذى وجهه منـدوب محطة (آى. بى. سى) الأمريكية هو: سيادة الرئيس إنك كنت فى الولايات المتحدة قبل أقل من أسبوع، فهل أخطرت الرئيس ريجان بما تنوى عمله؟. وفقد السادات أعصابه وتوجه إلى صاحب السؤال بانفعال قائلا: (إذا لم نكن هنا فى بلد حر لكنت أخرجت مسدسى وضربتك بالنار). وكان المشهد بالغ الغرابة حتى أن صغرى بناته خرجت من المؤتمر والدموع فى عينيها.
وقرر الرئيس السادات أن يتوجه بحديث حميم إلى الأمة على نمط أحاديث روزفلت الشهيرة بجانب المدفأة. وفى يوم 15 سبتمبر تحدث فى التليفزيون.. وخصص ساعة كاملة من حديثه لمهاجمة فؤاد سراج الدين ويتحدث عن الباشا الإقطاعى الذى ولد وفى فمه ملعقة من ذهب وعاش حياته غارقا فى الترف. ثم قارن بينه وبين لويس الثامن عشر وأسرة البوربون الذين عادوا بعد الثورة لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا. ثم تحدث ساعة أخرى فى الهجوم علىَّ موجها إلىَّ خمسة اتهامات، أولها: إننى ملحد، وأننى اعترفت له بذلك، وأننى فى كتابى عن الثورة الإيرانية قلت (إن التيار الإسلامى هو موجة المستقبل). ولم يكن ذلك صحيحا بشقيه. وكان غريبا أن يلصق بى تهمة الإلحاد والتشيع للجماعات الإسلامية فى نفس الوقت. وكانت التهمة الثانية: أننى صديق الملوك والرؤساء فى العالم العربى وخارجه، وأن هذا يجعل منى مركز قوة. والثالثة: أننى كونت ثروة من عائد كتبى التى هاجمت فيها مصر، والرابعة أننى أعطيت للعالم الخارجى صورة مشوهة عن مصر (مرة أخرى دون دليل). والاتهام الخامس: أننى كنت أرتب مع فؤاد سراج الدين إصدار جريدة تنطق بلسان الوفد. ويبدو لى أن الدليل على ذلك لم يزد على بطاقة فؤاد سراج الدين التى وجدت مرفقة بمذكرة حزب الوفد الجديد عن اتفاقيات كامب ديفيد والتى تمت مصادرتها أثناء تفتيش مكتبى. وقال الرئيس السادات: إننى كنت أتردد على بيت فؤاد سراج الدين، فى حين أننى لم التق بالرجل فى السنوات الأخيرة غير مرات عارضة، كان معظمها خلال جنازات.
ثم ركز الرئيس السادات هجومه على الشيخ المحلاوى، وأعاد إلى الأذهان أن الشيخ المحلاوى كان قد هاجم أسلوب حياة الرئيس السادات المترف. كما هاجم السيدة جيهان. وقال الرئيس السادات: والآن فإن هذا الرجل ملقى فى السجن كالكلب. وبعد حديث طويل تشعب قرابة أربع ساعات شرح فيها معنى ما أسماه (ثورة 5 سبتمبر).
***
فى يوم 23 سبتمبر عقد الرئيس السادات اجتماعا مع أعضاء المجلس الأعلى للصحافة لكى يخطرهم بما ينوى عمله مع الصحفيين الذين اعتقلهم ضمن حملة 3 سبتمبر. وتحدث فى هذا الاجتماع عن هؤلاء الذين ظنوا أن فى استطاعتهم احتذاء نموذج الصحافة الأمريكية التى تمكنت من إخراج رئيس أمريكى من البيت الأبيض. واستقبل الرئيس السادات مبعوثا خاصا للرئيس الفرنسى ميتران لتسوية مشادة نشبت بين الرئيسين بسبب موضوع الاعتقالات. وكان الرئيس ميتران قد أصدر بيانا عقب اجتماعه بالمكتب السياسى لحزبه الاشتراكى فى فرنسا، وكان البيان بوصفه رئيسا للحزب وليس رئيسا للدولة. والبيان يشجب الاعتقالات ويصفها بأنها إجراء غير ديمقراطى. وتضايق الرئيس السادات من هذا البيان واعتبره تدخلا فى شئون مصر الداخلية. وبعث ميتران مبعوثه الشخصى ليشرح للرئيس السادات أن ميتران كان يتصرف بوصفه رئيسا للحزب الاشتراكى وليس رئيسا للدولة الفرنسية.
فى نفس اليوم أجرى الرئيس السادات مقابلة ثانية مع محطة (إن. بى. سى) وسأله المذيع: إذا كان صحيحا أن كل من فى مصر يؤيدون سياستك فلماذا اعتقلت معارضيك السياسيين جنبا إلى جنب مع المتطرفين المسلمين؟ ورد الرئيس السادات: ليس صحيحا أننى قمت بانقضاض على خصومى السياسيين. لقد كان الأمر كله مشكلة الفتنة الطائفية. وهؤلاء السياسيون الذين اعتقلتهم انحازوا إلى العناصر المتطرفة، أو أنهم كانوا سينحازون إليهم بعد اعتقالى لهم. كانوا سوف يستغلون اعتقال المتطرفين الدينيين لكى يثيروا المتاعب.
***
واحتفل هيكل بعيد ميلاده السادس والخمسين يوم 23 سبتمبر 1981 وهو فى زنزانته فى السجن. واحتفل معه الصحفيون فى الزنازين الأخرى بإطلاق صيحات التهنئة بأعلى صوت لكى تصل إليه على نحو ما وصف صلاح عيسى.
وكان هيكل وقتها يشكو من آلام فى الكلى ويتناول أدوية خاصة، وظهر بعد سنوات وجود بؤرة سرطانية فى الكلى ورأى الأطباء فى مصر أن استئصال الكلية هو الحل المضمون حتى لا ينتشر السرطان، بينما رأى البعض أن فى الولايات المتحدة من يستطيع إجراء جراحة دقيقة لاستئصال هذه البؤرة مع ضمان عدم إفلات أية خلايا سرطانية يمكن أن تنتشر، وذهب هيكل إلى مستشفى كليفلاند وأجريت له الجراحة فعلا.. وكان فى زنزانة مجاورة له المهندس عبد العظيم أبو العطا وزير الرى السابق وقتها، وكان مريضا بسرطان الكلى وتفاجئه الآلام فيصرخ، ويثير صراخه أعصاب المسجونين، إلى أن مات عبد العظيم أبو العطا فى السجن بين زملائه فى الزنزانة.
***
بعد ذلك بسنوات قال كثيرون ممن كانوا أقرب الناس إلى السادات إنه أخطأ فى قرارات 5 سبتمبر.
الدكتور صوفى أبو طالب الذى كان رئيسا لمجلس الشعب فى سبتمبر 1981 وتولى عمل رئيس الجمهورية ثمانية أيام عقب اغتيال الرئيس السادات عندما سئل: هل كنت مؤيدا لكل قرارات السادات ولسياساته أجاب: أنا أؤيد السادات فى معظم قراراته، وإن كانت لى تحفظات على قرارات معينة، مثل اعتقالات سبتمبر. وكان هذا الحديث فى مجلة الأهرام العربى مع أشرف صادق.
والسيدة جيهان السادات أجرت حديثا مع بلال فضل فى مجلة المصور فى سنة 1999 سئلت: اعتقالات سبتمبر التى وضع فيها آلاف المثقفين والمفكرين من مختلف الاتجاهات والأعمار فى السجون.. ألم تكن خطأ؟ وأجابت: دى نختلف فيها كثيرا. وأنا لا أريد أن أدافع عن أنور السادات. ولكن أقول إن أنور السادات كان ضد الاعتقالات بدليل أنه هدم سجن طرة عندما أصبح رئيسا. لأنه اتسجن وقاسى من السجن ولم يرد لغيره أن يقاسى ما رآه. لكن فى الاعتقالات الأخيرة تفتكر أنور السادات كان عارف أسماء الناس دول شخصيا وشافهم. مش دى ليسته- قائمة- تأتيه من وزير الداخلية المطلع على الناس دى وعارف خطورتها عندما قام بتقديم هذا الكشف من الأسماء..؟
.. اتهام أنور السادات هنا شخصيا ظلم له.. صحيح هو المسئول الأول بلا شك، ولكن وزير الداخلية الذى قدم له البيان قال له: إن الناس دى خطرة وعاملة لنا دوشة واحنا عايزين نستلم سيناء ومش عاوزين نعمل شوشرة.
وسئلت: إن وزير الداخلية- النبوى إسماعيل- قال فى تصريحات له إنه نصح الرئيس السادات بتأجيل هذه الاعتقالات، فقالت: هذا كذب. قدام عينى، وأنا شاهدة، جاء إلينا ساعتها وكنا فى القناطر ومعه كشف بأسماء المعتقلين، وكونه يتنصل من مسئوليته فهذا كذب. وبعدين الكتاب اللى طلعه كان فيه افتراءات كثيرة جدا لا أساس لها من الصحة واستغربت عندما علمت ذلك.
وسئلت السيدة جيهان السادات: ماذا عن كتابات الأستاذ محمد حسنين هيكل عندما كان قريبا من الرئيس السادات؟ فقالت: هيكل كان أنور السادات يختلف معه كثيرا، وأنا كنت باجيب هيكل وأقربهم من بعض، لأنه أنا مؤمنة بأن هيكل كاتب كبير، وكان يهمنى أن يكون على صلة بأنور السادات.. ده جوزى وبأحبه وبأحب إن الناس كلها تبقى حواليه وقريبة منه خصوصا لما يكون كاتب كبير زى هيكل.
وسئلت: بعد خلاف الرئيس السادات مع هيكل، هل ظل يذكر لهيكل أنه سانده فى تثبيت دعائم حكمه فيما عرف بثورة التصحيح فى 15 مايو 1971 أم أنسته الخلافات ذلك؟ فقالت: وقف جنبه إزاى؟ أنور السادات هو اللى قام بــ 15 مايو وحده وضد كل هؤلاء. هيكل مالوش دور فى 15 مايو. دوره انى أنا فى مرة حكى لى وحلفنى ألا أقول إن الجماعة دول بيتآمروا على السادات، وإنه راح التليفزيون ولقاهم حاطين ناس بتوعهم بحيث إن أنور السادات لو راح يكلم الشعب من التليفزيون مش حيدخلوه. وأنا لما حلفنى لم أتكلم على أساس أنه كان يثق فىّ ولذلك سكت. لما الحكاية كبرت وجاء ضابط بوليس إلى هنا بشريط وقال أنا واقف هنا لغاية ماتدوا الشريط ده للرئيس، وأعطى الشريط لسكرتير السادات فوزى عبد الحافظ، والضابط ما زال موجودا واسمه طه زكى، وفوزى موجود. جابوا الشريط. قعدت اسمعه مع الريس وفوزى عبد الحافظ واقف، فلقيت أحدهم بيقول للآخر (طيب ولو راح التليفزيون) فيرد عليه: (لا.. احنا عاملين حسابنا) فقلت له: (آه.. هيكل قال لى الكلمة دى). أنور قال لى: إيه.. وما قلتليش ليه.. قلت له يعنى هو حلفنى ما أقولش وفى نفس الوقت كنت شايفاك مسيطر على الوضع ومالقيناش حاجة مهمة. بيتنا وقتها كان مراقبا من مجموعة سامى شرف وشعراوى جمعة والمجموعة دى. بعتنا بنتنا نهى عند هيكل وكان قريبا منا عشان تنده له عشان الريس يسأله إزاى تبقى عارف إن التليفزيون محاصر وما تقوليش.. إذن أين هذه المساعدة.. وأين هذا الدور؟
***
ووجد هيكل نفسه مرة ثانية أمام المدعى الاشتراكى أثناء اعتقاله. وكان المستشار ناجى إسحاق هو المختص بالتحقيق معه ومع فؤاد سراج الدين. يقول هيكل: أثناء التحقيق كان المستشار ناجى إسحاق يمسك بورقة تتضمن تقرير إدارة المباحث العامة عن نشاطى الذى استوجب اعتقالى والتحقيق معى، وسألته: هل أستطيع أن أطلع على هذا التقرير؟ وكان غيرى ممن سبقونى إلى التحقيق أمامه أو أمام غيره من المستشارين قد سمح لهم بالاطلاع على تقارير المباحث أو المخابرات التى تصف نشاطهم المعادى. وقال المستشار ناجى إسحاق إنه لا يمانع وقال لى: لا يوجد أمامى شىء يخصك فى تقارير المخابرات، وإنما هناك هذا التقرير من المباحث، وناوله لى. وألقيت نظرة على الصفحة الأولى منه. كلها تهم لا أدفعها، بل على العكس أعترف بها. كتبت كذا فى جريدة كذا يوم كذا أعارض كامب ديفيد. وكتبت كذا فى جريدة كذا يوم كذا أعارض التطبيع. وكتبت كذا فى جريدة كذا يوم كذا انتقد سياسات الرئيس السادات.. الداخلية (أولها منهج تنفيذ سياسة الانفتاح) والعربية (العزلة عن بقية الأمة العربية) والخارجية (الانحياز المطلق للولايات المتحدة)، وكانت تلك آرائى أقولها وأرددها وألح فى كتابتها وأتحمل مسئوليتها بالطبع دون تردد أو خشية. ثم هو كلامى عليه اسمى وفيه أسلوبى ويعبر عن قناعتى.
ثم انتقلت إلى الصفحة الثانية. كان فيها بند واحد، ووراء هذا البند قصة.. فقد كان الرئيس السادات يكره أشد ما يكره صحفيا بريطانيا هو دافيد هيرست مراسل جريدة الجارديان البريطانية فى مصر. وكان دافيد هيرست قد كتب مجموعة مقالات عن أوضاع مصر الداخلية ضايقت الرئيس السادات وأوغرت صدره. ولسبب لا أعرفه كان الرئيس يظن أننى أعطيت دافيد هيرست ما كتبه فى مقالاته من معلومات. وهاجمنى فى إحدى المرات علنا بسبب هذا الظن. وكتبت مقالا ضمن ما كنت أكتب أيامها تطرقت فيه إلى هذه القصة وقلت إننى لم أقابل دافيد هيرست فى حياتى إلا مرة واحدة، كانت بعد مقالاته عن الرئيس السادات وليس قبلها. وهذا أمر يمكن التحقق منه بتقارير أجهزة الأمن التى أعلم أنها كانت تتابع كل حركة لى وكل سكنة. وفى أثناء التحقيق، وأنا ألقى نظرة على الورقة الثانية كان ما قرأته مذهلا. كان المكتوب بالنص: (إن الأستاذ هيكل على صلة بدافيد هيرست المعروف بعدائه لمصر عن طريق صديق مقرب منه وهو الأستاذ محمد سيد أحمد). ثم بعدها: (إن المعلومات الواردة فى هذا البند مصدرها الأستاذ مصطفى أمين). وفتحت فمى من الدهشة وأردت أن أسجل بشهادة الشهود ما قرأت. كان يحضر معى فى التحقيق رسميا محامىِّ الأستاذ المستشار ممتاز نصار. وكان يحضر أيضا زميلى الأستاذ صلاح جلال نقيب الصحفيين. وناولت التقرير للمستشار ممتاز نصار ورجوته أن يقرأ هذه الفقرة. ثم ناولته للأستاذ صلاح جلال وقلت له: وأنت كنقيب للصحفيين أرجوك أن تطلع على هذه الفقرة وتتذكرها. وقال المستشار ناجى إسحاق: وهل نحن سألناك فى هذا أو اعتبرناها تهمة؟ وإذن فما هى قيمتها؟. ولم يكن قد سألنى فيها، ولم يكن ما يعنينى فيها كونها تهمة توجه أو لا توجه لى، وإنما كان يعنينى فيها شىء آخر.
***
قضى هيكل فى السجن تسعين يوما يقول عنها هيكل: أخشى أن أكون قد فقدت خلالها وبعدها عادة الحوار مع الناس المتحضرين، وفقدت عادة القراءة. ويقول: ونحن فى السجن طلب إلينا أن نتوجه بالرجاء إلى الرئيس السادات ولم يقبل أحد منا ذلك. وكان رأيى أن رأى أى واحد فينا وهو داخل القضبان هو رأى مشبوه وقد يبدو دليلا على الضعف، أو دليلا على الإكراه، ولم يكن هناك إكراه لكى نصدر بيانا بالتأييد.
وفى حوار مع صلاح عيسى فى (الأهالى) يوم 27 أبريل 83 سئل هيكل: يقولون إنك أنكرت الرجل (الرئيس السادات) الذى عاملك معاملة كريمة حين كنت مسجونا، فكنت تعيش فى السجن وكأنك فى بيتك.. تشرب مياها معدنية وتأكل من منزلك، فهل حدث ذلك حقا؟
وأجاب هيكل: أنت وغيرك شهود على الكيفية التى كنا نعامل بها فى السجن قبل اغتيال السادات.. أنت تعرف أننا نمنا على البلاط، وأُجبرنا على أن نأكل طعام السجون الردىء: العسل الأسود والجبنة الفاسدة، والفول المسوس، وحرمنا من الاتصال بأسرنا أو بالمحامين. وظلت أبواب الزنازين مغلقة علينا طوال النهار والليل، ولم يزرنا أحد أو يصل طعام من بيوتنا قبل يوم 25 أكتوبر 1981 بعد وفاة السادات بأسبوعين. فإذا كنا قد عوملنا معاملة قانونية- نحن الذين اعتقلنا بعملية غير قانونية- فقد حدث ذلك فى عهد بعد عهد السادات. وكنت أقول للشباب أنتم شباب يمكن أن تحتملوا، وقد احتمل ذلك أيضا شيوخ أجلاء كالمرحومين عبد العزيز الشوربجى (نقيب المحامين) وعبد الفتاح حسن (الوزير الأسبق والمحامى) واحتملها أيضا فؤاد سراج الدين. أما المياه المعدنية فلم تكن ترفا، بل كانت دواء وصرفت لى بموجب روشتة طبية من لجنة كبيرة فحصتنى واكتشفت أننى مريض بحصوتين واحدة فى الكلى وأخرى فى المرارة، والروشتة موجودة إلى الآن فى سجلات مصلحة السجون.
وسئل: أنت لم تتحدث عن مجريات التحقيق الذى أجراه معك المدعى الاشتراكى أثناء السجن، وقد أذعت فى أحد فصول كتابك (خريف الغضب) سر التسجيل الذى أجرى فى مكتبك لحديث دار بينك وبين الدكتور محمود فوزى نائب رئيس الجمهورية الأسبق عن سياسة السادات. فما الذى حقق فيه معك المدعى الاشتراكى وهل كانت هناك تسجيلات أخرى؟
وأجاب: تحقيق المدعى الاشتراكى الثانى معى لم يختلف عن تحقيقه الأول، وقد دار كله حول مقالات نشرتها وتصريحات أدليت بها. أما التسجيلات فقد كان بكل مكان فى هذا المكتب جهاز تسجيل. والحديث الذى سجل للمرحوم الدكتور محمود فوزى جرى فى هذه الغرفة، وقد أتيح لى فيما بعد أن أقرأ تفريغا له ويا ليت الذين يهاجمون ينشرون نصه ليعلم الناس رأى الدكتور محمود فوزى. ولم يقدم لى أحد ما يثبت أن التسجيلات تمت بإذن النيابة، ولا أظن أن التسجيلات التى أجريت لى فى زنزانتى كانت بإذن من النيابة وأنت تعلم أن كل ما كنا نقوله فى السجن كان يسجل، وأن تقريرا يوميا عن معنوياتنا وتصرفاتنا كان يرفع إلى الرئيس السادات.
***
ونحن فى السجن وقع حادث اغتيال الرئيس السادات. لم تكن هناك وسيلة ليعرف المسجونون ما حدث فى الخارج، وهكذا ظل هيكل أياما لا يعلم بالحادث، لكنه شعر أن شيئا ما حدث من الجو الغريب الذى كان يسود السجن. وبعد أيام علم من بقية المسجونين أن السادات مات فى حادث اغتيال.
يقول هيكل فى حواره مع (المصور) يوم 4 ديسمبر 1981 وقد أجراه بعد 96 ساعة من خروجه من السجن: عندما علمت باغتيال الرئيس السادات سالت الدموع من عينى، وشاهدى على ذلك مأمور سجن طرة العقيد محمود الغنام، وضابط المباحث العقيد صلاح شلبى، لقد أبلغانى نبأ اغتيال السادات بقصد معرفة رد الفعل. قلت لهما: كيف تم ذلك؟ قالا: فى العرض العسكرى. وفى هذه اللحظة لم أستطع أن أذكر إلا أنه كان صديقا.. لقد كان صديقا منذ فترة طويلة.. وعشت معه عشرين عاما كأصدقاء.. وابنى حسن أصغر أبنائى كان يتردد على بيته كواحد من الأسرة، وأنا أعرف كيف كان ضعف السادات تجاهه.. كنا نتبادل الزيارات.. وأولاده كلهم يقولون لى: يا عمى. ونهى ابنته- زوجة حسن ابن المهندس سيد مرعى- أنا الذى قمت بخطبتها عندما طلب منى سيد مرعى ذلك. قلت لحرم الرئيس إن سيد مرعى يريد نهى لابنه، فقالت لى: كلم الرئيس.. ورغم كل الخلافات التى كانت بيننا فإن (نهى) عندما رأتنى فى الصيف الماضى أخذت تقبلنى أمام الناس، لأننى اعتبرها ابنتى.
***
الغريب أن هيكل قال بعد ذلك يوم 26 أبريل 1985 فى حوار مع سعيد حبيب فى صحيفة العرب التى تصدر فى لندن أنه عرف بعد خروجه من السجن أن الرئيس السادات كان قد أمر بإعداد سجن جبل الطور الشهير فى سيناء بمجرد أن تعود لينقل إليه 18 سجينا كان هيكل واحدا منهم! وقال: إنه كان مقررا أن نبقى فى هذا السجن خمس سنوات أو أكثر.
وفى صحيفة الاتحاد التى تصدر فى الإمارات قال فى حديثه مع لبيب السباعى إنه لم يشعر بالخوف من السجن ولكنه شعر بالدهشة، وقال: لقد تعرضت لما هو أسوأ من السجن. تعرضت للتشهير وأوله تهمة الإساءة إلى سمعة مصر فى الخارج وهو شىء لم يحدث بالطبع، وبالقطع.. وحينما منعنى الرئيس السادات من السفر وحولنى للتحقيق أمام المدعى الاشتراكى لم أتردد فور انتهاء التحقيق فى أن أنشر وقائع التحقيق معى فى كتاب، وأظنها المرة الأولى التى يتولى فيها المتهم بنفسه نشر صحيفة الاتهام ضده ومحاضر التحقيق معه بنصوصها. وقد توقعت السجن وأعددت نفسى له من سنة 1974 ولم أفاجأ به إلا فى سبتمبر 1981، ومفاجأتى كانت فى حجم الاعتقالات واتساع نطاقها بحيث شملت كل القوى والاتجاهات، وحين صدرت إحدى الصحف- بعد حادث المنصة- بعنوان كبير يقول (ثورة سبتمبر مستمرة) كان تقديرى أن مثل ذلك هراء، وبعد أن خرجت من السجن قررت عدم العودة إلى مجال السياسة أو الصحافة فى مصر.. وإلا فكيف أبتعد بنفسى عن التعامل مع أشخاص ورموز وأوضاع لا أريد أن أقترب منها ولا أريد لها أن تقترب منى.. والذى لا يفهمه البعض أن الرئيس السادات لم يضرنى شخصيا بشىء، فالرجل أتاح لى فرصة العمل معه إلى ما بعد حرب أكتوبر. وبعد حرب أكتوبر كنت أنا الذى اختلفت معه ونشرت علنا أسباب خلافى.. والرجل حتى بعد هذا الخلاف سعى إلى وصل ود قديم مفروض علىَّ من المناصب والمواقع ما عرض، وكنت أنا الذى اعتذرت. والرجل- أمانة أمام الله- صبر علىَّ بأكثر مما كان يمكن أن يصبر حاكم شرقى على واحد من مواطنيه، وعلى أية حال فقد ظللت سنوات أقول رأيى خارج مصر ولم يفعل هو إلا أن شن علىَّ حملة داخل مصر وكان فى مقدوره أن يفعل أكثر خصوصا وأنا باق فى مصر تحت سلطته وخاضع لقوانين دولته وهو سيد هذه القوانين. والرجل أخيراً اعتقلنى مع مئات غيرى فيهم كثيرون خير منى.. إذن وليس شخصيا ما بينى وبينه، والحقيقة أن ما بينى وبينه هو بين سياسته وبين ما أومن به.
***
يقول هيكل: إننى اختلفت مع الرئيس السادات سياسيا، ولكنى حاولت بكل جهدى أن أعزل ما هو سياسى عما هو إنسانى، وظلت عاطفتى تجاه أسرته بمنأى عن أى خلاف. ظلت هناك مزايا كثيرة فى قرينته- بينها الذكاء اللامع- أقدرها بدون تحفظ، وظلت بينى وبين بناته الثلاث وابنه الوحيد منها- وهم كل من عرفت عن قرب من أسرته- ود لم أنكره فى يوم من الأيام.
وبعد أن أفرج عنى من السجن ضمن من أفرج عنهم فى الدفعة الأولى من المحتجزين- لقيت السيدة الكريمة أرملة الرئيس الراحل أنور السادات معزيا ومواسيا. وطلبت منى فى نهاية لقاء طال أكثر من ساعتين- طلبا واحدا ما زالت فى أذنى نبرته الرقيقة والواعية:
محمد.. إنك لن تهاجم أنور؟
وقلت لها:
إننى لم أهاجمه على الإطلاق، إننى اختلفت مع سياسات ولم أختلف مع شخص، ولك أن تثقى أننى لن أقول عن هذه السياسات فى غياب صاحبها غير ما كنت أقوله عنها فى حضوره.
وأعترف أننى لم أشعر بكراهية فى أى وقت ضد أنور السادات حتى عندما وضعنى فى السجن وفى ظروف تفوق فى سوئها ما يمكن أن يحتمله البشر، وأستشهد فى ذلك بالأستاذ فؤاد سراج الدين، والأستاذ فتحى رضوان والأستاذ عبد الفتاح حسن، وغيرهم دخلوا السجن مرات ومرات قبلها وجميعهم كانوا يرون هذه المرة بكل المرات السابقة جميعا. ولم أشعر بكراهية نحو أنور السادات، ولم أخجل من أن أعترف أن الدموع كانت فى عينى عندما سمعت نبأ وفاته، وكان ذلك رد فعل إنسانى وطبيعى رآه- وربما استغرب له- مأمور السجن ومندوب المباحث إلى جانب رفاق الزنزانة.
فلقد كنت مختلفا مع الرئيس الراحل أنور السادات. وبلغ خـلافى معـه درجـة القطيعة الكـاملة، ومـع ذلك قلت مرة- وما زلت أقول إلى الآن- إننى فى دهشة من تناوله لى فى كل خطاب تقريبا مع أنه كان يعلم أننى لا أملك حق الرد، وأعيش حياتى كلها فى مصر تحت سلطانه المطلق وغير المحدود. بعد ثلاث سنوات كان بيننا حوار متصل. اختلفنا واتفقنا. لكن القرار كان دائما قراره بالطبع. ولم أتوقف عن الحوار رغم أنه غضب أحيانا، ولكنى لم أفزع، وإنما قلت له بمودة: إننى معك كما كنت مع جمال عبدالناصر، لا أخاف منك لأنى أحبك، والذى يحب لا يخاف، والذى يخاف لا يحب.
ولقد شهد الرئيس جعفر نميرى فى كتابه عن السادات أن الرئيس الراحل أنور السادات قال له: إننى كنت الوحيد الذى وقف معه فى 15 مايو 1971.
وماذا قلت فى حديث صنداى تايمس:
وأعتقد أن الرئيس السادات جلس معى أطول جلسة قضاها مع أى إنسان فى حياته كلها. كان ذلك يوم 22 فبراير 1975. وكانت علاقاتنا قد تحسنت بعد اعتذارى عن قبول منصب المستشار السياسى وما أعقب ذلك من قطيعة دامت ستة أشهر تقريبا. وبادر هو ودعانى إلى مقابلته فى استراحته بالقناطر ثم تكررت لقاءاتنا حتى كان ذلك اللقاء يوم 22 فبراير 1975. ذهبت إليه ومعى الصحفى الأمريكى ذائع الصيت (سيروس سالزبرجر) وقضينا معه ساعة، ثم تهيأنا للانصراف، وكان سالزبرجر ضيف غداء عندى اليوم. واستوقفنى الرئيس الراحل وسألنى: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت: معه، فهو ضيف غداء عندى اليوم. ورد الرئيس: سوف أرتب له من يدعوه بدلك على الغداء لأنى أريدك معى هنا لحديث مهم. ولم ينتظر الرئيس، بل استدعى الدكتور أشرف مروان مدير مكتبه للمعلومات وقتئذ وطلب إليه أن يأخذ سالزبرجر إلى الغداء فى أى مكان. وصعدت مع الرئيس إلى الطابق الثانى من استراحة القناطر، وجلسنا نحن الاثنين فى غرفة نومه. كانت الساعة الثانية عشرة ظهرا. انتهى لقاؤنا فى الساعة الحادية عشرة والنصف مساء. أى أن حوارنا استمر إحدى عشرة ساعة ونصف ساعة. ويمكن سؤال أشرف مروان الذى عاد بعد غدائه الإجبارى مع سالزبرجر ليعرض على الرئيس أوراقا فإذا هو ينتظر إلى منتصف الليل. ويمكن سؤال المهندس سيد مرعى فقد رجته أسرتى بعد نزول الظلام أن يتأكد من وجودى فى استراحة القناطر مع الرئيس لأن طريق القناطر فى الليل خطر لزحمة المرور عليه، وسأل سيد مرعى ثم كرر السؤال وعاد إليه حتى قرب منتصف الليل. إحدى عشرة ساعة ونصف ساعة فى حوار مستمر.. ولا يطول إلى هذا الحد غير حوار حقيقى حافل ومتدفق. لن أقول ما جرى فيه. فقد كنا وحدنا شهوده، والمهم فى هذا كله أنه ليس عندى ما يدعونى إلى كراهية الرجل. لعلى أعتقد أننى مدين له. فإن خروجى من الأهرام منحنى الفرصة لكى أثبت لنفسى وللآخرين أن الصحيفة العربية قد تصبح مملوكة للسلطة، ولكن الصحفى العربى ليس محكوما عليه بالضرورة أن يكون مملوكا للسلطة إذا كان لديه ما يقوله، وإذا كان لما يقوله قيمة، إذن فالعالم الواسع مفتوح له.
لقد خرجت من الأهرام، ولكننى استطعت أن آخذ مكانا أعتز به على صفحات التيمس، والصنداى تيمس، والنيويورك تيمس، والواشنطن بوست، وهذه هى الصحف الكبرى فى الغرب حيث السياسات هناك أقرب إلى خط الرئيس الراحل أنور السادات، وأبعد ما تكون عن خطى أنا.
وفى حديثى مع صنداى تيمس وصفت الإرهاب باسم الدين بأنه وحش- وقلت إنى لا أرى فى طول المحاكمة ضررا، وأن محاكمات الاغتيال السياسى قضايا لا تغلق ملفاتها بمجرد انتهاء جلساتها. وقلت: حيث تذهب فى مصر سوف تجد الناس يتحدثون عن الإسلامبولى رئيس جماعة الاغتيال باعتباره بطلا شعبيا.. قلت ذلك وأظن أن الإسلامبولى وجماعته كانوا فى الشهور الأخيرة حديث كل الناس. وأظن أن المحاكمة- بما حدث من وقائعها فعلا- لم تكن محاكمة للمتهمين وحدهم..
وقال هيكل أخيرا: إن لصا يمكن أن يكتسب نوعا من البطولة الشعبية بسبب جسارته.. (بيجز) الذى خطط ونفذ عملية شبه عسكرية لسرقة خمسة ملايين جنيه إسترلينى من قطار سكة حديد وهرب أصبح بطلا عند الإنجليز، و(الخط) الذى اشتهر كمجرم جسور فى صعيد مصر- أصبح شخصية شعبية تظهر حول مغامراتها أفلام سينمائية، وأكثر من ذلك (جى. آر) الرجل الذى لا يتورع عن عمل ولا يتوقف أمام عائق فى مسلسل التليفزيون المشهور (دالاس) كانت طبقة بعينها فى مصر تتابعه بالإعجاب، وحين ضرب بالرصاص- على الشاشة فقط - ظل أفراد هذه الطبقة يتساءلون من الذى قتل (جى. آر) بطلهم الأثير، مع أنه كان نموذجا مخيفا للشر. لكنه كان جسورا لا يتردد وكانت جسارته مصدر (شعبيته) خصوصا لدى الطبقات المدللة بالميراث أو بالانفتاح.
***
إنسانيا، وواقعيا، ظل هيكل 90 يوما فى السجن امتلأت فيها نفسه بالغضب على الرئيس السادات، وقرر التعبير عن هذا الشعور فى كتابه (خريف الغضب) الذى أثار عليه الزوابع من جديد.
وبعد الأيام التسعين خرج هيكل من السجن بسيارة الشرطة ليجد نفسه فى قصر رئاسة الجمهورية ليستقبله الرئيس الجديد.. وكان ذلك مشهدا تاريخيا بحق
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف