هيكل أمام المدعى الاشتراكى
فى جلسة التحقيق الثالثة- يوم الأربعاء 21 يونيو 1978- كان آخر سؤال وجهه المدعى الاشتراكى - المستشار أنور حبيب- هيكل: كتبت مقالات وقلت أحاديث عن الخط الاشتراكى الديموقراطى الذى تنتهجه الحكومة المصرية. ما هو مضمون الأفكار؟
وكانت إجابة هيكل: إن المنطق الذى ألزمت نفسى به عندما قررت الكتابة خارج مصر- بعد أن استحالت علىَّ الكتابة فيها- أننى ألزمت نفسى بمجموعة من القواعد طبقتها تطبيقا صارما على نفسى وهى ..
أولا: إننى سوف أكتب لنفس المجموعة من الصحف التى كانت تنشر مقالاتى فى نفس الوقت مع الأهرام عندما كنت رئيس تحريرها، والصحف الأخرى التى تحصل منها على حقوق نشر مقالاتى.. ثانيا- إننى لا أتناول فيما أنشره خارج مصر أية موضوعات تتصل بمشاكل وقضايا العمل الداخلى فى مصر، أى أننى أقصر كتاباتى خارج مصر على القضايا العربية وحدها ولا أقترب على الإطلاق من أوضاع مصر الداخلية. وقد حدث استثناء وحيد فى مجموعة مقالات نشرت تحت عنوان (لمصر لا لعبد الناصر) وقد اضطـررت إليهـا بعـد أن تجاوزت الحملة ضد عبدالناصر فى مصر كل حد معقول.. ثالثا: ألا تنشر مقالاتى- طبقا لأى اتفاقات أو ترتيبات- فى بلاد عربية تكون حكوماتها فى خلاف مع السياسة المصرية.. رابعا: ألا أقوم بزيارة لأى بلد عربى تدخل حكومته فى خلاف سياسى مع الحكومة المصرية، ولا أقوم بأى اتصالات مع مسئولين فى هذه البلاد رغم طبيعة العمل الصحفى.. ربما أكون تعرضت لبعض القضايا فى بعض الأحاديث الصحفية التى أدلى بها بين حين وآخر للصحافة العالمية، ولكن أرجو أن تكون المناقشة على أساس مجمل المواقف، وهناك نقطة دقيقة فيما يتعلق بالأحاديث، وهى أن أى شخص لا يستطيع أن يسيطر تماما على ما ينسب إليه، فأنت تدلى فى الحديث بما تشاء من آراء، ولكن غيرك هو الذى يتولى الصياغة والعرض والترتيب والإبراز والحذف، وما كتبته بقلمى كثير وفيه مجمل مواقفى.
.. ..
وأعلن المدعى الاشتراكى انتهاء الجلسة على أن تكون الجلسة القادمة يوم الأحد 25 يونيو 1978.
***
جلسة التحقيق الرابعة - الأحد 25 يونيو 1978 .
فى بداية الجلسة قدم هيكل حافظة تضم النصوص الكاملة لواحد وعشرين مقالا خصصها جميعا لقضية الحرب ونشرت بين سبتمبر 1967 إلى أكتوبر 1973.
وقدم هيكل خطابين منه إلى المدعى الاشتراكى- الأول يلخص موقفه من قضية الحرب، والثانى يؤكد وجهات النظر التى أبداها فى مقال (تحية إلى الرجال) الذى هو موضوع السؤال الأصلى.
وكان فى الخطاب الأول أهم الأفكار التى جاءت فى مقالاته ومنها: أن الحرب ليست ضرورية فقط ولكنها ممكنة.. وأن حربنا يجب أن تكون هجومية لخلع العدو من مواقعه.. وأن هدف الحرب يجب أن يكون كسر نظرية الأمن الإسرائيلى.. وأن هذه الحرب يجب أن تدور على جبهتين.. وأن هذه الحرب يجب أن تكون طويلة لحرمان العدو من ميزة الحرب الخاطفة.. وأن نتيجة هذه الحرب يجب أن تصل بنا إلى تعديل أساسى فى موازين القوة العسكرية والسياسية والنفسية بكسر حاجز الوهم وحاجز اليأس بكل ما يترتب على ذلك من نتائج بعيدة المدى بالنسبة للعقائد الإسرائيلية.
وكان الخطاب الثانى عن مقال (تحية للرجال) وملخصه بأن الادعاء بأن ما جاء فى هذا المقال مثبط للروح المعنوية لا يمكن أن يكون صحيحا لأن الشعوب المناضلة تحتاج إلى الحقيقة، لأن معرفتها بالحقيقة هى التى تمكنها من حشد الطاقات اللازمة لمواجهتها.. وإذا كان هذا المقال بمثابة لفت نظر إلى المخاطر فإن هذه النقطة لصالح نشره فى وقت راحت فيه المناورات والضغوط تحاول استخدام قضية الحرب فى صراعات على السلطة، كما يتضح من مذكرات الرئيس أنور السادات.. ومما يلفت النظر أن هذه الضغوط وصلت إلى حد صدور أمر إنذارى إلى القوات المسلحة بالاستعداد لمعركة فى وقت لم تكن فيه معدات العبور- وأهمها الجسور- قد وصلت، كما أن الصعيد كان مكشوفا بالنسبة للدفاع الجوى على النحو الذى ذكره الرئيس السادات فى مذكراته.. ومع أن الرئيس السادات كان قد أعلن أن عام 1971 سوف يكون عام الحسم، فإنه إزاء هذه العوامل وغيرها وجد أن مصلحة الوطن العليا تقتضى التأجيل حتى تمام الاستعداد، وهكذا فإن المعركة لم تجر إلا بعد أكثر من سنتين ونصف على نشر المقال.. وهذا المقال لم يقل باستحالة حربنا مع العدو، ومما يؤكد أن المقال كان خدمة وطنية أن خطة العدو التى اتبعها فى مواجهة عبورنا فى أكتوبر 1973 لم تخرج عن نطاق ما جاء فى المقال فى مارس 1971، وأعتقد أن معرفتنا بخطط العدو وفرت علينا من التكاليف ما كان يمكن أن يكون فادحا.
***
وكانت أسئلة المدعى الاشتراكى بعد ذلك كما يلى :
- بوصفك المسئول عن جريدة الأهرام التى تضم مركزا للدراسات الاستراتيجية،هل عهد إليك أحد المسئولين بإجراء دراسة للوضع العسكرى المصرى الإسرائيلى قبل حرب العبور؟
وأجاب هيكل : لم يعهد إلىَّ أحد بذلك، وليس ذلك اختصاصات هذا المركز.
المدعى الاشتراكى: هل ما ذكر عن الخطة الحربية للحرب المقبلة مع إسرائيل- والتى فخرت أنك وضعتها أمام المصريين- هل هى مجرد استنتاجات بناء على دراسات قمتم بها فقط؟
وأجاب هيكل : إن ما ذكرته فى مقال (تحية للرجال) لا يستند إلى دراسة قام بها مركز الدراسات الاستراتيجية فى الأهرام، وإنما بنيت مقالى على خلاصة ندوات حضرتها، ومناقشات دارت أمامى فى عدد من مراكز الدراسات الاستراتيجية فى أوربا وتجمعت أمامى صورة عن الخيارات المفتوحة أمام إسرائيل لمواجهة هجوم مصرى.
المدعى الاشتراكى: بالنسبة لما كتبته عن الحاجز المائى والحاجز الترابى وعدد القوات الإسرائيلية إلى آخره.. من أين حصلت عليه؟
وأجاب هيكل : ليس فى ذلك كله أسرار، تلك معلومات عن طبيعة الأرض وعن مسرح العمليات يعرفها جميع الخبراء ويناقشون تأثيرها على العمليات.. وعندما كنت فى لندن كانت هناك مجموعة من الخبراء يعكفون على دراسة مناورات الشتاء السابق التى أجرتها إسرائيل فى صحراء سيناء، وكانت هناك معلومات كثيرة عن هذه المناورات، وكانت دراسة تفاصيلها كافية لتوضيح الصورة التى يمكن أن تتصرف بها إسرائيل إزاء هجوم مصرى.. إننا نعيش فى عالم بلا أسرار!
المدعى الاشتراكى: ما قلته عن كيفية الخطوة القادمة لإسرائيل من أنها ستدخل بكذا وتدفع بقوة كذا.. هل ذلك كان معروفا؟
وأجاب هيكل: ذلك كله كان يناقش فى المراكز المتخصصة فى العالم كله، وكانت المناقشات موجودة لمن يريد أن يطلع ويسمع! وعندما كنت فى رحلة إلى آسيا فى مطلع سنة 1973رجوت السيدة أنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند وقتها أن تسمح لى بإجراء مناقشة مفتوحة مع الماريشال مانيكشو قائد الجيش الهندى الذى انتصر فى الحرب مع باكستان التى جرت فى بنجلاديش سنة 1971، وفى باكستان رجوت ذو الفقار على بوتو رئيس وزراء باكستان وقتها أن يسمح لى بمناقشة مفتوحة مع الجنرال تيكا خان قائد الجيش الباكستانى الذى انهزم فى هذه الحرب، وكان رأيى أن هذه الحرب مهمة لأنها تقدم لنا نموذجا فى الحرب المحدودة لابد أن ندرسه، وقد نشرت المناقشات مع هذين القائدين فيما نشرت من مقالات عن تلك الرحلة، وهى مقالات ضمها بعد ذلك كتاب بعنوان (أحاديث آسيا).
المدعى الاشتراكى : ألم تكن هناك دراسة بالكمبيوتر عن إمكان نجاح حرب العبور؟
وأجاب هيكل : لقد قيل كلام كثير عن أن دراسة من هذا النوع قام بها مركز الدراسات الاستراتيجية فى الأهرام أيام أن كنت مسئولا عنه، وأنا أقطع أمام حضراتكم بأن هذا الكلام لا سند له من الحقيقة، ولست أعرف من المسئول عن إشاعة مثل هذا الكلام. لقد أجرى المركز فى تاريخه دراسة واحدة استعمل فيها الكمبيوتر، وكنت بنفسى الذى اقترحت موضوعها، وأجريناها بمساعدة أستاذ عالمى زائر، وكان موضوعها (حالة اللا سلم واللا حرب ومن المستفيد من صراع الشرق الأوسط) وقد استفدت من نتائج هذه الدراسة فى سلسـلة المقـالات التى نشرتها فى الأهرام ابتداء من 16 يونيو 1972 وحتى 21 يوليو من نفس السنة. وكانت نتيجة هذه الدراسة أن استمرار حالة اللا سلم واللا حرب يفيد كل الأطراف فى أزمة الشرق الأوسط باستثناء مصر.
وبعد أن شرح هيكل هذه النقطة باستفاضة سأله المدعى الاشتراكى:
لماذا لم تبلغ المسئولين بالمعلومات الدقيقة التى وصلت إليها عن وضع الجيش الإسرائيلى وما يحتمل أن يلاقيه الجيش المصرى عند العبور، بدون النشر؟
وأجاب هيكل : نحن نتعرض هنا لقضية فى منتهى الخطورة وهى : لماذا يكتب الصحفى؟ وأمام من مسئوليته؟ وما هى علاقته بالسلطة وحدود هذه العلاقة؟.. إننى أعتقد أن مسئولية الصحفى أمام قارئه أولا وأخيرا على شرط أن يلتزم فيما يكتب بالقانون العام، وبأخلاقيات النشر، وبفهمه هو للمصلحة العامة وحدود السلامة الوطنية. ولقد وجدت من هذا كله أن واجبى كصحفى يحتم علىَّ أن يكون القارئ على علم بكل التصورات المطروحة حول الصراع الذى هو طرف رئيسى فيه، خصوصا إذا كانت هذه التصورات تدرس وتناقش فى كل مكان فى العالم المتحضر.. ومن ناحية أخرى كان هناك انقسام فى القيادة السياسية، كان فى حقيقته صراع سـلطة، وأُقحمت عليه قضية الحرب، وكان هذا خطيرا جدا فى تقديرى.. واستشهد بمذكرات الرئيس السادات نفسه وقال فيها إن مراكز القوة كانوا يريدون توريطه فى معركة لم تكن البلد مهيأة لها فى ذلك الوقت.
***
المدعى الاشتراكى : ألا ترى أن مقالك (هذه هى الأزمة الحقيقية) الذى نشر فى 19 يونيو 1970 لا يتسق مع المبدأ الأساسى وهو أن هدف كل قائد مقدم على معركة رفع الروح المعنوية للجيش والشعب؟.
وأجاب هيكل : إن هذا المقال يتعرض لمشكلة إعادة ترتيب الجبهة العربية وكيف نحقق لأنفسنا أقصى قدر من الفاعلية بما هو متاح، ثم تحدثت عن الطريقة التى رتب بها العدو جبهته.. الجيش الإسرائيلى أكثر سلاحا.. الطيران الإسرائيلى هو العنصر الضارب السريع.. الأسطول السادس الأمريكى فى البحر الأبيض احتياطى استراتيجى عسكرى لإسرائيل إذا تأزمت الأمور.. الحركة الصهيونية قوة دعم مباشر.. قوة الولايات المتحدة الأمريكية ضمان مفتوح ومستعد.. والأوضاع على الجبهة العربية.. الاتحاد السوفيتى يؤيد ويدعم.. والدول الاشتراكية تتفهم وتؤيد.. الدول غير المنحازة والدول الآسيوية والأفريقية عموما تتعاطف وتقدر.. وهناك تحولات لها قيمتها فى الرأى العام العالمى.. لكن ذلك كله- على صحته- لا يمكن أن يكون بديلا عن العملية الضرورية لترتيب أوضاع قوانا فى الصراع.. ما هو الوضع الأمثل لترتيب قوى الأمة العربية لمواجهة تطورات الصراع؟ يجب أن تكون لنا سياساته لترتيب قوى الأمة العربية.. سياسات وليس مناورات سياسية! ولا يمكن أن تكون لنا سياسات بغير مؤسسة أو مؤسسات تخدمها وتباشر تنفيذ خططها.
وقال هيكل للمدعى الاشتراكى : لقد قلت ما أريد قوله بأمانة .. وليس فيما قلته شىء يخدم العدو، لأن العدو وأصدقاء العدو يرون ويعرفون ولست أرى فائدة من تقليد النعامة.
المدعى الاشتراكى: ما قولك فى أن خبراء الأمن القومى رأوا فى هذا المقال بالذات أنه يهدف إلى خفض الروح المعنوية لدى الجماهير؟.
وأجاب هيكل: إن تاريخ المقال 19 يونيو 1970 وهذه هى الفترة التى كنت فيها وزيرا للإرشاد القومى فى مصر، وعضوا فى مجلس الأمن القومى بوصفى وزيرا للإرشاد، ولست أعرف من هم خبراء الأمن القومى الذين رأوا هذا الرأى فى هذا المقال، ولكنى أعرف أننى وقتها كنت المسئول الأول عن الأمن الإعلامى فى البلد، وعلى أساس المنصب الرسمى علاوة على عملى الصحفى فإن ما كتبته هو الحقيقة، ولا يمكن أن تؤدى الحقيقة إلى خفض الروح المعنوية، ولكن تجاهل الحقيقة هو الذى يؤدى إلى كوارث لا يقتصر ضررها على الروح المعنوية.. ثم إننى أسأل: من هم خبراء الأمن القومى الذين يرون أن المقال ضار على الروح المعنوية؟ هل هم خبراء الأمن القومى وقت كتابة المقال أو هم خبراء الأمن القومى الآن؟ وبحكم منصبى الرسمى لم أسمع من رئيس الدولة أو من أى مسئول غيره ما يشير إلى هذا المعنى! بل إن الدعوة إلى إعادة ترتيب الجبهة العربية وحشدها وراء مصر كان مطلبا أساسيا للسياسة المصرية على المستوى التنفيذى وعلى المستوى الإعلامى.. أما إذا كان هذا التقرير قائما على تقدير فى الوقت الحالى فإنه يكون غريبا أن يصدر تقرير عن مقال بأثر رجعى مضت عليه ثمانى سنوات!
المدعى الاشتراكى : إن التقرير من خبراء الأمن وقتها.. من المخابرات وقتها.
هيكل: إذا كان ذلك، فأظن أن أمر هذا التقرير لا يخرج عن دائرة الصراعات التى دارت وتدور فى أجهزة الدولة، ولا أظن الموضوع يحتاج إلى مناقشة.
المدعى الاشتراكى: يرى المحللون أيضا فى جهاز المخابرات فى ذلك الوقت أن مقال (تحية للرجال) أورد تفصيلات عن مسرح العمليات المنتظر بصورة خيالية ومبالغ فيها لأناس لا يعنيهم أن يلموا بصورة المعركة على وجهها الكامل، وهذا خفض لمعنويات جنود القوات المسلحة وضباطها..
وأجاب هيكل: أنا لا أعتقد أننى رسمت صورة خيالية لمسرح القتال، وشاهدى على ذلك ما حدث فى حرب أكتوبر، ثم إن الرأى العام من حقه أن يعرف كل التصورات التى تناقش فى العالم كله وتخفى عليه وحده، ثم إن غياب الحقيقة هو الذى يضعف الروح المعنوية وليس الحقيقة ذاتها، إن الشعب من حقه ومن واجبه أن يعرف حجم المطالب التى يوجهها إلى قواته المسلحة، ولو صحت نسبة هذا التقرير إلى جهاز المخابرات القديم فإنه يكون جزءا من حملة توريط البلد فى معركة فى وقت قال الرئيس السادات إنها لم تكن مستعدة لها. ثم إن هذا التقرير يرتبط فى ظروفه بالحملة المستمرة التى شنتها علىَّ مراكز القوة السابقة، ومرجعها إلى موقفى المؤيد للرئيس السادات فى خلافه معها. وفى كل الأحوال فلابد لى أن أبدى تحفظى الشديد لأن يكون تقريرا كتبه جهاز المخابرات فى عصر مراكز القوة موضوعا لتحقيق معى بعد ثمانى سنوات من كتابته.
***
كـان هيكـل يبـدى اندهـاشــه أن يكـون متهما فى تحقيق عن مقال كتبه منذ ثمانى سنوات، لكن المدعى الاشتراكى بدأ التحقيق معه بعد ذلك عن مقال كتبه منذ أحد عشر عاما، وسأله: أليس فى تجربة حرب 1967 من إفصاحك فى كتاباتك قبل 5 يونيو أن الضربة الأولى للعدو والثانية لنا ما يحمل العدو أن يكثف ضربته الأولى لكيلا يمكننا من الثانية؟
وأجاب هيكل : إننى أرحب بهذا السؤال، فقد أثير موضوعه كثيرا فى الحملات التى وجهت إلىَّ أولا: لم يكن فيما قلته عن الضربة الأولى والثانية أى سر، بل إن الحقائق العلمية فى أى صراع فى هذا العصر أن أى طرف فى صراع محلى بالذات لا يستطيع أن يوجه ضربتين متتاليتين وإلا عرض نفسه إزاء العالم لمواقف لا يستطيع تحمل تبعاتها. وفى سنة 1967 وجهت مصر الضربة الأولى بحشد قواتها فى سيناء وبإغلاق مضيق العقبة، ولم يكن متصورا فى هذا الصراع وحواره أن تلحق مصر ضربتها الأولى بضربة ثانية، وهذا من البديهيات السياسية التى لا يختلف عليها أحد، وإلا كان معنى ذلك أنها تعرض نفسها لاحتمال تدخل عسكرى مباشر ضدها من الولايات المتحدة. وهكذا فإن شرح هذا الوضع وتنبيه الرأى العام المصرى إلى هذه الحقيقة من حقائق الصراعات الحديثة يصبح أمرا بالغ الحيوية.. يضاف إلى هذا أن إعلان فهمنا لهذه الحقيقة كان مطلوبا كرد على الجهود الدولية التى كانت تحاول حصر نطاق الأزمة.
وقد بعث الرئيس الأمريكى جونسون إلى مصر يطلب منها ألا تبدأ بعمليات عسكرية، وفعل القادة السوفيت نفس الشىء، وكذلك كان موقف الجنرال ديجول، والسكرتير العام للأمم المتحدة (يوثانت) طار إلى مصر بعد قرار إغلاق خليج العقبة فى محاولة لاحتواء الأزمة، وكان هدف مسعاه أن يجمد تداعى التطورات لفترة من الزمن حتى يمكن احتواء الأزمة.
وبعد مقابلته للرئيس جمال عبد الناصر وعودته إلى نيويورك ومشاوراته مع الدول الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن، بعث إلى جمال عبد الناصر برسالة لها أهمية حيوية إذا أردنا أن نعرف مسار أزمة الشرق الأوسط على وجهها الصحيح فى ذلك الوقت، ولها أهمية بالنسبة لمقال الضربة الأولى والضربة الثانية. أن يوثانت قابل عبد الناصر يوم 24 مايو 1967، وبعث برسالة عاجلة إلى عبد الناصر يوم 30 مايو 1967 وأنا أريد إثبات نصها فى هذا التحقيق. ونص الرسالة:
سيادة الرئيس .
إننى أعرف من محادثاتى الأخيرة معكم ومع وزير الخارجية محمود رياض أنكم تدركون تماما الدوافع التى تدعونى إلى توجيه هذا النداء الشخصى والعاجل إليكم.
إنكم سوف تلاحظون أن ما أطلبه منكم ينبع فقط من رغبتى ومسئوليتى العميقة التى تدعونى إلى عمل كل شىء فى استطاعتى من أجل تفادى كارثة نشوب حرب جديدة فى الشرق الأوسط.
وخلال زيارتى للقاهرة، فإن موقفكم وسياستكم فى مسألة خليج العقبة قد جرى إيضاحها لى، وأريد أن أركز على الأهمية الكبرى التى أعلقها على رد فعل إيجابى من جانبى لمناشدتى هذه لكم بدون تأثير ضار على موقفكم أو سياستكم. إننى أطلب وقتا، ولو فسحة محدودة من الوقت لكى أستطيع أن أعطى فرصة للمشاورات وللجهود الدولية التى تحاول أن تبحث عن مخرج من الموقف الحرج الراهن.
وأريد أن ألفت انتباهكم بصفة خاصة إلى ما قلته فى تقريرى إلى مجلس الأمن بتاريخ 16 مايو إننى أرى أن إيجاد مخرج سلمى من هذه الأزمة يتوقف على فسحة من الوقت يمكن فيها تخفيض حدة التوتر عن مستواه المتفجر الحالى.
وبناء على ذلك فإننى هنا أدعو جميع الأطراف المعنية إلى ممارسة ضبط النفس، وإلى تجنب أى أعمال عدائية يكون من شأنها زيادة التوتر، وهدفى من ذلك أن أعطى مجلس الأمن فرصة لعلاج المشاكل التى تنطوى عليها الأزمة، والبحث عن حلول لها.
وإنى الآن أناشدك يا سيادة الرئيس، كما أناشد رئيس الوزراء ليفى أشكول، وكل الأطراف المعنية إلى ممارسة الحذر عند هذا المنعطف الخطير. وبالذات، وبدون طلب أى تعهدات منكم، أو حتى رد، فإنى أريد أن أعرب عن الأمل فى أن تمتنعوا خلال مدة أسبوعين من لحظة استلامكم لهذه الرسالة عن أى تدخل فى الملاحة غير الإسرائيلية عبر مضايق تيران.
وفى هذا الخصوص فهل لى أن أخطركم، وفى كل الأحوال ، أن لدىَّ من الأسباب ما يجعلنى أفهم أنه فى الظروف العادية فإنه ليس متوقعا أن تحاول باخرة إسرائيلية عبور مضايق تيران خلال مدة الأسبوعين المحدودين. بل إنى أستطيع أن أؤكد لك، حسب أدق المعلومات لدىَّ بأنه خلال السنتين والنصف الأخيرتين لم تقم أية باخرة ترفع العلم الإسرائيلى بالمرور فى مضايق تيران.
وأستطيع أن أكرر لكم يا سيادة الرئيس أننى بصفتى الخاصة، وكذلك المجتمع الدولى كله بصفة عامة، سوف نقدر تقديرا كبيرا هذه المبادرة من جانبكم.
وأرجو أن تتقبلوا يا سيادة الرئيس أصدق أمانىَّ واحترامى الشخصى.
(يوثانت)
***
بعد أن قرأ هيكل الخطاب وسجل نصه فى محضر التحقيق وسلم صورة منه إلى المدعى الاشتراكى قال: وإذن .. سياسيا لم نكن نستطيع أن نوجه لإسرائيل ضربة أولى .. إننا وجهنا ضربتنا فعلا بإغلاق خليج العقبة، وضربة عسكرية ثانية -بعدها- معناها أننا نعرض أنفسنا لما لا طاقة لنا به.. وعمليا لم نكن نستطيع ذلك بناء على التحركات الدائرة على المسرح الدولى.
ثم قال هيكل: لم أكن وحدى الذى قلت: إننا لن نكون البادئين بتوجيه ضربة إلى إسرائيل. إن الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه أعلن هذا الموقف فى مؤتمر صحفى عالمى يوم 25 مايو 1967 وقال صراحة: إننا لن نكون البادئين بالهجوم. وهذا المعنى واضح فى حقيقة أننا سوف ننتظر هجوما من إسرائيل إذا قامت به، لكى نرد عليه.
فضلا عن ذلك فإن موضوع الضربة الأولى والضربة الثانية ليس حاسما على هذا النحو فى الحرب التقليدية، ولا حتى فى الحرب غير التقليدية، ونتذكر أن العدو الإسرائيلى نفسه قبل سنة 1973، وفى حرب 1973، قد قبل أن يتحمل مسئولية ضربة أولى توجهها مصر.. إنهم عرفوا بنية الهجوم لدينا قبل الهجوم فعلا بأربع وعشرين ساعة، وناقشوا خيار توجيه الضربة الأولى أو انتظارها ثم توجيه الضربة الثانية، واختاروا الوضع الأخير.
كانوا يدركون أن استمرار احتلالهم لأراضينا هو ضربتهم الأولى، فإذا قاموا بتوجيه ضربة ثانية، ولو حتى بدعوى إجهاض هجوم منتظر عليهم فسوف يكونون فى وضع دولى لا يستطيعون احتمال نتائجه، وهكذا قرروا الانتظار وتلقوا الضربة الأولى.. والمناقشات حول هذا الموضوع مستفيضة، ووقائعها بالتفصيل فى مذكرات جولدا مائير، وفى مذكرات موشى ديان، وفى مذكرات أبا إبيان، وفى تقرير لجنة أجرانات.
إننى كنت دائما أحاول وصل التفكير المصرى بمنابع التفكير الاستراتيجى فى العالم..
***
وانتقـل المدعى الاشـتراكى إلى موضوع آخـر بعـد هــذه الإجــابة المستفيضـة.
وسأل: بالنسبة إلى طرد الخبراء الروس. ما هو انطباعك بعد علمك بقرار سحب الخبراء السوفييت فى يوليو 1972؟
وأجاب هيكل: فى هذا التحقيق السياسى- أو المناقشة السياسية- فإننى بالطبع لا أستطيع أن أتحدث عن انطباعات، ولكنى أستطيع أن أتحدث عما كتبته فعلا وقتها. إن ما كتبته وقتها كان مدفوعا باعتبارين: الأول تأييد صانع القرار المصرى الذى هو صاحب السلطة الشرعية والدستورية المسئول عن اتخاذه مهما اختلفت آراء واجتهادات الذين تتيح لهم الظروف أن يعرضوا آراءهم واجتهاداتهم عليه.. هو وحده يظل المسئول الشرعى والدستورى. وإذا جاز أن تتعدد الآراء والاجتهادات فلا يجوز أن تتعدد مصادر القرار.
الاعتبار الثانى: ما كان يدفعنى لما أكتب فى ذلك الوقت هو الحرص بكل الوسائل على تطويق الأزمة مع الاتحاد السوفيتى الناشئة عن إخراج الخبراء السوفييت وكانت تلك هى سياسة الدولة الرسمية، بل كانت هذه هى السياسة الضرورية بعد القرار وفى الظروف التى كنا فيها.
المدعى الاشتراكى: يبدو فى المقال (على هامش التطورات) فى 28/7/1972 أنك أشرت إلى أن قرار طرد الخبراء الروس جاء مبتسرا (مبتسرا أى قبل أوانه) أو جاء فرديا انفعاليا.
ورد هيكل : هذا هو نص المقال أمامنا، وليس فيه كلمة تحمل معنى أنه مبتسر أو أنه فردى انفعالى.. لم أقل بهذا على الإطلاق، ولم أكتبه، لأن ذلك ليس أسلوبى فى الكتابة.. إننى أريد أن أرى، أو يرينى أحد فى المقال كلمة مثل مبتسر، أو فردى، أو انفعالى، أو ما يحمل معانى هذه الكلمات. إننى لا أملك-كصحفى- مثل هذا الحكم على الموضوع إننى قلت إننى فوجئت بالقرار عندما عرفت به لأول مرة من الرئيس السادات نفسه قبل موعد إعلانه على الناس بوقت طويل، وأوضحت فى نفس الوقت قبولى للقرار باعتبار أن مصدره هو الرجل الذى يملك المسئولية التاريخية والشرعية فى صنع القرار. وطالبت فى نهايته بما طالب به الرئيس السادات، وهو ضرورة إجراء مشاورات عميقة مع الاتحاد السوفيتى، وأتذكر أننى عندما قابلت الرئيس السادات مساء يوم 11 يوليو 1972 فى استراحة القناطر، كان الجو وديا، وكنت أستمع باهتمام عميق إلى شرح الرئيس السادات فى أسباب قراره، وقد نقلت عنه دواعى اتخاذه هذا القرار، وكانت هذه أول مرة تروى فيها القصة كاملة فى نفس هذا المقال.
المدعى الاشتراكى: يتبين من المقال أنك تحبذ استمرار العلاقات مع الاتحاد السوفيتى وترى أننا سنخسر فى قطع هذه العلاقات أو التوتر، وأن هناك أرضية.. ولا أرضية بيننا وبين القوى الأخرى. ألا ترى أن ذلك لون من ألوان التأثير على القرار؟
هيكل: إن القرار كان قد اتخذ وأبلغ به الاتحاد السوفيتى. وبالتالى فلم تكن مسألة التأثير على القرار واردة. ومع ذلك فإن رأيى كان وما يزال يركز على أهمية الاحتفاظ بعلاقات ودية مع الاتحاد السوفيتى على أن تكون هذه العلاقات متوازنة. وقد كانت هناك أرضية مشتركة بين مصر والاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت، ولم تكن هناك أرضية مشتركة بين مصر والولايات المتحدة، وكان ذلك هو رأى الرئيس السادات أيضا فى تلك الفترة بحكم دواعى الأمن القومى.. إن الاتحاد السوفيتى كان مصدر السلاح الوحيد لنا أمام مسئولية تحرير الأرض. وكانت السياسة المصرية التى وضعها الرئيس السادات فى ذلك الوقت هي تطويق الأزمة مع الاتحاد السوفيتى. وقال: إنها وقفة مع الصديق وليست قطيعة معه، وقبل إعلان القرار رسميا بعث رئيس وزرائه الدكتور عزيز صدقى، ووزير خارجيته الدكتور مراد غالب إلى موسكو لإجراء مشاورات فى الموقف مع القيادة السوفيتية. وتبادل الرئيس السادات رسائل صريحة مع القادة السوفيت فى هذه الفترة وفى أعقابها مباشرة، وانتهت المشاورات والرسائل إلى بعثة عسكرية مصرية للاتحاد السوفيتى رأسها المشير أحمد إسماعيل على، وكان من نتائج هذه الرحلة أن مصر تلقت كميات هائلة من الأسلحة المتطورة خصوصا فى مجال الصواريخ، وذلك بعد قرار طرد الخبراء. وأعتقد أنه كان من الصعب تماما خوض المعركة بدون الإمدادات التى تلقيناها فى ذلك الوقت من السوفيت.
واستطرد هيكل: لو عدت إلى الجزء الخاص من السؤال بعدم وجود أرضية مشتركة مع الولايات المتحدة فى ذلك الوقت، فإن الرئيس السادات بعث مستشاره للأمن القومى السيد حافظ إسماعيل إلى لقاء علنى مع الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون أعقبته لقاءات سرية متعددة مع الدكتور هنرى كيسنجر مستشار الرئيس الأمريكى لشئون الأمن القومى وقتها، ولم تسفر هذه المحادثات عن أية نتيجة.. وكان مقترحا أن أذهب أنا إلى هذه المهمة للقاء نيكسون وكيسنجر، وكلفنى الرئيس السادات بذلك فعلا بعد رسائل من كيسنجر نقلت إلى سفيرنا فى واشنطن وسفيرنا فى الأمم المتحدة.. وقد شرحت ذلك بالتفصيل فى مقال بعنوان (كيسنجر وأنا ومجموعة أوراق)- ولقد اعتذرت عن عدم القيام بهذه المهمة لاعتقادى وقتها أن الظروف العربية والدولية لم تخلق أساسا مشتركا لحوار أساسى مع الولايات المتحدة..
.. ..
وانتهت الجلسة الرابعة من التحقيق..
***
الجلسة الخامسة- الاثنين 3 يوليو 1978.
المدعى الاشتراكى: عملت فى المجال الصحفى فترة طويلة، وشغلت منصب وزير الإعلام، فما هى فى نظرك الضوابط والحدود التى تفرق بين النقد والتهجم؟
هيكل: النقد هو أن يكون الكاتب موضوعيا، وأما التهجم فإنه المحظور الذى يقع فيه الكاتب حين تكون كتابته ذاتية أو شخصية. وقد التزمت فيما أكتب بأن أعرض على القارئ فى مقالاتى أكبر قدر ممكن من الحقائق والأخبار والآراء والبدائل لكى يتمكن القارئ من المشاركة فى الحوار الدائر من حوله، وكنت أتصور- ولا أزال- أن دور الصحافة فى ممارسة العمل الديمقراطى فى بلاد لها مثل ظروفنا هو أن تحقق مشاركة أوسع للجماهير فى القضايا العامة، وقد التزمت هذا المنهج التزاما دقيقا، وهو منهج بعيد عن التهجم. ملتزم بأدب الحوار. ولا أذكر أننى فيما كتبت - على كثرة ما كتبته - تعرضت لأشخاص، أو وضعت على الورق لفظا يتجاوز حد آداب الحوار. وكنت أعرف أن الحوار له حدود. وأن صنع القرار له دائرته. والقرار دائما له مصدر واحد مسئول عنه شرعيا ودستوريا وسياسيا، وأما الحوار الذى يمكن أن يدور من حول القرار، فهذا هو المجال الذى يستطيع أن يُشارك فيه. إن الظروف وضعتنى لفترات طويلة بالقرب من صانع القرار. وكانت هناك صداقة ربطتنى بالرئيس جمال عبد الناصر، وبالرئيس أنور السادات بعده، وكنت ألخص مهمتى كصديق فى عنصرين لا ثالث لهما: الأول ألا يفاجأ صانع القرار بأى تطور أو بأى تيار فكرى. والثانى: أنه عندما يقع أى تطور أو يبرز أى تيار فإنه لا بد أن تكون هناك بدائل متعددة للحركة بحيث لا يجد صانع القرار أنه أمام خيار واحد ولا مناص من قبوله. وبقدر ما استطعت فإننى حاولت أن أفى بمسئولية الظروف التى وضعتنى بالقرب من صانع القرار.
***
ودارت أسئلة المدعى الاشتراكى بعد ذلك حول مقالات هيكل عن فض الاشتباك الثانى ورأى هيكل فيها معروف كرره فى إجابته وشرح حيثياته.. وتحدث عن زيارته للولايات المتحدة فقال:
نشرت أشياء كثيرة فى مصر عن هذه الزيارة بما أوحى بأننى ذهبت إلى الولايات المتحدة فى الوقت الذى يتوافق مع وقت زيارة الرئيس السادات لها بقصد التأثير على رحلته إلى الولايات المتحدة. إننى ذهبت فى أول أكتوبر 1975 قبل الرئيس بأكثر من ثلاثة أسابيع.
ولم تكن لرحلتى أية علاقة برحلته. ذهبت بدعوة من اتحاد الخريجين العرب من الجامعات الأمريكية لكى أكون ضيف الشرف فى مؤتمرهم السنوى الذى عقدوه فى تلك السنة فى شيكاغو. الدعوة وجهت إلىَّ قبل السفر بشهور. وقبلت الدعوة بعد استئذان الرئيس السادات فيها. ولم يخطر ببالى وقتها أنه سيكون فى الولايات المتحدة قرب هذا الموعد.
وقبل ذهابى إلى أمريكا كنت فى باريس ولندن لمدة شهر. وعندما وصلت إلى الولايات المتحدة عرفت أن الرئيس السادات قادم إلى الولايات المتحدة. وبالطبع كان موضوع زيارته محل نقاش عام. وفى أول يوم لوجودى فى نيويورك كنت على موعد مع الدكتور كورت فالدهايم السكرتير العام للأمم المتحدة، وجلست فى مكتبه ساعتين كاملتين نناقش تطورات الشرق الأوسط الأخيرة وبينها بالطبع اتفاقية فك الاشتباك الثانية التى وقعتها مصر، وركزت معه على أهمية إنجاح هذا الاتفاق وكان رأيى أن إنجاحه لا يتحقق إلا بالعمل من أجل اتفاقية ثانية لفض الاشتباك مع سوريا. وأقامت هيئة تحرير نيويورك تايمز وهيئة تحرير واشنطن بوست حفلات لتكريمى كزميل صحفى تربطه صداقات طويلة بالكثيرين منهم، وتحدثت فى هذه الحفلات فى السياسة بالطبع.. ووجهوا إلىَّ أسئلة وأجبت عنها.
وكان من بين ما أجبت عنه أسئلة تتعلق بزيارة الرئيس السادات المقبلة لواشنطن. وركزت على نقطتين: أهمية إنجاح اتفاق فك الاشتباك فى سيناء باتفاق مماثل على الجبهة السورية وبخطوة فى اتجاه الفلسطينيين الذين تمثلهم منظمة التحرير، ثم أهمية إنجاح زيارة الرئيس السادات إلى واشنطن.
وقال هيكل: لقد حضر معى بعض أفراد بعثاتنا الدبلوماسية فى واشنطن هذه اللقاءات كلها. وكان الكلام أمامهم.
وقال: بعد ذلك أجريت لقاءات مع عدد من الشخصيات الأمريكية البارزة. دعانى دافيد روكفلر رئيس مجلس إدارة بنك تشيز مانهاتن إلى غداء امتد أكثر من ثلاث ساعات. ثم التقيت مع وليم سيمون وزير المالية الأمريكى على العشاء. والتقيت مع روبرت ماكنمارا رئيس مجلس إدارة البنك الدولى على العشاء أيضا.
والتقيت مع عدد من أعضاء مجلس الشيوخ البارزين وبينهم السناتور بيرسى، وما كنت أتحدث فيه مع هؤلاء مسجل فى مقابلة على شاشات التليفزيون الأمريكى فى البرنامج السياسى المشهور الذى يقدمه اجرونسكى، وقد دعا إلى مناقشتى معه الصحفى الأمريكى المشهور جوزيف كرافت. ومعى الآن النص الكامل لهذا الحديث استخرجته بواسطة المكتب الصحفى للسفارة المصرية فى واشنطن. وكما هو ظاهر من النص ركزت على أن زيارة الرئيس إلى واشنطن حدث بالغ الأهمية ويجب أن تنجح. وإن العالم العربى كله سوف ينتظر النتائج التى تسفر عنها هذه الزيارة. وإن الرئيس السادات أخذ على نفسه مخاطرة كبيرة بهذه الزيارة، ونجاحها هو الذى سيعطى تأثيره فى الحكم على الاتجاه الذى أخذه الرئيس السادات. وأنه أمر فى منتهى الأهمية أن يوجه الكونجرس دعوة إلى الرئيس المصرى لكى يتحدث أمامه. وفيما يتعلق باتفاقية فك الاشتباك الثانى فى سيناء فإنه من المهم دعمها باتفاقية مماثلة على الجبهة السورية، وتاريخ هذا الحديث 23 أكتوبر 1975 الساعة السابعة والنصف مساء.
وقدم هيكل إلى المدعى الاشتراكى نص الحديث.
وحكى عن عشاء أقامه السفير المصرى فى واشنطن أشرف غربال، ودعا فيه خمسين من أكبر شخصيات الكونجرس والصحفيين، وتحدث فيه هيكل والسفير عن زيارة الرئيس السادات، وقال هيكل فى كلمته: إن الرئيس السادات يجىء إلى واشنطن ممثلا للعالم العربى كله ومعبرا عن اختيار معين يعطى للولايات المتحدة فرصة غير مسبوقة. وجاءنى السفير أشرف غربال بعد العشاء مهنئا لأننى فيما عبرت به تجاوزات ما كان ينتظره.
***
وأمام المؤتمر السنوى للخريجين العرب من الجامعات الأمريكية كانت محاضرتى عن (الحقائق الجديدة فى الشرق الأوسط) وأتشرف بأن أقدم لكم نسخة منها. كان اتجاه المؤتمر حادا ضد اتفاقية فصل القوات. ولم أشر إليها بكلمة فى محاضرتى.
وأثناء وجودى فى المؤتمر فى فندق شيراتون فى شيكاغو علمت أن هناك اجتماعا فى قاعة فرعية يحضره بعض الشباب المتحمسين من الدارسين والمبعوثين العرب، وإنهم يفكرون فى تنظيم مظاهرة عدائية تقابل الرئيس السادات عند وصوله إلى واشنطن.. وتوجهت إلى هذه القاعة بدون دعوة وبدون أن يطلب منى أحد، وطلبت الكلمة، وقلت للحاضرين إنهم يعرفون أننى لست واحدا من المتحمسين لاتفاقية سيناء الثانية، ولكنى أريد أن أتحدث إليهم كمواطن مصرى. وأن رئيس الدولة المصرى حين يكون خارج مصر فإنه يصبح رمزا لها، وأخشى أنكم إذا قمتم بمظاهرات ضد الرئيس السادات عند وصوله أن تبدو هذه المظاهرة موجهة للشعب المصرى، وأنا لا أتصور أنكم تريدون ذلك. وحدث أن انفعل بعضهم أثناء المناقشة إلى الحد الذى دعا ضابط أمن أمريكى كان يقف قريبا من باب القاعة أن يجىء ليرجونى فى الخروج لأنه يشعر بقلق من الوجوه التى يراها - على حد تعبيره - ورجوته أن يتركنى ويبتعد، وواصلت المناقشة حتى هدأ الجو.. وأعتقد أن ما قلته كان له بعض التأثير.
وأضاف هيكل: الغريب أن مراسل الأهرام فى نيويورك ليفون كيشيشيان حضر معى هذه المقابلة، وعلمت فيما بعد أنه روى تفاصيلها لعدد من الذين جاءوا إلى واشنطن ضمن البعثة الرسمية.. ومع ذلك فوجئت بحملة ضارية علىَّ وصلت إلى حد الادعاء بأننى ذهبت إلى الولايات المتحدة أصلا لكى أعمل ضد رحلة السادات. ولست أعرف كيف كان فى استطاعتى أن أفعل ذلك.. ولماذا أفعله؟
ونشرت فى مصر واقعة أنى حضرت ندوة مع السفير المصرى وصحفيين مصريين لا أعرف من هم وانتقدت مصر بمرارة، وحين طلب منى السفير أن أكذب ما نشر تلكأت ولم أفعل حتى وصلت إلى لندن.. والواقعة كلها مختلقة وهى عكس الحقيقة. يضاف إلى ذلك أننى كنت فى لندن قبل زيارتى للولايات المتحدة وليس بعدها..
وقد غادرت واشنطن إلى روما وليس إلى لندن، وقضيت فيها ثلاثة أيام عدت بعدها إلى مصر.
وختم هيكل أقواله بعبارة: إن ذلك كله بالطبع لا يتعارض مع شعورى وقناعتى طول الوقت بأننى لم أكن شديد الحماسة لاتفاقية سيناء الثانية.
.. ..
وانتهت جلسة التحقيق الخامسة.
***
جلسة التحقيق السادسة - الثلاثاء 4 يوليو 1978.
واصل المدعى الاشتراكى أسئلته حول عبارات فى مقالات هيكل عن اتفاقية فك الاشتباك الثانى.. وتحدث عن الحديث الوحيد الذى أدلى به واحتاج إلى تصحيح، وكان فى نيويورك تايمز. وعندما ظهر الحديث بادر بالاتصال بالمستر كليفتون دانيال رئيس تحرير نيويورك تايمز المقيم فى واشنطن، وهو صديق شخصى قديم لهيكل، وأخطره بملاحظاته واتفق معه على ضرورة تصحيح ما ورد فى الحديث من تحريف فى بعض العبارات. واتفق معه على أن يلقاه فى مكتبه فى العاشرة صباحا. وعقب ذلك اتصل بالسفير المصرى أشرف غربال وروى له ما حدث وذهب إليه فى السفارة وكان عنده أحد كبار موظفى رئاسة الجمهورية- السيد عز الدين مختار- وقال هيكل للسفير: إنه يريد أن يبعث إلى الرئيس فى القاهرة بتوضيح عن الحديث الذى نشرته نيويورك تايمز، وكتب برقية إلى الرئيس السادات بما جاء فى الحديث من تحريف. ونشر التصحيح الذى كتبه هيكل فى صحيفة نيويورك تايمز وفى صحيفة هيرالد تريبيون صباح اليوم التالى.
***
وسأل المدعى الاشتراكى: انتهى المعلقون فى جهاز المخابرات العامة ووزارة الإعلام إلى أن نشر هذه المقالات عن اتفاقية فك الارتباط الثانى، قد أثار التشكيك فى سلامة الاستراتيجية المصرية كعمل مصرى له أبعاده، وهو ما يسىء إلى سمعة البلاد.
وأجاب هيكل: إننى لا أعرف من هم هؤلاء الخبراء، ولكنى أرى أنهم أطلقوا القول على (عواهنه) كعادة معظم كتاب التقارير فى أجهزة الأمن المصرية. وكان بودى لو أن واحدا منهم وضع إصبعه على فقرة بعينها وحدد بالضبط وجهة نظره حتى نستطيع أن نناقشها على أساس، أما على هذا النحو فإن المناقشة تصبح فاقدة لأساسها الموضوعى.
وسأل المدعى الاشتراكى: أثناء توليك وزارة الإرشاد أثيرت مبادرة روجرز فما هو موقف الدول العربية من قبول هذه المبادرة؟
وأجاب هيكل بشرح مستفيض قال فيه: إن قبول المبادرة كان منسجما مع استراتيجية عربية عامة. وكان فى نفس الوقت جزءا من تحرك مصرى سياسى ودولى وعسكرى. صحيح أن بعض القوى العربية عبرت عن مخاوفها، وكان بين هذه القوى عناصر من المقاومة الفلسطينية، وكان ذلك نتيجة سوء فهم أمكن تداركه بسرعة، ودعـى السيد ياسـر عرفــات وقيــادات فتــح لاجتمـاع مــع الرئيس جمال عبدالناصر فى الإسكندرية، وشاركت شخصيا فى التمهيد له كما شاركت فى مناقشاته. إن العمل السياسى المصرى- إلى جانب تطورات الحوادث- ساعد على تطويق سوء الفهم. وساعد على تماسك العالم العربى. وبرز هذا التماسك فى مؤتمر القمة العربية الذى عقد فى القاهرة فى سبتمبر 1970 لمواجهة الأزمة التى نشأت بين الحكومة الأردنية والمقاومة الفلسطينية.
المدعى الاشتراكى: هل قمت سيادتك بحملة إعلامية تضمنت أحاديث ومقالات أفصحت فيها عن تأييدك استقلال مصر فى قبول مبادرة روجرز؟
وأجاب هيكل: لقد كان رأيى- ولا يزال- أن مصر لا يحق لها أن تقبل وصاية على حرية حركتها شريطة أن تكون هذه الحرية فى إطار استراتيجية عربية عامة محددة وواضحة ومتفق عليها.. وبالنسبة للحملة التى قمت بها فى ذلك الوقت- بوصفى وزيرا للإرشاد- فإنى أجد أمام سيادتكم كتيبا يحوى نص مؤتمر صحفى لى أصدرته وزارة الإرشاد فى ذلك الوقت، واستشهد بوقائع هذا المؤتمر الصحفى بتاريخ 12 أغسطس 1970.
وسأل المدعى الاشتراكى: إذن فلماذا تصديت بالهجوم على مبادرة السادات وهل هناك فرق بين مبادرة روجرز ومبادرة السادات؟.
وأجاب هيكل: بالطبع هناك- فى رأيى- فروق كبيرة جدا وفادحة بين الاثنتين..
ودارت أسئلة كثيرة حول موقف هيكل من مبادرة السادات بزيارة القدس وموقفه منها معروف.
ثم سأل المدعى الاشتراكى: كيف فهمت أنك ممنوع من الكتابة فى الصحف المصريـة . ومـع ذلك أدليت بحـديث لجـريدة الأهـالى؟ ( الحـديث منشـور فى 27 أبريل 1983).
وأجاب هيكل: لقد كانت لى فى الأهرام ثلاث صفات: رئيس مجلس إدارة (وذكر إنجازاته) ورئيس تحرير (وذكر نجاحه فى تطوير الأهرام وزيادة توزيعه ووصوله إلى العالمية) وكاتب مقال أسبوعى، وقد أبديت آراء تحتمل الصواب والخطأ، وتمسكت بحقى وحق الأهرام فى إبداء آرائنا بحرية على أساس التزامنا الوطنى والمهنى.
وسأل المدعى الاشتراكى: هناك حديث لسيادتك مع تليفزيون المجر فى 29 مارس 1977 مترجم إلى العربية وارد صورته إلينا من هيئة الأمن القومى؟
وأجاب هيكل: أننى أدليت بحديث لتلفزيون المجر منذ ثمانية عشر شهرا، ولا أذكر إن كنت أدليت به باللغة العربية أو بالإنجليزية، والآن يقال لى: إن هناك ترجمة له، ولست أعرف مدى دقتها، بل إننى لا أعرف إذا كان تليفزيون المجر قد أذاع ما قلته كاملا أو أنه اختصر منه.. أريد أن أضيف أن وسائل الإعلام فى مصر شوهت بعض ما قلته فى حديثى إلى تليفزيون المجر، وأتذكر أننى تصديت لهذا التشويه وحاولت وضع الأمور فى نصابها فى مقال نشرته بعنوان (نقط على حروف).
.. ..
وقال المدعى الاشتراكى: انتهت الجلسة. والجلسة الثانية غدا.
***
الجلسة السابعة- الأربعاء 5 يوليو 1978.
سأل المدعى الاشتراكى: ورد بحديثك فى الأهالى على سؤال عن الفروق بين العصر الملكى والعصر الثورى والعصر الحالى أنك لا تفهم الوضع الحالى.. فهل لا يعتبر مثل هذا القول تغييرا لتاريخ مصر وطعنا فى قيادتها وسياساتها وحاضرها؟.
وأجاب هيكل: إننى لم أصدر أحكاما فيما قلت ولكنى عبرت عن تساؤلات فيما يتعلق بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى البلاد.. والتصنيف بين العصور لم يكن من عندى وإنما سائلى فى هذا الحديث صاغ سؤاله عن ثلاثة عصور.
وشرح هيكل رؤيته لتاريخ مصر منذ العصر الملكى إلى عصر السادات.. وتبع ذلك أسئلة حول كل ما قاله هيكل فى حديثه إلى الأهالى من أن السياسة السائدة لا علاقة لها بالإنتاج، وإن فى إنجلترا حزب العمال يمثل العاملين، وحزب المحافظين يمثل الرأسمالية، ولا تستطيع أن تكشف من يمثل الوسط وأى التزام وانتماء يلتزم به إلا إذا كان يعبر عن الطبقات التى ظهرت نتيجة الانفتاح، وانك لا تعتبر هؤلاء طبقات، وإنما فئات وجماعات خارج عملية الإنتاج، وهم لا ينتمون إلا إلى مصالحهم كقوة ضاغطة على الاستهلاك، وكثيرون منهم يجمعون ثرواتهم فى مصر ليودعوا ثرواتهم فى الخارج.. وسأل المدعى الاشتراكى: أليس فى ورقة أكتوبر توضيحا لتساؤلاتك.. أو ليست الديمقراطية الاشتراكية هى السياسة التى يلتزم بها حزب مصر (الوسط) ومنهم الذين يجمعون ثرواتهم فى مصر ويودعونها فى الخارج؟
وأجاب هيكل: إن كل نظام سياسى حديث لا بد له أن يختار اجتماعيا من يمثل ولصالح من يحكم، وهذا الاختيار هو الذى يعطيه شرعيته ذاتها. وقد قلت: إننى لا أستطيع أن اكتشف من يمثل حزب الوسط، ولا أظن أن التساؤل والمناقشة حول حزب الوسط يمكن أن يكونا محظورين.. قلت: إننا نشاهد صعودا فى أوضاع طبقات قلت: إنها خارج عملية الإنتاج، وذلك هو ما أشار إليه الرئيس السادات عندما تحدث عن الإنتاج الاستهلاكى الذى لا نريده، واستعمل الرئيس السادات تعبير الانفتاح التجارى أو الاستهلاكى وهذا يعنى أنه أبعد هذه الفئات عن دائرة الإنتاج، وهى فعلا خارجة عن هذه الدائرة، لأن عمليات الانفتاح الاستهلاكى هى فى الواقع عبء على الاقتصاد الوطنى.
وسأل المدعى الاشتراكى: فى حديثك عن حملة على جمال عبد الناصر ما يؤكد أن ثمة اتجاها رسميا للدولة. فلمصلحة من التشكيك، ألا يعتبر ذلك مصادرة لرأى لجنة تاريخ مصر التى لم تعلن بعد عن نتائج عملها؟
وأجاب هيكل: أما أن هناك حملة ضارية على عصر عبد الناصر وعلى ما جرى فيه فهذا أمر لا شك فيه. فالصحف- وهى ملك الاتحاد الاشتراكى- والإذاعة والتلفزيون- وهما ملك الدولة- واصلت لوقت طويل ولسنوات متصلة تشويه سمعة مصر فى عهد عبد الناصر . وأنا لا أنكر أنه حدثت تجاوزات فى عصر عبد الناصر، كما تحدث فى كل عصور التحول التاريخى، والسجل شاهد على أنى كنت الصحفى الوحيد الذى شهر قلمه فى وجه هذه التجاوزات، وكان ذلك فى حضور عبد الناصر ولم أنتظر وفاته لأشعر أنى صحفى حر.. إذا أردت نموذجا لذلك فإنى أستشهد على سبيل المثال بالكتب المدرسية التى تتحدث عن حرب السويس وكأنها هزيمة، وتتحدث عن ثلاث هزائم لقيتها مصر وهى 48و56 و1967 فى حين أن الدنيا تشهد أن السويس كانت انتصارا من حيث آثاره وما تحقق نتيجة له من طاقات للأمة العربية.. وأن يكون ذلك فى كتاب تعليمى فمعناه أن هناك عناصر تسىء إلى وحدة اتصال وامتداد الثورة وهو أمر كنت أحذر منه باستمرار فى نطاق عملى كصحفى.. إن مصر صورت فى عصر عبد الناصر وكأنها تحولت إلى معسكرات اعتقال، وكأنها طبعة رخيصة لعصر هتلر فى عهد ألمانيا النازية، ولست أعرف لصالح من يحدث ذلك خصوصا إذا كان فيه تجن كبير على الحقيقة.. وأما أننى قلت إننى لا أطمئن إلى المناخ السائد فذلك موجه إلى مناخ الإدانة الكاملة الذى ساد مناخ الصحف والذى لم يستند إلى حقائق مدروسة ومؤكدة.. أما أننى صادرت رأى لجنة كتابة التاريخ، فمع كل الاحترام لهذه اللجنة، فإننى لست واحدا من الذين يعتقدون أن التاريخ يمكن أن يكتب بواسطة أى لجنة وإنما تتحقق وقائع التاريخ وحقائقه عن طريق نشر وثائقه، وشهادات الذين عاشوا تفاصيل الأحداث، وفتح باب الدراسة والمناقشة والحوار والتحليل حول ذلك كله.. أى أن الوثائق والشهادات إلخ يمكن أن تكون المادة الخام ولكن قيمتها الحقيقية تبدو من خلال الدراسة والحوار والمناقشات، وهذا ما يجلو الحقيقة. وهذا ما تفعله الدول المتقدمة التى تنشر وثائق تاريخها بعد فترة من الزمن ثم تتركها للدارسين والباحثين والمحققين والحوار بينهم. وفى كل الأحوال، ومع كل الاحترام للجهد الذى يبذل فى لجنة كتابة التاريخ، فإن عملها سوف يستغرق سنوات طويلة، وفى هذا الوقت لا نستطيع أن نترك الشعب المصرى يسقط فى هاوية من الشكوك والهواجس وعدم الثقة بالنفس.
.. ..
وقال المدعى الاشتراكى: انتهت الجلسة.
***
الجلسة الثامنة- الأربعاء 21 يوليو 1978.
كانت أسئلة المدعى الاشتراكى فى هذه الجلسة أبعد ما تكون عن تحقيق، وأقرب ما تكون إلى ندوة أو جلسة سمر بين أصدقاء.. بدأ بسؤال: إذا كنت ترى فى إثارة بعض التجـاوزات والأخطـاء- مثـل الحملـة ضـد الرئيس جمال عبدالناصر- فما الأسلوب الذى تراه لتصحيح المسار عند حدوث أخطاء فى التطبيق؟
وأجاب هيكل: كانت هناك بالطبع تجاوزات وأخطاء فى عهد جمال عبد الناصر كما يحدث فى أية تجربة ضخمة بحجم تجربته. وقد نقدت بنفسى بعض هذه التجاوزات والأخطاء فى حياة عبد الناصر. فقد كتبت عن الديمقراطية. ونقدت بشدة إجراءات الحراسات والاعتقالات وغير ذلك مما صاحب التجربة. وأريد أن أقول بوضوح إن بعض ذلك كان ضروريا، وبعضه كان محتمل الوقوع خصوصا فى ظروف التحول الاشتراكى، فلا أحد يتصور أن تحولا هائلا كذلك الذى حدث فى الأوضاع الاجتماعية فى مصر كان يمكن أن يحدث بغير إجراءات تتدخل فيها سلطة الدولة.. وبالنسبة للصحفى- وهذا هو دورى- فإن حدود جهده لمواجهة هذه التجاوزات والأخطاء هى أن يشهر قلمه لنقدها وأن يتحمل مسئولية الكلمة، واعتقد أنى فعلت ذلك، وأننى تعرضت بسببه لحملات ضارية فى وجـود عبدالناصر أيضا.
ومن الموضوعات التى تناولتها بالنقد موضوعات فى مجال السياسة الخارجية.. ناديت بدعوة إلى (تحييد أمريكا) وجرَّت علىَّ هذه الدعوة مشاكل لا حدود لها.. البعض حاولوا أن يخرجوا بما دعوت إليه عن الهدف الواضح له ربما لأنهم عجزوا عن فهم الأوضاع المتغيرة فى العالم. كان منطقى أن التحييد يختلف عن الحياد. فلم أتصور حياد الولايات المتحدة بيننا وبين إسرائيل، لأن الولايات المتحدة فى هذا الصراع منحازة وانحيازها لإسرائيل. ولكن التحييد هنا وضع نفرضه نحن بوسائل القوة السياسية والاقتصادية الشاملة. أما الحياد فإنه موقف تختاره الولايات المتحدة بمحض إرادتها، وهذا مستحيل فى ظروف الصراع العربى الإسرائيلى. كان رأيى أن نضغط على الولايات المتحدة لكى نشل أكبر مساحة ممكنة من انحيازها، ولنفرض عليها- ولو كرها- بعض التوازن فى موقفها مما يتيح لها أن تؤدى دورا محكوما فى حل أزمة الشرق الأوسط. وبالتأكيد هناك دور لابد أن تؤديه الولايات المتحدة، ويجب أن تكون لدينا قدرة على التحكم فى طريقة أدائها لهذا الدور الضرورى.
***
واستطرد هيكل
نعم هناك تجاوزات وأخطاء فى تجربة عبد الناصر، ولابد من التصدى لها بالنقد والتقويم، والذى عارضته فى حديثى إلى الأهالى هو منطق الإدانة المطلقة.. منطق شجب عصر بأكمله.. ومن هنا كان طلبى التحقيق، ولا يمكن أن يرد علىَّ بأنه يجب أن أنتظر لجنة كتابة التاريخ، فإن ذلك كان يجب أن يوجه إلى حملة إدانة عصر عبد الناصر، كان من باب أولى على هذه الحملة أن تنتظر نتائج عمل لجنة كتابة التاريخ، خصوصا أن العهد ليس عهدين، كما قال الرئيس السادات، كما أن ثورة 23 يوليو هى الأساس الشرعى لاستمرار النظام الذى قام بعدها وحتى اليوم. أليس ذلك وضعا غريبا؟ حملة إدانة شاملة دون انتظار لعمل لجنة كتابة التاريخ. فإذا قلنا: إن ذلك ظلم فادح لشعب مصر وتعالوا لنحقق تحقيقا محايدا ونزيها قيل لنا: لماذا لا تنتظرون عمل لجنة كتابة التاريخ؟
أصل الآن إلى الأسلوب الذى أراه لتصحيح المسار عند حدوث أخطاء فى التطبيق. هناك دور للصحافة فى محاولة التصحيح، وهناك دور للمجالس المنتخبة- ومجلس الشعب على رأسها- والتجارب السياسية التى تعتمد على منطق التنظيم الواحد- ونحن بينها ومعظم دول العالم النامى- تجد نفسها بين حين وآخر أمام ضرورة إجراء ما يشبه العملية الجراحية. حدث ذلك- على سبيل المثال- عندما قام جمال عبد الناصر بإسقاط دولة المخابرات، وكان ذلك نص التعبير الذى استعمله. وتكرر ذلك عندما قام الرئيس السادات بإسقاط مراكز القوى فى مايو 1971 وهى عملية كان موقفى فيها واضحا إلى جوار الرئيس السادات. وكنت أول شخص دعاه الرئيس السادات إلى بيته ليتشاور معه حين وصلت إليه الأشرطة التى أقنعته بوجود تآمر عليه، وقد ظللت منذ تلك اللحظة إلى يوم 15 مايو حين انتهى كل شىء رفيقا شبه دائم إلى جانبه إلى أن تمت العملية بنجاح. وبعدها دعانى الرئيس السادات إلى تولى وزارة الإرشاد القومى بحضور كل من الدكتور محمود فوزى رئيس الوزراء وقتها، والمهندس سيد مرعى، والدكتور عزيز صدقى، ورجوته أمامهم جميعا إعفائى. إننى أذكر هذه الواقعة لأن جريدة حزب مصر أشارت إليها فى مقال خصص للهجوم علىَّ قبل أيام. إننى لم أنتظر الأيام الأخيرة الحاسمة فى هذه الفترة لكى أحدد موقفى ولكنى حددته منذ اللحظة الأولى عندما رأيت بوادر الصراع غداة رحيل عبد الناصر مباشرة، وفعلت ذلك عندما تأزمت الأمور بسبب مشروع الوحدة الثلاثية الذى اتخذ ستارا للصراع على السلطة، وقد اتخذت فى هذا الظرف المحفوف بالمخاطر موقفا مبدئيا أظنه كان حاسما.
***
وحكى هيكل للمدعى الاشتراكى حكاية الأزمة التى أثارتها مجموعة مراكز القوة حول مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وليبيا وسوريا الذى وقعه الرئيس السادات. فقال: عرض الرئيس السادات مشروع الوحدة الثلاثية فى اجتماع فى استراحة القناطر دعا إليه اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى، فإذا أغلبية الأعضاء يرفضونه. واتصل بى الرئيس السادات تليفونيا ليقول لى إن الموقف تفجر فى اللجنة التنفيذية العليا وإنه سيذهب بالمشروع إلى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى ويعرض أمامها وجهة نظره ويعرض الآخرون وجهات نظرهم أمامها.. وفى هذا الاجتماع كان الجو فى اللجنة المركزية عاصفا، فقد انفجر الخلاف بطريقة مخيفة، وحين عرض الموضوع للتصويت برفع الأيدى لم يرفع يده بالموافقة على وجهة نظر الرئيس السادات غير أربعة أعضاء فقط، وكنت أنا واحدا منهم، وفيما أذكر كان منهم أيضا المهندس سيد مرعى. ورئى تدارك الموقف بدعوة اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى فورا وانفض اجتماع اللجنة المركزية مؤقتا لبضع ساعات أو دقائق إلى أن تجتمع اللجنة التنفيذية العليا وتعود اللجنة المركزية بعده إلى الاجتماع بمخرج من الأزمة.
ووجدت نفسى مدعوا من كل الأطراف لحضور اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى رغم أننى لست عضوا فيها. ورحبت بالفرصة لأننى اعتقدت أن لدىَّ ما أقوله. وطلبت الكلمة، وقلت أمام الجميع: إن الرئيس السادات فى مشروعه للوحدة الثلاثية ينفذ اتفاقا توصل إليه جمال عبد الناصر، وفتحت ملفا كان معى وكان يضم محضر اجتماع عقد فى بنغازى فى شهر يونيو 1970 واشتركت فيه مصر وليبيا وسوريا وتم الاتفاق فيه على إعلان وحدة ثلاثية بين الأطراف الثلاثة، وقلت: هذا هو محضر الاتفاق.. إننى حضرت الاجتماع بنفسى مع الرئيس عبد الناصر ومع رؤساء ليبيا وسوريا، وتوليت بنفسى كوزير للإرشاد وقتها كتابة المحضر أثناء الجلسة. وحين عدنا إلى القاهرة سلمت المحضر بخطى إلى رئاسة الجمهورية حيث كتب على أوراقها الرسمية، وعادت إلىَّ نسخة منه تحمل تأشيرة بخط جمال عبد الناصر. وإذن، فما هو الجديد الآن وما هو الخلاف خصوصا إذا كان طريقهم- كما يقولون هو طريق عبد الناصر؟.
وأحدث ظهور هذا المحضر فى الجلسة أثره، وكان الرئيس السادات أول من لاحظ ضيق الآخرين من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا بشهادتى. ومنذ ذلك الوقت وحتى انتهت أزمة مراكز القوى كنت أقرب الناس إلى الرئيس السادات كما قال هو بالنص فى حديث صحفى.
***
وسأل المدعى الاشتراكى: إذا كنت مؤيدا للرئيس السادات فلماذا وعلى أى أساس تصر كما جاء فى مقالك على أن ما حدث فى مصر يومى 18 و19 يناير 1977 كان انفجارا شعبيا له دواع اجتماعية، وخالفت رئيس الدولة والشعب فيما قالوا إن تلك كانت انتفاضة حرامية؟
وأجاب هيكل: نعم. قلت ذلك فعلا. ولا يزال ذلك رأيى حتى الآن. إننى لم أقل إن ما حدث كان انتفاضة شعبية، بل كان الوصف الذى اخترته له أنه كان انفجارا شعبيا. ما حدث كان رد فعل لعملية رفع فجائى للأسعار بطريقة لم تكن الجماهير مستعدة ولا مهيأة لها. وهكذا وقع الانفجار. إن الدولة اعترفت بذلك عندما وجدت نفسها أمام ضرورة إلغاء هذه الزيادات فى أسعار المواد الأساسية. لقد كنت ضد النظرة البوليسية إلى ما حدث. لأن تقييمنا للأسباب يقرر أسلوبنا فى علاجه. وكان تخوفى من أننا إذا اعتمدنا المنطق البوليسى فى التقييم فسوف نفعل نفس الشىء فى العلاج. وسوف يدعونا ذلك إلى اتخاذ أساليب ليست هى بالضبط ما يقتضيه الموقف. كان يجب أن يوضع ما حدث فى حجمه الصحيح. كانت هناك دواع حقيقية أدت إلى استثارة جماهير واسعة من الشعب بدليل أن البوليس عجز عن مواجهة الموقف واقتضى الأمر الاستعانة بالجيش. ووجدت الدولة ضروريا إلغاء القرارات. والرئيس السادات أشار فى أكثر من خطاب إلى أن الأسلوب الذى اتبع فى إعلان مثل هذه القرارات برفع الأسعار مفاجأة ومرة واحدة أدى إلى رد فعل شعبى، وكان رأيه أنه أعطى الحق للجماهير أن تتظاهر ولكن ما اعترض عليه هو مظاهر العنف التى لجأت إليها بعض العناصر. وهكذا فإن علينا أن نفرق بين حالتين: الحالة الأولى: رد فعل شعبى حقيقى تحركت من خلاله جماهير واسعة.. والحالة الثانية: قيام بعض العناصر باستغلال ما حدث والخروج به عن مساره المقبول. وكانت خشيتى أن التركيز على الحالة الثانية وحدها والنظر إلى الموضوع برمته نظرة بوليسية سوف يدعونا إلى الاعتماد على أساليب لا تتناسب تماما مع مقتضى الحال. وقد شرحت رأيى فيما حدث وفى منطق علاجه فى اجتماع مع المهندس سيد مرعى والدكتور مصطفى خليل واعتقد أن الرئيس عرف بوجهة نظرى، وأعتقد أن رأيى فى ذلك الوقت لم يكن موضع اعتراض منه.
***
واستمرت أسئلة المدعى الاشتراكى حول كل كلمة قالها هيكل فى حديثه الصحفى إلى الأهالى.. وسأل المدعى الاشتراكى قلت: إن ما نعانيه من مجموعة فرص ضائعة وآمال خائبة كنا نحن سبب الضياع والخيبة.. فما هو المقصود بالفرص الضائعة والآمال الخائبة؟
وأجاب هيكل: كلامى فى هذه الفقرة عن التاريخ والحركة الاجتماعية العامة.. الانفصال بين مصر وسوريا بعد الوحدة فرصة ضائعة وأمل خائب. الأمل فى توحيد الأمة العربية نفس الشىء. هزيمة 1967. الآمال التى تمنيناها جميعا بعد حرب أكتوبر المجيدة والتى تصورنا أنها سوف تصل بنا إلى حل عادل وسريع. هكذا كنت أتكلم عن مسار تاريخى واسع..
وسأل المدعى الاشتراكى: قلت فى حديثك إن أكثر الخلافات بين اليسار والناصرية ليست أكثر من رواسب.. فهل هذا موقف جديد لك من اليسار؟
وأجاب هيكل: إننى لست شيوعيا، ومن الصعب أن أكون. وقد حذف السؤال قولى فى هذه الفقرة من الحديث إنه سوف تبقى بين الناصريين والشيوعيين خلافات كبيرة حول قضية المنهج والدين ودكتاتورية البروليتاريا. أى أن موقفى هنا يختلف عن موقف الشيوعيين كما كان دائما. وفيما يتعلق بأن الناصريين حركة يسار وطنى فلا أظن أن هناك خلافا على ذلك، وهذا هو نفس مفهوم الرئيس السادات الذى قال بالحرف الواحد: (ما إحنا برضه يسار). أن كل حركات الثورة الوطنية بالطبيعة هى حركات يسار، لأن مقتضى مفهوم اليسار هو الانتقال بمواقع الثورة، وبالتالى السلطة، من سيطرة الأقلية إلى سيطرة أوسع للجماهير. وبالتالى فإن كل حركة تحرر وطنى ذات محتوى اجتماعى هى على نحو ما حركة يسار..
.. .. ..
هل نستمر فى قراءة ملف التحقيق؟