هيكل والسادات.. بين الجنة والنار!
منذ زيارة كيسنجر للقاهرة يوم 7 نوفمبر 1973 بلغ التوتر ذروته فى العلاقة بين الرئيس السادات وهيكل، وكان كسينجر قد أجرى فى هذه الزيارة محادثاته السرية مع السادات. وكان هيكل حين يلتقى بالسادات يلتزم بحدود الاستماع إلى ما يقوله السادات ويبدى رأيه فى حدود ما هو مطلوب منه دون أن يسأل عما يجرى.
وفى مقابلة يوم 21 يناير 1974 قال له الرئيس السادات: إنه قرر الإفراج عن بعض قادة الطيران الذين حوكموا بعد سنة 1967 وبينهم الفريق صدقى محمود، وإن حسنى (يقصد الرئيس حسنى مبارك وكان قائدا لسلاح الطيران فى حرب أكتوبر).. جاءنى وقال لى: إن (الأولاد) فى الطيران يطلبون من سيادتك مكرمة لن ينسوها وهى الإفراج عن صدقى محمود، فهم يعتبرونه أستاذهم، وعلى أى حال فإنهم فى حرب أكتوبر سددوا كل ديـون الطيران من حرب 1967 ووافقت، ولا تتصور سعادة حسنى وسعادة الأولاد فى الطيران.
ثم تحدث السادات عن هنرى كيسنجر مبديا إعجابه به، ثم يلوم هيكل على شكوكه فيه وقال له: إن هذا الرجل هو الشخص الوحيد فى العالم الذى يستطيع أن يقول لهذه المرأة (يقصد جـولدا مائير رئيسة وزراء إسـرائيل) اخـرجى.. فلا تستطيع أن ترد له أمرا.
وأبدى هيكل رأيه مختلفا عن رأى السادات، وأبدى السادات ضيقه، وسأل هيكل: إننى قرأت فى بعض التقارير الصحفية أن كيسنجر أقنع الرئيس السادات بإرسال خطاب مكتوب إلى جولدا مائير، وهذا- لو صح- خطير.. ورد السادات على الفور: أنا لم أكتب لها خطابا، هى التى بعثت إلىَّ برسائل شخصية عديدة مع هنرى.. طلباتها لا تنتهى هذه المرأة، ولكنى لن أعطيها الفرصة لتراوغ.. إنى أطاوعها فيما تطلبه حتى أجعل من الصعب عليها أن ترفض ما أطلبه.
وواصل الرئيس السادات كلامه:
- الآن تريد منى أن أفرج عن كل المسجونين عندى من جواسيس إسرائيل.. غريبة إنها تلح بشدة على الولد مزراحى.. لابد أنه كان مهما جدا بالنسبة لهم.. تصور هى أيضا تريد أن تأخذ جثث الأولاد الصهاينة الذين قتلوا لورد موين سنة 1945 فى القاهرة.. ركبت رأسها مع هنرى وصممت عليها.
واستمر الرئيس السادات:
- طبعا هنرى استغل الفرصة بالمرة وطلب منى هو الآخر أن أفرج عن عدد من الأشخاص حكم عليهم فى قضايا تجسس لصالح المخابرات الأمريكية.. على أى حال لن (أوجع رأسى) بهؤلاء جميعا.. سوف (أعطيهم لهم) وأخلص نفسى.
ثم سأل:
- ما رأيك فى الإفراج عن مصطفى أمين؟.. ألم تطلب منى أكثر من مرة أن أفرج عنه؟.
ولاحظ السادات علامات الدهشة على ملامح هيكل فاستطرد:
- لماذا تشعلق حواجبك من الدهشة هكذا؟. إنهم يطلبونه.. وأنا أريد أن أجاملهم فيه.
وسأل هيكل:
- من هم؟.
وأجاب السادات:
- كثيرون.. الأمير سلطان طلبه منى.. وكمال أدهم أيضا.
وسكت لحظة ثم استطرد:
- .. ولماذا لا أجامل الأمريكان فيه؟
وقال هيكل:
- الأمر لك بالطبع.. وإن كنت أخشى من أن الإفراج عنه فى هذا الإطار الذى كنت تتكلم عنه فيه إساءة إليه.. فلما لا تجعل فاصلا أسبوعا أو أسبوعين بين الإفراج عنه والإفراج عن كل هؤلاء الذين طلبتهم جولدا مائير وهنرى كيسنجر؟. إننى جئت الآن وكان فى نيتى أن أنقل إليك رسالة من على أمين يرجوك فيها الإفراج عن توأمه وهو على استعداد لأن يأخذه من باب السجن إلى باب طائرة تذهب بهما إلى أى مكان خارج مصر.
قال السادات بسرعة:
- عال.. يأخذه (ويغوروا)!
ولاحظ السادات أن هيكل لم يكن مستريحا لمجرى المناقشة فنظر إليه بنصف ابتسامة ونصف عين وقال:
- أنت تدعى أنك تفهم فى السياسة، وأنا أقول لك العكس.. لو أنك كنت تفهم فى السياسة لوافقتنى على ما قلت.. من الأفضل الإفراج عن مصطفى أمين ضمن هذه الصفقة حتى لا يتجاسر يوما ويفتح فمه، وإذا فتحه فإنا نقدر نضربه بــ (.. ..)!
***
يقول هيكل: إن الرئيس السادات طبق نظريته فيما بعد، حين أحس بعد عودة الأستاذ مصطفى أمين إلى الكتابة فى عمود فكرة الذى كان يكتبه على أمين قبل رحيله، أحس السادات أنه خرج عن الخط فيما يكتبه، فأصدر أمرا بالتليفون بمنعه من الكتابة، ورفع اسمه من قوائم تلقى التبرعات فى دار أخبار اليوم، وظل قرار الوقف نافذا حتى ليلة زفاف ابنة الرئيس السادات الصغرى إلى نجل المهندس عثمان أحمد عثمان، وجاء بعض أفراد الأسرة بالأستاذ مصطفى أمين يهنئ الرئيس السادات فأشار السادات بيده بما يعنى أن عفوه صدر.. وعاد الأستاذ مصطفى أمين يكتب (فكرة) من جديد، ولكن اسمه لم يعد إلى قوائم تلقى التبرعات إلا بعد رحيل السادات بشهور.. وبدأ الأستاذ مصطفى أمين بعد رحيل السادات أيضا يكتب بقوة عن الديمقراطية.
وفى يوم 27 يناير أصدر الرئيس السادات قرارا بالإفراج الصحى عن الأستاذ مصطفى أمين.
يقول هيكل: فكرت طويلا كيف ننشر الخبر وبماذا نعلق عليه، وكتبت بنفسى تعليق الأهرام الذى صدر يوم 28 يناير 1974 وكان نصه:
إن الصحافة المصرية تتلقى القرار بالإفراج عن الأستاذ مصطفى أمين بعرفان بالجميل عميق.. ذلك لأنه لا جدال فى أن الدور الذى قام به الأستاذان مصطفى أمين وعلى أمين هو حلقة فى حياة وتطور مهنة الصحافة فى مصر، وهذه المهنة قدمت ومازالت تقدم لهذا الوطن وهذه الأمة جهدا عظيما أسهم ويسهم بطريقة مؤثرة فى تشكيل فكرها وحركتها.
ويقول هيكل: إنه مر على بيت الأستاذ مصطفى أمين يهنئه بالإفراج عنه، فاستقبله مصطفى أمين بالأحضان، لكنه شعر أنها أحضان (ميكانيكية) وسأله عن على أمين فقال له: إن على (تضايق) عندما قرأ تعليق الأهرام اليوم، فقد تحدث عن دورنا فى الصحافة بالفعل الماضى.
مساء يوم 31 يناير ذهب هيكل لوداع فرنسوا ميتران فى المطار، وكان هيكل قد دعاه لزيارة مصر، وعاد إلى الأهرام فى الليل، ثم ذهب إلى بيته، وهناك أبلغ أن الرئيس السادات أصدر قرارا بتعيينه مستشارا له، وتعيين الدكتور عبدالقادر حاتم رئيسا لمجلس إدارة الأهرام.
وفى الصباح - أول فبراير- دعا هيكل الدكتور حاتم إلى الأهرام لكى يتسلم كل شىء فيه، وكان رأيه أن من اللائق بالأهرام وبه أن يتم انتقال متحضر، وجمع هيكل مجلس الإدارة ومجلس التحرير ومجلس النقابة، وقدم لهم الدكتور حاتم باعتباره المسئول الجديد، وسلمه تقريرا من الكمبيوتر عن اقتصاديات الأهرام وتوزيعه وأرباحه، ثم غادر المبنى لآخر مرة عارفا أنه لن يعود إليه مرة أخرى مهما حدث أو يحدث.
***
ما أزال أذكر هذا اليوم.. أول فبراير 1974 دخلت الأهرام حزينا فوجدت الحزن يخيم على الجميع، كأن صاعقة أصابت رؤوسنا جميعا.. وجوم.. وعيون زائغة.. وتوتر مكتوم.. وعيون فيها دموع.. وشعور عام بعدم التصديق بأن يأتى يوم على الأهرام وليس فيه هيكل.. ثم شعور بالحيرة.. ماذا نفعل؟.. وماذا يمكن أن نقول له؟.
طلب منا هيكل الاجتماع به على مائدة الدسك المركزى فى قلب صالة التحرير، وجاء بخطواته السريعة القوية المعتادة، وألقى تحية الصباح بسرعة كعادته، ودخل فى الموضوع مباشرة، وتحدث إلينا حديثا قصيرا وهو يدخن السيجار دون أن تظهر عليه علامة حزن أو توتر، وقال: إن الأهرام لابد أن يستمر.. وإلا فإنه يكون قد فشل فى بنائه كمؤسسة لا تقوم على فرد مهما كان.. وفى الأهرام كوادر قادرة على إدارة شئونه بكفاءة ومقدرة.. وأنه يثق أننا جميعا سوف نقدر الموقف ونتحمل المسئولية ونتعاون مع الدكتور حاتم.
وخرج من الجنة!.
***
واتصل به السيد عبدالفتاح عبدالله وزير شئون رياسة الجمهورية وقتها يبلغه أنه أعد له جناحا من خمس غرف فى قصر عابدين، ويسأله متى ينوى الحضور؟، وهل له طلبات فيما يتعلق بمكتبه؟، وهل يريد انتداب سكرتارية له من الأهرام للعمل معه فى رياسة الجمهورية؟.. وقال له هيكل: إننى لن أذهب إلى عابدين.. قال الوزير: ولكن سيادة الرئيس أصدر قرارا. وقال له هيكل: هذا حقه، ويبقى بعده حقى أن أقبل أو لا أقبل.
يقول هيكل: وتقاطر على بيتى بعد الظهر عدد من كبار المسئولين بينهم أصدقاء لى وأصدقاء للرئيس السادات، يحاولون إبقاء الجسور مفتوحة وأول فتحها أن أذهب غدا إلى عابدين.. وبقيت على رأيى، وبعث إلىَّ الرئيس السادات بواسطة صديق مشترك للطرفين ما يكاد يكون تحذيرا نهائيا، صباح يوم 2 فبراير (إذا لم أستجب وأنفذ قراره وأتسلم عملى فى عابدين فهو إذن خصام إلى الأبد.. وأنه صبر علىَّ وقد خالفته كثيرا، وعارضته حوارا وكتابة، وأردت أن أفرض عليه آرائى، وقد قبل منى أكثر مما قبل من غيرى، لكن علىَّ أن أدرك أنه الرئيس، وأنه وحده صاحب الحق فى القرار.. وإن كثيرين قبلى خرجوا من الصحف ثم عادوا إليها، وهذا يمكن أن يحدث لى، والكل يعرف أننى لا أتحمل فراق الأهرام بعد أن فعلت له كل ما فعلت.. وإن الرئيس غاضب.. ويقول إنك حولت فى كتاباتك هزيمة 1956 إلى نصر، بينما تصف قيمة حرب أكتوبر بأنها نصف انتصار.
***
ومساء نفس اليوم أصدر الرئيس أنور السادات قرارا بتعيين الأستاذ على أمين مديرا لتحرير الأهرام، وطبقا لسجلات الأهرام فإن الأستاذ على أمين حين دخل إلى مكتبه الجديد طلب ثلاث مكالمات تليفونية مع الخارج، منها اثنتان للسعودية، واحدة للرياض، والثانية لجدة، وكانت المكالمة الثالثة للندن.
ومازلت أذكر هذه الأيام..
كان أسلوب إدارة الأستاذ على أمين للتحرير مختلفا عما تعودنا عليه فى الأهرام، وظهر فى أحد برامج التليفزيون وسئل: ماذا ستفعل للأهرام؟ فأجاب: سأجعله يلبس ملابس داخلية.. وكانت هذه العبارة عود الكبريت الذى أشعل الغضب بين جميع المحررين الكبار والصغار، وسادت صالة التحرير والمكاتب حالة من الانفعال لم يسبق لها مثيل، ولم يجد الدكتور حاتم بدا من دعوة الجميع لاجتماع فى صالة التحرير، ولأول مرة يحتشد مئات من المحررين والإداريين والعمال.. وحاول الدكتور حاتم أن يهدئ المشاعر ويقول إن الأستاذ على أمين لم يقصد الإساءة إلى الأهرام وإلى من فيه وإنه يحمل لهم التقدير، ولكن الكلمات تبددت وسط صياح وصراخ.. ووقف لطفى الخولى يقول بصوته الجهورى: هذا الموقف مرفوض. وهذا الكلام مرفوض. وإذا كان الأستاذ على أمين يريد منا أن نلبس ملابس داخلية فعليه أن يفعل ذلك أولاً، واستمر فى حديث عن كرامة الصحافة والصحفيين، وعن مكانة الأهرام ومحرريه، ثم وقف محمد سيد أحمد هو الآخر ولأول مرة أرى وجهه محتقنا وصوته عالياً يرن فى الصالة وتحدث آخرون بانفعال، ولولا حكمة الدكتور حاتم لحدث ما لا يحمد عقباه.. وانتهى الاجتماع بكلمات اعتذار من الأستاذ على أمين. وكانت بداية غير موفقة. وكانت نتائجها غير سارة. وإن كنا قد حاولنا أن نتلاءم ونعمل حرصاً على الأهرام.
***
بعد هذا الاستطراد من جانبى أعود إلى رواية هيكل، يقول: كان الأسبوع الأول من فبراير 1974 بحراً هائجاً فى حياتى. كانت صحف العالم تعتبر خروجى من الأهرام موضوعاً رئيسيا، وفى يوم واحد كانت افتتاحيات أربع من الصحف الكبرى تركز عليه: الموند الفرنسية، والتيمس البريطانية، وواشنطن بوست الأمريكية ودى فيلت الألمانية، وكان ذلك يثير غضب الرئيس السادات وحفيظته، وهو ما كنت أتجنبه. وكانت هناك روايات تناقلتها وكالات الأنباء بينها أن هنرى كيسنجر كان سبباً رئيسياً من أسباب خروجى من الأهرام لأنه احتج على معارضتى العلنية لاتفاق فك الارتباط، وبالفعل فقد رأيت رسالتى احتجاج فى برقيات شفرية بعث بها كيسنجر إلى الرئيس السادات: واحدة من بكين وكان يزورها، والثانية من واشنطن بعد أن عاد إليها، وفيما بعد لمح اثنان من الكتاب السياسيين - أحدهما أمريكى إسرائيلى هو أموس برلموتى وكتب مقالاً فى مجلة الشئون الخارجية، وثانيهما هو إدوارد شيهان فى كتابه عن الاتصالات السرية لمفاوضات فك الاشتباك، وكلاهما نشر فى صيف 1976 إلى أن كيسنجر، كان له دور فى خروجى من الأهرام ولم يؤثر ذلك فى علاقتى بعد ذلك بهنرى كيسنجر، فقد اعتبرت أننا كنا طرفين فى صراع مصالح متناقضة، كان هو يفكر ويتكلم لما يراه صالحاً للولايات المتحدة، وكنت أنا على الطرف النقيض بالطبع. ولم يضايقنى ذلك، وإنما تذكرت مؤتمراً صحفياً للرئيس السادات فى مبنى الاتحاد الاشتراكى يوم 18 يوليو 1972 حضره كل رؤساء تحرير الصحف المصرية فى ذلك الوقت قال فيه إن الرئيس السوفيتى بادجورنى طلب منه سنة 1971 إخراجى من الأهرام لأننى معاد للسوفييت. ولم أشعر أن شيئا من ذلك - مهما كانت درجة الصدق فيه- مما يؤثر فىَّ أو فى نظرتى للأمور. لا اعتراض بادجورنى علىَّ يؤثر فى إيمانى بأهمية العلاقات المصرية السوفيتية، ولا اعتراض كيسنجر علىَّ يؤثر فى اعتقادى بأن مقاطعة الولايات المتحدة خطأ وخطر.
وفى نفس الوقت راحت الأنباء تربط اسمى بعروض لإنشاء دور صحفية خارج مصر، وكان بعض هذا صحيحا، ولكنى كنت قد استبعدت ذلك الخيار تماماً من قائمة ما هو متاح أمامى الآن وغداً وبعد غد.
وكانت الأمور تتعقد فى الأهرام بصرف النظر عن أية محاولات للتهدئة، فإن الأستاذ على أمين كان يتصرف باندفاع، وكان فى حاجة إلى أن يعطى نفسه فرصة ليتعرف على تطورات ضخمة حدثت فى غيابه، وأصبحت الجريدة فى الصحافة الحديثة مؤسسة، والأهرام فى السبعينات كان تركيبة تختلف تماماً عن تركيبة أخبار اليوم فى الخمسينات. وظهرت بوادر صدام بينه وبين كل من فى الأهرام. وأراد الرئيس السادات أن يقطع ويحسم وأن يظهر تأييده للوضع الجديد فى الأهرام- بصرف النظر عن آراء ومواقف كل العاملين فيه - فأصدر فى 8 فبراير 1974 قراراً بتعيين الأستاذ على أمين رئيسا لتحرير الأهرام، ولم يهدأ الصدام .. بل انفجر حتى اضطر الرئيس السادات فى شهر مايو أن ينقل الأستاذ على أمين من الأهرام ويعيده إلى أخبار اليوم رئيساً لمجلس إدارتها ومعه الأستاذ مصطفى أمين رئيساً للتحرير.
***
يقول هيكل: وبدأت حملة شعواء على جمال عبدالناصر وعصره، ابتداء من اتهامه بقتل الدكتور أنور المفتى لأنه اكتشف (جنونه)! إلى (كارثة) السد العالى، ومصائب التصنيع، ونكبات القطاع العام، واستعمار الاتحاد السوفيتى لمصر، والسفه فى مساندة حركات التحرير فى العالم العربى وإفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى آخره، ثم الصورة المخيفة التى رسمت لقضايا الحريات وبدت مصر فيها كأنها جزء لا يتجزأ من عصر النازى، وإن كانت هناك بالتأكيد تجاوزات فى استعمال السلطة، ولكن الذى تصدى لهذه التجاوزات كان هو الأهرام وليس أية صحيفة مصرية أخرى.
ويقول هيكل إنه هو الذى كتب عن زوار الفجر، وعن المجتمع المفتوح، وعن سيادة القانون، وعن مراكز القوى، وفى نقد قرارات الاعتقالات والحراسات والفصل - رغم أن بعضها كانت له دواعيه الاجتماعية - وكان الدكتور جمال العطيفى هو الذى كتب عن سيادة القانون، وكان الأستاذ توفيق الحكيم هو الذى كتب قصة بنك القلق عن المخابرات، وكان الأستاذ نجيب محفوظ هو الذى كتب ثرثرة فوق النيل عن الاتحاد الاشتراكى. ولم نكتب ذلك كله بعد أن انتهى العصر، بل كتبناه أثناء ذلك. ويضيف هيكل: وسوف أكون سعيداً إذا أبرز أى من هؤلاء الذين يتكلمون اليوم مقالاً كتبه ونشر.. أو مقالاً كتبه وحذفته الرقابة عن أى من هذه الموضوعات.
***
ويقول هيكل: لم أكن أريد أن أكون طرفاً فى شىء مما رأيته يهدر أمامى متدفقاً كحمم البركان، ولم يكن بى خوف على الحقيقة، وعزلت نفسى فى مكتبى فى بيتى، وركزت جهدى كله فى كتابة (الطريق إلى رمضان) وكان كتاباً عن مصر من أعقاب سنة 1967 إلى حرب أكتوبر 1973.
ومضت أيام وأسابيع.. ثم فوجئت بمجلة الحوادث اللبنانية - التى تصدر فى لبنان - تبدأ فى نشر سلسلة من التحقيقات عنوانها (ماذا فعل الطريد هيكل بالشريد على أمين؟).. كنت أعرف أن مجلة الحوادث فى ذلك الوقت تنطق بلسان جماعات معينة فى العالم العربى لها اتجاهات ومصالح وارتباطات لسبب واحد وهو أن صاحبها الأستاذ سليم اللوزى لقى مصرعه فى ظروف مأساوية تثير غضباً حقيقياً فى نفس أى إنسان. لكن بعض ما حوته السلسلة لفت نظرى، وكان واضحاً أن مصدره الأستاذ مصطفى أمين، مثل إننى كنت وراء قانون تنظيم الصحافة لكى أسيطر على المهنة، وإننى قمت بنفى على أمين إلى لندن، وإننى تخليت عن مصطفى أمين وعلى أمين بعد القضية ولم أقف معهما، وإننى كنت أزوره فى السجن لمجرد أن أتشفى فيه، وإننى وجدت عملاً فى الأهرام لابنته لكى أتظاهر أمام الناس لا أكثر ولا أقل. ثم زاد العيار مع قرب نهاية السلسلة فإذا أنا تواطأت على الأستاذين مصطفى وعلى أمين، وأنا الذى لفقت التهمة للأستاذ مصطفى أمين، وأنا الذى عارضت الإفراج عنه طول الوقت وآخره مع الرئيس السادات رغم أنه كان مقتنعاً طول الوقت ببراءة الأستاذ مصطفى أمين.
يقول هيكل: لم أغضب، ولكن الذى غضب وثار هو الأستاذ سعيد فريحة، وكان شاهداً على كل ما حدث، بل كان شريكاً فيه، فكتب فى الصفحة الأولى من صحيفة (الأنوار) تفاصيل ما رآه بعينه: دفاعى عن مصطفى أمين أمام جمال عبدالناصر وأمام أنور السادات، وذهابى إلى السجن ومعى الأدوية والفيتامينات وصناديق التفاح وعلب الدجاج، والمشاكل الكبرى التى تعرضت لها فى ذلك الوقت حتى كادت بعض الشبهات تلحق بى أنا الآخر..
واتهم سعيد فريحة بأنه ينافق هيكل، فكتب يقول: إننى أعرف مصطفى قبل أن أعرف هيكل بخمسة عشر عاماً، وإذا كان الأمر نفاقاً فلماذا أنافق رجلاً يلزم بيته ولا أنافق هؤلاء الذين يسيطرون على مواقع القوة والنفوذ؟. وأبلغنى الأستاذ سعيد فريحة أنه يضع إمكانات داره تحت تصرفى لكى أكتب الحقيقة التى كان شاهداً عليها. واعتذرت. وحينما جاء الأستاذ سعيد فريحة بعد ذلك فى زيارة للقاهرة سألنى: هل تتصور أنهم يؤكدون أن الرئيس السادات قال لهم إنك عارضت فى الإفراج عن مصطفى حين أخبرك به، ورويت له تفاصيل ما حدث، وإننى ناقشت الرئيس السادات فى توقيت الإفراج عن مصطفى لكيلا يبدو خروجه ضمن صفقة الإفراج عن جواسيس لأن هذا يسىء إليه مدى العمر إذ يثَّبت عليه التهمة نهائياً.
***
فى أواخر سنة 1974 والنصف الأول من 1975 توقفت الحملة، فقد عادت الصلات بين هيكل والسادات. وعاد يكتب خطب السادات ثم ساءت العلاقات مرة أخرى عندما رفض هيكل الدفاع عن اتفاق فك الاشتباك، وبدأت الحملة على هيكل مرة أخرى، وكان هيكل يكتب مقالات منتظمة تنشرها مجموعة من الصحف العربية خارج مصر. أولها سلسلة ظهرت فى كتاب عنوانها (لمصر لا لعبدالناصر) وسلسلة أخرى صدرت فى كتاب بعنوان (حديث المبادرة).
وبدأ الرئيس السادات يعد قانون العيب، وأطلق عليه بعض المستشارين المكلفين بمراجعته اسم (قانون هيكل). يقول هيكل: حاول الرئيس السادات أن يدفعنى إلى الهجرة من مصر، ولم أهاجر، بل إننى لم أسافر من مصر سنة كاملة حتى أكون تحت تصرف أى قانون حتى لو كان مفصلا من أجلى ورغم النذر التى أحاطت به طوال عام 1977.
***
كان هيكل فى زيارة إلى لندن فى أوائل شهر نوفمبر 1977 وأقيم له عشاء وداع بمناسبة انتهاء الزيارة حضرها عدد من المشتغلين بالسياسة والدبلوماسية والصحافة. وسأله (جوردون بروك شبرد) مدير تحرير صحيفة (صنداى تلجراف) إذا كان مصمما على العودة غدا إلى القاهرة، وكان رده بالإيجاب وقال له: لقد غبت عن وطنى منذ شهرين، وهذا أقصى ما أطيقه على الفراق، وكان رأى جوردون بروك شبرد أنه لا يجد ضرورة ملحة لذلك فى الوقت الراهن على الأقل لأن كل المعلومات من القاهرة عن هيكل تبعث على القلق، وهناك ضيق مما يكتبه وما يبديه من آراء، وهناك تحريض عليه وتربص به. ثم سأله جوردون بروك شبرد إذا كان يقبل الاحتكام إلى تصويت يقوم به الجمع من الأصدقاء الحاضرين وكلهم يعرفون الظروف، وقال هيكل: مع كل العرفان لأصدقائى فأنا أمام قضية لا يمكن الاحتكام فيها إلى غير مشاعرى وضميرى.. وماذا يتبقى من شجرة تخلع من تربتها؟.. لوح خشب! فقال له جوردون بروك: ولماذا لا تذهب إلى بلد عربى آخر.. ألست تعتبر نفسك قوميا عربيا؟ وتقول: إن أرض الأمة العربية كلها وطنك، وفى أى بلد عربى تتفق أفكاره مع أفكارك سوف تظل جذور الشجرة فى تربتها دون أن تتحول إلى لوح خشب. وقال هيكل: إن عالمنا العربى ما زال تحت تأثير المنطق القبلى، وما زال محكوما بالولاءات لأفراد.. ربما كانت تلك ظاهرة موجودة فى العالم كله، ولكن هناك اختلافا.. عندكم فى بريطانيا مثلا فى مواجهة قضية السلام والحرب التى كانت مطروحة سنة 1939، كان هناك فريق منكم مع نيفل تشمبرلين بالقول بالسلام بأى ثمن، وفريق آخر مع ونستون تشرشل بالحرب من أجل السلام. فى الدول المتقدمة الأفراد رموز لمواقف، أى أن العنصر الذاتى تعبير عن حالة موضوعية، وذلك لم يرسخ بعد فى عالمنا.. أنت مع هذا الفرد الحاكم أو أنت مع غيره، وأنت مع هذا أو مع غيره فى كل مواقفه حتى إن اصطدمت بعض مواقفه مع قناعاتك. أى أن الولاء ليس فرديا فقط، ولكنه إلى جانب ذلك ولاء مطلق، وهذا أكثر مما أطيق، فأنا أريد أن أكون موضوعيا ضمن قناعاتى، وذلك صعب، أو شبه مستحيل فى العالم العربى، وما دام الأمر كذلك فإن وطنى أولى بالبقاء فيه مهما تكن الظروف، خصوصا إذا كان هذا الوطن هو مصر.
ويقول هيكل: إننى لست متحمسا لدور اللاجئ السياسى، وربما يصلح لهذا الدور رجل يحترف السياسة فيختار اللجوء إلى خارج وطنه لبعض الوقت معتمدا على تنظيم يستند إليه داخل هذا الوطن، لكننى لست ذلك الرجل.. ليس هذا دورى.. ولا هو دور أريده.. إنما دورى الذى أريده هو دور صحفى لديه رؤية، وله رأى، وهذا هو كل شىء.
ولم يقتنع جوردون بروك بما قاله هيكل وسأله: وهل تستطيع أن تكتب؟. ورد هيكل: هناك حدود، وفى هذه الحدود أحاول، وأعرف أن ما أكتبه يحجب عن القارئ فى مصر. ومع ذلك يبقى الكلام فى مصر ومن مصر ضروريا.. لأنه تمسك بحق التعبير عن الرأى.. ولأنه إشارة أو رمز إلى أن الأفكار التى أؤمن بها ما زالت فى مصر شعلة أو حتى شمعة!
وسأله بروك: والمخاطر؟، ورد هيكل: المخاطر قائمة فى كل وقت وماثلة فى كل مكان فى العالم العربى، مع أن التقاليد الحضارية فى مصر يمكن أن توفر فى بعض الأحيان قدرا من الأمان لرأى مخالف أو مختلف، وهذا أصعب فى أى مكان فى العالم العربى خارج مصر..
وأشارت صحيفة صنداى تلجراف إلى هذا الحوار ضمن مقال كتبه هيكل بمناسبة التحقيق الذى جرى معه أمام المدعى الاشتراكى.
***
كان شبح الخطر يحوم حول هيكل فى سنتى 1976 و1977. ومع اشتداد الحملة عليه نشرت إحدى الصحف يوما ما يكاد يكون عريضة اتهام ضده ويكاد يكون حكما مسبقا عليه، وكان هناك قول صريح بأن هيكل سيحال إلى المدعى الاشتراكى فى ذلك اليوم، وكان مقرراً أن يلقى الرئيس السادات يومها خطابا فى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، وكان التلميح بأن الإحالة إلى المدعى الاشتراكى ستأتى ضمن ذلك الخطاب.. ولكن خطاب الرئيس السادات كان خلوا من هذا الوعيد، وبعد انتهاء الخطاب كتب هيكل رسالة للرئيس السادات من أربعة سطور وجه له فيها الشكر على أنه لم يستجب لحملات التحريض، يقول هيكل: لم تكن الإحالة إلى المدعى الاشتراكى هى الشبح الوحيد، إنما كانت هناك أشباح أخرى لا أريد أن أتعرض لذكرها احتراما لقيم كثيرة فى مصر، ولأنها كانت مدعاة لأحزان أرجو أن أنساها.
***
وعندما ذهب الرئيس السادات إلى القدس أبدى هيكل رأيه فيها، وفى شهر مايو 1978 ضاع اليمين فى مصر ممثلا فى حزب الوفد الجديد الذى لم يجد أمامه إلا أن يجمد نفسه، وحوصر اليسار ممثلا فى حزب التجمع، أما الوسط ممثلا فى حزب مصر الذى كانت له الأغلبية الحاكمة فقد اختفى، وتركته الأغلبية الحاكمة إلى ساحة أخرى جديدة، وكانت شهادة أقطاب الحزب الجديد أن عناصر فى حزب مصر كانت هى المسئولة عن النظرة البوليسية للعمل السياسى فى المرحلة السابقة، وكان تركيزها المبالغ فيه فى دعاوى الأمن لا هدف له غير تعويض العجز عن الفكر السياسى والعمل السياسى..
يقول هيكل: وسط هذه الضوضاء الشديدة جاءنى من يهمسون إلىَّ بأن دورى قد جاء، وأن بعض المواد التى طرحت فى الاستفتاء العام الذى أجرى وقتها موجهة إليه، وأن فى هذه المواد عبارات فصلت تفصيلا لكى تلبسنى.. ثم أشيع أن هناك قوائم بإحالات إلى المدعى الاشتراكى وأن اسمى وارد فيها، ولكن الخبر اليقين جاءه عن طريق بوب جوبيتر مراسل الإذاعة البريطانية فى القاهرة فقد اتصل به وسأله: ما هو تعليقك؟ قال هيكل: تعليقى على ماذا؟.
قال جوبيتر: ألم يبلغك أحد؟. لقد أذيع الآن قرار بمنعك من السفر انتظارا لتحقيق يجريه معك المدعى الاشتراكى.
يقول هيكل: لم يكن الأمر يحتاج إلى قرار يذاع فى الدنيا كلها.. كان يكفى أن يتصل بى أحد أفراد سكرتارية أى مسئول ليقول لى إن وجودى فى مصر مطلوب إلى حين إشعار آخر، وكان مؤكدا أننى سأمتثل راضيا.. ولقد كان أمامى منذ وقت طويل أن أقفل فمى وأسكت، أو أحزم حقائبى وأذهب، وذلك ما لم أفعله ولا أنوى فعله. ولست واحدا ممن يتسللون فى الليل قبل أن يواجهوا باستدعاء أمام أية جهة.
وذهب مراسل الإذاعة البريطانية إلى هيكل فكان رد هيكل بأنه مندهش لأن هذا الإجراء لا داعى له، ولم يكلف أحد خاطره بإبلاغه به وبحيثياته ودواعيه قبل إذاعته على العالم، وقال فى رده: إننى لم أفعل شيئا سوى إبداء وجهات نظرى فى قضايا مصيرية بالنسبة لوطنى وأمتى، وهذا حق لا يستطيع أحد أن يعترض سبيلى إليه، وقد مارسته فى ظل القانون وفى وضح النهار.. وهذا كل شىء.
***
قبل أن يصدر قرار إحالة هيكل إلى المدعى الاشتراكى أتذكر واقعتين. الأولى أن الأستاذ ممدوح طه رئيس قسم الأخبار فى الأهرام طلبنى وقال لى إن الأستاذ هيكل يريدك أن تتصل به. واتصلت به فقال لى: كيف أقدم إقرار الذمة المالية؟. هات لى هذا الإقرار وتعال. وذهبت إليه فى اليوم التالى- وكنت المختص بمتابعة أخبار وموضوعات وزارة العدل والهيئات القضائية- ومعى إقرار الذمة المالية، واستقبلنى الأستاذ هيكل فى صالون بيته وفى يده قلم وفى اليد الثانية نظارة القراءة وضعها وأشعل سيجارا وسألنى: قل لى ما هو المطلوب منى بالنسبة لقانون الكسب غير المشروع؟. قلت له: المطلوب بما أنك خرجت من الأهرام أن تكتب إقرارا بكل ما تملكه وما تملكه السيدة زوجتك وأولادك القُصَّر وتقدمه إلى شئون العاملين فى الأهرام وهذا كل شىء.. وسألنى بضعة أسئلة.. ثم قال: هات الإقرار.. وسجل فيه كل ما يملك هو وزوجته من أموال وأشياء لها قيمة، وطلب السيدة قرينته أن تأتى للتوقيع، وإعطائى الإقرار، بدورى سلمته إلى الأستاذ رشاد الحداد المسئول الإدارى فى الأهرام فى ذلك الوقت.. وعلمت بعد ذلك أنه كان ضمن الأفكار المطروحة تقديم هيكل للمحاكمة بتهمة الكسب غير المشروع ولكن تبين من البحث أنه ليس هناك مخالفة أو شبهة تبرر هذه الإحالة وأن النيابة سوف تجرى التحقيق وتقرر الحفظ لعدم الجدية.. ورجح ذلك فكرة إحالته إلى المدعى الاشتراكى لأن التحقيق أمامه يعتمد على الدلائل وليـس على الأدلـة، ولأنـه يقـدم من يتهمهم إلى محكمة القيم وهى محكمة فيها قضاة وشخصيات عامة ولا تملك سوى الحكم بمصادرة الأموال وتوقيع غرامات. والذين يقدمون أمامها هم دائما تجار المخدرات وتجار العملة وأمثالهم ممن يصعب تقديم أدلة يقينية تسمح بمحاكمتهم أمام محاكم الجنايات.
أما الواقعة الثانية قبل إحالة هيكل إلى المدعى الاشتراكى فقد طلبنى الأستاذ زكريا نيل، وكان قريب الصلة بعثمان أحمد عثمان، وكان عثمان أحمد عثمان صهر الرئيس السادات وصديقه ومن أقرب المشاركين معه فى الرأى. وكان تأثيره فى الأهرام عن طريق الأستاذين عبد الله البارى الذى كان رئيسا لمجلس إدارة الأهرام فى ذلك الوقت، وزكريا نيل الذى كان أحد ثلاثة تولوا إدارة تحرير الأهرام فى أعقاب وفاة الأستاذ على حمدى الجمال، وسألنى: إن الرئيس السادات قرر اعتقال الأستاذ هيكل، وهو يتوقع أن يواجه بأسئلة كثيرة من المراسلين الأجانب وشبكات التليفزيون العالمية، فما هى الأسئلة التى تتوقع أن توجه إليه؟. وما هى الإجابات المناسبة التى تتصورها؟. ووقفت أمامه مذهولا وقلت له: إذا حدث ذلك فستكون له ردود فعل واسعة، وسيعطى صورة سيئة عن نظام الحكم فى مصر، وإذا أردت رأيى فليس هذا هو الإجراء المناسب.. وبالنسبة للأسئلة فهناك سؤال واحد سوف يتكرر بصيغ مختلفة:لماذا تم اعتقال صحفى كبير معروف بأن له آراء تخالف آراء الرئيس؟.. وهل الرأى جريمة..؟ والإجابة عن هذا السؤال ستكون سهلة: ما دام الرئيس مقتنعا بهذا الإجراء ولديه أسباب لذلك فيكفى أن يذكر هذه الأسباب، وأنا طبعا لا أعرفها.
ونعود إلى رواية هيكل لما جرى بعد إحالته إلى المدعى الاشتراكى.
***
يقول هيكل: خرجت بعض الصحف بعناوين حمراء- أو لعلها صفراء- وبقوائم أسماء وضعتنى فى صحبة أسماء لم أتشرف من قبل بمعرفة معظمها، وكانوا قرابة أربعين، أكثر من ثلاثين منهم خارج مصر، والباقون كانوا فى مصر، وحتى هؤلاء كان بينهم من لم تقع عليه عينى حتى ذلك الوقت وحتى الآن. ونسبت إلىَّ تهم أعرف ويعرف الذين وجهوها أننى يقينا لم أقترفها. واقترح علىَّ البعض أن أرفض المثول أمام المدعى الاشتراكى، وكانت حجتهم أننى إذا كنت قد أتيت ديناً فقانون العقوبات موجود، والنيابة العامة وحدها مسئولة عنه.. ومن ناحية أخرى فإن المناخ كله مجاف لروح العدل.. وكان رأيى مختلفا بصرف النظر عن أى تحفظات فى الشكل والموضوع.. وكان اقتناعى أننى لن أمتنع عن التحقيق، بل على العكس سوف أتعجله.. وتوجه المستشار ممتاز نصار إلى مقابلة المدعى الاشتراكى الوزير أنور حبيب وقال له: إنه حاضر معى فى التحقيق بوصفه محامىَّ، ونحن نرجو تحديد أقرب موعد للمثول أمامك. وتحدد بالفعل موعد الجلسة الأولى. الأربعاء 14 يونيو 1978.
يقول هيكل: إن اختصاص المدعى الاشتراكى اتسع لأول مرة ليشمل قضايا الرأى، وحرية الرأى يكفلها الدستور. ولست أعرف- ولا أظن أن غيرى يعرف- شيئا اسمه (التحقيق السياسى). قد يكون التحقيق السياسى جائزا داخل تنظيم سياسى واحد يرى فى تصرف أحد أعضائه خروجا على مبادئه، فيكون التحقيق السياسى لبحث أمر التزامه أو خروجه على مبادئ الحزب وتقرير بقائه أو فصله.. وأنا لا أنتمى إلى أى تنظيم سياسى.. من أين إذن يمكن أن تطولنى مسألة التحقيق السياسى؟.
ويقـول: لقـد تأكد للكـل أننـا لسنا أمام إجراءات قانون، إنما نحن أمام إجراءات سياسية اتخذت من القانون برقعا، والخلط بين ما هو قانون وما هو سياسة خطير..
وذهب هيكل إلى جلسة التحقيق الأولى يوم الأربعاء 14 يونيو 1978 الساعة العاشرة صباحا. وكان خارج مكتب المدعى الاشتراكى جمع من مراسلى الصحف ووكالات الأنباء العالمية. واكتفى بأن قال لهم: ابتداء من الآن لم يعد من حقى أن أقول شيئا، فالمدعى الاشتراكى وحده يملك أن يقول ما يريد.
وتولى المدعى الاشتراكى بنفسه التحقيق ومعه المحامى العام المستشار عبد الرحيم نافع، وإلى يمينه المحامى العام المستشار أحمد سمير سامى، وحضر الأستاذ ممتاز نصار بصفته المحامى عن هيكل كما حضر الأستاذ حسن الشرقاوى سكرتير نقابة الصحفيين الذى حضر الجلسات وفقا لقانون النقابة.
يقول هيكل: كان الجو وديا منذ أول لحظة فى التحقيق إلى آخر لحظة.. وكانت هيئة التحقيق تريد أن تقوم بالمهمة الموكول إليها فى جو يسوده احترام متبادل.. ومع فنجان قهوة قال المدعى الاشتراكى إنه سوف يسأله عن بعض ما كتب، وقد تمتد الأسئلة إلى مواضيع أخرى لا تتصل بما كتب، وله مطلق الحرية للإجابة كما يشاء عن أى سؤال يوجه إليه، ولمزيد من الدقة فإنه يقترح أن يقوم هيكل بإملاء ما يرى إثباته نصا من إجاباته فى سجلات التحقيق. وقال إنه لا يعرف متى تنتهى فهناك أسئلة كثيرة..
وقال هيكل للمدعى الاشتراكى إنه تحت تصرفه..
***
استغرق التحقيق عشر جلسات.. أربع جلسات فى يونيو.. وخمس جلسات فى يوليو.. وجلسة ختامية فى أول أغسطس. وكان متوسط مدة الجلسات ثلاث ساعات.. أى أن التحقيق استغرق ثلاثين ساعة بين سؤال وجواب. ويقول هيكل: أشهد أن الفرصة أتيحت لى أن أقول ما أريد من إجابات. وكانت هناك أسئلة تحفظت على صيغتها وسجلت تحفظى، وكانت لى إجابات طويلة عن بعض الأسئلة لم يحاول أحد اعتراضها. وفى ختام الجلسة الأخيرة سألنى المدعى الاشتراكى: هل لديك أقوال أخرى؟ وقلت: نعم ورحت أملى تعقيبا ختاميا على التحقيق دام لأكثر من ساعة كاملة حاولت فيها أن ألخص رأيى فى الموضوع كله بطريقة سريعة ومركزة.. وتبادلنا عبارات مجاملة وتحية، ثم قلت للمدعى الاشتراكى إن لدىَّ عنده طلبين أرجو أن يكونا داخل حدود القانون، الطلب الأول أن أحصل على صورة كاملة من سجلات التحقيق، وقال المدعى الاشتراكى إن هذا من حقى، وإنه سوف يطلب من سكرتاريته تصوير كل صفحة من صفحات التحقيق لتسليمها إلىَّ، وإنه يرجو أن يتم ذلك فى ظرف أسبوع.. والطلب الثانى أن يخطرنى فى أسرع وقت مناسب له بما يراه بالنسبة لإمكانية سفرى إلى لندن لمدة أسبوعين فى شهر نوفمبر، لأن لدىَّ كتابا سوف يظهر فى السوق العالمية فى هذا الوقت فى لندن، وستبدأ جريدة صنداى تايمز فى نشر حلقات مسلسلة منه فى ذلك الوقت، وهناك إلحاح من الناشرين أن أحضر معهم احتفالات ظهور هذا الكتاب. وقلت: إننى أتفهم الظروف، ولذلك لا أطلب منه تصريحا بالسفر، إنما أطلب منه مجرد إخطارى هل أستطيع أو لا أستطيع السفر، حتى أتمكن فى موعد ملائم أن أخطر الذين ينتظرونى فى لندن، أو أخطرهم أن الظروف مازالت تحول بينى وبين السفر، وقال لى المدعى الاشتراكى: إنه سوف يخطرنى بالقرار فى مسألة السفر فى بحر أيام، أو أسبوع.
وفوجئت فى اليوم التالى- 2 أغسطس 1978- بصحف الصباح فى القاهرة تنشر أن التحقيق معى تأجل لأجل غير مسمى أو لموعد يحدد فيما بعد، وكان ذلك شيئا مختلفا كل الاختلاف عن الحقيقة.
وكتبت خطابا إلى المدعى الاشتراكى رجوت فيه محامىَّ أن يتفضل فيحمله بنفسه إلى مكتب المدعى الاشتراكى ويستوضح منه سبب التباين بين الحقيقة وبين الصورة التى أوردتها الصحف.. وعاد إلىَّ المحامى يقول إنه قابل المدعى الاشتراكى بنفسه وسلمه الخطاب، وأن الحقيقة هى ما نعرفه، وأما ما نشر عنها فقد تسبب فيه لبس غير مقصود.
يقول هيكل: ومضت الأيام، والأسابيع، والشهور، ولم أتسلم الصورة الرسمية المعتمدة للتحقيق التى طلبتها، وكان الأستاذ ممتاز نصار يسجل كل ما يدور فى الجلسات الأربع التى حضرها، ومنعه بعد ذلك مرض طارئ من الحضور، فأناب عنه المستشار إبراهيم ذكرى الذى واصل نفس الأسلوب فى تسجيل وقائع الجلسات الست، وكنت أعود إلى مكتبى بعـد كل جلسة فأنقطـع لإعـادة بنـاء وتسجيـل كـل مـا جرى فيها، وأردت التزاما للدقة أن أقوم بعملية مراجعة فاستأذنت الأستاذ حسنى الشرقاوى سكرتير نقابة الصحفيين أن يسمح لى بالاطلاع على أوراقه التى كان يسجل فيها هو الآخر نصوص التحقيق.
ولم يصدر قرار بالتصرف فى التحقيق.
ملحوظة: علمت بعد ذلك أنه كان هناك اقتراح بفرض الحراسة على هيكل بقرار من المدعى الاشتراكى ولكن تم استبعاد هذا التصرف، ربما لأنه سوف تستتبعه إحالة هيكل إلى محكمة القيم وأمام المحكمة ستكون فرصته ليقول ما يشاء وتنقل أقواله الصحف والإذاعات وشبكات التليفزيون، ولم يكن هناك حاجة إلى مضاعفة الضجة التى أحدثها قرار إحالته للتحقيق.
***
وقرر هيكل نشر محاضر التحقيق كاملة فى كتابه (وقائع تحقيق سياسى أمام المدعى الاشتراكى فى مصر).
كانت تهمة هيكل أنه أساء إلى سمعة مصر خارجها بالإدلاء بأحاديث إلى بعض الصحف العربية والأجنبية ونشرت خارج مصر فى أيام لم يكن مسموحاً له أن ينشر داخلها. وبسبب هذه التهمة تم سحب جواز سفره، وسرت شائعات بأنه يقيم خارج مصر ولم يكن ذلك صحيحاً، وقاد الرئيس السادات بنفسه حملة هجوم على هيكل وصلت أحياناً إلى التلميح بالخيانة العظمى. وظن البعض أن هيكل يتعرض لكل هذا الهجوم ويبقى فى مصر فلابد أنه يملك من الأوراق والمستندات ما يعطيه حصانة تردع هذه المستويات العليا، ويقول هيكل: لم يكن ذلك صحيحاً. والصحيح فيما أظن أنه كان هناك تحسب من ردود فعل خارج مصر خصوصاً فى أوروبا وأمريكا حيث كانت تنشر كتاباته الممنوعة.
يقول هيكل: عقب إبعادى عن الأهرام نصحنى المهندس سيد مرعى، والسيد إسماعيل فهمى، والسيد أشرف مروان، وغيرهم بأن أنفذ قرار الرئيس وأتسلم العمل مستشاراً له فى قصر عابدين.. وبعد أسابيع بدأت محاولات إقناعى بالود أن أبتعد عن مصر ولو لشهور قليلة، وعرض علىَّ فى تلك الأيام منصب السفير المصرى فى لندن، وقال لى الشخص الذى حاول إقناعى بالقبول: إن العلاقات بينى وبين الرئيس السادات عائدة إلى مجاريها فى يوم من الأيام، والمشكلة هى عنادى، وأننى أضع (رأسى برأسه) وكان رد هيكل: أنه يعرف أن هناك حدوداً لابد من احترامها، وأن رؤية هذه الحدود واحترامها ليس معناه الوقوف أمامها بالعجز أو الخضوع بالتسليم. وقيل لى إن الرئيس يعتقد أننى أريد أن أفرض عليه آرائى، وقلت: إننى لا أعرف كيف يستطيع صحفى لا يملك غير قلمه أن يفرض على رئيس الدولة رأياً!. إن القلم ليس جيشاً، ولا بوليساً، ولا حزباً، ولا تنظيماً حتى يستطيع أن يرغم رئيس دولة على أن يقبل كرهاً بما لم يكن مستعداً للقبول به طوعاً. وتمسك الوسيط بفكرة سفارة لندن، وقال لهيكل: لك فى لندن أصدقاء كثيرون، والناشرون لكتبك هناك.. وتستطيع أن تختار معك وزيراً مفوضاً يحمل عنك عبء الأعمال الرسمية والاستقبالات والذهاب إلى المطارات.. المهم كانت المحاولة لإبعادى عن مصر فى ذلك الوقت ودية، ولكن كان هناك آخرون- فى ذلك الوقت- وجدوها فرصة، وكان بينهم من حاول بوسائل متعددة- منها التخويف- أن يقنعنى بالخروج، ولم تكن كل هذه الوسائل مجدية لأننى أعتقد أن حياتى هنا!
ويقول هيكل: لقد قلت للرئيس السادات من قبل إننى لن أتوقف عن الكتابة وإبداء رأيى فى صحف خارج مصر تريد أن تنشر ما أكتب، وأتمنى ألا يتسبب ذلك فى صدام أو صراع لا سمح الله، مع العلم بأننى فيما سوف أكتبه سأظل ملتزماً بالموضوعية وبما أراه محققاً للصالح العام من منظورى الخاص. قلت ذلك فى شهر نوفمبر 1974 بعد قطيعة شهور بعد خروجى من الأهرام.
وكان رد السادات ودياً وقال:
- هنا حقك وأنا لا أعترض حق أحد.
ويقول هيكل: رحت بعد هذا اللقاء أكتب وأتحدث عن مصر، وكنت أعتبر أن هذه شهادة للنظام، فهذا هو معارض لسياساته يبدى رأيه من داخل سلطته، وكنت فخوراً بذلك معيدا ومزيدا بأن هذه الظاهرة الحضارية لا يمكن أن تحدث فى العالم العربى إلا فى مصر. وظللت على اعتقاد بأن بقائى فى مصر وتحت سلطة نظامها يعطى مصداقية لما أقول كتابة وكلاماً، فالقول لابد أن يكون مسئولاً لأنه ليس فقط فى ظل القانون وإنما أيضاً فى مطال السلطة. ومن ناحية ثالثة تصورت أن قولاً يصدر من مصر، ومن منطلق قومى، وخلافاً مع سياسة رسمية ضيقت على نفسها- ولا أقول الآن أكثر- يمكن أن يصلح كرسالة موجهة إلى العالم العربى بأن مصر كلها لم تتغير، ولم تنقلب بين يوم وليلة من النقيض إلى النقيض، وظننت أن ذلك قد يكون نافعاً.
يقول هيكل: كان الاتهام الموجه إلىَّ وبدون تفاصيل أو أسانيد هو أننى بما كتبت وقلت خارج مصر أسأت إليها، ولهذا وجب الحساب والعقاب! وطوال الوقت كان مناى أن ينشر فى مصر شىء مما قيل إننى أسأت به إلى سمعتها لكى يحكم الناس، وظننت أن الأيام كفيلة بأن تضع كل أمر فى نصابه، وترد كل حق إلى موضعه.
يقول هيكل: فى تلك الفترة صال وجال كثيرون- أسميهم فى العادة (فرسان الساحات الخالية)- هؤلاء الذين يرمحون فى ميادين يعرفون مقدماً أنه ليس فيها (عدو) وبالتالى ليس فيها قتال. ولم أرد إلا مرتين بالعدد. مرة حين نشرت إحدى الصحف عنواناً رئيسياً فى صفحتها الأولى تعليقاً على رأى أبديته خارج مصر بمعارضة رحلة القدس قالت فيه بالحرف (واحد ضد مصر) وكان ردى على ذلك كلمة واحدة فى نهاية مقال نشر أيضاً خارج مصر جاء فيها (بل واحد من مصر). وفى المرة الثانية كان ردى كتاباً عنوانه (بين الصحافة والسياسة) وهو يحكى بنفسه قصة لا أريد أن أعود إليها، لأن القصة فى حد ذاتها مؤلمة وحزينة، وقد كنت أفضل أن أكتم تفاصيلها فى نفسى، ولكن أصحابها لسوء الحظ لم يتركوا لى خيــــاراً غير أن أروى الحقيقة كاملة وبوثائقها.
***
ويقول هيكل: من الحق أن أعترف أن صحف المعارضة فى مصر- وبالتحديد الأهالى والشعب- حاولت ما استطاعت أن تصلنى بالقارئ المصرى، لكن صحافة المعارضة مظلومة، فوسائلها محدودة، ومجال حركتها مقيد، ومن ناحية أخرى كنت أشعر أن المساحات التى تخصصها هذه الصحف أحياناً لما أقول هى عملية خصم من حقوق أحزابها وكتابها الذين هم أصحاب الحق قبل غيرهم فى مساحات صفحاتها. ثم تحول شعاع الضوء إلى نافذة تفتحت كاملة للشمس من حيث لم أحتسب وهذه مفارقة غريبة، فقد كانت النافذة هى جريدة (أخبار اليوم) ورئيس تحريرها الأستاذ إبراهيم سعدة، ولابد أن أعترف له أننى تشككت فى نواياه حينما زارنى فى مكتبى فى أواخر سنة 1985 ليقول لى إن صفحات أخبار اليوم مفتوحة أمامى إذا أردت. وكان مبعث تشككى هو اختلاف آرائنا وتوجهاتنا، وربما من هنا فإننى وضعت عرضة موضع الاختبار العملى، وأشـهد أنه كان عند وعـده، وتحمل بسببه راضياً ما جعلنـى اعتبـره صديقاً يتحتم علىَّ أن أعفيه من مآزق قـادته إليها جرأته، لأن ما كتبته أغضب أكثر مما أرضى.
***
وجمع هيكل أحاديثه التى أدلى بها إلى صحف فى العالم العربى ودول أوروبا فى كتاب بعنوان (أحاديث فى العاصفة) وهى الأحاديث التى اتهم بسببها أنه أساء إلى مصر.
ولكنه فى فترة الحظر نشر عدة كتب باللغة الإنجليزية، وترجمت إلى عشرات اللغات بينها اللغة العربية، منها (وثائق القاهرة) و(الطريق إلى رمضان) و(القوميسار وأبو الهول) و(عودة آية الله) و(خريف الغضب) و(ملفات السويس) إلى آخره. وكتب مقالات بلغات أجنبية نشرت فى صحف مثل التيمس، والصنداى تيمس، ونيويورك تايمز - وهذه لم تترجم بعد إلى اللغة العربية، وألقى محاضرات فى جامعات عالمية مثل جامعة أوكسفورد، وألقى محاضرات فى محافل دولية مثل اليونسكو ولم تترجم أيضاً إلى اللغة العربية.
أما الأحاديث الصحفية التى أدلى بها خارج مصر وبالذات صحف العالم العربى، فقد طلب من الأستاذ فهمى هويدى أن يتولى اختيار الأحاديث التى ضمها كتاب (أحاديث فى العاصفة) بين كم هائل جمعته دار الشروق التى تولت طبع الكتاب.
***
كان هيكل يعلم أنه سـوف يتعرض للتحقيق أمـام المدعى الاشـتراكى لأن أخبـار ما يجرى فى مصر وصلت إليه خلال الأسابيع التى قضاها فى لندن.. كان فى لندن يسجل حلقات للتليفزيون البريطانى عن التاريخ الحديث للشرق الأوسط، وألقى محاضرة فى جامعة أوكسفورد وهى المحاضرة السياسية السنوية، وكان الموضوع الذى حدده مجلس أمناء الجامعة لهذه المحاضرة هو (مشاكل السلام) وكان هو أول متحدث من العالم الثالث يدعى لإلقاء المحاضرة السنوية لجامعة أوكسفورد. وأجرى لقاءات مع عدد من المفكرين والسياسيين البريطانيين الذين كان لهم دور فى التاريخ العربى المعاصر. وأثناء ذلك نشرت صحيفة ديلى تلجراف خبرا يقول: إن هيكل يشارك فى تأسيس حزب سياسى جديد يحمل اسم جمال عبدالناصر، واتصل على الفور بمدير تحرير الصحيفة وطلب إليه تصحيح الخبر لأنه غير صحيح، وقال له إن الصحفى قد يكتب فى الاقتصاد أو الفن أو الحرب ولكن ذلك لا يجعله مضاربا فى البورصة، أو ممثلا على الشاشة، أو جنرالا فى القتال، والصحفى الذى يكتب فى السياسة قد يتخذ موقفا ولكنه فى ذلك يختلف عن السياسى المحترف، فالصحفى السياسى يعتبر الموقف والدفاع عنه غاية، بينما السياسى المحترف يعتبر أن الغاية هى السلطة لتنفيذ ما يعتقد فيه.
***
بعد أيام وجد فى نشرة استماع صادرة عن هيئة الإذاعة البريطانية ملخصا للاتهامات الموجهة إليه فى صحف القاهرة. منها أنه كان مصدر المعلومات فى مقالات كتبها الصحفى البريطانى ديفيد هيرست فى جريدة الجارديان سنة 1972 عن الفساد فى مصر. وقال هيكل إن ديفيد هيرست كتب هذه المقالات سنة 1972 ولم يكن هيكل قد قابله، ولم يقابله إلا فى سنة 1975 ، وأنه قابل ديفيد هيرست مرتين فى صيف 1975 ليعرف رأيه فى اتفاقية فض الاشتباك الثانية ونشر الرأى منسوبا إلى هيكل، وكان ديفيد هيرست تحت الرقابة، وكذلك كان هيكل ولو كان قد حدث لقاء بينهما فى عام 1972 لكان ذلك مسجلا. وقال هيكل: لست أنا الذى يلتقى بمراسل أجنبى ليقدم له معلومات..ولكنى أقابل كثيرين يسألوننى عن رأيى، وذكر هيكل عبارة قالها أنتونى ناتنج وزير الدولة الأسبق للشئون الخارجية فى وزارة أيدن خلال برنامج عن هيكل أخرجته هيئة الإذاعـة البريطانية وبثته يوم 14 ديسمبر 1978 فى سلسلة (صور شخصية) وفى هذا البرنامج سئل انتونى ناتنج عن تقييمه لى فترة اقترابه من القمة فى مصر وفترة ابتعاده عنها، فقال: (عندما كان قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرف.. وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى معرفة ما يفكر فيه.
وقيل لهيكل بعد نشر التصحيح فى ديلى تلجراف لماذا تقطع بهذا الحسم فقد يكون واردا غدا أو بعد غد أن تشارك فى حزب، وكانت إجابته: كل ميسر لما خلق له، وأنا أعرف حدودى وألزمها.. والكاتب الصحفى بالطبيعة لا يستطيع غير أن يكون مستقلا، والاستقلال لا يعنى التحرر من الالتزام، لكن الالتزام مع الاستقلال يكون التزاما بفكرة وليس التزاما بفرد أو بتنظيم، وعلاقتى بجمال عبدالناصر كانت علاقة حوار.. وهناك جانب عام.. أننى أظن أن الأحزاب فى العالم الثالث- وفى مرحلة الانتقال التى يعيشها هذا العالم الثالث - مجرد أشكال، حزب الأغلبية هو حزب السلطة دائما.. أى أن السلطة هى التى تصنع الأغلبية، وليست الأغلبية التى تصنع السلطة، وتجربة مصر شاهد على ذلك، فقد كان رجال هيئة التحرير هم رجال الاتحاد القومى هم رجال الاتحاد الاشتراكى هم رجال حزب مصر.. نفس الرجال.. هم الذين قالوا بالقومية ثم قالوا بالفرعونية، وأيدوا الاشتراكية ثم تسابقوا على الانفتاح، و قالوا لا تفاوض ولا اعتراف ولا صلح مع إسرائيل ثم قالوا بالتفاوض والاعتراف والصلح.. هل تغيروا.. لا.. ولكن السلطة تغيرت، أما أحزاب الأقلية فلا يتبقى منها إلا الأحزاب التى تستند إلى قواعد عقائدية أو دينية، وغالبا ما تكون لهذه الأحزاب امتدادات نشاط تحت الأرض يكون هو نفسه خط مقاومتها الحقيقية.
وفى لندن قيل لهيكل لماذا لا تبقى هنا وتكتب بحرية.. وكان رأيه أن هناك فرقا بين الحرية والهرب.. والكلمة الحرة تستمد قيمتها من استعداد صاحبها لتحمل مسئوليتها، وحين لا تكون هناك مسئولية لن تكون هناك حرية.. فالكلمة فى مأمن رخيصة.. والكلمة تحت الخطر غالية.. والمشكلة أن الذين يريدون إبداء آرائهم من بعيد أو القيام بنشاط سياسى فى (المهجر) يحتاجون إلى سند وإلى دعم، ولكن أين الحدود الفاصلة لإنسان اختار المهجر لنشاطه الفكرى والسياسى بين أن يعمل لحسـاب قضية، أو يعمل لحساب طرف.. ولست سعيدا ببعض ما أراه فى المهجر السياسى المصرى، ولا أريد أن أضع نفسى فيه.
ومن المهم فى هذه الظروف أن تظل هناك آراء تؤمن بانتماء والتزام مصر العربى، وأن تكون هذه الآراء صادرة عن المصريين داخل مصر وليس من مصريين خارج مصر.
***
فى كتاب له بعنوان (حديث المبادرة) صدر فى مايو 1978 يقول : كنت أقرأ ما يكتب فى الهجوم علىَّ واكتفى بالتعرف على اتجاهاتها دون أن أدقق فى النصوص، كنت أطل على العناوين، وأمر بعينى على السطور، و أتطلع إلى أسماء الكتاب وبينهم من كانوا- وبعضهم مازالوا- فى موضع القرب والود منى- ثم اعزى نفسى ببيتين من الشعر:
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعـــزة من أعراضنا مـا استحلت
يكلفها الغيران شتمى ومــا بها هوانى ولكن للمليك استذلت
ويقول : كنت أتفهم وأعذر وليس لرجل اختار لنفسه أن يطلب من الآخرين اعتماد موقفه، فلكل رجل أولوياته، وحتى حساباته، وذلك حقه. واعترف أننى أحسست بالوجع مرة واحدة، حين وجدت عنوانا رئيسيا على الصفحة الأولى من جريدة الأخبار موضوعه عنى، وكان العنوان من كلمة واحدة (الكذاب) والذى حدث أن أصغر أبنائى وهو يومها فى التاسعة من عمره مر علىَّ- كما تعود كل صباح- وهو فى طريقه إلى المدرسة، وخطر ببالى أن أدارى الجريدة حتى لا يرى ما رأيت، ثم عدلت عن المحاولة.
وجاء الصبى إلى جوارى وكانت تحيته فى الصباح ندية وحلوة، ثم وقع نظره على مجموع الصحف ولمح بسرعة ما كنت أتمنى أن أخفيه، وراح يقرأ، ولم اعترضه، وقرأ الصبى ثم تطلع إلىَّ وفى عينيه حيرة لا يعرف كيف يداريها ولا يعرف كيف يعبر عنها، ثم تحولت الحيرة إلى نظرة امتزج فيها الحزن بالغضب، وبادرته بأنى لست متضايقا ولا أريده أن يتضايق، ثم قلت له: ذات يوم سوف أجلس إليك وأحدثك عما نحن فيه الآن لكننى فى هذه اللحظة أرجوك ألا تشغل بالك بشىء غير درسك. ووقف الصبى أمامى وغامت عيناه بدمعة، وأحسست بالعجز عن أى قول أو فعل، وكان الصبى رائعا، فقد اختصر الموقف بفطرة البراءة فيه، وأمسك برأسى يقبلها.. ومضى صامتا.
.. .. .. .. .. ..
ونقلب الصفحات..
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف