هيكل والسادات.. تقارب مصالح.. وصدام أقدار
لم تكن عـلاقة هيكل والسـادات مثـل عــلاقة جمـال عبدالناصر.. كانت علاقة هيكل بعبدالناصر مستقرة، وبينهما تفاهم وتوافق روحى وفكرى، علاقة صداقة وعمل ومشاركة فى التفكير. وكان اقتراب هيكل الشديد من عبدالناصر سببا فى متاعب لهما معا، كان نواب رئيس الجمهورية والوزراء والحاشية يخفون فى داخلهم مشاعر الغيرة، وربما الحسد، لانفراد هيكل بهذه المكانة الخاصة. كما كان زملاء هيكل يحملون له مشاعر الحقد ويحاولون الكيد له كل بقدر ما يستطيع:
تقول هدى جمال عبدالناصر فى مقال فى صحيفة السفير اللبنانية فى 23 سبتمبر 2003 كتبته بمناسبة اعتزال هيكل بعنوان (الوفى لجمال عبدالناصر).. وعيت عليه منذ كنت طفلة صغيرة قريبا من والدى، تربطه به علاقة من نوع خاص.. عمل وصداقة فى الوقت ذاته، فكثيرا ما كنت أدخل على والدى فى حجرة نومه أو فى مكتبه فأفهم أن هيكل على خط التليفون، وقد كانت حواراتهما ممتعة، فهو وإن كان مصدرا أمينا للأخبار السياسية والاجتماعية إلا أن تعليقاته اللماحة واللاذعة أحيانا كانت مثار أحاديث كثيرة فى أسرتنا، ولقد تعودنا على مكالمات الأستاذ هيكل التليفونية فى أوقات غير عادية لينقل إلى والدى خبرا مهما أو يستطلع رأيه فى مسألة عاجلة، فكم من مرة توقف عرض الفيلم فى منزلنا لأن ورقة دخلت إلى والدى تنبهه بأن الأستاذ هيكل يريد الاتصال به فورا، وكم من مرة تركنا والدى فى حديقة منزلنا لكى يرد على مكالماته الطويلة.
وعندما كنا نسأله متى سيكتب مذكراته يقول: هيكل سوف يكتبها..!
وتصف هدى عبدالناصر هذه العلاقة فتقول: كان الأستاذ هيكل يتحاور مع والدى فى موضوعات شتى، وأحيانا يدعم أحاديثه بأبيات من الشعر، وأتذكر أننى دخلت يوما على والدى فى حجرة نومه فوجدته على الخط مع الأستاذ هيكل، وكان يضحك عاليا، ثم علمت أنه كان يتلو عليه أبياتا من شعر كامل الشناوى دونها والدى أمامى تعليقا على تعيينات على مستويات عليا فى السلطة تقول:
دعمتها بالواهنين وصنتها بالضـائعين لكى تطيل بقـاءها
إن كان هذا للبقـاء فيا ترى ما كنت تفعل لو أردت فناءها
وتقول: أما زيارات الأستاذ هيكل إلى والدى فقد كانت زيارات عمل بالدرجة الأولى فى مكتبه أو فى حجرة صالون منزلنا، وكنا نعرف أنه موجود عندما يمتلئ مدخل المنزل برائحة السيجار الذى كان يدخنه باستمرار.. وكانت مناقشات والدى مع الأستاذ هيكل حول هذه المقالات أو حول الموضوعات التى تثيرها مثار جذب لى.. وخاصة تلك التى كانت تنتقد النظام أو تتناول ظواهر سلبية فى المجتمع المصرى آنذاك.
***
وفى (السفير) أيضا فى نفس العدد 23 سبتمبر 2003 كتب الدكتور حازم الببلاوى مقالا عن هيكل بعنوان (العلاقات الملتبسة بالسلطة والناصرية) قال فيه إن الأستاذ هيكل وقت عبدالناصر كان صحفيا، ولكنه كان أكثر من ذلك فقد كان جزءا من السلطة، أو قل جزءا من (عقل السلطة)، وكان المفهوم أن الإعلام جزء من أدوات الدولة للحكم، وقد نجح الأستاذ هيكل فى خلق وضع ملتبس ومبهم حول علاقته بالسلطة، فقد احتفظ دائما بقدر من المسافة والاستقلال عن السلطة مما سمح له فى بعض الأحيان بانتقادها كما فعل عند مناقشة زوار الفجر، ولكنه حرص فى نفس الوقت على إعطاء الانطباع بأنه المعبر الرسمى عن آراء عبدالناصر، وهو انطباع أكدته الأحداث، حيث كانت مقالات هيكل (بصراحة) إما معلنة عن التوجهات القادمة، أو مفسرة للسياسات القائمة، ويرجع نجاح هيكل إلى أنه لم يقتصر على نقل أفكار الزعيم بل إنه كان يضعها فى إطار من التحليل السياسى المستند إلى الوقائع والأحداث التاريخية، وهكذا أضاف إلى الكتابات الصحفية السياسية قدرا من العقلانية والموضوعية ولم يقتصر مثل الكثيرين على إطلاق الشعارات الطنَّانة والإثارة العاطفية، فهو كاتب يخدم قضية ونظاما، وهو الذى كرَّس تعبير النكسة فى الأذهان.. والأكيد أن هيكل لم يكن من (دراويش الناصرية) وإن كان يمكن أن يكون من قديسيها أو آبائها المؤسسين، وكان من الصعب فى أحيان كثيرة معرفة أين الأصل وأين الصورة بين كتابات هيكل وخطب عبدالناصر، وإذا كان من الصعب تحديد دور هيكل فى بلورة أفكار عبدالناصر فإن طبيعة العلاقة الشخصية بينهما لا تقل غرابة، فهى علاقة استمرت لفترة طويلة، حيث شغل مكانا متميزا لدى عبدالناصر، فهو أثيره وصديقه ومستشاره، وإن كان ذلك لم يمنع من تعرضه أحيانا لمضايقات أجهزة المخابرات، بسبب هذه العلاقة المتميزة والطويلة بين الصحفى والحاكم، فعبدالناصر كانت له علاقات كثيرة قليل منها استمر حتى النهاية، قد تساقط الواحد منها بعد الآخر فى رحلة الثورة، ولم يكد ينجو من مسلسل هذا التساقط سوى أنور السادات، وحسين الشافعى، ومحمد حسنين هيكل.
***
كان هيكل أكثر من صحفى وأكثر من سياسى بل وأكثر من صديق لعبدالناصر، والحكايات كثيرة جدا تؤكد أنه كان شريكا فى صنع السياسة. وكمثال على ذلك ماحدث أثناء زيارة عبدالناصر لموسكو لطلب صواريخ أرض جو كسلاح رادع للطيران الإسرائيلى الذى كان يضرب فى العمق، وافق بريجنيف على تزويد الجيش المصرى بالصواريخ واشترط عدم الإعلان عـن الصفقة، والتفت بريجنيف نحـو هيكل وقال له عبر المترجم: مـا هو رأى البروبوجندست؟ (ومعناها بالروسية الصحفى) هل يمكن إخفاء المعلومات عن العملية عن وكالات الأنباء والصحف الغربية؟ فأجاب هيكل:لا..من المتعذر إبقاء هذه الصفقة سرية والأقمار الأمريكية ستلتقط صور الصواريخ المنقولة فوق ظهر البواخر، أو حتى بعد تثبيتها فى الأرض، وكان هذا الجواب كافيا لإثارة اعتراض بريجنيف ولحرصه على عدم إثارة الأمريكيين، ولم يغضب عبدالناصر من هيكل أو يتهمه بأنه أفسد الصفقة، ولكنه اقترح أن يختار بريجنيف شخصية روسية تجتمع مع هيكل للاتفاق على صيغة مقبولة تحمى صفقة الصواريخ من حملات التشويش التى ستشنها إسرائيل وأمريكا، ووقع اختيار القيادة السوفيتية على اندروبوف رئيس المخابرات الروسية (كى. جى. بى) واجتمع مع هيكل وتوصلا إلى حل هو الإعلان عن الصفقة بأقل من حجمها الحقيقى.. وهكذا كان مكان هيكل فى قلب الأحداث البالغة السرية والمتعلقة بالأمن القومى.
والدور السياسى الذى لعبه هيكل وقت عبدالناصر كان فى بعض الأحيان أكبر من دور نواب رئيس الجمهورية والمستشارين والوزراء، هيكل هو الذى قدم ياسر عرفات إلى عبدالناصر بعد نكسة 1967 وأقنع عبدالناصر بتقديم الدعم لمنظمة فتح وقال عبدالناصر لعرفات: أريد رصاصة فلسطينية واحدة كل يوم يدوى صوتها فى الأرض المحتلة. وفى أغسطس 1968 اقترح هيكل على عبدالناصر أن يأخذ عرفات معه إلى موسكو لتقديمه إلى القادة السوفيت، وفى هذه الزيارة حصل عرفات على بعض الأسلحة السوفيتية ومنها مدافع مضادة للطائرات.
وفى هذا العدد من السفير كتب فؤاد مطر مقالا بعنوان (خواطر من الذاكرة والوجدان) ذكر فيه أن الرئيس اليوغسلافى تيتو طلب من صديقه عبدالناصر مساعدته لكى يكون له صحفى مثل هيكل بالنسبة له، وعندما احتار عبدالناصر فى الجواب أحاله على هيكل. وبعد رحيل عبدالناصر حاول العقيد القذافى والرئيس صدام حسين أن يكون هيكل معهما كما كان مع عبدالناصر، واستضافه صدام حسين وأرسل إليه طائرة خاصة، ولكن هيكل ظل بعيداً لأنه يؤمن بأن التجارب التاريخية لا تتكرر.
***
يروى فؤاد مطر الكثير عن ذكرياته مع هيكل ومن بينها قصة لها دلالة، يقول فى مقاله فى صحيفة السفير اللبنانية يوم 23 سبتمبر 2003 أنه كان فى القاهرة مندوبا لصحيفة النهار اللبنانية طوال عشر سنوات، ونشر يوما رسالة أغضبت على صبرى، وكان على صبرى فى ذلك الوقت يخوض صراعا ضد هيكل فى الاتحاد الاشتراكى، وقيل لعلى صبرى إن فؤاد مطر يتردد كثيرا على كمال الملاخ فى الأهرام ويستقى منه معلومات رسائله الصحفية، فقرر على صبرى اعتقال كمال الملاخ نكاية فى هيكل، ليكون ذلك إحراجا وتحذيرا له، وعلم هيكل بنوايا على صبرى فقال: إذا اعتقل الملاخ فسوف أكسر قلمى، ووصلت هذه الرسالة إلى عبدالناصر فأوقف قرار على صبرى ومثل هذه القصص كثير.
***
كانت علاقة هيكل بالسادات قديمة، ولكن هيكل كان هو الأقرب إلى عبدالناصر، وفى المرات التى توترت فيها العلاقة بين هيكل وعبدالناصر، وهى مرات قليلة لا تتعدى مرتين إحداهما حين كتب أن النظام إذا لم يغير يجب أن يتغير، والثانية حين أصدر عبدالناصر قرار تعيين هيكل وزيرا للإرشاد رغم اعتذاره عن منصب الوزير ثلاث مرات قبل ذلك، ورفض هيكل الحضور فى موعد حلف اليمين، وفى المرتين كان السادات هو رسول عبدالناصر إلى هيكل لتعود المياه إلى مجاريها.
وكان يوم وفاة عبدالناصر يوم امتحان لهيكل وللسادات أيضا. وبعد نصف ساعة من رحيل جمال عبدالناصر غادر هيكل والسادات وحسين الشافعى غرفة نومه ونزلوا إلى الصالون فى الدور الأول من بيته لمحاولة تدبر كيف يكون التصرف بعده. وكان فى الغرفة مجموعة متباينة المواقف والأهداف، لكن مفاجأة ومأساة الرحيل رفعت الجميع إلى مستوى يستحق التسجيل. كان فى الصالون الصغير أنور السادات، وحسين الشافعى، وعلى صبرى، وشعراوى جمعة، وسامى شرف (سكرتير الرئيس للمعلومات) ومحمد أحمد (السكرتير الخاص للرئيس) واللواء الليثى ناصف (قائد الحرس الجمهورى) وهيكل .
وتساءل السادات : ماذا نعمل الآن ؟
يقول هيكل: وكانت هناك فترة صمت ثقيل، وأحسست أننى أستطيع أن أتكلم، فقد كنت أمام الجميع من أقرب الناس إلى جمال عبدالناصر، ومن أبعد الناس عن صراعات السلطة، وقلت :
- إن أهم شىء الآن هو الاستمرار وأن نحاول قدر ما نستطيع ملء الفراغ بعده.
ثم قلت :
- لابد أن نختار رئيسا يتولى السلطة على الفور- ولو مؤقتا- ولابد فى اختيار هذا الرئيس أن نتبع قاعدة موضوعة سلفا، فليس الوقت ملائما لوضع قواعد جديدة ولا هو وقت فتح الباب لصراعات بين الأفراد، وإذا اتفقنا على ذلك فإن القاعدة الوحيدة التى أعتقد أنها تحكم موقفنا هى الاحتكام للدستور.
(ومعنى ذلك واضح وهو أن يتولى أنور السادات رئاسة الجمهورية للمدة التى قررها الدستور- وهى ستين يوما- حتى ترشح الهيئات السياسية والدستورية من تشاء للرئاسة ثم تطرح اسمه للاستفتاء العام). والشىء الآخر الذى أراه ضروريا بعد ذلك أن نتصرف خطوة خطوة حتى لا نفتح الباب لمساومات وصفقات قد تكون خطيرة فى أثرها، وجمال عبدالناصر كان يشغل ثلاثة مناصب رئيسية: رئاسة الجمهورية، ورئاسة الاتحاد الاشتراكى، ورئاسة الوزارة، وإذا فتحنا ثلاثة أبواب الآن قد نجد أنفسنا فى مآزق متشابكة، ولذلك فإنى أقترح أن تكون هناك خطوة واحدة فى الوقت الواحد، وقلت بالإنجليزية one step at a time وإذن ننتهى من انتخابات رئيس الجمهورية، ثم يجىء دور اختيار رئيس الوزراء، ثم يختار التنظيم السياسى رئيسه.
يقول هيكل: وأحسست أن أنور السادات استراح لما أقول، وللإنصاف فإن أحدا لم يعارض، كان الكل على مستوى المسئولية فى تلك اللحظة الحرجة، وواصلت كلامى باقتراح أن ننتقل الآن إلى مكان آخر وأن نعقد اجتماعا مشتركا للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى ومجلس الوزراء، ومن هناك نعلن نبأ رحيل عبدالناصر على الأمة ثم نتخذ القرارات المطلوبة، وكنت قد أعددت بيان إعلان الرحيل واتصلت - كوزير للإرشاد- بأحد كبار المسئولين معى فى وزارة الإرشاد - وهو الدكتور عبد الملك عودة - أطلب إليه أن يوقف إذاعة البرامج العادية فى الراديو والتليفزيون، وأن تتحول جميع المحطات إلى إذاعة القرآن الكريم، وأدركت مصر أن شيئا قد جرى وأمسكت قلبها تنتظر مع خوف وقلق، وقرأت البيان على المجلس المشترك وأقره المجلس، واقترح أنور السادات أن أتوجه إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون، وقلت: والقول مسجل بصوتى فى أرشيف مجلس الوزراء لأن نظام التسجيل كان قد اعتمد رسميا من سنوات بدلا من محاضر مكتوبة- قلت: إننى أقترح أن يتولى السيد أنور السادات بنفسه إذاعة البيان لكى يعرف الناس أن انتقال السلطة قد تم بسلام، وإننى أتذكر من السوابق أن ظهور الرئيس جونسون بعد اغتيال الرئيس كنيدى ليعلن بنفسه وفاة سلفه وتوليه السلطة بعده كان مسألة بالغة الأهمية فى طمأنة الشعب الأمريكى إلى أن المسئولية الأولى فى الدولة انتقلت بثبات إلى مكانها السليم.
ووافق الكل، وقام الرئيس السادات معى وتركنا الاجتماع مستمرا يناقش قضية مهمة طرحت من أجل كفالة الاستمرار، وهى: هل يتولى الرئيس المؤقت سلطته لستين يوما أو نختار مرشحا على الفور ونعرض اسمه على الاستفتاء العام؟.. وكان واضحا أن الاتجاه الراجح يميل إلى الرأى الثانى من منطق تأكيد الاستمرار، وربما كانت هناك تصورات أخرى.
ووصلنا - الرئيس السادات وأنا- إلى مبنى التليفزيون وتوجهنا إلى مكتبى حتى يتم إعداد الاستديو الذى يذاع منه النبأ الصاعق، واكتشف الرئيس السادات أنه نسى نظارته على مائدة الاجتماعات فى قصر القبة، وسألته إذا كانت نظارتى تنفعه وجربها، وبالفعل ظهر بها وهو يقرأ البيان، واعتذرت عن عدم مرافقته إلى الاستديو، وكان رأيى أنه لابد أن يظهر وحده على الشاشة.. وانتظرت حتى فرغ منه وعاد إلى مكتبى، وغادرنا معا مبنى التليفزيون- هو عائدا إلى قصر القبة وأنا إلى الأهرام.
***
يقول هيكل:
كانت الجنازة يوم أول أكتوبر 1970 وفى يوم الثالث من أكتوبر كتبت للرئيس السادات استقالتى من الوزارة وبعثت بها إليه، وحاول ملحا إقناعى بالعدول عنها، وسهرنا ليلة حتى قرب الفجر فى مقره المؤقت فى ذلك الوقت- قصر العروبة، كانت وجهة نظره أنه فى حاجة إلىَّ، ومن ناحية أخرى ماذا يقول الرأى العام إذا عرف أن أقرب الناس إلى جمال عبدالناصر استقال بعد ثلاثة أيام من رئاسة أنور السادات، وكانت وجهة نظرى أننى موجود تحت تصرفه، وأنا لا أستقيل إلا من الوزارة ولكنى باق فى الأهرام، وهناك مكانى الطبيعى.. وأضفت: وأننى ألمح من بعيد صراعات سلطة، فإن الكل بدأ يفيق من الصدمة، وفى الأهرام أستطيع أن أكون بعيدا عن الصراعات ثم إننى من هناك أستطيع- أكثر مما أستطيع فى الوزارة- أن أشارك فى حوار الحوادث والتطورات طليق اليد ومتحررا.
ونزل السادات عند رأى هيكل بعد أن لمس إصراره واشترط أن يبقى حتى يدير حملته الانتخابية للاستفتاء.. وقبل هيكل شريطة أن يكتب ردا على استقالته من الوزارة وأن ينشر خطاب استقالته ورده عليها يوم ظهور نتيجة الاستفتاء واتفقا على ذلك، وبالفعل فى اليوم التالى لظهور نتيجة الاستفتاء وإعلانها نشرت استقالة هيكل ورد السادات عليها.
دعا السادات هيكل إليه فى قصر الطاهرة، وسأله فيمن يتولى رئاسة الوزارة، وقال له: كنت تقول خطوة واحدة فى الوقت الواحد، وكنت معك، والآن جاء وقت الخطوة الثانية، وهناك زحام على رئاسة الوزارة، وراح يعد أسماء المرشحين الذين رشحوا أنفسهم أو الذين رشحهم آخرون. فقال هيكل: إن رأيى أن الأصلح لرئاسة الوزارة الآن هو الدكتور محمود فوزى، فأبدى السادات استغرابه وقال: إن فوزى بعث إلىَّ باستقالة من اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى فى نفس اليوم الذى قدمت أنت لى فيه استقالتك، إلى درجة أننى تصورت أنكما قررتما تنسيق مواقفكما لما أعرفه من الصداقة التى تجمعكما.
وأكد هيكل للسادات أن ذلك لم يحدث، وأن الدكتور محمود فوزى وهو لم يكن بينهما تنسيق، بل إنه لم يعرف أن الدكتور محمود فوزى قدم استقالته قبل الآن. وسأل السادات: لماذا فوزى لرئاسة الوزارة فى هذه الظروف؟ فقال هيكل: لعدة أسباب، أولها أن البلد خائف الآن من احتمالات صراع السلطة، ووجود مدنى محترم مثل الدكتور محمود فوزى على رأس الوزارة علامة تدعو إلى الطمأنينة. وهو وجه معروف لأصدقائنا فى الأمم المتحدة ودول عدم الانحياز والعالم الأسيوى الإفريقى وهذا مهم، والدكتور محمود فوزى سوف يكون رئيس مجلس، لأنه بطبعه لا يحب الانفراد برأى، ولا يفرض قراراً على غيره بسلطة المنصب، أى أنه سوف يدير ولا يتسلط، فإذا كانت معه مجموعة قوية من نواب رئيس الوزراء للصناعة والزراعة والاقتصاد، فإنه يستطيع بإدارة مستنيرة أن يأخذ منهم أحسن ما لديهم. وقال السادات بحماسة: صح.. برافو يا محمد. ثم استدرك: لكن من الذى يقنع فوزى وأنت تعلم عزوفه وحرصه على الابتعاد؟ ثم أجاب عن سؤاله: ليس عندى غيرك. اذهب إليه واعرض عليه باسمى رئاسة الوزارة ولا تجئ إلى هنا إلا ومعك موافقته. واتصل هيكل بالدكتور محمود فوزى فى بيته قرب البدرشين يقول له إنه فى الطريق إليه. وركب سيارته ومعه أحد البارزين فى وزارة الإرشاد فى ذلك الوقت وهو الدكتور أسامة الباز، وذهبا إلى بيت الدكتور محمود فوزى، ونجح المسعى وأصبح الدكتور محمود فوزى رئيساً للوزراء يحظى باحترام الرأى العام فعلاً.
كل ذلك يحكيه هيكل دليلاً على درجة القرب بينه وبين السادات فى تلك الأيام.
***
يقول هيكل إنه كان من بين اقتراحاته على السادات فى ذلك الوقت أن ينتهى من تصفية موضوع الحراسات مرة واحدة وإلى الأبد، وكان عبدالناصر قد بدأ خطوات على هذا الطريق، وبقيت خطوات أخرى لكى يتم طى صفحة من صفحات الماضى وإغلاقها، ووافق السادات على ذلك. وفى المرة التالية جاء هيكل للقاء السادات ومعه الدكتور جمال العطيفى- المستشار القانونى للأهرام وقتها- حتى يتولى وضع مشروع قانون تصفية الحراسات. وبعد أيام من إعلان مشروع القانون الذى أعده جمال العطيفى لإلغاء الحراسات وصل الأستاذ سعيد فريحه إلى القاهرة يقول لهيكل إن كثيرين من أصدقائه يرون أن الفرصة الآن سانحة لإعادة طرح موضوع الأستاذ مصطفى أمين على الرئيس الجديد خصوصاً وأنه بدأ يتجه إلى التخفيف بدليل إلغاء الحراسات. يقول هيكل: ورفعت سماعة التليفون أتصل بالرئيس السادات وكان فى بيته بالجيزة أقول له إن سعيد فريحة معى ويريد مقابلته.. وكانت إجابته على الفور: ليست لدى الآن ارتباطات.. هات سعيد معك وتعالوا إلى هنا فوراً. وذهبنا وبعـد حـديث عن لبنـان قـال سعيد فريحة: يا سيادة الرئيس.. إنك الآن تبدأ صفحة جديدة بعفو عام، فهل نطمع أن يشمل هذا العفو قضية مصطفى أمين؟ وانتفض السادات فى كرسيه وقال:
- جرى إيه يا سعيد.. عفو عام يشمل مصطفى أمين؟ أنا لا أعفو عن الجواسيس!
وفوجئ سعيد فريحة وسأل:
- ولكن يا سيادة الرئيس ما وقع فيه مصطفى أمين نوع من الخطأ. ونحن لا نجادل فيه..
وقاطعه الرئيس السادات:
- لم يكن نوعاً من الخطأ.. كان تجسساً.. بالعربى الفصيح تجسس.. ولو لم أكن واثقاً من الموضوع مائة فى المائة لأفرجت عنه من أول يوم. أنا أعرف تاريخ مصطفى حتى من قبل القبض عليه. وأنا بنفسى حذرت جمال، وحذرت هذا الأستاذ الجالس هنا.. وسأل هيكل: ألم يحدث؟ فقال هيكل بحيرة: الحقيقة أننى لا أذكر. وراح السادات يذكره بيوم حذره فيه، وحسم الموضوع بنبرة بدت غريبة عليه قائلاً:
سعيد.. أقفل هذا الموضوع ولا تفتحه معى أبدا..
- وقال سعيد فريحة لهيكل: مع جمال عبدالناصر كنا نستطيع أن نناقش.. وهذا الرجل قفل الباب على الفور.
***
يقول هيكل: بعد مرور سنوات طرأت على علاقته بالرئيس السادات مشاكل، وظهرت بينهما خلافات تعقد بعضها ووجدا لها حلا، واستحكم بعضها الآخر بغير حل..
ويعدد هيكل موضوعات الخلاف.. خلاف فيما قاله السادات عن سنة 1971 باعتبارها سنة الحسم - كما قال - ولم يرها هيكل كذلك لأكثر من سبب، وحتى لو كانت كذلك فلم يكن ينبغى الإعلان.
واختلف هيكل مع السادات فى الطريقة التى عالج بها مظاهرات الطلبة فى أواخر سنة 1971 ولم يكن يرى أن العنف هو وسيلة الحوار مع الشباب.
واختلف فى علاج موضوع الفتنة الطائفية، كان السادات يرى تفجير المشكلة، وكان هيكل يراها مشكلة لا تصلح فيها سياسة الصدمات الكهربائية، وإنما لابد من علاج حذر لأسبابها وعوارضها، ولجذورها قبل الفروع.
واختلف فى موضوع الوحدة مع ليبيا، مع أن هيكل كان من أنصارها لكنه رآها مختلفة عن تجربة الوحدة مع سوريا بسبب عنصر الاتصال الجغرافى والسكان، وباعتبارها عمقا للمعركة بثلاثة آلاف ميل على شواطئ البحر الأبيض، وكذلك فإن الثروة السائلة الليبية تتكامل فى الإمكانيات البشرية والطاقة الإنتاجية المصرية، وكان السادات يتهم هيكل بالانحياز للقذافى، مع أن هيكل لم يذهب إلى ليبيا منذ سنة 1970 حين زارها فى صحبة جمال عبدالناصر.
يقول هيكل : ودفعا لأى تأويل اعتذرت عن أى اتصال بالرئيس القذافى منذ سنة 1973 حين رأيته آخر مرة فى مكتبى بالأهرام، رغم دعوات مستمرة وبإلحاح.
واختلفا فى الطريقة التى بدأ السادات يجرى بها اتصالات خفية مع الولايات المتحدة عن طريق قناة اتصال خلفية.
واختلفا حول الصورة الجديدة لعلاقة السادات مع بعض عناصر فى السعودية.
واختلفا على الطريقة التى جرى بها إخراج الخبراء السوفييت من مصر.
واختلفا حين اعتذر هيكل عن إجراء مفاوضات سرية مع كيسنجر، وكان رأى هيكل أن موقفنا التفاوضى وقتها لم يكن قويا فى تقديره، ولأن هدف السادات من التفاوض لم يكن واضحا أمام هيكل.
واختلفا حين اصدر السادات قرارا بنقل ثمانين صحفيا إلى وظائف فى مصلحة الاستعلامات، وبينهم بعض أبرز أصحاب القلم ، ومن الأهرام كان من بينهم الأستاذ أحمد بهاء الدين، والدكتور يوسف إدريس، والدكتور لويس عوض، والأستاذ مكرم محمد أحمد، والأستاذ زكريا نيل، والسيدة أمينة شفيق، إلى جانب رئيس قسم المعلومات فى الأهرام الأستاذ محمود حمدى.. واعتذر هيكل عن عدم تنفيذ القرار فيما يتعلق بالأهرام، ووضع استقالته أمام السادات.. ثم جاء الخلاف الأكبر حول الإدارة السياسية لحرب أكتوبر، وراح هيكل يكتب رأيه بصراحة لا لبس فيها فى مجموعة مقالات من أكتوبر 1973 إلى أول فبراير 1974، وهـذه كانت نقطة الانفجــار، وصـدرت بعـد ذلك فى كتاب بعنوان (عند مفترق طرق) والعنوان يكفى للدلالة على الموقف الذى اختاره هيكل.
***
وفى أواخر ديسمبر 1973 طلب السادات أن يلتقى بهيكل، وكان اللقاء فى نادى الرماية بالهرم، وقال له إن مقالاته تحدث بلبلة فى الرأى العام العربى كله، وكان السادات قد غضب أشد الغضب من مقال بعنوان (أسلوب التفاوض الإسرائيلى) وكان هذا المقال نقدا لأسلوب التفاوض المصرى. وقرأ الرئيس السادات المقال فى الطائرة أثناء رحلته إلى السعودية، وعاد من الرحلة وقد بلغت ثورته مداها.
وقال الرئيس السادات لهيكل: أنت لم تعد صحفيا، وإنما أصبحت سياسيا، ولا بد أن تترك الصحافة إلى السياسة.
يقول هيكل إنه كان من رأيه أنه ليس من حق الصحفى أن يناقش القرار السياسى فتلك مسئولية الرئاسة، وفى نفس الوقت فإن حرية الصحافة فى صميمها هى مناقشة طريقة صنع القرار ونتائج القرار، وأشار فى حديثه مع السادات إلى نماذج مما يكتبه الصحفيون من أوربا وأمريكا من أمثال: وليم ريس موج فى صحيفة التيمس البريطانية، وجيمس ريستون فى صحيفة نيويورك تيمس الأمريكية، وبن برادلى فى واشنطن بوست الأمريكية، فكان رد السادات: إننا لسنا مثل أوربا وأمريكا، وفيما بعد أثناء اعتقال هيكل رأس السادات اجتماعا للمجلس الأعلى للصحافة وتحدث فيه عن الصحفيين الذين يريدون تقليد الصحافة الأمريكية ويتصورون أن بإمكانهم أن يفعلوا فى مصر ما فعلته واشنطن بوست حين قادت حملة ضد الرئيس الأمريكى السابق ريتشارد نيكسون حول فضيحة ووتر جيت أدت إلى خروجه من البيت الأبيض.
وفى لقاء نادى الرماية وضع الرئيس السادات أمام هيكل خيارين: إما أن يعمل فى الوزارة نائبا لرئيس الوزراء، أو فى الرياسة مستشارا للرئيس لشئون الأمن القومى. وكان رد هيكل: إن الرئيس يستطيع أن يقرر عدم بقائه فى الأهرام، ولكنه وحده يقرر ماذا يفعل بعد ذلك.
واعتبر الرئيس السادات أن هذا الرد يعنى أن هيكل يريد أن يملى عليه آراءه. وانتهى اللقاء الذى تحول إلى مشادة حامية وقد ترك الرئيس السادات له فرصة للتفكير.
يقول هيكل : فى هذا المناخ تلقيت مكالمة تليفونية من بيروت. وكان التليفون من الأستاذ على أمين الذى قال لى إنه يفكر فى القدوم إلى القاهرة. وبعد عدة أيام كان بالفعل فى القاهرة، وجاء لزيارتى فى الأهرام!
***
بعد جولة فى مبنى الأهرام الجديد وغداء فى الكافيتريا، وجه على أمين سؤالا إلى هيكل:
أين يستطيع أن يذهب طول نهاره، وجو الصحافة المصرية أوحشه، وهو لا يتصور أن يقضى طول يومه فى القاهرة فى فندق أو ناد، فقال له هيكل: إن الأهرام تحت تصرفه، وخصص له مكتبا بجوار مكتبه، وكانت سيارة هيكل تأتى به كل صباح، وكان على أمين يريد أن يحضر مع هيكل أكبر عدد ممكن من اجتماعات التحرير، وبعد أن خرج هيكل من الأهرام عين الرئيس السادات على أمين مديرا لتحرير الأهرام، وبعد فترة عينه رئيسا للتحرير.
***
كان السادات محتاجا إلى وجود هيكل إلى جانبه، كان محتاجا إلى من يفكر معه بعقل متفتح وبرؤية استراتيجية، كما كان محتاجا إلى القلم المؤثر الذى كان من أهم أسلحة حكم عبدالناصر، وكان هيكل- كصحفى- محتاجا لأن يكون قريبا من صاحب القرار وأن يكون فى الصورة لما يجرى من تطورات سياسية.. كان كلاهما يعلم أنه محتاج للآخر، وقام هيكل بأعمال لم يكن غيره يستطيع القيام بها.
على سبيل المثال، عندما ازداد ضغط مجموعة (مراكز القوى) على السادات وقرر التخلص منهم جميعا بضربة واحدة، كان القرار خطيرا لأنه كان تقريبا يقف وحده أمام القائد العام للقوات المسلحة، والأمين العام للاتحاد الاشتراكى ووزير الداخلية، ووزير الإعلام، وقيادات فى الاتحاد الاشتراكى لها تأثيرها فى الشارع كما كان متصورا، ولم يجد السادات من يقف معه سوى هيكل، بعد أن استمع إلى شرائط التسجيل لمكالمات (مراكز القوى) وعرف منها أنهم قرروا الانقلاب عليه، ثم قدموا استقالة جماعية غير مسبوقة فى التاريخ كان هدفهم منها إحداث (فراغ دستورى) وتيقن السادات أنهم وضعوا أجهزة تسجيل فى بيته وعلى تليفوناته، لم يجد إلا أن يرسل إحدى بناته إلى هيكل لتقول له: بابا عاوزك دلوقت، وهمس السادات إلى هيكل بكل ما علم وما سمع وكان يريد أن يعرف موقفه، وأعلن هيكل للسادات بوضوح أنه مع الشرعية، وكان رأى السادات أن يعلن للشعب أنه اعتقل مراكز القوى، لأنهم كانوا يريدون الانقضاض على الحكم واغتصاب السلطة، وقال هيكل للسادات: إن الشعب سوف يرى الأمر مجرد صراع على السلطة، ولكن إذا قلت إنك تقبض عليهم من أجل الديمقراطية وإنهاء عهد الرقابة والتسجيلات والمعتقلات فستجد تأييدا شعبيا جارفا، وهذا ما حدث فعلا وكانت مشاهد إحراق ملفات وأشرطة تسجيل المكالمات وإمساك السادات بيده فأسا لهدم طوبة فى معتقل طرة، والحديث عن الديمقراطية فى مقالات هيكل.. كان كل ذلك كافيا لنجاح حركة 15 مايو 1971، وكان هيكل هو الذى أسماهم مراكز القوى ومازالت هذه التسمية قائمة إلى اليوم ودخلت فى القاموس السياسى.
وكما كان هيكل هو الذى كتب لعبدالناصر فلسفة الثورة والميثاق الوطنى وبيان 30 مارس وكل الخطب التى ألقاها، كان هو الذى تولى كتابة خطب السادات.
وحتى بعد خروج هيكل من الأهرام يوم أول فبراير 1974 عاد السادات فى شهر أكتوبر من هذا العام فاتصل بهيكل، وبدون مقدمات قال له: إنه يريد أن يراه وحدد له موعدا فى استراحة الهرم، وذهب إليه.. كان مؤتمر القمة العربية فى الرباط على وشك أن يعقد، وكان هنرى كيسنجر يطوف بالمنطقة يحاول تحقيق مرحلة ثانية من فك الاشتباك بين القوات، وسأله السادات عن رأيه، واستمع إليه، ثم سأله: ما هى خططك فى العمل، فقال له هيكل: إنه على وشك الفراغ من إعداد كتاب عن حرب أكتوبر، وبعد ذلك يفكر فى كتابة مقالات لمجموعة من الصحف العربية تريد نشرها.. فقال له السادات: أنا لم أسألك عما تريد أن تفعله لنفسك، وإنما أسألك عما تستطيع أن تفعله معى، ورد هيكل: إننى تحت تصرفك فيما تريد بعد أن أفرغ من كتابى وأعده نهائيا للنشر.
وقال له السادات: أنا أردتك مستشارا وأصدرت قرارا بذلك وأنت الذى لم تستجب.
قال هيكل: أنا تحت أمرك إلا فيما يختص بالمناصب والمراكز الرسمية والصحفية.. إلى آخره.
يقول هيكل: وراح الرئيس السادات يحاول إقناعى بتغيير رأيى فقلت: سيادة الرئيس دعنا نؤجل كل هذا الآن، لقد ابتعدت أنا عن الصورة من فبراير 1974 حتى الآن، أطلب منك منصبا واحدا وعدنى أن تعطيه لى، قال السادات بلهجته المألوفة: أنا لا أعطى وعدا على بياض.. قال هيكل: أعدك ألا أبالغ فى طلباتى، فقال السادات: اطلب. قال هيكل: مكان ومكانة الصديق وتظاهر السادات بالغضب وقال: هذه محاولة للهرب، قال هيكل: دعنا نجرب من جديد، لقد ابتعدنا ستة شهور لم نلتق فيها، وكان لى موقف من بعض ما حدث، وكان لك موقف، فإذا سمحت لى بمكان ومكانة الصديق، فإننى أستطيع أن أعود للتعرف على مجرى الأحداث، وقد نستطيع أن نصل إلى تفاهم أعمق.
يقول هيكل: وأشهد أنه كان ودودا فى قبول رأيى، وهكذا.. عدت إلى الاقتراب منه ورحت أراه بانتظام، ونتكلم فى كل شىء..
***
فى تلك الفترة تابع هيكل عن قرب محادثات السادات مع كيسنجر فى أسوان فى محاولة للتوصل إلى المرحلة الثانية من فك الاشتباك، ولم تنجح هذه المباحثات، وكان رأى هيكل الذى قاله للسادات: إنه أقوى بغير اتفاق منه باتفاق سيئ، وهناك مخاطر فيما تعرضه إسرائيل، وتفهم السادات وقبل رأى هيكل.
وهيكل هو الذى كتب خطاب السادات فى مجلس الشعب الذى شرح فيه أسباب فشل الاتفاق، وقدم له فى إطار مشروع هذا الخطاب اقتراح فتح قناة السويس بقرار مصرى وبإرادة مصرية، وقال له: بهذا الاقتراح تستطيع بغير اتفاق أن تحصل على نصف ما تريد دون حاجة إلى شروط مجحفة، وقبل السادات هذا الرأى، وحين رأى أثر فتح قناة السويس على العالم كان بالغ السعادة.
وكان هيكل فى هذه الفترة يلتقى بالسادات كل يوم.
ثم كتب هيكل خطاب السادات أمام مجلس الشعب عن إعادة تنظيم العمل الداخلى.
وكـان السـادات يريد إسـناد رئاسة الوزارة إلى ممدوح سـالم، وفى يوم 10 أبريل 1975 دعاه إلى العشاء معه فى استراحة القناطر، وعرض عليه منصب نائب رئيس الوزراء للإعلام مع ممدوح سالم، وحين حاول إبداء اعتذاره قال له السادات:
- تصور نفسك بعد كل ما كتبوه عنك عائدا نائبا لرئيس الوزراء للإعلام. سوف تدخل عليهم راكبا حصانا، وتستطيع أن تضع إصبعك فى عين من تشاء.!
وكان رجاء هيكل أن يترك له فرصة للتفكير.
ودعاه ممدوح سالم إلى مكتبه فى وزارة الداخلية فى اليوم التالى 11 أبريل 1975 يعرض عليه المنصب رسميا. واعتذر هيكل وقال:
- إن لى آراء مختلفة بشأن اتفاقيات فض الاشتباك والعلاقات مع الولايات المتحدة.. وتحدث عن ذلك بالتفصيل.. وقال بعد ذلك : إننى أرى حملة واسعة على جمال عبدالناصر، وأعتقد أنها ظلم تاريخى ولا أستطيع أن أشارك أو أسكت على هذه الحملة. فإذا أردت أن أتدخل فيها بالتراضى مع بعض رؤساء التحرير الحاليين ممن يقودون الحملة اصطدمت بما أعرفه من اتجاهاتهم ومصادر وحيهم. وإذا استعملت سلطة الرقابة فقد سقطت كصحفى، وما أسهل وقتها أن يقال: إننى تنكرت للمهنة ووقفت ضد حريتها. والحقيقة أننى لا أعتبر ما يجرى حرية، وإنما أعتبر معظمه قصدا مقصودا وتنفيذا لأغراض فى نفس يعقوب.
وقال له ممدوح سالم: تصرف مع من تشاء كما تشاء.. لك مطلق الصلاحية فى إعادة ترتيب أمور الصحافة. قال هيكل : إننى لا أريد أن أتصرف مع أحد . ثم قال: إننى كبشر تستهوينى فكرة أن أعود وأضع إصبعى فى بعض العيون، لكن هذا الذى يستهوينى للحظة ربما يدعونى إلى الندم عمرا، وفى كل الأحوال فأنا أفضل أن أبقى مع الرئيس فى مكان ومكانة الصديق لا أكثر ولا أقل.
يقول هيكل: مع الأسف لم أسـتطع أن أبقى طويلا لا فى المكان ولا فى المكانة. كانت محادثات فك الاشتباك الثانى تجرى حثيثا، وكنت أرى أنه أسوأ اتفاق جرى، ومن ناحية أخرى ظهر كتابى (الطريق إلى رمضان) واعتبر الرئيس السادات أننى لم أعطه حقه، وكان هذا حكما بناه على بعض ما نشرته الصحف من أجزاء الكتاب، ورجوته أن ينتظر حتى يرى الكتاب كله، وطلب منى أن أجيئه أنا بالكتاب، فقلت له إننى لا أستطيع لأنه فى المطبعة، وهو يملك من الوسائل ما يسمح له أن تجىء بنسخة ! وازدادت عوامل التحريض ضد هيكل. وإذا بالرئيس السادات يتهمه فى كل خطبه بتهمة تزييف التاريخ.
بعد فترة اتصل السادات بهيكل ليطلب إليه أن يكتب مقالات فى الدفاع عن اتفاق فك الارتباط الثانى، وسأله هيكل أن يسمح له بالاطلاع على ملاحقه السرية، فرفض قائلا: لا توجد ملاحق سرية. قال هيكل: إننى قرأت لاسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل تصريحا أشار فيه إلى وجود ملاحق سرية، فقال له السادات: وهل تصدقنى أو تصدق رابين؟ وأجاب هيكل : بالطبع أصدقك.
قال السادات: إننى لا أريدك أن تدافع عنى، لا أريد من أحد أن يدافع عنى.. ولكن الدفاع المطلوب هو عن مصر التى يهاجمها ويتهجم عليها السوريون والفلسطينيون والعراقيون وغيرهم.
قال هيكل: إن هؤلاء فيما أظن يركزون هجومهم على الاتفاق وليس على مصر.
ونفد صبر السادات فقال: لا أريد فلسفة.. هل ستكتب أم لا؟
قال هيكل: أرجو أن يعفينى الرئيس من الكتابة.
وتصاعد غضب السادات وقال: إن شالله ما كتبت.
وأغلق سماعة التليفون. وتعطلت كل الخطوط فى علاقاتهما.!
***
يقول هيكل: وعادت رياح الخماسين تهب أكثر ضراوة وسخونة. بدأت إحدى الصحف السعودية فى لندن تنشر سلسلة مقالات لأحد الصحفيين المقربين من الأستاذين مصطفى وعلى أمين، تتهمنى- أنا- بالعمل مع المخابرات الأمريكية. وفى ذلك الوقت كان الأستاذ مصطفى أمين فى- غمرة الحملة على جمال عبدالناصر- قد رفع قضية على صلاح نصر يتهمه فيها بتعذيبه أثناء سجنه، وقال الأستاذ مصطفى أمين فى عريضة دعواه إنه ذكر لى فى حينه كما ذكر لمحاميه الأستاذ محمد عبد الله أنه عُذِّب فى السجن.
واستدعت المحكمة هيكل للشهادة، وحاول الاعتذار، فعاقبته المحكمة بغرامة ثلاثين جنيها إذا لم يحضر فى الجلسة التالية، وكان يعنى إذا تخلف عن الشهادة قد يعرضه ذلك للسجن ثلاثة شهور بتهمة إهانة المحكمة .
وذهب هيكل. وشهد بأن الأستاذ مصطفى أمين لم يخبره بأنه عُذِّب وكان محامى الأستاذ مصطفى أمين فى قضية التخابر هو الأستاذ محمد عبد الله، وكان هو أيضا محاميا عن أحد المتهمين فى قضية تعذيب الأستاذ مصطفى أمين. وطلب الأستاذ محمد عبد الله - وهـو من أعلام القانون فى مصر- التنازل عن صفته كمحام عن أحد المتهمين لكى يتمكن من الإدلاء بشهادته، ثم وقف أمام المحكمة يشهد بأنه كان محاميا للأستاذ مصطفى أمين، وقابله فى السجن، وسمع منه كل شىء، ولم يسمع منه على الإطلاق أنه تعرض لأى تعذيب.
فى اليوم التالى قال هيكل للمحكمة :
- أننى أولا لا أدافع عن نفسى بالنسبة لما نشرته مجلة الحوادث بالإشارة إلى ثقة جمال عبدالناصر فىَّ. فى ذروة صراعه مع الولايات المتحدة لم يكتف بأن يتركنى فى الأهرام رئيسا للتحرير ولمجلس الإدارة، وإنما أضاف إلىَّ وزارة الإرشاد، وعضوية مجلس الأمن القومى، والقيام بأعمال وزير الخارجية فى نفس الوقت. لن أدفع بذلك. سوف أناقش ما قيل من أن خروشوف تحدث معى عن أموال أخذتها من المخابرات الأمريكية تحت غطاء أجر مقالات كتبتها فى صحيفة واشنطن بوست. أولا أنا لم أكتب فى حياتى كلها مقالا لصحيفة واشنطن بوست، وبالتالى لم أتقاض منها سنتا واحدا. وثانيا فيما يتعلق بخروشوف فقد دعانى سنة 1964 إلى بيته فى يالتا لكى أرافقه طوال رحلته من يالتا إلى الإسكندرية- خمسة أيام فى البحر- حتى يستطيع أن يسألنى فيما يريد أن يتعرف عليه منى عن العالم العربى والإسلامى والأفريقى الذى يزوره لأول مرة بزيارته لمصر لحضور الاحتفال بإتمام المرحلة الأولى من السد العالى.
أما ما ذكر من كتابات مايلز كوبلاند، فإنه ليس بالرجل الذى تعتمد شهادته، فقد كان موظفا فى المخابرات الأمريكية ثم طرد منها، وحاول استغلال صلاته بالعالم العربى ليفتح مكتب استشارات فى بيروت. وفى هذه الفترة كتب إلى جمال عبدالناصر أكثر من ثلاثين خطابا وتقريرا يحاول إقناعه باستعمال خدماته وخبراته ويطلب فى مقابل ذلك مكافأة. ولم يرد جمال عبدالناصر على واحد منها. وهذا هو ملف كامل بهذه الخطابات!
وقدم هيكل إلى المحكمة ملفا يحوى خطابات مايلز كوبلاند إلى عبدالناصر.
وأضاف هيكل: إن هذه الكتب التى أخرجها مايلز كوبلاند حتى الآن كتابان: أولهما عنوانه (لعبة الأمم) والثانى عنوانه (بلا خنجر ولا عباءة). فى الكتاب الأول ذكر اسمى فى معرض صداقتى لعبدالناصر مرة واحدة فى كل الكتاب. وفى الكتاب الثانى لم يأت ذكر لى على الإطلاق.
وترك هيكل لهيئة المحكمة الكتابين.
***
يقول هيكل إنه كان منذ خروجه من الأهرام يتجنب الصدام مع السادات، لأنه كان يتمنى أن يكون له دور حين تجىء المعركة لإزالة العدوان، وفعلا ابتداء من أوائل سبتمبر 1973 إلى أن بدأت المعارك فى أكتوبر أصبح هيكل أقرب الناس إلى السادات، وكان شبه مقيم فى بيت السادات أو فى قصر الطاهرة الذى انتقل إليه - كمقر قيادة له - قبل بدء العمليات بيومين.
وطلب السادات من هيكل أن يكتب التوجيه الاستراتيجى الصادر منه إلى القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية الفريق أول أحمد إسماعيل على. وقد وقع السادات هذه الوثيقة فى أول أكتوبر 1973. قد سجل هيكل هذه الواقعة بعد ذلك فى محاضر تحقيق المدعى الاشتراكى فى صيف 1978 فى حياة الرئيس السادات.
وطلب السادات من هيكل أن يعد أيضا تكليفا مكتوبا للفريق أول أحمد إسماعيل على ببدء العمليات، ووقعه يوم 5 أكتوبر 1973.
وهيكل هو الذى كتب للرئيس السادات خطابه أمام مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر 1973 وفى هذا الخطاب أعلن السادات خطته لما بعد المعارك بما فيها مقترحاته لمؤتمر دولى فى جنيف يجرى فيه حل الأزمة فى إطار الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن 242.
يقول هيكل : وكانت هذه أكثر فترة أعطيت فيها من نفسى لأنور السادات. وحين جاء كيسنجر إلى المنطقة والتقى بالرئيس السادات يوم 7 نوفمبر وجدتنى أمام لحظة يتحتم علىَّ فيها أن اقف - دون تردد - لأجعل صوتى مسموعا ومفهوما ثم ليكن بعدها ما يكون.
كان هيكل ما يزال رئيس تحرير الأهرام. وبدأ فى كتابة سلسلة مقالات فى الفترة بين 5 أكتوبر 1973 حتى أول فبراير 1974، أى أنها بدأت قبل حرب أكتوبر بيوم واحد، وتوقفت بعد إتمام الاتفاق المبدئى على فك الارتباط الأول لأسبوع واحد. وحين جمعها بعد ذلك فى كتاب اختار عنوانه (عند مفترق الطرق) إشارة إلى أنه سيمضى فى طريق آخر غير طريق السادات - ويقول فى مقدمة هذا الكتاب: قبل كتابة ونشر هذه المجموعة من الأحاديث كنت قريبا من قمة السلطة فى مصر، وبعد كتابتها ونشرها أصبحت مبعدا عنها- ومقصيا- ورضيت. قبلها كنت أعيش وأكتب فى مصر، وبعدها أصبحت أعيش فى مصر وأكتب خارجها. وقبلت . وأثناء الكتابة والنشر تلقيت النصيحة تلو النصيحة بأن أتوقف .. وإلا، وكنت مستعدا لتحمل مسئولية (وإلا) وكان الرئيس السادات يراهن فى الضغط علىَّ بأوراق ثلاث. الأولى: إننى لن أطيق البعاد عن لعبة السياسة العليا فى مصر وقد كانت أصابعى فيها لأكثر من عشرين عاما، والقرب من لعبة السياسة العليا فى أى بلد فى العالم حالة يمكن أن تكون لها قوة الإدمان. والثانية: إننى لن أقدر على الفراق عن الأهرام. والثالثة: إننى لن أجد ما أعمله إذا ابتعدت.. وحاول السادات أن يترك الباب نصف مفتوح بعد الخروج ، وكان قراره الأول المنشور فى الصحف صباح يوم 2 فبراير 1974 أن أنتقل من الأهرام إلى قصر عابدين، ولخصت موقفى فى تصريح نشرته صحيفة الصنداى تيمس يوم 9 فبراير 1974 وقلت: (إننى استعملت حقى فى التعبير عن رأيى، والرئيس السادات استعمل سلطته).
وخرجت ولم أعد بعدها، ولا أظننى أريد أن أعود. لا أظننى أريد أن أعود إلى لعبة السياسة العليا، ولا إلى الصحافة- بما فيها الأهرام- مع أن الرئيس السادات بعد عروض أخرى بمناصب أكبر فى الدولة بينها منصب مستشاره للأمن القومى (كيسنجر بتاعى) أو منصب نائب رئيس الوزراء، عاد فقال لى فى ربيع سنة 1975 إننى أستطيع أن أعود إلى الصحافة إذا أحببت، وفى أى مكان أريده، على شرط واحد، وهو أن (ألتزم) وكان ردى يومها:
- سيادة الريس، لا أتصور أنه فى مقدور أحد أن يلتزم خارج قناعته، ولا أظنك ترضى لى - وأنا لا أرضى لنفسى- أن أخرج بقرار ثم أعود بقرار.. قد أخرج بقرار ولكنى أظل صحفيا بالمعنى الذى أفهمه، ولكنى إذا عدت بقرار فلن أعود صحفيا بالمعنى الذى أفهمه.. وأنا من المعجبين بالقول بأن التاريخ لا يكرر نفسه، وإذا فعل فإن المرة الأولى تكون دراما مؤثرة، وأما المرة الثانية فإنها تصبح ملهاة مضحكة، وإذا عدت إلى الأهرام فسوف أجدنى مترددا فيما أفكر واكتب أتلفت إلى ما وراء ظهرى محاولا تأمين نفسى.. وذلك شىء لا أريده، ولست فى حاجة إليه.
علاقة هيكل والسادات علاقة معقدة.. فيها القرب والبعد.. الثقة والشك.. الصعود والهبوط.. ولم تكن أبدا مثل علاقته بعبدالناصر.. وهذا يؤكد صحة القول بأن التاريخ لا يعيد نفسه..
وقصة هيكل والسادات قصة طويلة.. نادرة .. ومثيرة!