ديمقراطية أمريكا
أعلن الرئيس الأمريكى جورج بوش أن شعوب الشرق الأوسط تحتاج إلى إدخال إصلاحات ديمقراطية وأن السبيل الوحيد أمام الفلسطينيين أن ينفذوا هم ايضا إصلاحات ديمقراطية ولا يستمعون إلى زعمائهم الذين يدعون إلى العنف.
ومصداقية الولايات المتحدة موضع شك منذ أعلنت أنها تسعى إلى فرض الديمقراطية فى الشرق الأوسط فلم تجد غير الدول العربية لتمارس عليها الضغوط والتهديدات والحروب بينما إسرائيل أكبر نموذج للدولة غير الديمقراطية، بما فيها من تفرقة عنصرية، واضطهاد دينى، وتطهير عرقى وجرائم حرب.. واغتصاب أراضى الغير بالقوة وعدم احترام حقوق الإنسان.
لذلك لا يمكن أن يصدق العرب أن أمريكا قامت بغزو واحتلال دول عربية وإسلامية وفرضت حاكما أمريكيا لدولة عربية، وتفرض الحصار الاقتصادى لتجويع شعوب عربية، وكل ذلك من أجل أن تتمتع الشعوب العربية بالديمقراطية، فإن التناقض بين القول والفعل، لا يحتاج إدراكه إلى ذكاء كبير.
وقد ظهر التعبير عن رفض هذه السياسة الأمريكية على ألسنة قادة من مختلف دول العالم بما فيها الدول الأوروبية، كما ظهر فى الصحافة الأمريكية نفسها بصورة واصحة، وعلى سبيل المثال فقد كتب كريس باتن CHRIS PATTEN مفوض الاتحاد الأوروبى للعلاقات الخارجية مقالا بعنوان (الديمقراطية لا تحقق بالقنابل الذكية وقال فيه كيف تتحقق الديمقراطية فى العراق كمثال وتتوافر لها عوامل الازدهار والاستمرار، عن طريق الغزو والاحتلال العسكرى الأمريكى، وكيف تطمئن شعوب المنطقة وقد أعلنت أمريكا عن نياتها تجاه الجميع وأكدت أن العراق ليس سوى الخطوة الأولى لتغيير الشرق الأوسط كله؟
وقال كريس باتن، فى مقاله الذى نشرته مجلة السياسة الخارجية وصحيفة هيرالدتريبيون فى عدد 16 سبتمبر الماضى: لقد كنت فى التسعينيات آخر حاكم بريطانى لهونج كونج، وبقيت فى هذا المنصب خمس سنوات، وكنت مسئولا عن عملية عودتها إلى الصين، وتنفيذ الاتفاقية المبرمة بين بريطانيا والصين الخاصة بكيفية حكم هونج كونج بعد انتقال السيادة عليها من بريطانيا إلى الصين، وكنت بذلك فى قلب الجدل بشأن الديمقراطية فى آسيا، وتوصلت إلى بلورة آراء عن الديمقراطية وثيقة الصلة بقضية الإصلاح السياسى فى الشرق الأوسط وملخصها أن الديمقراطية مطلب عالمى ولا ينبغى الانتقاص منها بحجة الظروف الاقتصادية أو الثقافية فى بلد ما، ولكنها فى نفس الوقت يجب أن تنشأ وتنمو من داخل مجتمع، وقد ينجح الضغط الخارجى فى فرض هياكل وممارسات شكلية للديمقراطية، ولكن لا يمكن أن تتعمق الديمقراطية الحقيقية بالقوة فى بلد ما وتصبح مرتبطة بأسلوب الحياة فيه، وفى نفس الوقت ليس صحيحا ما يتصوره الجناح اليمينى المتشدد فى أمريكا فيما يتعلق بالتناقض بين العالم الإسلامى والديمقراطية والواقع يشهد أن ثلاثة أرباع الشعوب الإسلامية تعيش فى ديمقراطيات بأشكال ودرجات متنوعة، والأمر الذى يجب أن يتفهمه صقور البنتاجون والبيت الأبيض أن بناء الديمقراطية لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة ، ولكن من الممكن-بالقوة-وضع طلاء أو قناع ديمقراطى هنا أو هناك. والولايات المتحدة تريد أن تفرض على الدول العربية والإسلامية التحول إلى اقتصاد السوق وإطلاق الحرية لرأس المال وتفكيك سلطة الدولة على تسيير الاقتصاد، وأن يقوم الحكم فيها على أساس القانون والشفافية، ولن يتحقق ذلك بدون البدء بإقامة نظام نيابى، وانتخابات حرة وترسيخ التعددية وحرية الراى، وحقوق الإنسان، وكل هذه الممارسات لن تكون حقيقية إلا إذا كانت نشأتها طبيعية من داخل المجتمع وبأيدى الشعوب ذاتها وبدون ضغوط خارجية، بل إن الضغوط الخارجية يمكن أن تؤدى إلى العكس.. إلى وقف نمو الديمقراطية تحت شعار حشد الشعوب صفا واحدا والتنازل عن الحريات لمواجهة الضغوط الخارجية، والشعوب فى مجال الاختيار تفضل أن يحكمها حكام من أبناء وطنهم ولو كانوا غير ديمقراطيين، على أن يكون حكامها أجانب مهما تكن الحجج والمبررات . فكل تدخل خارجى لابد أن تقابله الشعوب بالرفض والمقاومة، وقد قدمت أمريكا مثالا سيئا.. ولو كانت الديمقراطية هى هدفها حقيقة من كل ما فعلته فى العراق من تدمير الدولة والمدن وقتل عشرات الآلاف وانتشار القوات والدبابات والطائرات الأمريكية فى كل مكان، فإن الشعب العراقى سيصل إلى اقتناع برفض هذه الديمقراطية وسوف تثبت الأيام خطأ بول وولفوتيز نائب وزير الدفاع الأمريكى وممثل الصقور فى الإدارة الأمريكية، وهو صاحب النظرية التى تقول بأن صدمة إسقاط صدام حسين بالقوة ستؤدى تلقائيا إلى سرعة بناء الديمقراطية فى العراق . كما حدث فى الفلبين بعد صدمة الديمقراطية بعد سقوط حاكمها الديكتاتورى فرديناند ماركوس. وسوف تتغير بقية دول المنطقة وفقا لنظرية الدومينو.. ولكن سوف يثبت خطأ هذه النظرية التى يعتنقها كثيرون فى الولايات المتحدة وبريطانيا، وسيتأكد للجميع صحة ما قاله المفكر الألمانى جاكوب بيركهارت تعليقا على هذه النظرية بأنه لا يمكن معالجة المرض بمجرد القضاء على الأعراض.
ما الحل؟ يقول مفوض الاتحاد الأوروبى إن الحل هو أن تساعد الدول الكبرى على تطوير دول الشرق الأوسط بتشجيع التجارة الحرة، وتقديم المساعدات المالية والتكنولوجية بطريقة كريمة ودون شروط وتشجيع المبادرات والخطوات التى تتخذها الدول العربية والإسلامية على طريق الديمقراطية وتساعد على تحقيق الانتعاش الاقتصادى وخلق الوظائف وتشجيع الحكم الأفضل فى الدول العربية، مما سيؤدى إلى تحسين مستويات المعيشة وإلى تغيير الشرق الأوسط بأسرع وأفضل من استخدام القوة سواء بالغزو العسكرى أو بالضغوط الاقتصادية.
والأهم من ذلك أن تغير الولايات المتحدة استراتيجيتها القائمة على أن هناك تعارضا بين الإسلام والديمقراطية وأن التغيير فى الشرق الأوسط ليس له سوى طريق واحد وهو الغزو العسكرى والضغوط الاقتصادية.. وإذا تغيرت السياسة الأمريكية فإن تغيير الشرق الأوسط يكون أسرع وأفضل وأكثر أمانا، وسوف تكسب أمريكا صداقة شعوب المنطقة وتضمن حماية مصالحها، بل وتضمن الأمن لإسرائيل.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف