التماس بإعادة النظر
فتح الإعلان الدستورى الأخير الباب أمام إمكان إعادة النظر فى بعض مواد الدستور بطرح مقترحات التعديل على مجلس النواب بعد انتخابه.. ولعل هذه هى الفرصة لطرح موضوع «العدالة الانتقالية» على نواب الشعب..
يدفعنى إلى ذلك ما عايشته فى سنوات العمر الطويلة ورأيت كيف طبقت ثورة يوليو قانون «العزل السياسى» على قيادات الأحزاب جميعا دون بحث لما قدمه كل واحد منهم من خدمات أو ما ارتكبه من جرائم، ورفعت شعار «الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب» واعتبرت كل من شارك فى الحياة السياسية والحزبية قبل الثورة من أعداء الشعب.
وبطبيعة الحال تحول هؤلاء المعزولون جميعا إلى «أعداء الثورة» وبعد انتهاء عصر عبد الناصر عادوا جميعا وأعيدت إليهم حقوقهم فى ممارسة العمل السياسى وكان منهم زعماء على رأسهم فؤاد باشا سراج الدين الذى أعاد حزب الوفد وقاد المعارضة، وعشرات آخرون.. وكان هذا درسا يمكن الاستفادة منه وهو أن «العقاب الجماعى» ليس إجراء لصالح الثورة وصالح البلد، وفى نفس الوقت فإن من قيادات العمل السياسى قبل الثورة شخصيات عليها أدلة مؤكدة تدينها بالفساد، والمشاركة فى إفساد الحياة السياسية والاقتصادية فى البلاد، ولا يمكن قبول استمرارهم فى تصدر المشهد السياسى والمشاركة فى صياغة المستقبل الذى يطمح إليه الشعب المصرى بعد ثورة 25 يناير، ووجودهم فى الحياة السياسية هو الذى يؤدى إلى الغضب الشعبى الذى يتفجر فى بعض الأوقات هنا وهناك، وقد ثبت من تجربة الفترة الماضية أن إحالة هؤلاء إلى التحقيق القضائى ثم إلى المحاكم يستغرق وقتا طويلا وإجراءات مملة لا تتفق مع طبيعة هذه المرحلة الثورية، لأن طبيعة القضاء - فى مصر وفى العالم كله - تفرض الالتزام بقواعد المحاكمة العادلة المتعارف عليها عالميا ومنها الاعتماد على وثائق وأوراق بعد التأكد من صحتها، والاستماع إلى الشهود والتأكد من صدقهم، والتمييز بين شهود الحق وشهود الزور، وإعطاء الدفاع الفرصة الكافية للاطلاع ومناقشة الأدلة والشهود والمرافعة والفرصة أيضاً للنيابة لبيان أدلة الاتهام ومناقشة الشهود والمرافعة.. وكل ذلك لا تحتمله طبيعة هذه المرحلة التى يطالب فيها الشعب بالإسراع فى قطع دابر الفساد والمفسدين وإغلاق المنافذ التى تسمح بعودة الحال إلى ما كان عليه.
وتتعدد الاجتهادات أمام هذه المشكة، منها ما جاء فى الدستور الذى طرح على الشعب من حرمان قيادات الحزب الوطنى (المنحل بحكم قضائى) من ممارسة العمل السياسى والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات من تاريخ العمل الدستورى وحدد النص الدستورى قيادات الحزب المقصودة بالحظر بأنهم أعضاء لجنة السياسات والمكتب السياسى والأمانة العامة للحزب وأعضاء مجلسى الشعب والشورى من أعضاء الحزب فى الفصلين التشريعيين السابقين على ثورة 25 يناير.
qqq
هذا النص جاء استجابة لمطلب قطاع كبير من المواطنين، وفى نفس الوقت هناك عدد من السياسيين وأساتذة القانون الدستورى والعلوم السياسية لهم ملاحظات على هذا النص ويرون أن يكون ضمن النصوص التى تطرح أمام مجلس النواب الجديد لإعادة النظر فيه، وهؤلاء يرون أن حرمان جميع الأعضاء فى هذه التشكيلات قد يشمل شخصيات لم تشترك فيها بإرادتها ومعلوم أن القرارات كانت تصدر بضم أسماء إلى هذه التشكيلات دون أن تطلب وأحيانا دون أن تعلم ونفاجأ بأسمها فى الصحف ولم يكن أمامها خيار. وبعض هؤلاء كانت لهم مواقف وانتقادات واعتراضات على السياسات العامة فى ذلك العصر، وبعضهم كان يعبر عن هذه الآراء المعارضة فى مقالات منشورة فى الصحف.. ومن المطالبين بإعادة النظر من يرى أن هذا «الحظر الجماعى» هو نوع من «العقاب الجماعى» بينما معيار العدالة قائم على أساس أن «الجريمة» شخصية و«العقوبة» شخصية، ولا يدان أحد قبل سماع دفاعه وإعطائه الفرصة لإثبات براءته وهذا تطبيق لمبدأ أن «المتهم» برىء حتى تثبت إدانته، وليس فى مصر من يعارض محاسبة المسئولين عن إفساد الحياة الاقتصادية والسياسية وهناك من يرى أن يكون الحرمان لمن تثبت إدانته، وهؤلاء يذكرون أن «الجماعة المحظورة» سابقا هى أكبر من عانى من الإقصاء وتلفيق التهم ومطاردة أعضائها والتضييق عليهم فى مجالات أعمالهم، واعتقالهم دون مبرر قانونى، وهناك أيضاً من يرى أن «الإقصاء» يفتح الباب للعمل السرى وتكوين تنظيمات وممارسة أنشطة فى الخفاء، ومن يرى أن «العقاب الجماعى» يتعارض مع العدالة ودولة القانون، وأن ذلك يمكن أن يفسر على أنه عمل من أعمال «الثأر» وتصفية الحسابات وإخلاء الساحة لتيار واحد.
qqq
ولكى نسرع فى الوصول إلى مرحلة الاستقرار وإنهاء المرحلة الانتقالية، لكى يتفرغ الجميع للعمل من أجل التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية وبقية أهداف الثورة، فإن هناك من يطالب بإعادة النظر لتطبيق «العدالة الانتقالية» التى تتنوع فيها وسائل تحقيق العدل وعبور المرحلة الانتقالية بدون إبطاء ولا معوقات، وذلك بتقديم الفاسدين والمفسدين من أعضاء هذه التشكيلات فى الحزب الوطنى وغيره إلى المحاكمات الجنائية، وإلى جانب ذلك تشكل لجان من عناصر قضائية وشخصيات عامة للتحقيق مع من ترى أن المحاكمة الجنائية لن تكشف عن فسادهم لأسباب مختلفة، وهذه اللجان هى تطبيق لما طالبت به الأمم المتحدة فى تقرير لها دعت فيه إلى تطبيق العدالة الانتقالية للمساءلة عن التركة التى ورثتها الثورة من تجاوزات الماضى ولإقامة العدل من ناحية أخرى وأيضاً تحقيقق «المصالحة» بإجراءات قضائية أو بإجراءات غير قضائية مثل تقصى الحقائق، والإصلاح الدستورى والقانونى، وفحص السجل الشخصى لكل من يوجه إليه الاتهام وتحديد الجرائم والعقوبات التى تتناسب مع هذه الجرائم.
وفى مفهوم العدالة الانتقالية لم يعد مقبولا تبرير انتهاك حقوق الإنسان بحجة تنفيذ الأوامر، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى طبقت ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا ودول أوروبا الشرقية العدالة الانتقالية بتشكيل لجان لبحث وإعلان «الحقيقة» لكل قضية وكل شخصية من العهد السابق وهذا ما حدث أيضا فى الأرجنتين وجنوب أفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية بعد سقوط حكم الدكتاتوريات، وكان الجانب الآخر للعدالة الانتقالية عبارة عن إجراءات وتشريعات لبناء دولة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان.
هذه فكرة يطرحها عدد غير قليل من رجال القانون والسياسة والقانون الدستورى، وكل ما يطلبونه هو إعادة التفكير فيها فى مجلس النواب الجديد ليقرر فيها ما يتناسب مع مسئولياته باعتباره السلطة التشريعية التى منحها الإعلان الدستورى الأخير الحق فى مراجعة المواد التى أثارت الخلافات قبل الاستفت
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف