هل انتصرت أمريكا فى العراق؟
مضت شهور على المشهد التلفزيونى الذى هبط فيه الرئيس بوش من طائرة هليكوبتر فى ملابس طيار مقاتل على سطح مدمرة أمريكية وسط مئات الضباط والمدعوين يصفقون ويهللون للقائد المنتصر، وليعلن انتهاء الحرب فى العراق وانتصار أمريكا.. هذا المشهد الذى أخرجه واحد من أشهر مخرجى السينما فى هوليود.. والآن: هل انتصرت أمريكا فى العراق؟
البنتاجون اعترف منذ أيام فقط أن الجنود الأمريكيين يرفضون العودة إلى العراق بعد انتهاء إجازاتهم فى أمريكا، وأن ذلك يعيد إلى الأذهان ما جرى فى فيتنام!
فى مجلة تايم الأمريكية فى عددها الأخير سبع صفحات لتحقيق من العراق بعنوان.. (الخطر عند كل ركن) قالت فيه إن الهجوم المعادى على القوات الأمريكية يزداد ويتسم بالتعقيد والتخطيط الجيد، والقوات الأمريكية تواجه التهديد فى كل لحظة وفى كل مكان.
وصحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية نشرت يوم 13 أكتوبر الحالى مقالا بعنوان (قصة أبوين) قالت فيه: إن الرئيس بوش الابن حائر بين شخصيتين أكبر منه، ولكل منهما خبرة تفوق خبرته فى السياسة والحكم، ولكن لكل منهما وجهة نظر تناقض الآخر.. أب صالح وأب شرير.. أب خيّر وأب مولع بالانتقام.. الأول هو الأب الحقيقى (جورج بوش) وقد عهد إلى الأب الثانى (ديك تشينى) برعاية ابنه المبتدئ (بوش الصغير) وتشينى كان وزير الدفاع فى إدارة بوش الأب التى شنت حرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت. والمفروض أن يقوم تشينى بدور المستشار الحكيم، وينفذ ما تعهد به للأب من أن يعلم الرئيس الصغير أمور السياسة الخارجية، ويواصل مسيرة الأب فى الحرص على العمل مع الحلفاء، ولكن الأب الشرير اغتصب سلطة الأب الحقيقى، وجعل نزعة التيار المحافظ المتشدد تسيطر على السلطة، وجعل أمريكا تندفع فى حرب بناء على أسباب غير صحيحة، وخسرت بذلك ثقة أصدقائها وحلفائها، وأصبحت فى نظر العالم دولة تفرض إرادتها بالقوة دون مراعاة لصداقة أو قانون أو شرعية.. حتى أن بعض السياسيين المحنكين فى أمريكا يشعرون بالحيرة مما يفعله ديك تشينى ولا يجدون تفسيرا مقنعا لمواقفه لدرجة أنهم يبحثون عن تفسير بيولوجى لهذا السلوك الغريب!
ويقول المقال الذى كتبته مورين داود أن الرئيس بوش الابن يظهر عدم المبالاة، ولا يستمع إلا إلى الدائرة الضيقة المحيطة به، ويستهين بالرأى العام وبالصحافة، والمحيطون به يغلقون عليه أبواب الإطلاع على الحقائق فى العراق، ويجعلونه يستمع إلى أكاذيب ومعلومات ملفقة من أحمد جلبى الذى يردد ما يمليه عليه ديك تشينى ودونالد رامسفيلد وبول وولفوتيز وهم صناع المأساة العراقية.
وتشينى مازال مصرا على أن صدام حسين يخفى أسلحة دمار شامل تهدد الأمن القومى لأمريكا، وأنه كان يؤوى الإرهابيين وعلى صلة بأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، وأن له علاقة بهجمات 11 سبتمبر على نيويورك وواشنطن، بالرغم من أن الأدلة تظهر عكس ذلك، لكن تشينى على عناده وإصراره يهاجم من يعارضونه ويصفهم بالسذاجة والجهل، ويقول إنهم خطر على أمريكا، بالرغم من أن ما يقوله ليس سوى خداع وتضليل من أجل تبرير الحرب واستمرارها، رغم أن نتائج الحرب أكدت أن تشينى كان مخطئا فى نظريته العدوانية بالمبالغة فى استعراض القوة الأمريكية الوحشية لكى يشعر الجميع بالخوف ولا يفكر أعداء أمريكا فى الهجوم عليها مرة أخرى.. وماذا كانت النتيجة؟. لقد تحول العراق إلى مستنقع، وأعداد من القوات الأمريكية تتزايد يوما بعد يوم، وهبوط الروح المعنوية للجنود يدفع بعضهم إلى الهرب وبعضهم إلى الانتحار، وليس هناك عاقل يتقبل ما يقوله تشينى بالخلط بين الإرهابيين والحكام المستبدين على أنهما جبهة واحدة.
وحتى توماس فريدمان الكاتب الذى يعبر عن البيت البيض والمخابرات الأمريكية نشر مقالا يوم 17 أكتوبر فى نيويورك تايمز بعنوان (لو كان بوش يستمع) قال فيه : إن أسامة بن لادن وصدام حسين يصدران بيانات من الكهوف وتبثها قناة الجزيرة، وديك تشينى يصدر بيانات من خندق آخر وتبثها قناة فوكس نيوز. وانتقد فريدمان الإدارة الأمريكية وقال: إنها تستمع إلى نفسها ولا تستمع إلى أى أحد آخر، ولابد أن تتعلم الاستماع إلى الآخرين وإلا فسوف تفقد المساندة والمصداقية، وإذا استمعت إلى الآخرين وتعاونت معهم فسوف تتمكن من صياغة رؤية جديدة للسياسة الخارجية لأمريكا تحقق آمال أمريكا والعالم ولا تنبع فقط من مشاعر الخوف من العالم، وسوف تكف عن الكلام عن (الخوف) و(الإرهاب) مما جعل أمريكا تصدر إلى العالم الخوف فقط، وتستورد من الخارج مخاوف الآخرين، بدلا من أن تصدر للعالم الأمل ، والأمل هو أهم سلعة كانت أمريكا تنتجها قبل ذلك.. وإن كانت أمريكا تواجه تهديدا فإنها يجب ألا تتنكر أو تفقد أصدقاءها وهم كثيرون جدا، وتعزيز صداقتهم لها هو جزء من الأمن القومى الأمريكى، ولهذا يجب ألا تتفرغ الإدارة الأمريكية للحديث عن أعدائها وتغفل عن أصدقائها، لأنها بدون الاستماع إلى الأصدقاء والتعاون معهم لن تستطيع الفوز فى حرب الإرهاب أو فى حرب الأفكار. ولو استمعت هذه الإدارة إلى أصدقائها لتمكنت من تجنب أخطائها الفادحة.. ولو استمعت حتى لرئيس الأركان الأمريكى أو لوزير خارجية أمريكا لما وقعت فى هذه الورطة فى العراق.
يقول فريدمان إن الإدارة الأمريكية لا تبدى الاحترام لأصدقائها، وهى تقصر صداقتها على من يتفقون معها وينصاعون لها، والأسوأ من ذلك أن فريق بوش يؤيد استراتيجية شارون الفاشلة فى الضفة وغزة، وشارون يدعى أن مصلحة إسرائيل أن تتوقف عن المفاوضات والمبادرات إلى أن تستكمل القضاء على المقاومة، وإذن فإن المحرك الوحيد للإدارة الأمريكية هو الإرهابيون، ولا تبحث هى وشارون عن بناء حياة جديدة للفلسطينيين والعراقيين فينتهى الإرهاب.
كاتب أمريكى آخر هو نيكولاس كريستوف كتب مقالا فى هيرالد تريبيون يوم 16 أكتوبر الحالى انتقد فيه الإدارة الأمريكية التى كذبت حين أكدت وجود أسلحة دمار فى العراق، وأكدت أن الشعب العراقى سوف يستقبل الجيوش الأمريكية بالورود، وها هى ذى ترى الجنود الأمريكيين يتساقطون قتلى برصاص العراقيين وفاتورة استمرار التواجد العسكرى الأمريكى تكلف 90 ألف دولار فى الدقيقة الواحدة
وقد أظهرت استطلاعات الرأى أن 57% من الأمريكيين يعارضون استمرار نزيف الدم والأموال الأمريكية فى العراق، ومازالت فى الأذهان ذكريات الفشل الأمريكى فى الصومال عام 1993 و1994 والفشل فى أفغانستان فى الوقت الحاضر، وإذا أضيف الفشل فى العراق فماذا يتبقى من المصداقية لأمريكا؟ وسوف يتأكد أن الأمريكيين فى العراق غزاة وليسوا مصلحين، والحل قبول اقتراح كوفى عنان، والدول الأخرى بنقل السيادة للعراقيين، وتحديد موعد مبكر للانسحاب المشرف، ويجب أن تفهم الإدارة الأمريكية أنها ارتكبت أكبر خطأ فى التاريخ وهو الاستهانة بالوطنية وحب الاستقلال لدى الشعوب، حتى أن العراقيين يرون اليوم أنهم يفضلون حكما سيئا على يد حكام عراقيين على حكم جيد بيد الأمريكيين.. ولابد من الاعتراف فى النهاية بأن بوش كان مخطئا بالحرب ضد العراق!
هذه أصوات أمريكية تعبر عن الرأى العام العاقل فى أمريكا.
فهل لدى الإدارة الأمريكية استعداد للاستماع إلى صوت العقل؟
أم ستبقى على إصرارها بادعاء أنها انتصرت!
وهل يخلع الرئيس بوش ملابس القتال ويكف عن التهديد والحديث بلغة القوة؟