عرفات مانديلا العرب !
سجل التاريخ الحديث أسطورة كفاح شعب مقهور فى جنوب أفريقيا.. شعب عاش فى ذل أبشع نظام عنصرى فى العالم.. تم فيه عزل أصحاب البلد خلف أسوار.. وحرموا من التعليم والعمل والتنقل.. وعاشوا سجناء فى وطنهم.. وقاوموا.. وضحوا بأرواحهم.. وسقط منهم عشرات الآلاف.. وأخيرا انتصروا.. وتحرروا.. وزعيمهم نيلسون مانديلا.. قاد الكفاح الوطنى من أجل التحرر والاستقلال، ووقف فى وجه الحكم العنصرى البشع، وكانت النتيجة أن سجنوه.. وظل فى سجنه 27 عاما ثم خرج رافع الرأس.. موفور الكرامة.. وأصبح رئيسا لدولة جنوب أفريقيا.. وتوارى البيض الذين حكموا بالحديد والنار وحسبوا أن ذلك يمكن أن يقتل إرادة الحرية فى الشعوب.
المأساة تتكرر فى فلسطين.. نظام الحكم العنصرى يغتصب أرض أصحاب الأرض.. ويحتل الوطن ويحرم أبناءه من التعليم والعمل والتنقل.. ويقطع أوصال الوطن ويحوله إلى كانتونات هى بالضبط مثيلة للكانتونات فى نظام الحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا.. ويقتحم القرى والمدن بالدبابات والطائرات والصواريخ ويقتل المدنيين ويهدم البيوت على أصحابها.. ويشرد أبناء الوطن فى وطنهم.
نظام عنصرى يفرض على رئيس الدولة الفلسطينية الحصار.. ليعيش فى غرفة أو غرفتين محروما من رؤية زوجته وابنته.. ومن الخروج من المبنى الذى هدمته الغارات الاسرائيليــة.. أو الالتقــاء بأبنــاء شعبــه.. ومــع ذلــك فهــو فــى سجنـــه أقـــوى من القتلة.
الغريب أن كل ذلك يحدث والولايات المتحدة- التى كانت أكبر نصير للحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان- تؤيد حكومـة إسرائيل.. وكلما قامت إسرائيل بعدوان جديد على الشعب الفلسطينى تعلن الولايات المتحدة إدانة الشعب الفلسطينى وليس إدانة العدوان الإسرائيلى، وغريب أيضا أن تحّمل إسرائيل وأمريكا عرفات مسئولية أمن إسرائيل وهو سجين وممنوع من الحركة وأمنه الشخصى مهدد من إسرائيل وأمريكا(!) والأغرب أن تستخدم الولايات المتحدة الفيتو فى مجلس الأمن لمنع صدور أى قرار بإدانة العدوان الاسرائيلى على سوريا وعلى المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية وعلى الأراضى اللبنانية، وكأنها تعطى لإسرائيل الحق فى استباحة الأرض والدم العربى.. بل تقوم هى الأخرى بغزو دولة عربية وتهديد عدة دول عربية أخرى.. وحكومة إسرائيل مستمرة فى بناء حائط برلين الجديد وتغتصب المزيد من الأراضى وراء الحائط.. وأمريكا تؤيده وتموله وأخيرا تستخدم الفيتو لمنع صدور قرار بالمطالبة بوقف بنائه.
وبينما الدم الفلسطينى يسيل.. وعرفات سجين.. يشهد العالم أغرب قرار يصدر من دولة وليس من عصابة بقتل رئيس السلطة الفلسطينية أو طرده فى أحسن الأحوال.. نقرأ تصريحات لإسرائيليين وأمريكيين يرفضون ويدينون.. ولكن ما قيمة ما يقولونه والفعل الإسرائيلى والأمريكى هو القتل والتدمير والخراب للعرب..
شيمون بيريز رئيس حزب العمل المعارض وجه انتقادات شديدة لقرار الحكومة الإسرائيلية ضد عرفات، وقال إنه قرار خاطئ، وقال إن الشعب الفلسطينى يحتاج إلى بارقة أمل.. ولكن من يصدق بيريز وهو الذى قتل من الفلسطينين واللبنانيين أضعاف من قتلهم شارون ؟
والكاتب الإسرائيلى آفى شلايم استاذ العلاقات الدولية بجامعة اكسفورد البريطانية ومؤلف كتاب(الجدار الحديدى: إسرائيل والعرب) كتب مقالا بعنوان(شارون وليس عرفات هو العقبة الحقيقية أمام السلام) قال فيه: إن قرار مجلس الوزراء الإسرائيلى بقتل عرفات، أو طرده يرفضه العالم وتؤيده أمريكا، بدليل أنها استخدمت الفيتو لمنع صدور قرار من مجلس الأمن يطالب إسرائيل بالرجوع عن هذا القرار. وقد كشف نائب رئيس الوزراء إيهود اولمرت لراديو إسرائيل أن الجدل فى مجلس الوزراء الآن حول اغتيال عرفات أو الاكتفاء بطرده، وما يحدث ليس جديدا فإن فى الوثائق البريطانية مذكرة لوزير الخارجية البريطانية أرنست بيفن تاريخها 2 يونيو 1948 قدمها السير جون تروتبيك قال فيها: إن الامريكيين هم المسئولون عن خلق دولة تسلك سلوك العصابات، ويرأسها مجموعة من القادة معدومى الضمير تماما. هذا ما كتبه السير جون تروتبيك .
أما ما كتبه البروفيسور اليهودى آفى شلايم فى هيرالد تريبيون يوم 24 سبتمبر الماضى، فقد قال فيه: إن العالم يشعر بالغضب لما تفعله الحكومة اليمينية التى يرأسها شارون من اعمال غير اخلاقية بينما إدارة الرئيس الامريكى الحالى بوش لا تشعر بالغضب ولا ترى أن أفعال هذه الحكومة غير أخلاقية، بل إن الرئيس بوش هو الوحيد فى العالم الذى أعلن أن شارون رجل سلام(!) وهو الوحيد الذى لم يحاول - مجرد محاولة - كبح جماح الحرب الوحشية التى يشنها شارون ضد الشعب الفلسطينى منذ توليه الحكم منذ أكثر من عامين ونصف العام.. وأكثر من ذلك فإن الرئيس بوش أيد شارون فى الادعاء بأن الحرب لتصفية الشعب الفلسطينى هى جزء من الحرب العالمية على الارهاب، وهذا يعنى أن بوش شريك لشارون، ليس هذا فقط بل إنه شريك نشط فى حملة شارون لعزل أو اغتيال عرفات وهو الزعيم المنتخب من شعبه انتخابا ديمقراطيا.
قد تكون لعرفات أخطاء، ولكن اخطاء وحماقات وجرائم شارون لم يسبق لها مثيل.. وعرفات يمثل الاعتدال منذ عام 1988 عندما أقنع المجلس الوطنى الفلسطينى بالاعتراف بشرعية وجود إسرائيل كدولة، وقبول جميع قرارات الأمم. وقبول الحل على أساس وجود دولتين. وفى 1993 وقع عرفات اتفاقات أوسلو وصافح رابين فى البيت الابيض، وحصل مع رابين على جائزة نوبل للسلام(!) ولكن اتفاقات أوسلو مزقتها حكومة الليكود التى جاءت فى مايو 1996 بعد اغتيال رابين.. حين أعلن نيتانياهو أن أوسلو تتعارض مع أمن إسرائيل ومع الحق التاريخى للشعب الإسرائيلى فى كل الأرض، وهكذا فإن تاريخ إسرائيل كله يشهد بقبولها لخطط السلام نظريا وتدميرها عمليا، وآخر المطاف خريطة الطريق التى وضعتها أمريكا والتى أعلن الرئيس بوش إنه ملتزم شخصيا بتنفيذها، وقبلتها السلطة الفلسطينية، ويطالب عرفات بتنفيذها وترفض الحكومة الإسرائيلية.. شارون رسم خريطة طريق أخرى قائمة على بناء مستوطنات جديدة فى الاراضى الفلسطينية، وبناء الجدار الفاصل الذى لا مثيل له فى العالم بعد انهيار حائط برلين، واقتطاع اجزاء كبيرة من الاراضى الفلسطينية، واغتيال القادة الفلسطينيين علنا، وهو يريد إشعال العنف أكثر وأكثر .. العقبة الحقيقية أمام السلام هو شارون وليس عرفات.. وقتل أو طرد عرفات لن يحقق السلام بل سيزيد العنف والانتقام وسيقضى على التيار الفلسطينى المعتدل، وسيكون وصمة جديدة فى جبين إسرائيل التى تريد أن تكون دولة ولن تجد ما يجعلها تفخر بكونها دولة ديمقراطية ولها هذا التاريخ المخزى.
ويكفى أن فى تاريخ إسرائيل زعيما قتل مبعوث الأمم المتحدة للسلام، فى عام 1948 عندما تآمر إسحاق شامير مع عصابة شتيرن - وكان هو أحد قادتها - لاغتيال الكونت فولك برنادوت مبعوث الأمم المتحدة فى القدس-فى فندق الملك داود الذى كان تحت حراسة الإسرائيليين - وها هو شارون يريد أن يقتل الزعيم الفلسطينى الوحيد القادر على توقيع معاهدة سلام نهائى مع إسرائيل..
هذا ما يقوله استاذ يهودى إسرائيلى فماذا نقول نحن.؟
عرفات سوف ينتصر ويكسر قيوده.. ويكسر قيود شعبه.. ويحقق حلم الحرية والسلام.. تماما كما فعل مانديلا.*
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف